كتب واصدارات

إصدار تاريخي جديد .. ثائر في قرن الدماء

saleh altaeiبمناسبة صدور كتابي الجديد: "ثائر في قرن الدماء .. سعيد بن جبير"

بعد كل ما عانيناه ونحن نقلب صفحاتنا الموروثة يجب أن لا ننخدع بالصور الجميلة المنقولة عن تاريخنا الإسلامي، فالجمال كان حيزا صغيرا فيه لا أكثر، وحقيقة تاريخنا لا تفرح ولا تسر، فهو لم يكن بريئا، ولم يكن منزها، ولم يرق لأن يمثل أنموذجا للمجتمع السامي والتاريخ الأسمى والعقيدة التي جاءت رحمة للعالمين؛ بعد كل تلك الأحداث الدموية الجسام التي اخترقت نقاء صورته، فملأت صفحات كثيرة منه بالسواد والوجع والدم.

وما كادت الأمة تطوي الصفحة الأولى من هذا التاريخ؛ بعد انتقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى؛ الذي تتحدث الكثير من الأخبار انه (ص) مات مقتولا بالسم، وبعد أن عانى ما عانى من وجع السلوك المنحرف لبعض من أعلنوا الإسلام ظاهرا وبقوا على صنميتهم في السر؛ حتى افتتحت الصفحة الثانية من التاريخ بارتداد أغلب القبائل العربية، ومن لم ترتد منها امتنعت عن دفع الزكاة، وجلس مجموعة ثالثة على الحياد، تنتظر ما تسفر عنه مماحكات المدينة في البحث عن (خليفة)، وهنا وهناك تنبأ رجال ونساء، أو أشهروا نبوتهم التي أعلنوها في عصر البعثة، وبقيت ضامرة محاصرة.

656-salih

في بداية هذه الصفحة، انطلقت حشود جيش الدولة الذي يمثل الإسلام، واكتسحت كل تلك البقاع التي يسكنها المسلمون المرتدون، أو الممتنعون عن دفع الزكاة، أو المشكوك بولائهم، أو الذين لديهم مسائل ثأر مؤجلة مع بعض قادة الجيش الإسلامي، فأوغلت فيهم قتلا وأسرا وسبيا وتشريدا وتنكيلا؛ وبشكل أقل ما يمكن أن يقال بحقه أنه كان في منتهى العنف؛ لدرجة أن قادة الجيش الإسلامي وخلافا لكل تعاليم النبوة وأحاديث الرحمة وحديث (لا تجوز المثلة ولو بالكلب العقور)، استخدموا رؤوس القتلى أثافي لقدور الطبخ، وطبخ أحدهم بعض الرؤوس وأكل منها تشفيا.

أما حديث "رفقا بالقوارير" فقد داسته سنابك خيل الجيش الإسلامي، ومرغته بالتراب والوحل، فدخل قادة وأفراد الجيش المسلم على النساء الأسيرات، ونزوا على السبايا المسلمات؛ في ليلة مقتل أزواجهن؛ قبل أن تُسْتَبرأ أرحامهن، خلافا لما جاءت به عقيدة الإسلام.

وفي هذه الصفحة، وبعد هذا التاريخ بزمن يسير، قتل خليفة المسلمين أبا بكر (رض) بالسم، وقتل خليفته عمر (رض) اغتيالا وغيلة، وقتل خليفته عثمان (رض) بثورة قدم رجالها من الأقطار الإسلامية، ولم يتصدى لهم أحد من المسلمين؛ بما فيهم ذلك الجيش الجرار المنتصر (جيش الردة والفتوح والشام)، وخلال بضع وثلاثين عاما كانت الفوضى قد عمت عاصمة الإسلام، وفتحت الباب لعصر الفتن الذي حذرهم نبي الله منه. وانقضت هذه السنوات بحلوها ومرها لتفتح مع بدء خلافة علي (عليه السلام) صفحة دموية جديدة؛ هي بالتأكيد نسخة مطورة عما سبق.

في هذه الأثناء سل السيف المسلم الذي قصَّر بالدفاع عن الخليفة عثمان وهو يراه يقتل أمامه، وتهيئا لقتال مسلم آخر؛ ولكن بحجة جديدة لا علاقة لها بالردة أو العصيان. تحرك هذا الجيش الجرّار وكان جميع رجاله من المسلمين، وجلهم قاتل تحت راية الإسلام لنشر الإسلام إسلامي؛ إلى البصرة طلبا للملك والإمرة بحجة الإصلاح، ووقعت أكبر المجازر في تاريخ صدر الإسلام فيما أطلق عليه المؤرخون اسم (حرب الجمل)، هذه الحرب الضروس التي وصفها الطبري بقوله على لسان أحدهم: "لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنا بالرماح حتى تشبكت في صدورنا وصدورهم؛ حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت.. ولقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل، والأيدي تطيح عن المعاصم، وأقتاب البطون تندلق من الأجواف، وكانت حصيلة هذه الحرب من الأيدي المقطوعة والعيون المفقوءة ما لم يحص عددها".

