كتب واصدارات

انطولوجيا المثقفين العراقيين .. في مقدمة كتاب عبدالله اللامي "بصمات عراقية"

abdulhusan shaabanحين زارني الصحافي عبد الله اللامي في بيروت، وطلب مني تقديم كتابه الجديد "بصمات عراقية" سررت لعدّة أسباب:

أولها أنه يواصل مشواره الكتابي الذي ابتدأه بالانتقال من الكتابة الصحفية إلى التأليف، ومحاولة المزاوجة بينهما، فينشر ما يتجمّع لديه في الصحافة، ثم يضمّه إلى كتاب، وبدأ محاولته الأولى ببصمات عراقية، وهو مستمر فيها.

وثانيها لأنه يحاول أن يقتفي أثر أهم الشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية العراقية، لينشر منجزها وليعرض حضورها كجزء من الهوّية الوطنية العراقية الجامعة.

وثالثها لأنه يتابع انطولوجيا المثقفين العراقيين على مدى عدّة عقود من الزمان، قسم منهم من تعرّف عليهم مباشرة وكتب عنهم، والقسم الآخر من نقل عنهم ما كُتب من جانب آخرين، ولعلّ وجوده كان مناسبة لتصحيح خطأ حملته الطبعة الأولى من بصمات عراقية، حين سقط إسمي سهواً عن بحث كنتُ قد نشرته عن عامر عبدالله، وتضمنه كتابي الذي صدر عن دار ميزوبوتوميا "عامر عبدالله : النار ومرارة الأول- فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية"، ولم ينتبه إليه الكاتب والناشر، الأمر الذي اقتضى التنويه والاعتذار، كما أفاد محدثي اللامي خلال زيارته بقوله: إنها فرصة لتصحيح الخطأ، وذلك بما فيه فائدة وتنوير لجمهور القرّاء، لكي لا يحدث مثل هذا الالتباس.

ولأن عبدالله اللامي صحافي متمرّس، وله باع طويل واحتلّ مواقع في نقابة الصحفيين منذ عقود من الزمان، فهو يدرك أهمية الحرف ودور الكلمة، في بلورة الرأي العام، ولاسيّما في التفتيش عن المشتركات الإنسانية، خصوصاً التي تتعلق بالهوّية الوطنية، خارج نطاق الحزب أو القومية أو الطائفة أو الجماعة أو الفئة أو الجهة أو المنطقة الجغرافية، ولهذا فإن مجرد استعراض الأسماء الواردة في إطار هذه البصمات الجديدة، تشعرك بالاطمئنان بأن الهوّية الوطنية العابرة للطائفية والمذهبية، تشكّل ركناً أساسياً في جهده التعريفي والإعلامي، ويتضح ذلك جلياً من اختياراته للشخصيات ومن مضمون ومحتوى المادة التي تغطيها وتتناولها.

وفي استعراضاته الانطولوجية للمثقفين العراقيين العابرين للطائفية والإثنية والجهوية والمناطقية، فقد ظلّ حريصاً على أن تكون هذه البصمات عراقية صافية ووطنية خالصة، لا بمعنى تجريدها من خاصيتها، بل بتعبيرها عن هوّية عامة شاملة تمثّل العراق، كل العراق، مع الحفاظ على الخصوصية والتنوّع والتعدّدية والهوّية الفرعية، وتلك مسألة أساسية لمجمل استعراضه للشخصيات التي تناولها، فجمع العرب والأكراد والماركسيين والقوميين ومن كل الألوان والاتجاهات والتوجهات، وذلك خارج دائرة التمييز بين القومي العربي والقومي الكردي، وبين الليبرالي والماركسي، وبين المتديّن وغير المتديّن، والمؤمن وغير المؤمن، أي أن الإنسان كقيمة عليا كان محط اهتمامه، وهو المعيار الذي يعلو على بقية المعايير، وحسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس " الإنسان مقياس كل شيء".

وقد سعى اللامي لإبراز الجوانب الإيجابية في الشخصيات التي تناولها، تاركاً بعد النواقص والثغرات في أدائها أو عملها، وتلك سمة أخلاقية، خصوصاً إذا كان الهدف منها هو المشترك بما يمثله من دينامية وحيوية ونقاط تقارب وإلتقاء ووحدة أقرب إلى الاحتفالية منها إلى النقد.

وحاول اللامي أن يقدّم بانوراما عراقية حقيقية تتداخل ألوانها وتشتبك حروفها وتتعانق كلماتها في إطار مرجل ظلّ يغلي منذ العام 1958 ولغاية الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، لكن ما يريده اللامي غير ما هو سائد، وهو إعادة تركيب الحياوات السياسية والثقافية العراقية بحيث يظهر المشترك الإنساني والتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي، خارج نطاق الانحيازات المسبقة أو الاستقطابات الضيقة أو الاصطفافات الفئوية، حتى وإنْ بدأنا بعمل بسيط لكنه بالتراكم والتدرّج، قد يشكل حالة جديدة أو يستعيد الحالة الوطنية التي كانت سائدة، على كل ملاحظاتنا السلبية على الماضي.

لقد انطلق اللامي عراقياً لإظهار صورة العراق الذي نحتاج إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، لاسيّما في ظل الانقسامات المذهبية والطائفية والإثنية وانتشار مظاهر العنف والإرهاب والفساد التي سادت على نحو مريع، والتي أدت إلى تقسيم المجتمع العراقي، فعلياً: طولاً وعرضاً وشرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، تمهيداً لتقسيم الدولة العراقية، وجعل كيانيتها التي عرفت شكلاً من الوحدة تاريخياً بحيث تعصف بها الريح وتهدّد باقتلاعها من كل مكان، في إطار من التفتيت والتفكيك والتشظي.

