كتب واصدارات

صراع الدولة والجماعات لسعد محمد رحيم .. من الاختلاف إلى الاقتتال

saleh alrazukيكفينا سعد محمد رحيم مؤونة تحديد الأفكار الأساسية في كتابه (صراع الدولة والجماعات في العراق) الصادر من أسابيع عن دار سطور (٢٢٠ ص) ويحددها بأربعة بنود عريضة هي:

السياسة والثقافة والهوية والعنف. ويضيف اليها محورا خاصا عن انحطاط القيم (فساد العقول) بتعبير صدقي إسماعيل. وملحقا عن ثورات الربيع العربي وهموما متفرعة عنه.

و من الواضح أن محاور الكتاب في معظمها لها علاقة بالعقل والنشاط الذهني والاختيار . يعني القطاع الواعي من العمل والحياة. باستثناء العنف الذي يحتل لاشعور الأفراد والجماعات. والذي هو أصلا التفسير الوحيد لموضوعة الصراع. عنوان الكتاب، فالثورة والعمل الانقلابي لا شك تعبير عنفي عن أزمة.

ومن الواضح أيضا أن الكتاب لا يتوقف عند تحديد معنى كل محور. وإنما يدخل في شرح الأسباب والظواهر فورا.

في محور السياسة يشير الكاتب أنه لا يمكنها أن تكون بريئة من الميول (ص١٥) . ولذلك نحن نتحدث عن استراتيجية وتكتيك. وعن أجندا قريبة ومعها خطط بعيدة المدى نسخر كل شيء لتحويلها إلى غرض. بمعنى إلى مبدأ يترجم طبيعة التفكير والبنية النفسية للذهن. ولذلك يجب أن نتوقع خلال هذا المسار بعض الإفرازات الجانبية التي تتحول أحيانا بسبب خطأ في التشخيص إلى ظاهرة معاكسة. وضمن هذا البند تدخل ظاهرة القاعدة وبعدها بوكو حرام ومؤخرا داعش. وإذا كان الكاتب يرى أنها نتيجة لسياسة التوسع الإمبريالي وأزمة الاقتصاد في العالم (كأنه يؤكد على ما دأب الباحث صائب خليل على تكراره: أن وراء كل مصيبة في الشرق أمريكا وإسرائيل، أو رأس الإمبريالية العالمية ويدها اليمنى ووكيلها) أنا شخصيا أعتقد أنها ليست إنتاجا للإمبريالية ولا تسويقا لسياساتها. ولكنها حلقة ضمن سلسلة من التفاعلات والخطط.

و أعتقد أن غروب القاعدة وصعود نجم داعش بعد كل تدخل أمريكي أساسي في المنطقة مرة باسم تحالف دولي ومرة باسم حماية الديمقراطية العالمية دليل دامغ على وجود خطأ في سياساتها ذاتها. وهو خطأ متكرر حولته ماكينة البروباغندا الإسلامية إلى نوع من الإثم أو الخطيئة. قلما اتفقت الأرثوذوكسية السنية مع الشيعة على موضوع. ولكنهما بالإجماع تنظران إلى أمريكا على أنها شيطان خرج من وكره أو رمز للاستكبار العالمي. والواقع أن بنية الخطاب الرأسمالي العالمي لا يزال يراوح في مكانه. ولم تنفع معه التحويرات البسيطة بعد موت الإيديولوجيات وسقوط الاتحاد السوفياتي.

و لكن أتفق مع سعد رحيم أن هذا يصدق على العراق. فعبارات الخطاب السياسي بعد سقوط صدام لا تزال متداولة في سوق الشعارات السياسية (ص ٢٢).

