كتب واصدارات

سمير نقاش .. نقش عراقي في الذاكرة

nabil alrobaeiلأجل المحافظة على التراث والأدب العراقي وذكريات يهود العراق أدرك الكاتب والباحث مازن لطيف ذلك من خلال اهتمامه بنشر التراث الإنساني والأدبي والديني وتأريخ المدن العراقية وما يخص الذاكرة العراقية، ليفيد المجتمع بالاطلاع على هذا التراث، وليسهم في النهضة الثقافية والعلمية في المجتمع العراقي، وتدوين أدبهم وذكرياتهم من خلال إصداراته الجديدة، كان من ضمن انجازاته في هذا المجال، كتابه الذي يخص الروائي العراقي سمير نقاش،

الذي اهتم بالشخصية العراقية من خلال رواياته الواقعية، وقد جسدت خصائص وصفات العراقيين. سمير نقاش العبقري الذي يسير ضد التيار معتمداً على مواهبه وذكرياته في بغداد المدينة التي أحبها وعشقها وكتب أغلب شخصيات رواياته عن الشخصية العراقية البغدادية التي عاش فيها ثلاثة عشر عاماً لا غير.

صدر عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر للصديق مازن لطيف كتاب تحت عنوان (سمير نقاش..نقش عراقي في الذاكرة) وهو اعداد وتحرير لمقالات وحوارات صدرت بحق الروائي نقاش من قبل كتاب وأدباء وصحفيين عراقيين عرفوا سمير نقاش عن كثب، الكتاب يحتوي على أربعة فصول ذات 150 صفحة من القطع المتوسط، تقديم د. سامي إبراهيم.

سمير نقاش الروائي العراقي الحالم بالعودة إلى بلاد الرافدين، ولكن بعد عام التغيير 2003 لم يتحقق حلمه، بسبب رفض الدستوري العراق لإعادة الجنسية العراقية لليهود العراقيين المهجّرين منذ منتصف القرن العشرين، تنحدر عائلته إلى عصر الخلافة العباسية، وكان جد سمير نقاش المباشر مهنته نقش غلاف كتب التوراة والقرآن،فيتم زخرفته وتذهيبه، وهي المهنة التي انتقلت لنقش منائر مسجد الكاظمين السبعة المعروفة، وهكذا انتقل اسم العائلة فنسى الناس الاسم الأصلي الذي هو آل شعيد.

هؤلاء هُم من كانت لهم بصمة في جميع مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والفنية والتربوية، ولهم دور في بناء الدولة العراقية الحديثة بعد عام 1921، يصف الكاتب مازن لطيف سمير نقاش في ص7 يقول: هذا اليهودي المبدع الذي خلق في صيرورة روحه ومنتجه الأدبي الروائي والصحفي الحسّ الأقرب للوطنية والانتماء، بالرغم من قسوة التهجير والمنفى التي سكنت هاجسه الروحي وعكسه في مشاعر روحية، وتناقضات أيقظت في الذات التوراتية، لسمير نقاش مسارات الحكمة والسرد والبقاء وفيا للمكان الرافديني وثقافته".

كتب نقاش رواياته بالعربية لأنه يعتبرها اللغة الأم أما اللغة العبرية فيعتبرها الزوجة، فهو يفضل لغة الأم على الزوجة ولذلك لم يحصل نقاش على دعم من المؤسسات العبرية في فلسطين، يصفه د. سامي موريه يقول في ص16: أمامنا عبقري أبى السيّر مع التيار بل تعمد السيّر ضد التيار معتمداً على مواهبه الأدبية..هذه النفس الأبية التي أتت في غير وقتها وغير الشروط الثقافية والتاريخية التي تستحقها مواهبه".

سمير نقاش اصبحت بغداد في نظره أرض الميعاد والجنة الموعودة، رحل عن الحياة ولم يحقق حلمه بسبب الظروف السياسية التي مرَّت على العراق، كان النقاش يعشق لغته البغدادية، يتكلم بها ويكتب رواياته بهذه اللغة الجميلة ، يقول الباحث رشيد خيون في ص23:سمير نقاش العالم في اللهجة البغدادية، يرى أن ما يكتبهُ من مفردات هي لغة البغداديين العباسية، وأن اليهود ظلوا يتداولونها حتى في مهاجرهم ومنافيهم".