وإذا كان قول ألبير كامو " الصحافي مؤرخ اللحظة" فإن هذه المقولة تلبست اللامي، لدرجة كبيرة، خصوصاً في معاناته المزدوجة والمركبة، حين لا يكتفي بالتاريخ العام والوقائع والأحداث، بل أنه يبحث عن تاريخ خاص، وهذا التاريخ ليس سوى ما هو موحِّد وجامع ومشترك، بغض النظر عن الاختلافات والتعارضات والتناقضات، وهي مهمة ليست سهلة ، خصوصاً بالتخلّي عن الهوى والغرض، والتحلّي بدرجة عالية من اللياقة والشفافية، لإبراز ما هو إيجابي وما هو منجز حسب تقديره.

ولا ينسى اللامي وهو يخوض هذه المغامرة الاّ أن يستحضر الصراع السياسي والاجتماعي الدموي الذي شهده العراق والمنطقة ، فيضعه جانباً، ويفتش بين السطور ما لدى كل شخصية من مزايا ومحاسن، وخصوصاً تلك التي يبرزها مريدوه والمقرّبون منه، ويبتعد عن رأي أعدائه وخصومه، وبذلك وأنت تقرأ البصمات تقف أمام سلسلة متصلة من الإيجابيات لدى الجميع لو جمعتها ووضعتها في ميزان بناء الدولة والثقافة والمواطنة، لكان حجمها كبيراً.

وحسناً فعلت جريدة الزمان البغدادية ونادي العلوية الاجتماعي الاحتفاء بالكاتب والاعلامي عبدالله اللامي، وذلك لصدور مؤلفه "حارات الزمان"، ولعلّ إشادة د. أحمد عبد المجيد رئيس تحرير طبعة بغداد إلى: أن الكلمة بمقدار دورها الفاعل في الحياة... فهي بحاجة إلى مهارة وصناعة لتنقلها من جيل إلى جيل ومن وسيلة إلى وسيلة أخرى، في حين دعا د.هاشم حسن الى ضرورة الاحتفال بالأحياء وتكريمهم في حياتهم وليس بعد رحيلهم، وهو ما حاول الاعلامي المتميز سعد البزاز تبنيّه واعتماده منذ حين.

وعن المشروع الكبير الذي تبنّاه اللامي فهو يستحق أن تتفرّغ له مؤسسة خاصة بالذاكرة الثقافية العراقية، بحيث يكون لها إمكانات مادية ومعنوية كبيرة، خصوصاً وأن حيوات المثقفين خلال العقود الأربعة الماضية كانت موزعة على المنافي القريبة والبعيدة والتي شهد بعضها رحيلهم وغيابهم الأبدي مثل الجواهري وهادي العلوي ومصطفى جمال الدين وعبد الوهاب البياتي وخالد علي الصالح وفاضل الأنصاري وعلي كريم سعيد ورحيم عجينة وصالح دكله وشريف الربيعي وزينب وعبد اللطيف الراوي وعامر عبدلله وطالب شبيب وغضبان السعد وهاني الفكيكي وابراهيم أحمد وسركون بولص وعوني كرّومي وعشرات غيرهم، ومن خلال مراحل عديدة ومختلفة، كان بعضهم محرّماً وممنوعاً ومنجزه الثقافي غير معروف أو منتشر الاّ عبر ثقافة الاستنساخ التي سادت في فترة الحصار الدولي الجائر، الأمر الذي يحتاج إلى إمكانات كبيرة لجمعه وتنظيمه وتأطيره ووضعه بيد القراء والمعنيين في إطار مشروع حضاري وثقافي ومعرفي يمكن البناء عليه في مجالات الفكر والأدب والفن والإعلام والرياضة والسياسة وجميع جوانب التميّز في الحياة.

إن إعادة قراءة بصمات اللامي تعطينا الفسحة في تقدير خياراته المتحررة من التعصب والتطرف والغلو التي اتسمت بها الكثير من الكتابات في الوقت الحاضر، حيث احتشدت بالتشنّج والانحياز المسبق واللاعقلانية، الأمر الذي يحتاج إلى سيادة قيم الحرية والتسامح والسلام والمشترك الإنساني، لاسيّما بإبراز المواطنة والمساواة، باعتبارهما أساسان للهوّية العراقية، مع الحرية والمشاركة والعدالة الاجتماعية.

ولمجرد استعراض أسماء المحتفى بهم في هذه الوجبة الإعلامية الشهية لشخصيات اللامي المتميّزة والتي لعبت أدواراً مهمة في التاريخ العراقي، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، فإن ذلك يعني أننا نتحدث عن صميمية عراقية مطلوبة ومنشودة، ربما هي الفريضة الغائبة أو المفقودة أو الحلم الذي لا يزال ضائعاً.

أظن أن مجرد متابعة ما ينشره اللامي في هذه الباقة الجميلة من التاريخ العراقي، كفيل بتكوين تصوّر عمّا يريده من العراق المستقبلي. إن التاريخ بقدر ما هو مراوغ حسب هيغل، فإنه في الوقت نفسه استشراف للمستقبل، واللامي يريد بإطلالته هذه على الشخصيات التاريخية التمهيد لرؤية المستقبل، الحلم المضيء للعراق، الذي يتمنّاه، فقد وصف مكسيم غوركي أحد الثوريين الحالمين بقوله: أن نصف عقله يعيش في المستقبل: أَلسنا نحلم، بل نغامر أحياناً حيث نبحث عن الحقيقة!

ع. شعبان

في المثقف اليوم