إن التركيبة أو الصيغة السياسية لم تتبدل في العالم جوهريا بسقوط الدمية السوفييتية. لقد ذابت الايديولوجيا فحسب أمام المصالح الأساسية للنظام والأمة. أو أمام مصالح الدولة الروسية. وكل ما حصل (بلغة الكاتبة الإفريقية الشابة نوفيوليت بولاوايو noviolet bulawayo) هو تلاعب بالألفاظ. وتجريد للأهداف واختزال. أو أنه اختصار وتحويل.

وعليه لن تختفي ظاهرة الإسلام السياسي والسلفية الجهادية إلا بعد استبدال التكتيك الأمريكي.

و لا يمكن للمرء أن يتوقع ما هي النتائج الوسيطة التي ستنجم عن التكتيك المتبدل. فالتحويل شيء والتبدل شيء آخر. إنهما صيغة رديفة لأطروحة الثابت والمتحول. وهذا وحده يفسر العالم ببنيته الأساسية. إنه يتحرك من حقبة إلى غيرها. ويكفي التذكير بتاريخ الإنسان. فبالانتقال من العصر الحجري إلى الحديدي تبدل واقعه وظروف معاشه ولكن أهدافه الاستراتيجية لم يطرأ عليها شيء. كان البحث عن ملاذ آمن ترافقه غرائز أساسية وفي مقدمتها التوسع أو السيطرة وامتلاك زمام الذات والموضوع في نفس اللحظة.

و يؤكد سعد رحيم على هذه الفكرة بقوله إن لغتنا لا تزال ميكانيكية وأعيد استخدامها آلاف المرات. حتى أنها سقطت في حفرة الوحشة والكآبة (ص١٨).

و لذلك يرى أن مشكلة السياسة في بلادنا أنها تتستر على عيوب المجتمع ولا تبرزها للعيان. وعليه لا يمكن معرفة مكامن العلل ولا الداء الذي ينخر في العظام. وإذا كانت مشاكلنا مركبة (ص٢٧) فهذا لأن سياساتنا مركبة وكوادرنا السياسية تعاني من الالتباس. والفرز يكون على أساس أصحاب الثقة وأصحاب الكفاءة. والثقات لهم الأولوية. ومن هنا تبدأ تراجيديا العجز في الإدارة. إنها إدارة رقابية وأمنية وليست إدارة تطوير.

و أبسط مثال تجده في تنمية موارد النفط. فقد كان سعر البرميل في الثمانينات يبلغ حوالي ٨ دولارات. وتكلفة ترشيد البيئة تصل إلى ٢٠ دولارا عن البرميل الواحد. يعني ما نكسبه من الثروات الباطنية ننفقه على التزاماتنا الدولية. وتغطية العجز لا يكون من خلال التباري في الانتاج وإنما بالقروض والدين العام.

و هو ما برز على السطح بعد انهيار النظام عام ٢٠٠٣. لقد كانت الكارثة مخيفة. ووضعت مستقبل خزينة الدولة في جيوب دول الجوار أو خزائن المدينين (وهو ما نبه إليه سعد رحيم بقوله: إذا ما ستر تدفق النفط الفشل في توظيف الأموال وسوء إدارة الاقتصاد فقد جاء السقوط ليعرض الاقتصاد لصدمات مرعبة- ص ٢٧).

وقد ربط الكتاب بمهارة بين السقوط وضعف الاقتصاد وفشله حين قال: إن التدهور الاقتصادي هو المسؤول أساسا عن الأزمات السياسية والأمنية (ص ٢٨).

ولم ينس أن يستنتج بعد ذلك دور الخلل الاجتماعي. فتدهور الاقتصاد وأمراضه سهلت نشوء مؤسسات عشائرية ودينية استغلت الظروف واحتلت الفراغ الذي يعزل عامة أفراد المجتمع عن الدولة. ووظفته لخدمة مآربها إلى أن تحولت إلى دول متناحرة بمقدورها الهيمنة على آليات المجتمع المدني وأحلامه بالديمقراطية والرخاء (ص٢٩).

