كتب واصدارات

قراءة في كتاب واحد مصري للكاتب الصحفي وليد علاء الدين

صدر عن دار صفصافة كتاب: "واحد مصري.. خطاب مفتوح لرئيس مصر"، للكاتب والشاعر الصحفي وليد علاء الدين، والغلاف للكتاب من تصمم الفنان السوداني ناصر بخيت، عن لوحة الفنان المصري د. محمود حامد. الكتاب يجي في "254" صفحة من القطع فوق المتوسط، تنتهي بسيرة ذاتية للمؤلف، والتي ستكشف لك الكثير حين تنتهي من قراءة ذلك الكتاب، ومقسم إلى أجزاء ثلاثة الأول منها يضم مجموعة من مقالات الكاتب والتي تم نشرها ضمن مساحته الأسبوعية –كل ثلاثاء- التي أفردتها له جريدة المصري اليوم في موقعها الإليكتروني، وهو يحتل أكبر المساحات من حيث عدد الصفحات على طول الكتاب، ثم الجزء الثاني والذي يأتي في إطار العنوان "تدوينات على هامش الثورة"، وثالثًا –وأخيرًا- دراسة وتحليل للشخصية المصرية ودعوة من الكاتب لتفكيك المصطلح "أنا مصري" أو محاولة الوصول للمعنى الأعمق وراء التعبير "مصري".

 

هل كتب وليد علاء الدين من داخل الصندوق أم من خارجه؟:

ترصد السيرة الذاتية للمؤلف ردحًا من عمره قضاه في عالم الصحافة ناهز العشرين عامًا، عاش معظمها خارج حدود الوطن –مصر- وهو ما يجعلنا أمام السؤال الذي جعلناه عنوانًا هنا، وبقراءة الجزء الأول ثم الثالث، تكتشف على الفور أن الكاتب رجل مصري مهموم بقضايا وطنه، والذي يدين بكل الولاء له، ويدهشك كم التفاصيل التي يعرفها عن هذا الوطن، وكم المزالق التي يقع فيها الآن، إلا أنه ببراعة الصحفي ورهافة الشاعر استطاع أن ينظر إلى الصورة من أعلى قليلا، لكنه ليس علو الزيف أو التعالي على الواقع، بل علو الباحث عن التفاصيل وحياده الملزم بقول الحقيقة مهما كانت مرارة واقعها المصري، وعناوين المقالات داخل هذا القسم تؤكد على أن الكاتب غمس نفسه عن عمد في تلك الإشكالية –النظرة المحايدة- إلا أن الجديد فيها أنه قدم نظرة محب ومهموم بتقدم وطنه وجب عليه التجرد من شيفونيات مطلقة تسيطر على كثير من المصريين، إذ يدعي واحدهم قولا "أنا مصري"، دون ان يعرف ما لهذه الجملة البسيطة من مسئوليات يحملها المواطن، وتحملها الحكومات، بل يحملها رأس السلطة المصرية، ويطرح أفكاره التي تحلل الوضع المصري شديد التعقيد في تلك اللحظة الراهنة من تاريخ هذا البلد. هكذا صنع الكاتب لنفسه معادلته الصعبة –وهي في رأي كاتب المقال- من أبدع ما في الكتاب- إذ قرر فجأة أن يعلن أن "بصلة المحب ليست بخروف"، فالرجل ينز بمحبة وطنه والانتماء، إلا أنه لا يراه خارج سياق اللحظة التاريخية وخارج السياقات التي يوضع على اعتبارها هذا الوطن –المحب- على خارطة الأمم التي تسعى لخير أولادها.

تأمل معي عناوين الجزء الأول، ولنقفز مثلا إلى هذا العنوان "هل يستحق الشعب المصري الثقة؟" ص 73 –وترصد حالة المصريين في أعقاب أحكام البراءة في قضية القرن- وهي مقالة كاشفة لما نقول عنه حين يصرح فيها "..... إلا أنني في كل مرة أشعر امام هذه العبارة بالارتباك مهما تغيرت صيغتها......" فالكاتب –البعيد جسدًا عن الواقع المصري- ناله ما نال الشارع من هذا الارتباك، ويبحث عن أسبابه بموضوعية –فهو خارج الصندوق بشكل ما- فيصطدم بمفهوم الثقة، وأي ثقة يريدها الكاتب، ومنها ينطلق إلى سلسلة مراجعات –من صميم الصندوق وداخله- حتى ينتهي بعد طرح هذه الفكرة إلى أنه "يستحق الشعب المصري الثقة لأنه –بشكل أو بآخر- أعاد الأمور إلى نصابها، ولكن –الخشية كل الخشية- أن يكتفي بذلك، من دون أي طموح في تطوير شكل ومضمون هذا النصاب". هكذا كتب وليد من خارج الصندوق المصري ما هو من صميم الصندوق.