هذه الحرب التي ذكر الطبري في تاريخه: أن أكثر من ستة آلاف مسلم قتلوا فيها. وقال ابن أعثم في تاريخه: "قتل من جيش علي ألف وسبعمائة، ومن أصحاب الجمل تسعة آلاف". وقال ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد: "قتل يوم الجمل من جيش عائشة عشرون ألفا، ومن أصحاب علي خمسمائة". وقال اليعقوبي في تاريخه: "قتل في ذلك نيف وثلاثون ألفا".

ثم ما لبثت فتنة الشام أن ذرت قرنها لتوقع مجزرة إسلامية جديدة حينما دفع معاوية المسلم والوالي الإسلامي الجزية والإتاوة إلى النصارى الروم ليأمن شرهم، ويتفرغ لقتال خليفة المسلمين المنتخب علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأرسل في بداية الأمر قادته الكبار الشرسون مثل بسر بن أرطأة وغيره؛ ليعيثوا في الأرض فسادا، ويهاجموا الأبرياء في مدنهم، ويقتلوا قوافل الحجيج، ويسرقوا متاعهم،لإضعاف عدوهم الذي يقود الأمة دون النظر إلى هيبة الدولة الإسلامية وحرمتها.

ثم بعدها قاد الصحابي معاوية بمساعدة الصحابي عمرو بن العاص أكثر من مائة وخمسين ألف مقاتل مسلم، وتوجهوا بهم نحو العراق، بحجة طلب الثأر ظاهرا، والسعي إلى السلطة والملك في الخفاء، فدارت (مطحنة صفين) التي قتل فيها سبعون أو مائة أو مائة وعشرون ألف مسلم من الصحابة والتابعين على اختلاف الروايات؛ بالسيف المسلم الذي تُمسكُ به أيدي ثلة على عدد الأصابع من الصحابة وأغلبية من غيرهم؛ لا يميزون بين الناقة والبعير، ولا يعلمون إن كان خليفة المسلمين علي بن أبي طالب أول الناس إسلاما؛ يصلي أم لا!.

وقبل أن تهدأ نار صفين، ثارت نائرة الخوارج، وهم القراء المبجلون الموحدون المتمسكون بالكتاب والسنة؛ تمسكا لم يتجاوز تراقيهم (حناجرهم)، ودارت (مهلكة النهروان) لتلطخ دماءُ المسلمين مساحة أخرى من جغرافية العالم الإسلامي.! وطويت هذه الصفحة الدموية المليئة بالوجع.

ومع بدء الصفحة الثالثة عادت جيوش الشام الإسلامية فتحركت لتقاتل في هذه المرة خليفة المسلمين المنتخب الحسن بن علي (عليه السلام) قبل أن تنقضي ثمانية أيام فقط من بدء ولايته، وانتهت المعاناة بالصلح.

ثم بعد عقدين لا أكثر من الزمن تحرك الجيش الإسلامي لمقاتلة الحسين (عليه السلام) ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وآل رسول الله (رضوان الله عليهم أجمعين)، فدارت معركة كربلاء التي سقط فيها الكثير من المسلمين قتلى، وسقط خلالها الأعم الأغلب من أولاد علي بن أبي طالب وبقية الطالبيين!.

في هذه الصفحة بالذات حدثت وقائع أقل ما يقال فيها أنها لا تمت إلى الإسلام بأي وأبسط صلة نظرا لكثرة الدماء التي أريقت فيها؛ من المسلمين ومن غيرهم، بعد أن انتهكت حرمة الإسلام وبقاعه المقدسة، فعلى مدى عدة سنين من تاريخ الإسلام في هذه الصفحة، أحرقت الكعبة المشرفة بيد المسلمين أنفسهم مرتان!. وأبيحت كرامة المدينة المنورة مدينة الرسول وموطن الصحابة وبيت الأنصار، وانتهكت أعراض نساء وبنات الصحابة فيها، فحملن من سِفاحٍ، وتحول رجالها إلى عبيد وخِول للخليفة المسلم الشامي بعد أن دمغوا بختم العبودية!. وبعدها سن قانون دفع الجزية على من أسلم من الشعوب خلافا لما نص عليه الإسلام، وذلك بحجة أن خزينة الدولة الأموية تحتاج إلى أموال هؤلاء أكثر من إسلامهم.!

كل هذه الأمور الشاذة والمنكرة دفعت أقرب الناس للحكومة إلى الثورة عليها، فبين ليلة وضحاها تحول القائد الأموي عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي من قائد جيش من جيوش الفتح إلى ثائر على السلطة، وساع إلى إسقاطها، فقاد مائتي ألف مسلم ليحارب الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق؛ الذي جاء هو الآخر بمائتي ألف مسلم لمقاتلة رجال الثورة، فالتقى أربعمائة ألف مسلم ليقتل بعضهم بعضا لا دفاعا عن الإسلام وإنما دفاعا عن كرسي الحكم!.