وهكذا تحول اقتصادنا إلى عمل ريعي اتكالي، وفر المناخ لخلق فئة طفيلية شرهة، وشرائح اتكالية واسعة، تسعى للحصول على دخل من غير أن تفكر بأداء عمل إنتاجي نافع كما قال بالحرف الواحد (ص٣١).

و في هذا الجو أصبح التسامح سلعة نادرة. فالكاتب يعتقد أن التعصب قد خنق كل امكانيات التفاهم والوعي بالآخر (ص ٤٥). وسأذهب لأبعد من ذلك. برأيي نحن نكيل بمكيالين منذ نشوء معنى الدولة وتأسيس مفهومنا للأمة عليها. لقد سبقت الدولة بالظهور تشكيل الأمة. وهذا بدل لدينا الأولويات. فأصبح الأفراد في خدمة المؤسسة. وليس العكس. يعني المؤسسة كانت تستهلك الأفراد كوقود لبقائها. ولا أستثني أي طور من تاريخنا. منذ بزوغه وحتى هذه اللحظة. لقد كان التسامح ألسنيا وفي مستوى الفراغ السياسي. وبتعبير آخر ينتهي عند حدود وعي المؤسسة بذاتها وأناها الأعلى.

فديمقراطية الشورى في الإسلام كانت وقفا على الصحابة والمبشرين بالجنة. وهذه هي الديمقراطية الأولى. فما بالك بالديمقراطيات اللاحقة. لقد غلب عليها أسلوب التشفي والتصفية. ولم تسلم منه رموز دينية مشهود لها بالزهد وإنكار الذات. وفي رأس القائمة الخوارج ثم ما تفرع عنهم من حركات تصوف غامضة في ظاهرها. ولها جذور جهادية في باطنها.

وغلبت على التصفيات السادية بمقاييس أعتى ماكينة دموية عرفها التاريخ وهم النازيون. فقد لقي ابن المقفع والحلاج مصيرا مروعا ولا أعتقد لأسباب إيديولوجية بحتة. ولكن لشبهات لها علاقة بحصانة البلاط ورموزه.

***

وكذلك في محور الثقافة. لا ينفق سعد رحيم وقتا في التمهيد لمعناها. ويدخل إلى الموضوع من باب الدال وليس المدلول. ويحصر كل كلامه عن المثقف بمطلق المعنى وعلاقته مع السلطة.

فهو يعتقد أن الثقافة تتطور في فضاء معزول عن من يفترض أنهم يبشرون بها، أي المثقفين. ويرى أن المثقف في العراق معزول عن النشاط التفاعلي. متورط بمكاسب آنية. أو خاضع لقيود لا تسمح له بالحركة (ص٤٩).

و بالفعل إن هم المثقف العربي لا يختلف كثيرا عن العدميين والوجوديين الذين انتجتهم الحرب العالمية الثانية. ويكفي العودة إلى رواية (المثقفون) لسيمون دربوفوار لتلاحظ الأنانية المفرطة التي طبعت المثقف الأوروبي. فهو لا يخاف على المجتمع. ويربط المصلحة الوطنية بالرضا والشبع والكفاية.

و إذا كانت هذه الحفرة الوجودية فردية المنشأ في أوروبا. تسمح للفرد بالتحرر من مسؤولياته فقط لينهمك في مهمة تخريب منظم ومؤتمت لأناه الأعلى وفي سبيل ترويج للتفسير الغريزي لمعنى الحياة، فإننا نقفز من فوق هذه الحفرة لنصل إلى نفس النتيجة. فالداء العضال عند المثقف العربي هو في تعليب المشاعر الوطنية وليس في لا إباليته حيالها. وغالبا يكون تعليبا مجوفا. يعني نقدم حزمة من البرامج الغامضة والتي تتبارى في كسب ود السلطة.

وهنا المعضلة.

أن يتحول تحفيز المعاني إلى تبرير للأخطاء.