 

مغامرة شجاعة وواعية:

يميل البعض إلى أن المقالات تحمل في أسباب كتابتها أسباب مواتها والنسيان، خاصة إذا كانت تناقش الشأن المتداول أو اليومي أو واقع الأرض، وهو ما ينتبه له "وليد علاء الدين"، فيجعل محور كل مقالاته "الفكرة" وليس الحدث والواقع، إذ يطرح الرجل فكرته، ويمثل لها بالحدث الآني كمثال توضيحي، فمتى انقضت أزمة الواقع، بقيت الفكرة الخالصة يمكن التعويل عليها في مواضع مكانية او زمانية لاحقة بل ويمكن أن يستثمر فيها إلى ما شاء الله، إذن فالكاتب استطاع أن ينفذ إلى معادلة خاصة تجعل من طرح الفكرة ونقاشها الأمر الاولى بالحوار والتفاعل، حتى لو ضرب لها مثالاً آنيًا من أرض الواقع. وتجي مقالة "اصنع كهربتك بنفسك" ص 135، إذ يقدم بعض الأفكار القابلة للمناقشة والتداول بالاتفاق أو الاختلاف حولها، عن أزمة والطاقة في مصر، ويجعل من قضية التيار الكهربائي مثالا للطرح الذي يقدمه لأزمة الطاقة وهو طرح أساسه الإبداع الخلاق في حلول غير متداولة يمكن أن تساهم في حل الازمة، وفيها يعرض تجربة إمارة دبي –بدولة الإمارات العربية المتحدة- في هذا الصدد، ويتحسر الرجل على غياب الحلول الإبداعية في جسد علاج الأزمات المصرية، يقول في ص 137: ".......... كما يمكننا ان نرتقي قليلا من مساحة "التحسر" إلى مساحة "التأمل"، فنتأمل كيف أن الفكرة ليست فقط بسيطة وعملية –في إشارة لما فعلته إمارة دبي- إنما هي مذهلة إلى حد يجعلها شبيهة بخيال الشعراء والمبدعين، وما أحوجنا في مصر إلى الكثير من الخيال يسحبنا من مستنقع الرتابة والروتين. ..........".

يعرف الكاتب كيف يسوق لفكرته وكف يدلل عليها بهكذا بساطة، وبعيدًا عن التظير المفرط، وتجنبًا لشبهة "أستاذية"، يقدم أمثلة عملية لتلك الأفكار التي يطرحها عبر مقالاته، وهو منهج اعتمده الكاتب –تقريبًا- على مرّ المقالات داخل الكتاب. هكذا ضمن "علاء الدين" أن تظل فكرة –كأزمة الطاقة- هي الأولى بالبحث والتأمل، من مجرد أزمة كهرباء يتعرض لها المواطن المصري.

 

ما الجديد الذي قدمه وليد في أسلوبية الكتاب؟

أسلفنا بأن الرجل طوال الوقت يحاول أن يجعل من نفسه المتأمل من خارج الصندوق، ومن دون إغفال لكونه متورطًا في كل تفاصيله-، إلا أنه يتحول في مقالاته تلك إلى منحي جديد ومبتكر –ولعله ليس أول من فعل- إذ يستثمر شخص الكاتب وحس الشاعر وخيال المسرحي، ومشهدية الروائي السارد ويجعلها تقنيته المميزة لمقالاته، فينتج لنا "أسلوبية خاصة وجديدة" في كتابة المقال الصحفي المتواتر، مخالفًا بذلك ربما أشهر المدارس الصحفية التي تعلم فن كتابة المقال، فيقرر هنا –أيضًا- أن يكتب من خارج صندوق المقال الصحفي، ويخرج بمقاله الذي يطرح الأفكار المثيرة للتساؤل، من باب الإجابات إلى باب الأسئلة، فمع كل فكرة يقدمها تلمح ثمة سؤال أكبر وأعمق من وراء الطرح، وليس مجرد تقديم الحل أو الإشارة إلى ما يمكن عمله، وإن توهمنا ذلك في الظاهر. ولعل تدخل "الشاعر/ المسرحي/ الروائي/ القاص/ الرحالة" في المقال هو ما أنتج لنا خصوصية هذا الأسلوب الذي يقدمه لنا "وليد" خلال مقالاته، فمثلا تجده يقدم مقالًا كاملاً في صورة الحوار المسرحي، بل يجعلك –ومن خلال حبكة سردية ما- تصنع مشهدصا يوازي مشاهد المسرح، وتامل معي مقاله "جنات العبقرية المصرية" ص 183، بل تجد المقال يكاد أن يتحول إلى مشهد مسرحي صريح له مكان وزمان وشخوص، ويقطعه إلى مشاهد كما جاء في مقال "مشهد يومي" ص 163.

