كتب واصدارات

قراءة في نصف قرن من تاريخ وطن

khadom almosawiسجل المناضل الراحل، المحامي والقاضي والكاتب، سالم عبيد النعمان (1923- 22/2/2012) قراءته لتاريخ وطنه العراق في صفحات كتاب، وضع له عنوان: نصف قرن من تاريخ وطن، وألحقه بعنوان فرعي: عرض موجز لتاريخ الحركة الوطنية العراقية (1900- 1958). وأقر الكاتب أن الدراسة التاريخية تتطلب اكثر من مجلد لمن أراد التوسع، وظن أن عرضه الموجز استعرض ما فيه الكفاية، كما رآها واجتهد في اجمالها في ثلاث ابواب. بدأ الباب الاول بالانقلاب التركي عام 1908 وانتهى بنهاية ثورة العشرين المجيدة. وكرس فصول الباب الثاني الى الصراع بين الشعب العراقي وحركته الوطنية من جهة وبين المستعمرين من جانب آخر، خلال فترة العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم. اما الباب الثالث فواصل في فصوله ما حدث في الاربعينات والخمسينات. ورغم محاولته واقتحامه اعترف بان علم التاريخ معقد تتضارب فيه الافكار وغيرها ولكن ولوج هذا العلم بموضوعية يعصم الى حد ما من يلجه عن كثير من الزلل، كما ثبت ذلك في المقدمة والغلاف الاخير.

نصف قرن من الزمان قد تكون فترة قصيرة في عمر الكفاح الوطني للشعوب وحتى الافراد، بمنظور المنجز والانعطاف التاريخي. وقد عاش اغلبها المؤلف وتداخل في صفحاتها وأراد أن يوثق فيها ومنها ما قرأه وعاشه ورآه نافعا. عارضا الاهم الابرز من وجهة نظره وما اعتبره ولوجا موضوعيا للتاريخ. وهو المهم في ثنايا الكتاب. فهناك اعادة واستذكار له ولأمثاله في التجربة والنضال، وعبرة ودروس للأجيال التي لم تعش تلك الفترة وولدت بعدها وتريد ان تطالع عنها وتعرف اكثر أو تسأل عن تفاصيل أخرى منها. فوضع المؤلف لها في عرضه اشارات الطريق. استند في الكثير من المعلومات على ما اورده باحثون اكاديميون في اطاريحهم ومراجع مختلفة وكذلك في حوارات له مع شخصيات عاشت الاحداث أو اشتركت فيها. ناقلا مثبتا عن مصادرها كما علق حتى في الهوامش منها، مصححا أو موضحا لها.

اختار المؤلف بنظرة تاريخية وقانونية مراحل التاريخ زمنيا حسب تعاقبها. فانطلق من بداية القرن الماضي ومن حدث بارز فيه هو الانقلاب في عاصمة الدولة الاكبر حينها التي كان وطنه العراق خاضعا لحكمها. واعتبره بداية لحركة النهضة العربية في تنظيمات ونواد ومنتديات اقرب الى الحياة الحزبية. ثم عالج الغزو الاستعماري البريطاني للعراق ابتداء من 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914، والصراع التركي البريطاني وما جرّ على الشعب العراقي من ويلاته، وحتى استكمال احتلال العراق من قبل جيش بريطانيا عام 1918، وصولا الى اندلاع ثورة العشرين وأسباب نجاحها وإخفاقها. وانفتاح الصراع والنضال الوطني مع المحتل الجديد ومعاهداته التي ابتدأت منذ عام 1922. مبرزا مؤتمرات الشعب الوطنية ضد الاحتلال، لاسيما مؤتمر الكاظمية برئاسة الشيخ مهدي الخالصي، وأساليب الكفاح السلمي التي انتهجتها الحركة الوطنية العراقية طيلة العشرينات والثلاثينيات. وما تميزت به تلك الفترة الزمنية من هبات شعبية ومعاهدات استعمارية.. وظهور تنظيمات سياسية كجماعة الاهالي ولجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار وغيرها، من نخب عربية وكردية وغيرها.