لم يتوقف النقاش عن الكتابة والنشر بالعربية وكانت روايته الأخيرة (شلومو الكردي وأنا والزمن) هي العمل من الأدب الراقِ، ووثيقة تأريخية حول جوانب مجهولة من حياة أقليات عاشت على الحدود الملتهبة بين إيران والدولة العثمانية، تؤكد الروائية أنعام كجة جي في ص26 من الكتاب "أن الرواية (شلومو الكردي وأنا والزمن)هو شلومو كتاني (ابو سليمان) اليهودي الإيراني الأصل الذي كان يقيم في صبلاغ وهي بلدة كردية على الحدود مع العراق..وفيها ولد شلومو أواخر القرن التاسع عشر ثم عاش حتى قارب المائة".

يؤكد الكاتب عبد اللطيف الحرز في ص31"أن سمير نقاش قيمَّة جدلّية غنية لكونه بذاته شخصية إشكالية، فهو يهودي العقيدة، عربي اللسان، عراقي التكوين، والبنية والعقل والقلب حتى النخاع، وسمير نقاش قيمّة جدلّية بسيرته الفادحة الألم حيث تم طرده من العراق بلا أي سبب"، يعتبر الروائي العراقي نقاش لمبدعه الإنجازي في مجال الرواية والقصة والمسرحية ذات قيمّة اشكالية حيث بقي يحافظ على النكهة العراقية لهجة وطرق تفكير، والتدقيق في تفاصيل الأمكنة وطبيعة الحضارة العراقية.

أما الكاتبة فاطمة الحسن فتؤكد من خلال مقالها (سمير نقاش العائد إلى بغداد دائماً) في ص 41"يقترب سمير ويبتعد عن بغداد ويحب كل ما فيها، بغداد التي تركت مساميرها في القلب"، لكن سمير نقاش لهُ الدور الكبير في إدخال شخصية اليهودي العراقي في عالم الأدب، لأبعادها الدرامية وصفاتها المتميزة، كان أدب سمير نقاش يمثل أدب المنفى والرحيل العراقي، فهو قد جسّدَ تلك الروح العراقية المعاندة الفظّة بجنونها بحب العراق وعاصمتها بغداد وأحيائها القديمة.

أما الفصل الثاني من الكتاب فيشمل حوار حول فليم (إنسى بغداد) للمخرج العراقي سمير جمال الدين،عندما سأل المخرج سمير جمال الدين عند لقاءه بالروائي العراقي سمير نقاش لغرض إخراج فلمه الرائع وهو يوثق حياة يهود العراق في إسرائيل عن اللغة التي يرغب بالحديث بها كان جواب النقاش: وهل هنالك غير اللغة العربية كي نتحدث بها عن حياتنا في بغداد"، كان من ضمن مَن التقى بهم جمال الدين شمعون بلاص وسامي ميخائيل وسمير نقاش وموسى خوري وإيلا حبيبة شوحيط، وهي متخصصة في السينما الإسرائيلية، الفلم الوثائقي إنسى بغداد الذي رصد حياة كتاب يهود العراق، وقد تذكروا مسألة تهجيرهم من العراق في اربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي، يقول سمير نقاش من خلال الفلم"أنا أرفض أن تكون إسرائيل بلداً لي، هذه البلاد أجرمت بحقي وطحنتني، هذه ليست بلادي".

أما الفصل الثالث فقد كان يمثل حوارات الأدباء والكتاب مع الروائي الراحل سمير نقاش، الذي حاوره الأديب الراحل شريف الربيعي عام 1990، وكان سؤال الربيعي لسمير نقاش حول تركه لإسرائيل والسفر إلى إيران عام1958 كان جواب سمير نقاش ص69"أسمّي نزوح يهود العراق إلى إسرائيل (مأساة) أما مأساة عائلتي الشخصية فلا يمكن أن أغفرها لإسرائيل . لقد حاولت عام 1958 الوصول مع خالي إلى إيران، لتدبير أمورنا ثم نقل العائلة كلها إلى هناك، ولما لم يكن ثمة علاقات دبلوماسية يومئذ بين إيران وإسرائيل فقد اضطررت أن أمكث ستة شهور في تركيا حتى رَتّب لنا أصدقائنا مسلمون عراقيون تأشيرة دخول إلى إيران".

لقد كانت هجرة يهود العراق أسوأ هجرة إلى إسرائيل، فكل مهاجر من بلد أخر كان يحمل جواز بلده وكان بوسعه مغادرة إسرائيل إذا لم تعجبه الأحوال، أما يهود العراق فقد بيعوا لإسرائيل بمعنى الكلمة، كانت حالتهم صعبة في العيش بسبب نفوذ اليهود الأشكناز (الغربيون)، مما أدى إلى صعوبة وصول يهود العراق إلى مراكز النفوذ والمراكز المهمة في إسرائيل من خلال التدرج الوظيفي، فاليهود الشرقيين معروفون باعتدالهم ويعتبرون إسرائيل جسماً غريباً في حياتهم لأنهم كانوا جزءاً عضوياً من المجتمع العراقي، والتفاهم كان قائماً بين أبناء المجتمع العراقي.