وهكذا تنبع مشكلة التفسير الخاطئ لمعنى الأصول والتي أفضل الاستعاضة عنها بالينابيع.

فالأصول تحولت إلى مصطلح بغيض ومنافس للعلمنة والوعي (بمعنى وعي الإدراكات أو تحديث الوظائف. يعني الحداثة). لقد تحولت الأصول إلى أداة أو معول يهدم النص. ويضع في مكانه الوحي بالنص. أو المصادر الغائبة والتي تحتاج إلى تعريف.

وفيما أعتقد إن الإدراك بالغيبيات نشاط يطاله الحدس والشك. وتعزله فراغات عن الواقعة المطلوب التعامل معها.

و مثقفو الايحاءات تحولوا بشخصهم إلى ظاهرة مرعبة. لديها خاصة التخاطر. وكأن كل واحد منهم نائب عن الوحي، بمعنى أنه نائب عن الوسيط في مصدر التشريعات.

وهذا لم يقفل الدائرة على العقل ويلغيه. ولكنه أغلق الدائرة على التفسير الإنساني للجماعات. لقد أصبحت كتلة أو عصابا جماعيا وليس وعيا جماعيا. وهو ما يسميه سعد رحيم بإعادة انتاج المعرفة المقنعة بالموروث والمقدس. (ص٥١).

و هو ما يربطه هشام شرابي بآليات انتاج المثقف التي تعود إلى مجتمع زراعي تقليدي غير حديث تشابهت فيه القيم مع أخلاق العصور الوسطى مع استثناءات جزئية في مراكز المدن الأساسية فقط (ص١٥)، كما قال في كتابه الكلاسيكي: (المثقفون العرب والغرب، دار النهار للنشر.١٩٧٨).

وفي مثل هذا الجو كان لا بد من تغريب المثقف عن حياته وفضائه النفسي. وتحوله إلى أداة بيد السلطة. مثلما تحول الإعلام من وسيلة توعية إلى بوق يخاطب أدنى أنواع الغرائز. ونجم عن ذلك مثقف مشوه ومريض ومعزول عن ذاته(ص ٦٧).

حتى أن المثقف تساوى بنظر السلطات مع المتعلم. وهذا موجود في أهم مؤسسة لدينا وهي الجيش. والذي نطلق عليه أحيانا اسم الجيش العقائدي. يعني أنه في خدمة إيديولوجيا بعينها ولا يساوي بين جميع الفرقاء. ففرز وتصنيف أفراد الجيش يكون على أساس مثقف (يعني متعلم) وغير مثقف (جاهل أو أمي).

ولا أعلم بالضبط من أين جاءت هذه الفكرة. ولكنها تفيد فكرة الثقافة الشعبية.

و أستغرب تماما أن تساوي مؤسسة عسكرية كالجيش بين المدون والكاتب المبدع. وكأنها لا ترى الفرق بين نشر المعلومات وانتاجها. وهو ما أدى إلى موت المثقف العضوي (ص٦٩)، ودخوله في غيبوبة تشبه الذهان.

و أعتقد أننا أسأنا أصلا لمعنى المثقف العضوي. فالفكرة أصبحت تشبه غسيل الأفكار القذرة والترويج للخرافات والطقوس السياسية. وأصبح لكل حزب منابره وأدباؤه. وغطى المال السياسي على القيمة الحقيقية للكاتب.

وعلى سبيل التذكير فقط أشير لفؤاد الشايب. أمين عام مكتب رئيس الجمهورية بعد الاستقلال في سوريا. لطالما نظرنا إليه على أنه مؤسس للقصة الفنية. مع أن مجموعته (تاريخ جرح) صدرت عام ١٩٤٤ بينما سبقه العجيلي في تركيب قصة ناضجة وواضحة المعالم بعشرين عاما.

و لولا دخول العجيلي البرلمان وإدراته لعدة وزارات في فترة الانفصال ربما أسدلنا عليه ستار النسيان.