في الخمسينيات من تاريخ العراق لاحظ المؤلف حدة الصراع بين الحكومة العراقية ومن ورائها الامبريالية العالمية وبين الحركة الوطنية. مؤشرا الى ارتفاع كفاح الحركة الوطنية عاليا بعد نجاح الثورة في مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر. ولاسيما اثر العدوان الثلاثي الصهيو امبريالي على شعب مصر وانطلاق انتفاضة تشرين 1956 في عموم مدن العراق، التي اعتبرها في الوقت نفسه تأييدا لمصر ومناداة بسقوط النظام الملكي وتحرر العراق من الاحلاف المبيتة للعراق. كما اشار الى التأثيرات الاخرى من الثورة المصرية والتداعيات في تشكل حركة الضباط الاحرار في العراق وصولا الى إعلان الحكم الجمهوري عام 1958.

اسهب المؤلف بين صفحات الكتاب، رغم الايجاز في استمرار وتسلسل الاحداث، لما رآه بارزا ونافعا من جانبه او من وجهة نظره. واختياراته توضح اهمية الاحداث التي انتقاها وسلط الضوء عليها ليقدم مادة موضوعية من جهة وتثبيتا لها ولتاريخيتها من جهة اخرى. ففي كل فترة زمنية هناك صفحات كثيرة يمكن تسجيلها وإبرازها، او الاشارة اليها وربطها بوقائعها، وهو ما قام به المؤلف، مضيفا له توضيحاته او محاولته إعطاءها حقها او مكانها الصحيح في التاريخ. منطلقا من التأثيرات الاقتصادية ومشاريع المستعمرين الرئيسية في المنطقة، ومن ثم نظر في تطورات انعكاساتها السياسية والفكرية والثقافية وردود الفعل العربية عليها، داخلها وخارجها.

اشار الى ادوار المؤتمرات الوطنية وعلماء الدين ورسائلهما وبياناتهما وأثرها وأثارها الشعبية. وإجماعهما على استقلال العراق وإرادة شعبه. فأورد بعضها، ولعل ابرزها قرارات المؤتمر العراقي (ص 78) الذي عقد في دمشق في 8 اذار/ مارس 1920، ونصه الذي قرر استقلال العراق التام. "بصفتنا ممثلي الشعب العراقي المكلفين بالإعراب عن ارادته، اعلنا بإجماع الاراء استقلال البلاد العراقية المسلوخة عن تركيا بحدودها المعروفة من ولاية الموصل الى خليج فارس استقلالا تاما شاملا لا شائبة فيه وأيدنا استقلال سوريا التام وأعلنا اتحاد العراق معها سياسيا واقتصاديا..". وبمجموع العوامل والأسباب تعجلت الثورة والصراع بين الشعب والاحتلال. وفي فصل الكتاب عن ثورة العشرين يوسع المؤلف نظرته الى العوامل والقوى والأحزاب التي شاركت فيها وما انجزته بمحدوديته. ومحصلته "انهاء عهد قديم اتسم بحكم العثمانيين ودور الانكليز في حكمهم المباشر للعراق بلا حكومة ولا دولة، فأحلت الثورة محله حكما تميز ببداياته قيام صرح الدولة العراقية الحديثة" (ص 111). كما لا ينسى ذكر شخصيات سياسية ودينية لعبت دورا كبيرا في الثورة ونتائجها. ومن بينها العلامة مهدي الخالصي وما تعرض له اثناءها. وكذلك رسالته الى "لينين، زعيم ثورة اكتوبر الاشتراكية والتي نشرتها جريدة "New Times" السوفييتية، ونصها التالي: "ان الشرق الذي ايقظتم ينظر لحظة ترجمتكم افكاركم الصائبة حول تحالف الامم الشرقية وحق كل فرد وكل امة كبيرة كانت ام صغيرة مثقفة او متخلفة بالحياة والاستقلال الى واقع حي". ووصفه بالمفكر الوطني والإنساني البعيد النظر، والمناضل الكبير بعيد الافق انسانيا ووطنيا وإسلاميا مستنيرا (ص 134).