كان سمير نقاش فخور بيهوديته ولكنه كان متعاطفاً مع أبناء جلدته، وهو ليس مع الصهاينة، عندما سأله الأديب شريف الربيعي عن الفرق بين اليهودية والصهيونية؟ في ص79 من الكتاب، كان جواب النقاش"الصهيونية حركة سياسية غريبة وملحدة، أما اليهودية فقيّم، واليهودية دين، واليهودية عالمية"، لقد عاش النقاش حياته الصعبة بسبب محاربة المؤسسات الأدبية الإسرائيلية لنتاجه الأدبي ورفضوا دعمه مادياً لغرض النشر، وقد أوصدت أبواب الرزق بوجهة، لذا فكان يعيش من خلال (السوق السوداء) التي لا تدر ربحاً لهُ، مما كان أحد الأسباب لجعل النقاش يفكر بمغادرة إسرائيل، إضافة إلى سبب آخر رفضه الكتابة باللغة العبرية وإنما باللغة العربية لتمسكه وعشقه للغته الأم، إسرائيل لم تهتم بيهود الشرق وخاصة العراقيين، وإسرائيل قائمة على النهج الغربي المناقض لكل ما هو شرقي، فهي لا ترغب بنشر نتاج الأدب الشرقي وخاصة نتاج الأديب سمير نقاش، لذلك كان يقول نقاش في ص88:"أنا اعيش داخل إسرائيل في (قوقعة)، لم أتأثر بالثقافة الغربية السائدة في إسرائيل، ولم أجد لغتها لحد الآن".

كتبت عدة دراسات ورسالات ماجستير ودكتوراه في أدب الراحل سمير نقاش ، منها رسالة ماجستير حول أدب نقاش لطالب الماني الجنسية ،وأطروحة في الإيطالية، وكتبت الكثير من الأطروحات في انجلترا والسويد والمانيا وامريكا وهولندا، يؤكد نقاش من خلال لقاءاته الصحفية على أنه الانسان الذي"لا يمكن أن يخرج من جلده؟ أنا كإنسان، عراقي أصيل، بكل جوارحي، احمل بجنباتي تاريخاً شديد القدم من العراقية، تكويني كله عراقي، لغتي، عاداتي، الطعام الذي أحبه، الموسيقى التي أفضلها، الأناس الذين أرتاح إليهم، كل ذلك عراقي بحت".

أما الفصل الرابع من الكتاب فقد شملَّ شهادات بحق النقاش بعد وفاته، منهم (صلاح حزين، محمد علي الأتاسي، د.علي ثويني، خالد المعالي، د. علي القاسمي، زهير كاظم عبود)، يقول د. علي القاسمي في رثاء النقاش ص134:"سمير، يا صنو روحي، أنا وأنت غريبان، أنا وأنت عاشقان، أنا وأنتَ قتيلا هوىّ فتّاك.أخبرني سمير، هل عرَفت السر في هذا الحنين؟ هل اكتشفت تعويذة السحر التي يقلّدها هذا العراق الذي جعل جميع ضحاياه، يلهجون بحبّه، يحنّون إليه، يبكون عليه كما يبكي القتيل حبّاً بقاتله؟ ألم تتكشّف لكَ الحقيقة يا سمير، وانتَ تلفظ أنفاسك الأخيرة بعيداً عن بغداد ووادي بغداد وأهل بغداد؟ في تلك اللحظة التي فارقتُ فيها روحك جسدك، هل تكشّفت لك الحقيقة، في تلك اللحظة البرزخيّة وأنت بين عالم الفناء وعالم البقاء؟ أخبرني سمير، أرفع صوتك قليلاً فانا لا أسمعك على البعد، قُل لي كلمة السِرّ فأنا أخشى أن أغادر هذا العالم كذلك وأنا أجهل سرّ عذابي.ما أعجب وفاءك وإخلاصك للعراق، يا سمير، كنتَّ تقول: إنّي يهوديّ، ولكتني لست بخائن، كيف أخون أرضاً ممتزجاً بثراها رفات آبائي وأجدادي". رحلَّ سمير نقاش في 7 تموز 2004 عن عمر ناهز 66 عاماً، ولم يحقق حلمه بالعودة إلى العراق، بل رحلَّ وهو يحمل في داخله ألم الفراق لبلاد الرافدين، لكنهُ ترك لنا أدباً عراقياً أصيلاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية

في المثقف اليوم