ورغم ذلك لا ينسى الكاتب بأن جمهور القراء في المقال ربما يحتاج إلى لغة سهلة وبسيطة، فتراه –رغم فصاحة اللغة وسهولتها- لا يمانع أن يضمن المقال حوارًا بالعامية، يطرح من خلاله السؤال الأعمق والفكرة المحور في المقال، وهذا ما يمثله مقال "بس أنا نفسي أتجوز" ص115، والذي يتناول فكرة منظومة علاج الحكومة لمرضى فيرس "C"، ففي المقال ومنذ اللحظة الأولى –وبغض النظر عن العنوان- يقول في مفتتح المقال "بص يا سيدي..عيب أكلمك عن الزحمة والعشوائية وما شابه ذلك من أمور باتت في بلدنا من باب العشرة التي لا تهون هذه الأيام ............"، هكذا يمزج بين مستويات اللغة بوعي وتمكن، فيزيد مقالاته رصانة وقربًا، وهو يعرف كيف يورط القارئ في الفكرة، ويتركه أما السؤال، لتبدأ رحلة البحث –معًا- عن الإجابات.

تدوينات على هامش الثورة:

يقدم "علاء الدين" في هذا الجزء من "ص"221 وحتى "ص 238"، نموذجًا لكتابة تتطور كل يوم، "كتابات الحياة الافتراضية" من منشورات "العالم الأزرق الفيسبوكي"، والتي انتبه بعض الباحثين إلى دراستها، فتجيء فقرات هذا الجزء كنوع من التوثيق للأفكار أكثر منه للمنشورات التي نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا فضل الكاتب أن ينشر تلك المنشورات بلا تحريف أو معالجة –تمامصا كما فعل مع المقالات- وكأنه يريد أن يقدم الفكرة لحظتها والسؤال الذي ألح عليه يومها، غير منشغل بطول أو قصر هذا التدوين.

هنا أراد "الكاتب" أن يحفظ ذاكرته الحياتية ويجعل تلك المنشورات "مُفكِّرة" تطرح الأفكار، ومن خلال هذا الطرح تضمن الحفاظ على الذاكرة التاريخية للحدث الآني وحمايته من التآكل أو النسيان والتحريف، وكأنه عود على بدء القديم فيُذكر نفسه أن الكاتب في زاوية ما ربما يمثل ضمير عصره، الذي يحميه من الزيف والتحريف، وذلم في الفترة من (1/2/2011 وحتى 1/7/2013".

صدمة الخروج:

قدم "وليد علاء الدين" في هذا الجزء الأخير من الكتاب من ص 239 وحتى آخر الكتاب دراسة تم نشرها –كما صرح الكتاب- في مجلة أدب ونقد "2006"، وفيها يحاول تحليل الشخصية المصرية تحليلا محايدًا ومتجردًا، شديد الانتماء لمصريته تلك التي مثلت إشكالية الفكرة التي طرحتها الدراسة وناقشت زوايا، وطرحت لبعض التحليلات والتصنيفات لتلك الشخصية المصرية –المتوهمة زعمًا- ومنها "شخصية المحتال" ص 243، و"شخصية الكامن" ص 244، و" شخصية المنسحب" ص 245، وبعدها يحاول أن يطرح رؤية تاريخية حول تلك الفكرة القومية التي تنبني عليها عبارة "أنا مصري"، ويتتبعها تاريخيًا في سرد شيق وماتع، إلى أن ينتهي إلى السؤال/ الفكرة التي تسأل عن اختراق هذا النموذج المصري.

كما أسلفنا، اعتمد الكاتب أن يثير الفكرة والأسئلة حولها، فيما يشبه العصف الذهني بينه وبين القراء، ولم يعنه بقدر ما أن تكون النماذج الواقعية التي شرح بها أفكاره العميقة تلك وقدم من خلالها أسئلته الصحفية والإبداعية، لم يعنه أن تقدم الإجابات التي تريحه باعتباره "واحد مصري"، قدر ما انشغل بتحفيزه وإثارة ذهنه.

استثمر الصحفي "وليد علاء الدين" كل من الشاعر والمسرحي والروائي وقاص أدب الرحلات في طول مقالاته وكتاباته تلك، مما يجعل الفعل الكتابي المُدقق داخل هذا العمل عملا متميزًا يضيف إلى شخص الكاتب، ويؤكد على على ما حرص على أن يثبته ولو من خلال نقده وأنه "واحد مصري" مثل كل المصرين مهموم بهذا البلد، لا يغفل ولا يطرف عنه كبقية المغتربين عنه ممن حكمت علهيم أقدارهم أن يحملوا أوطانهم في طياتهم وجنبات روحهم، فيبدون كأنهم حين يناقشون واقعه بأنهم يناقشون من خارج الصندوق، في حين ان الحقيقة أنهم متورطون حتى النخاع في داخل مرمى هذا الصندوق.

أدعوكم لقراءة "واحد مصري"، وأتطلع إلى قراءة روايته الأولي –وليست كتابه الأول- فيبدو أننا أمام نموذج وتجربة كتابية عرفت كيف تصنع من نصها الجيد دليلاً على إبداعها.

 

مختار سعد شحاته

Bo Mima

روائي، وباحث أدبي.

في المثقف اليوم