كما اهتم في فصوله الاخرى بالمذكرات الحزبية والشعبية وأعاد نشرها، لاسيما تلك التي لها علاقة بالدستور والمعاهدات ودعوات التحالف والجمعيات والنقابات وما يناضل في سبيل الحكم الوطني الديمقراطي. فافرد فصلا لجماعة الاهالي (فصل 12) وتابع الانقلابات العسكرية وتطوراتها. وصولا الى الحرب العالمية الثانية وما حصل اثناءها وبعدها من تحول نوعي وديمقراطي في طبيعة الحركة الوطنية عموما وتأليف احزاب ونشاط الحزب الشيوعي بينها. وهو ما سرده في الباب الثالث من الكتاب.

في مذكرة الحزب الشيوعي العراقي الاحتجاجية، التي وجد المؤلف فيها ما يعزز مواقفه و"من الضروري نشر هذه الوثيقة التي وجهها الحزب الى الجهات الرسمية ورؤساء الدول العظمى والدول العربية، بتاريخ 21/11/1941 لما لها من اهمية في تاريخ الحركة الوطنية بفصائلها وتطورها التاريخي"، وتضمنت تفاصيل اللحظة التاريخية وضرورة استثمارها، محددا القائد فهد فيها خلاصة تجربته والحزب والحركة الوطنية مع الحكومة العراقية وحليفتها حكومة بريطانيا. وداعيا الى تفهم مهام المرحلة وطبيعة الحكم الرشيد. مبينا "ليس في الدولة العراقية مؤسسة واحدة يمكن ان تعتبر من مؤسسات دولة ديمقراطية فالانتخاب الى النيابة بالرغم من انه على درجتين إلا ان النواب يعينون الى المجلس من دون ان يكون للمنتخبين رأي في تعيينهم. وكذلك يعيّن رؤساء البلديات وأعضاء المجالس الادارية والبلدية، ويسود الجيش نظام فاسد فالجنود يعاملون اسوا معاملة وأقساها من دون ان يكون لهم أي حق في الاعتراض او الشكوى، ويسود الاهمال دواوين الدولة بأسرها ولا تقضى حاجة لمراجع إلا بأخذ الرشوة منه..." (ص293).

في فصله ما قبل ختام الكتاب وضح المؤلف في عنوانه التطورات السياسية على الساحة العراقية والعربية بعد حلف بغداد وخطوات مهمة في تطهير الذات وعقد تحالفات بين تيارات متقاربة في الاهداف تمهيدا لتكوين جبهة وطنية موحدة ضد المخططات الامبريالية.

اما فصل الختام ( الفصل 24) فهو المسك الذي احتوى تشكيل حركة الضباط الاحرار ودورها وجبهة الاتحاد الوطني ودورها في الثورة وإسقاط النظام الملكي وقيام الجمهورية، التي توقف عندها متأملا ومتمنيا ان يطول به العمر ويكتب كتابا اخر عنها وما بعدها!.

الكتاب من عنوانه الى خاتمته جهد مثابر وبحث تاريخي موثق وملتزم بمنهجه وأسلوبه الادبي السياسي يعيد للأجيال، التي كما ذكرنا، والتي لم تكن قد ولدت في فترته، ان تطلع على ما فاتها من صفحات نضال وطني وكفاح شعبي وسياسي من اجل وطن حر وشعب سعيد. نصف قرن من الكفاح والتضحيات في سبيل ان ينعم الشعب بخيرات بلاده ويمارس ارادته بكرامة واحترام لخياراته وآماله ومستقبله، مستفيدا من عِبر التاريخ وتجارب الماضي.

 

- اسم الكتاب: نصف قرن من تاريخ وطن، المؤلف: سالم عبيد النعمان، اصدار دار المدى – بغداد، الطبعة الاولى 2012. تصميم الغلاف لريم الجندي، 407 صفحة من القطع المتوسط.

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم