كتب واصدارات

كتــاب: ثائر في قرن الدماء "سعيد بن جير" .. ريادة في التأليف وحصافة في الفكر

لعل اسم الموسوعي الباحث الرائد في الفكر الإسلامي - أحيا الله قلمه السيال وأمد في عمره - استاذنا الفاضل صالح الطائي اللازال يمدنا من فيض علمه علماً ويوقفنا على جذوات النيران اللاهبة، التي ظلت تسعَّر نيرانها نقاشاً، بل وفي أحيان كثيرة تسيل الأرض دماءً من صراع طويل، لم يفد منه الَّا من أرسل سمومه بنبيذ الفتن، وسدد سهامه بأيدي غيره من أهل الدار أنفسهم منذ بدء كتابة التاريخ الاسلامي ولاتزال الأقلام المأجورة تستبطن الحقائق، بل وتزيد الأمور تعقيدا، فغابت الحقائق وأظلت طريق هديه أوأضاع قبساً لو ام أمسك به؛ لأنار به دربه، إنَّها العمايات بل العماهات .

والطائي يبحث دائما في المختَلف فيه وهذا هو اسلوبه في جُلِّ كتاباته فيشخِّص الأسباب، وفي كثير من الأحيان يضع حلولا من خلال وصوله بإثبات الحقائق   بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة .

ويبدو أنَّ عنوان الكتاب (ثائر في قرن الدماء" سعيد بن جبير") يوميء للقاريء من أنَّ الباحث سوف يضيء لنا نضال شخصيات أخرى جهرت بصوتها، بل حملت سيفها ضد حكَّام ذلك العصر الموغل بالدماء، والمتوهج بالبغي والسطوة وسياسة الرعية بالقوة والجور، وسلب إرادتهم، فكانت أول ثورة ضدهم، هي ثورة الإمام الحسين عليه السلام، فظلت الثورات تترى على أعقابها، بينما غدت الدماء تسيل دون توقفِ لها .

ولعل الطائي في كتابه كان حريصاً على أن يكون بمنتهى الشفافية والموضوعية، وهو يطرح مفاهيمه وأفكاره بفيض من النقاشات والحوارات التي أمدَّت الفهم بخيوط من الاشعاع الفكري، إذ تجعل من المتمعِّن يقتنع بطرحه المهذب تدعمه مصادر متعددة استلَّ منها ما يسدد آراءه، ويقوي بها حجته .

ونقف معه في كثير مما طرحه في كتابه الجليل إلَّا أننا نختلف معه في أشياء أشار اليها من بعيد، لكنه لم يخض فيها وهي من الجوانب المهمة التي عليه الافاضة بها؛ كي لايكون هناك تساؤل ولربما يتوهم البعض فيأخذها على عواهنها فمثلاً في صفحة 33 يصف الأمويين من أنَّهم طعنوا الاسلام من الداخل، وهم قاصدين ذلك ما أسماه الباحث بـ (ثقافة السياسة) ويبدو لي على الرغم من أنَّ الأمويين أساءوا بمحصلتهم النهائية كثيرا للاسلام، وهذا مُتَّفَق عليه، ولو أكد الباحث على اليهود وبعض المجوس لكان أدق ؛ لأنَّ الأمويين تجلببوا جلباب الاسلام ولم يستهدفوه بقصد من الداخل ولا ننسى مقولة جدهم عتبة بن ربيعة عندما عجز من إقناع الرسول بترك أمره مقابل منحه المال والسلطان، فعاد الى قومه بغير الوجه الذي ذهب به فطلب من قومه: (أن يخلوا بينهم وبين محمد، وأن يتركوه لشأنه، فإنْ يقتله العرب، فقد كفوهم شرَّه، وإن يظهر عليهم فسيكونون أسعد العرببه، فملكه ملكهم وعزّه عزّهم ... هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم).

لذا يرجى من استاذنا الطائي البحث في أثر اليهود والى اليوم في تشويه صورة الاسلام وموقف الأمويين منهم، كي تصحَّ المعادلة . ويردُّ الباحث في جانب آخر واصفاً الأمويين بقوله (إنَّ وجود تشيع قوي متماسك في ذلك الوقت المبكر من عمر الرسالة كان يقلق السياسيين المسلمين الذين أرادوا مصادرة العقيدة الاسلامية وفكرها لخدمة مطامعهم السياسية) بل نقول : النفع أي لم يقصدوا ضرب الاسلام، وإنما الانتفاع من سلطته وتمرير أهدافهم في حكم الناس والعيش برخاء دون ان يشغلوا بالهم في أمور الاسلام الحقيقية، فهم يصرُّون على بقائه وإن كان جسداً بلا روح .

وقد ذهب الطائي في نقاش واسع من (ص 94-100)، من أنَّ سعيد بن جبير كان يقرأ القرآن في ليلتين، إذ ينقل ما رواه الذهبي قوله (ما مضت عليَّ ليلتان منذ قتل الحسين إلا أقرأ فيهما القرآن إلا مريضاً أو مسافراً) ولعله قادر على ختمه في ليلتين، لكن الطائي يدلي بشبهات تقصَّد روايتها ابن كثير في تاريخه وابن خلكان في وفياته: (إنه كان يقرأ القرآن في ركعة واحدة) ويرد الطائي على ذلك: من أنَّ سعيد بن جبير لربما كان يقرأ ثلاث مرات سورة الإخلاص التي تعدل ختم القرآن، ونرى أنَّ من نقلَ الخبر وأراد الدس أو عدم فهمه لعلاقات المجاز في علم البلاغة حتى لدى المؤرخين، وهم ينقلون الأخبار ويملونها في القراطيس حسب فهمهم، وأن ابن جبير عاش في عصر الحِجاج اللغوي جدير به أن يتحدث بلغة العرب البليغة، إذ إنَّ أحدى علاقات المجاز هي الكلية: وبها يطلق اسم الكل ويراد به الجزء كقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (المائدة 38)، والمقصود بالأيدي أصابع اليد اليمنى عدا الإبهام . كذلك قوله تعالى : (يجعلون أصابعهم في آذانهم) (البقرة 19). فإنَّ الأصبع لايوضع كلّه في الأذن، وإنما طرفه فحسب، وقوله تعالى وحرَّمنا عليه المراضع) (القصص)12 . ويراد ثدي المراضع، وهذا كثير في كلام العرب، إذ ينقل لنا ابن سعد في طبقاته ج 8 /377 بقوله (أخبرنا سفيان عن حماد قال: قال سعيد بن جبير: قرأت القرآن في ركعة في الكعبة) وهذا الحديث يدل على ما أشرنا اليه وفي (ص378 من الجزء نفسه): إنَّه كان يقنت بقدر خمسين آية. ولعل ذكرهم بطرق القول المختلفة بإضافتهم عليه لاسيما أرباب المآرب والطاعنين بالرجالات السائرة على الهدي القويم مثلما أشار الاستاذ الطائي .

وهناك مسألة أخرى، هي مسألة الغنائم في الفتوحات وقول الرسول الأكرم (ص): (مَن قتلَ قتيلاً فلهُ سَلْبُهُ) هل يتعارض مع فتوحاتهم إذا ما سأل سائل على هذا المبحث مع أن الفتوحات كانت حروباً مع غير المسلمين؟ ولابد للطائي أن يطرح موازنة بين سلوكيات المقاتل في عهد الرسول وبين المقاتل الأموي، كي تتضح لنا الرؤية الموضوعية للنقاش .

اعتزازنا الكبير بأستاذنا الفاضل صالح الطائي المتسم بالحوارية، والموضوعية، كما أنَّه اعتمد على مصادر من يرد عليهم في مسائل خلافية مهمة . نتمنى له دوام الصحة، ولقلمة الديمومة والاستمرار والتجديد .

في المثقف اليوم