هذا ما جرى مثلا لفاضل السباعي الذي عانى من غربة مضاعفة في سوريا بالرغم من سبقه وريادته في فن الرواية. وأجزم أن السبب له تفسيرات سياسية. فقد عبر عن منطق الثلاجة السياسية. وحمل أفكار الطبقة الخاسرة للسلطة. ودفع الثمن مثل غيره من أبناء الارستقراطيات التي تشبه المعادن الباردة.

و كان مصيره لا يختلف عن مصير باسترناك وبطله الدكتور زيفاكو.

ويجد سعد رحيم أن الحل لمضاعفات الاغتراب ليس في المثقف العضوي ولكن في العودة إلى ثقافة الحياة. فهي التي تضمن لنا التغلب على ظلاميات التسلط والإملاءات من جهة والاستلاب من جهة ثانية. بحيث لا يكون المثقف تابعا إلا لنفسه ولموجبات وفروض أهدافه في هذه الحياة.

وهكذا نلغي أعباء التخلف والانحطاط والجهل ونعود إلى الحرية والمدنية (ص ٧٩).

غير أن فن الحياة، لا يعني نسيان القدر الحتمي؛ الموت، بل تقبّله كجزء من قوانين الوجود (ص ٨٠). وأضيف مع سعد رحيم: إن الحياة هي الرد الطبيعي على الموت والعدم لو استعملنا المصطلحات السوسيرية.

***

وفي محور الهوية يقفز الكتاب مباشرة إلى الانحرافات التي لحقت بالمعنى. دون أن يتوقف عند معناها ذاته.

و يرى أنه معنى خرج عن مساره الطبيعي (ص ٨٥). فقد تحمل هذا المفهوم إسقاطات تشوبها كل الشوائب. من التحجر والاستعلاء العرقي الأجوف الذي لا يستند على حقائق ومعطيات ملموسة. وحتى التفسيرات الغامضة التي تحمل قدرا لا يستهان به من الشوفينية واللاأدرية. وقدرا مماثلا من الأشكال قبل الدولتية لهذا المفهوم (ص ٨٧).

ولا يسعني إلا التأكيد والموافقة. فمفهوم الهوية لا يختلف برأيي عما جرى للثورة البلشفية. لقد تحولت بعد الدخول في لعبة الدولة إلى نوع من التسلط الأعمى. حتى أصبحت الدولة غاية بحد ذاتها. بمعنى أنها تحولت من الثورة إلى قوة عاتية تعارض التحول.

و هذا هو العبء الذي تعاني منه كل أمراض الهوية المزعومة. لقد أصبحت هدفا بلا مضمون. ثم أداة بلا هدف. يعني غاية تكتفي بذاتها.

و لا يسعني أمام هذه الظاهرة إلا أن أنعي مفهوم الهوية وأعلن مع غيري عن إفلاسها. أو الدخول في طور ما يسمى موت الهوية. مثل موت الإنسان وموت التاريخ إلى آخر هذه السلسلة.

وطبعا هذا لا ينتقص من مفهومنا للانتماء ومحدداته مثل الالتزام والإدراك والمسؤولية.

لقد عانت الهوية من فساد الطبقة التي تبشر بها. إن لم أقل حسر نظرها وتخلفها المعيب والمخجل.

و استفحلت باسم الهوية الرقابة على الحريات الخاصة والعامة. ووصل الأمر إلى درجة تحريم الإنترنت بحجة أنها تتسبب في ضياع الأصالة. وكأن التخلف والتحجر هما الوسيلة الوحيدة لضمان حساسية وطنية نظيفة.

و إلى تجريم الفكر المتوسطي بحجة أنه يساوي بين الضحية والجلاد، وبالأخص أنه يشتمل على عضوية إسرائيل. وكأن كيان هذه الدولة غير موجود في محافل نعترف بها ونتسابق على إرضائها.

إن اقتران الهوية بجو يشبه كثيرا ثلاجة حفظ اللحوم أو سراديب الموتى لا يمكنه أن يخدم توسيع مفهوم المواطنة الإيجابية. بالعكس هو خدمة لا متناهية لمن يهمه تنمية حساسيات الفئات الرجعية والسلفية والتي تقاتل بكل قواها لإعادة عقارب الساعة إلى الخلف.

وبكل أسف إن تمسك أحزابنا الوطنية التي أفرزتها حروب الاستقلال بمعنى الهوية وكأنها لوح محفوظ أو وحي أو قرآن حولها إلى أداة قمع وتأخير. وهذا يعني أنها سقطت في الحفرة الوجودية لإعدام الميت.

إن الهوية لم تعد التزاما طوعيا ولكنها واجب سياسي له دلالة. وبمجرد الكلام عن هوية يتبادر إلى الذهن الأصالة والمحافظة وسواها من العناوين الكريهة والممجوجة والتي أفضل استبدالها بمبدأ الينابيع والجوهر والماهية.

فالاسم يدل على المسمى وليس على المعنى المجرد.

و للتوضيح.

تدل النازية على فترة شئيمة من تاريخ ألمانيا وأوروبا. ولكن ألمانيا لا تعني بالضرورة الحزب النازي وهتلر.

وهكذا الهوية. أصبحت تدل على فئة لديها أهداف سياسية تعاني من الانطواء والسلبية. كأنها دم بارد لا يتحرك في شرايين المجتمع.

بينما الينابيع لا يزال مفهوما بريئا يقبل التعديل والتفسير والحوار.

ولذلك يرى الكاتب(وهذا اجتهاد شخصي منه كما يقول) أن الإيديولوجيا لا تفسر الهوية دائما. والعكس هو الصحيح. فالانتماء والاختيار هو الذي يحدد ماهية الإيديولوجيا. ومادتها. ومقارباتها. ويضرب مثلا على ذلك بداعش التي يمكنها أن تجد مرجعية في غير ابن حنبل لو أنه ليس موجودا. ومثلها الخمير الحمر. بوسعهم إسناد أفعالهم العنفية وتبريرها بنظريات غير ماركسية لو لم يكن لماركس وجود مادي في تاريخ الأفكار (ص ٨٩).

لكن هوية الأفراد والمجتمعات لا تنفصل أيضا عن هوية المكان. وهو ما يسميه سعد رحيم (عبقرية المكان ص ٩٧). وأعتقد أن هذا المصطلح وطني وعروبي بامتياز. وهو من نتاج الأفكار الرومنسية التي نادت بها الثورة الفرنسية. فجمال حمدان تكلم بكثير من الشاعرية عن عبقرية مصر باعتبار أنها صورة مجازية لواقع متبدل. أو بالأحرى لواقعة تعود للتصعيد. وكان في ذهنه ثورة الضباط الأحرار. بمعنى أنه ربط العمل الانقلابي بالواقع الذهني لمعنى الحرية. أو بالأدق التحرر.

و مثله تكلم زكي الأرسوزي عن عبقرية اللغة العربية ورأى أنها تعني ذاتها. فهي حاملة لتاريخية الظاهرة. وهي إسقاط لعلاقة رحمانية بين الطبيعة والحكمة المبتغاة من التعبير أو النشاط الألسني التداولي.

وعليه أكد أن الهوية العراقية هي حضارة ولا تقبل الدحض (ص٩٨). ولكنه لم يصل إلى درجة إسقاط الأساطير الافتراضية على معنى العراق. فأن يكون اسمه مشتقا من اسم أوروك لا يدل على واقعه الجغرافي ولا السياسي. وأجزم أن العراق بصورته الحالية لا يعني أنه حقيقة مؤبدة. وكذلك ليس باليد ضمانات أنه لن يهضم أو يبتلع أرضا جديدة. فالصورة السياسية لكل المنظومة في الشرق الأوسط نتيجة حدود سائلة ومعاهدات. ولا يزال أمام العراق ملفات كثيرة مفتوحة مع تركيا وإايران والكويت قبل إعلان صورته النهائية على الملأ.

إن الخريطة الحالية لبلداننا هي رماد احتراق الإمبراطوريات السابقة. ولذلك لا أعول كثيرا على الطبيعة والجغرافيا. حتى الجغرافيا متبدلة. وإنسان العصر الحديدي غير إنسان العصر الحجري. ونفس القول ينسحب على معنى الهوية الوطنية قبل ٢٠٠٣ وبعدها. من تفسير مركزي إلى فدراليات تضم مكونات لم يسبق الاعتراف بها.

و لا أعتقد أن سعد رحيم يختلف معي في النتيجة. فقد ذكر بالحرف الواحد أن حقائق السياسة تتولد عن صراع المصالح (ص ٩٨). والخرائط تتبدل بحسب الشروط والمتغيرات (ص ٩٩). وأحيانا تخلق السياسة جغرافيا متوهمة يتحكم بها عاملا القوة والمصالح (ص ١٠٢).

وقد خلقت سياسات الفراغ أو العطالة والترهل التي أصابت دولنا الضعيفة نتيجة العجز في تحميل وإسقاط المعارف والتقاليد على القانون، ونتيجة سوء رعاية العقد الاجتماعي، اختزلات في الهوية الوطنية (يسميها سعد رحيم: مقدمات للانسلاخ ص ١٠٨) تسببت بإحلال مؤسسات قبل دولتية محل احتكار العنف بيد الدولة. وبروز ثقافة عاجزة ومشبوهة لا يمكن للحداثة أن تصل اليها (ص١٠٨)؟..

و لكن ماذا يعني سعد رحيم بالحداثة؟..

هل هي أحكام قيمة أم طور من أطوار العقل أم مجرد أداة؟..

أعتقد أنه يربطها ببنية النظام الجماعي. فهي عنده كل كتلة أو مسطح يلغي مجتمع الدولة. بمعنى آخر إنها اقتصاد بلا أدوات انتاج ينتظم في مؤسسات. ويدير مصادر الثروات حسب خطة محكمة. وتغيب عنه التناقضات الطبقية (ص ١٠٩).

وعليه تغلب المحاكاة على أدوات الانتاج والتعبير. بمعنى أنها تنظر إلى سواها وليس إلى ذاتها. وأحيانا تكون فردية في الموضوع، فالموضوعات لا تتشابه ولكن تتجاور وتلغي بعضها البعض. وهذا لا يتسبب في التناحر فقط ولكن في إيقاظ مشاعر الإلغاء والعنف. أو كما يقول في القضاء على الوعي بالمجتمع وأهدافه (ص١١٠). وعدم حصول تقدم ملموس في مجالات العمران والتقنية والإدارة (ص١١٢).

و يمكن تلخيص الفكرة كلها في المراوحة في المكان والالتزام بفكر عشائري يعوق بناء المجتمع المدني ومؤسساته.

***

وقد آذن هذا الجو الموبوء بولادة آليات العنف.فالحاضنة جاهزة. وكل الظروف تواتي تناميه. لقد استشرى مرة بدواعي التحرير والاستقلال. ومرة بدواعي الديمقراطية. حتى أصبح الإكراه والقسر يبدو كأنه قدر البشرية (كما ورد بالحرف الواحد). ولا سيما إذا قرأنا حقيقته في ضوء حركة الرأسمال ودوافعه (ص ١١٣).

ويبدو أن الكاتب يربط العنف بالإرهاب. ولا يرى فرقا بينهما. لذلك سأل نفسه: إذا ما كانت ثورات الربيع العربي أنعشت الإرهاب؟..

وهذا السؤال بحد ذاته إضافة لنفس المعضلة. هل ما يجري من انتكاسة للواقع السياسي ثورة؟..

لا يمكن الإجابة بشكل جازم. لأن انتفاضة ١٩٩١ في جنوب العراق اعتبرت في حينها ثورة. مع أنها تحمل نفس كوادر وشعارات الدولة الشرعية اليوم.

إن الغموض السياسي وعدم وضوحنا في إدارة الأزمات لا يترك مجالا لليقين.

فانتفاضة الحوثيين في صعدة قبل عقدين أصبحت بنظر المجتمع الدولي اليوم انقلابا ضد الشرعية. ناهيك عن الاصطفافات والتحالفات. فعدو الحوثي بالأمس هو حليفه القوي وشريكه اليوم.

و قد شاب مفهوم الإرهاب غموض يصل لدرجة الشك بمعناه وأدواته. فحركتا حماس وحزب الله إرهابيتان بنظر الولايات المتحدة. وهذا هو الشيء الوحيد المشترك بينهما. إنهما أدوات انقلابية لفرض واقع مختلف على الأرض.

وعلى مدى خمسة عقود كان مبدأ الكفاح المسلح كله يحمل وصمة الإرهاب. مع دمغة وتوقيع من الأمم المتحدة. وقد طالت العقوبات الأفراد والكتل أو الجماعات.

و كان دريدا وقبله فوكو قد سحبا البساط من تحت هذه الاتهامات. باعتبار أنها تعبير عن سلطة القوة ولها سياق إدراك ميول سياسية وليس وعي إيديولوجيا. يعني هي جزء من البروباغاندا وليس عالم الحقائق. ولا أعتقد أن أحدا ينكر المسافة التي تفصل بين الوظيفة function والتحديد النفعي للمفهومات biased concepts.

لذلك أرى مع سعد رحيم أن كل تلك الأسئلة التحريفية ليست ذات مغزى. والأجدى إعادة صياغتها بالشكل التالي: هل أدت الانتفاضات الأخيرة دورا إيجابيا غير إضعاف سلطة المركز وتشتيت مراكز القوة؟ (ص ١٤٥).

لا توجد إجابة فورية. ولكنه في الباب التالي وبعنوان (عالمنا الذي يتهرأ) بمعنى الذي يتداعى (وهذا التعبير لغينوا أتشيبي) يلاحظ أن العنف الموجه ضدالذات بسلوك مازوشي غريب وعجيب ينتقل ليطال الموضوع وهو الدولة بسادية لا ينقصها التشفي والانتقام. ليتطور في لمح البصر إلى نوايا دامية وعنفية يمكن أن ترسم الحدود العريضة لمعنى الإرهاب المنظم أو إرهاب المؤسسة المجهولة التي ليس لها تعريف في القاموس الدولي.

ورافق ذلك كله شعور حاد بفقدان المعنى والعمق والجدوى. مع توسع الفوارق الطبقية (ص١٦٧).

وكانت النتيجة بناء اقتصاد ضار يقترف الجريمة ضد الموارد بدم بارد. وذلك من خلال تقوية الأعراف العشائرية وانعاش الطقوس التي تشجع على الخرافة والهدر وتنمية الثروات غير المشروعة التي لا تتجه نحو تراكم رأسمالي وإنما تستغل في شراء الذمم وتوسيع مساحات دولة الظل (ص ١٧٥). وأود أن أسميها دولة السقوط من الجنة. أو دولة شجرة الخطايا. فهي مؤسسة لها حدود طرية. بمعنى حدود غير واضحة. غامضة. تنشأ تلبية لعالم اللاشعور والغرائز.

و هذا هو مغزى الكتاب. الاختلاف والصراع. وهو اختلاف بنيوي وصراع على الغرائز. اللاشعور المكبوت يعمل على إلغاء الشعور المدان والذي فقد أهليته وشرعيته.

 

 صالح الرزوق

في المثقف اليوم