وسط هذا الحشد من الرجال كانت كتيبة (القراء)، التي ضمت جميع قراء مكة والمدينة والبصرة والكوفة وغيرها،ولم يتخلف عنها سوى أربعة فقط، من الكتائب المميزة والفاعلة في ثورة ابن الأشعث. هذه النخبة التي إذا لم تكن تمثل الاندكاك الحقيقي بالعقيدة؛ فإنها في أقل تقدير تمثل الشريحة الأكثر قربا واهتماما بالدين من غيرها من الشرائح، والتي تعرف أكثر من غيرها حدود التشريعات الإسلامية.

وأن يثور القراء عن بكرة أبيهم ويلتحقوا بابن الأشعث لمقاتلة جيش الدولة الإسلامية فذلك يعني بالتأكيد أن الانحراف، بما فيه انحراف السلطة الإسلامية عن عقيدة دين الإسلام كان قد وصل إلى درجة يأثم من يسكت عنها تبعا لحديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده) ولاسيما بعد أن وصل دفق دماء الأبرياء من المسلمين ومن غيرهم حد الطوفان؛ حينما كانت الجيوش الإسلامية تجوب الأرض وتفتح البلدان، فتقتل وتأسر وتغنم وتسبي النساء، وتفرض على الشعوب المغلوبة تزويد الجيش الإسلامي بخيرة أبنائها ليقاتلوا في مقدمته إخوانهم من الشعوب التي تجاورهم؛ قبل أن يتقدم الجيش الإسلامي ليجهز على من بقي، ويحقق النصر فينسب إليه.!

أما نهاية ثورة ابن الأشعث التي دامت من 81 ولغاية 83 هجرية، فقد اجتمعت فيها كل موبقات التاريخ البشري وكل التوحش الإنساني والاستهانة بالبشرية، إذ قام الحجاج بن يوسف بقتل من أسره من الثوار، فبلغ عددهم أكثر من مائة وثلاثين ألف مسلم، قتلوا على يده بدم بارد وهدوء أعصاب، رافقها الكثير من التهكم والنكات السمجة والاستهزاء بالكائن البشري، خليفة الله في أرضه.

وكان التابعي الجليل المفسر والمحدث والقاضي والعلم والنحوي سعيد بن جبير واحدا ممن اشتركوا في هذه الثورة، وواحدا من الشهداء الذين قطع الحجاج رؤوسهم؛ وهو جذلان فرحا بما أنجز، ويكفي هذا التابعي الجليل فخرا أن المسلمين بأطيافهم اجتمعوا على حبه وتقديره وتقديمه على غيره، في وقت نسوا فيه الحجاج ودرسوا قبره، فلم يعد له ذكر إلا حينما تذكر فضائع التاريخ.!

إن كل ما تقدم من حديث لا يمثل سوى جزء بسيطا من أحداث القرن الإسلامي الأول، الذي يطلق عليه اسم (خير القرون) باعتبار أنه مفضل على جميع قرون التاريخ. وهي بآلامها وقسوتها وفجيعتها وتوحشها تنزع عنه هذه الخيرية، هذا إلا إذا ما كان لهذه الخيرية تفسير آخر لا نعرفه.

ومن يريد الاستزادة والتأكد من صحة حديثنا عليه أن يراجع كتب التاريخ الإسلامي، وسيجد أحاديث وقصصا من أغرب قصص الخيال السادي الدموي التي لا تقارن بها أعمال المجرمين الدواعش التي لا تحمل سوى جزءً من سيماء سمات تلك الانتهاكات الكبيرة الأولى.!

ولغرض كشف الحقيقة وتبرئة الإسلام من هذه الأعمال الوحشية التي نسبت إليه، وضعت هذا الكتاب تحت عنوان (ثائر في قرن الدماء، سعيد بن جبير) الذي تولت دار المرتضى اللبنانية مشكورة طباعته وتوزيعه.

يقع الكتاب بـ(384) صفحة من الحجم الوزيري. وهو واقعا مقدمة وتمهيد لكتاب جديد آخر أسميته (الحكم الشرعي لسبي وتهجير الآخر) سبق وأن أرسلته إلى سوريا لطباعته، فقرر الناشر تحصيل موافقة قسم رقابة المطبوعات في وزارة الإعلام السورية نظرا لخطورته، وبعد أن تأخر صدور الموافقة لأكثر من ثلاثة أشهر، سحبت الكتاب منهم، وأقوم حاليا بإعادة مراجعته وتدقيقه لأرسله إلى بيروت لنشره.!  

 

  

في المثقف اليوم