كتب واصدارات

رائد السوداني إبحار في التيار الأصعب

saleh altaeiقراءة في كتاب تاريخ الكوت السياسي للباحث الأستاذ رائد السوداني

كل كتابة، وفي أي شأن من شؤون الحياة، تُحَّمل الكاتب مسؤولية أخلاقية وعرفية وقانونية، لكن الكتابة عن تاريخ لا زال ينبض بالحياة، ولا زال بعض أبطاله أحياء، وبعض من عايش وقائعه، ينعمون بالذاكرة القوية، يرتب على الكاتب مسؤوليات إضافية مضاعفة، فضلا عن تداعيات الموضوع على المتلقين الذين ستختلف ردود أفعالهم، فتتراوح بين السكوت على مضض، أو التأييد بحذر، أو التأييد المطلق تبركا بما يبدو وكأنه تسجيل لتاريخ شخصي، أو الرفض، أو الرفض المطلق الذي يصل أحيانا إلى حد التجريح بالكاتب، وربما تهديده وأحيانا تنفيذ التهديد.

وربما لهذا السبب انقسم الباحثون في مضمون هذا (الوعاء التاريخي) أو التاريخ المعاصر بين عازفين عن الخوض في سجالاته، وبين من يكتبون بحيادية ساذجة تفقد الحدث أهميته، وبين من يتحدون الواقع، فيذكرون الحقيقة وحدها بدون مجاملة لأحد، ويتحملون وزر ذلك مهما كان ثقيلا.

الباحث التاريخي رائد السوداني كاتب من النوع الثالث، ممن أغواهم حمل ثقل الأوزار بلا تهيب، ركب ظهر المخاطرة، ومارس التحدي لمجرد أن يقول الحقيقة بلا رياء وبعيدا عن المجاملات، لكي يربط بين الماضي القريب أو ماضي الأمس الحي في ذاكرة من بقي ممن عاشه وعايشه، وبين المستقبل القريب أو المستقبل المنظور الذي قد يدركه بعضنا، خوفا وحرصا منه أن تصل المعلومات إليه من مصدر غير موثوق، يعرضها للتبديل أو التجميل أو التغيير أو التشويه، فتضيع ملامحها الحقيقية، وتتحول إلى كيان قد لا يمت بصلة إلى أصله الأول.

إن تحدي مجتمع مثل مجتمعنا العراقي الحساس المرهف حد العدوانية؛ ليس بالأمر الهين أو المتاح للجميع، ولعل هذه الروح المجازفة أول الحسنات التي توضع في ميزان السوداني، ولكنها بكل تأكيد ليست الأخيرة، فالكتاب بمضمونه ومحتواه قدم خدمة كبرى لتاريخنا المعاصر لا يمكن التقليل من أهميتها أو إغفال ضرورتها ولاسيما وأن آخرين ممن تناولوا دراسة هذه الحقبة، باستثناء الأكاديميين وبعض المتخصصين وطلاب الدراسات العليا، كانوا إما تجار يبحثون عن الرزق، أو مدفوعين بولائهم الحزبي أو العقدي، أو مكلفون من قبل الحكام ومن أزلام النظام، أو عداء لجهة ما، يضمر الكاتب لها العداء، أو تسقيطا لجماعة أو فئة.

وقد فات هؤلاء أن الإنسانية تشترك بهويتها الكبرى على كثرتها، ولابد للبلد الواحد والمحافظة الواحدة والمدينة الواحدة أن تكون لها هوية مشتركة، تتدرج صعودا نحو الهوية الإنسانية المشتركة الكبرى. هذه الهوية الرمز إما أن تتحول بيد من يمسكون القلم إلى صعقة لتأجيج العداء والكراهية، أو تتحول إلى ومضة لإنارة الدرب. أما دور المؤرخ في هذه المعادلة فهو أن يهتم بالجماليات، فيظهرها، ويبتعد عن دائرة الصراع الشخصاني لأن مجرد الولوج إلى هذه الدائرة، يفقد الحقيقة مصداقيتها أو يقلل من أهميتها بعد أن تتأدلج، فتتفرد، ولا تعد تؤمن بالهوية الجمعية، أو لا تعد تمثل سوى طيفا بعينه قد لا يهم الآخرين متابعته.

رائد السوداني في كتابه الموسوم "تاريخ الكوت السياسي؛ المدينة بين احتلالين" تلبس الحيادية بصدق، وتجشم عناء كشف المستور بحياد، وغاص في بطن الأحداث التي لما تزل طرية ليستخرج من مكنونها إضاءات قدمها دون تحريف أو مجاملة، وقد أشار لهذا في مقدمته، بقوله: "وكي نقرأ الأحداث قراءة جديدة بعيدة عن الأحكام المسبقة والجاهزة والتي تحولت إلى مفردات خاوية" فهو يؤمن أن الخواء لا يمكن أن يخدم الحقيقة، بل يستفزها حينما يجانبها ويبتعد عنها.

الجميل في هذا العمل؛ المعروف بأن كاتبه إسلامي المنهج ولا يحمل ميولا شيوعية، أنه خص الحزب الشيوعي العراقي في الكوت بجزء مهم من كتابه، شغل بحدود مائة صفحة من أصل مائتين وسبع وعشرين صفحة تكون منها الكتاب، هذه الخصوصية تناولت مراحل تكوين الحزب، وخلاياه الأولى ومن خلال ذلك، انطلق للحديث عن الشخصيات التي أخذت على عاتقها حمل راية الحزب في اللواء والمحافظة منذ عام 1922 ليذكر أسماء شخصيات لا زالت على قيد الحياة، أو فارقتنا منذ أمد يسير ولكن أبناءها وأحفادها لا زالوا موجودين في المدينة.

إن ذكر هذه الأسماء ودورهم في الحركة السياسية العراقية، حول الكتاب إلى تاريخ شخصي يعتز به كل من ورد ذكره فيه، فضلا عن ذلك، كان في الحديث عن موضوع سجن الكوت والتمرد الشهير الذي وقع فيه سنة 1953 وهو ما أطلق عليه الكاتب اسم "انتفاضة السجن" ثم حديثه عن مدينة الحي وانتفاضتها الشهيرة، جعل الكتاب تاريخا شخصيا لهاتين المنطقتين يفخر به أهلهما ومن جاورهما، وبذا نفذ السوداني من خلال كتابه هذا إلى عمق ذكريات أبناء المدينة فأعادها إلى الحياة تبعث النشوة والفرح في نفوس أهلها.

لقد كان الأستاذ السوداني موفقا جدا في كتابه هذا الذي يعد الجزء الأول من سلسلة تتكون من أربعة كتب متصلة تتحدث عن التاريخ المعاصر، كانت بدايتها مع هذا الكتاب على أن تنتهي في تاريخ نهاية الجزء الرابع لتغطي كامل الحقبة منذ عشرينات القرن الماضي وإلى الساعات التي نعيشها.

أجمل المنى للأخ السوداني، مقرونا بالدعوات الصادقة أن يمن الله تعالى عليه بالصحة التامة ليكمل هذا المشروع الجميل والمفيد والممتع

 

صالح الطائي

 

في المثقف اليوم