كتب واصدارات

ضيافة الغريب وفضائل تكرار ترجمة (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)

rasool mohamadrasoolفي سنوات مضت، رافقت ترجمات كتاب المصلح الإسلامي الشيخ محمد حسين النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) الذي صدر باللغة الفارسية نحو عام 1909، رافقتها لسنوات من عمري بمحض اهتمامي بعيون الفكر السياسي الإسلامي، خصوصاً في أثناء كتابتي عن تاريخ الإسلام السياسي في العراق العثماني والملكي. وفي خلال ذلك كنت أرتكن إلى الترجمة المتواترة لهذا النص التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، تلك التي كانت متاحة لي يومها في مكتبة والدي (رحمه الله)، لكنّني تحصّلت مؤخراً على ترجمة جديدة للنص عن لغته الفارسية نهض بها الدكتور مشتاق الحلو، وقدم لها المفكِّر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وصدرت عن (مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد ودار التنوير في بيروت) عام 2014. وهي ترجمة يعي المرء قيمتها اللغوية والعلمية والتاريخية كونها وضعت النَّص في نصابه الحقيقي حتى ليبدو لي أن كل الباحثين الذين اشتغلوا على هذا النَّص سابقاً سيجدون أنفسهم اليوم بأزاء مهمة إعادة النظر بالمقتبسات التي وظفوها في بحوثهم.

في تقديمه الموسع، الذي بلغ خمسين صفحة، سعى الدكتور الرفاعي إلى وضع مشروع هذا النص في سياقه الفكري من خلال الحديث عن (مفهوم الدولة في مدرسة النجف من الشيخ النائيني إلى السيد السيستاني)، ومصطلح "مدرسة النجف» له شأنه الدلالي في هذا السياق؛ إذ يعني بحسب الرفاعي المضمون الثقافي والمعرفي والفقهي والاجتماعي للحاضرة العلمية العراقية التي نشأت بالنجف ابتداء من سنة 448 هجرية يوم ولجها الشيخ الطوسي مودعاً بغداد. وهو تقديم ذو أهمية كبيرة في معطياته التاريخية والعلمية، أقبل عليه الرفاعي من باب الكشف عن سيرورة الحراك الفكري والسياسي والوجودي الذي كان يجري في تلك المدينة، حتى تهيأ لمثل كتاب النائيني أن يظهر فيها بحلول عام 1909؛ النجف التي جاءها النائيني سنة 1898 باحثاً عن العلم والمعرفة والتفقُّه فيهما.

في التقديم ذاته يشير الرفاعي إلى إشكالية الترجمة العتيدة التي نهض بها الأستاذ (صالح الجعفري) وقتذاك؛ حيث التباسات المفاهيم والمصطلحات، خصوصاً ما يتعلَّق بفكرة الديمقراطية التي تأوّلها الدارسون للنَّص؛ بوصفها من بنات فكر النائيني الذي لم يأتِ إليها إطلاقاً، كونها ومشروعها الغربي تتقاطعان مع فكره بحسب استقراء الرفاعي العلمي لجوهر ما تريد قوله الرسالة، ما يعني أن الترجمة القديمة اختلقت كوناً دلالياً للنص صيرته مغترباً عن دثار مضامينه الحقيقية.

أما مترجم النَّص الدكتور مشتاق الحلو، فعاد في مقدمته، وعلى نحو مكثف، إلى الإطار التاريخي الذي سوّغ للنص ظهوره عبر استعراض الحركة الدستورية (المشروطة) في إيران يومها، وتأثيراتها في فقهاء النجف، وعرّج على ميزات ترجمته لهذا النَّص الحيوي في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي الحديث، كونها أحيطت بتقديم الدكتور الرفاعي لها، التي بدت حفراً معرفياً وتاريخياً "في تاريخ القرن الأخير لمدوَّنة الفقه النجفية"، وتركيزها على "المناخات الفكرية وفضاءات التفكير السياسي، والأفق الذي انطلقت منه الحركة الدستورية".

في السياق ذاته، راح المترجم يعرض لأهم ما ابتلي به نص هذه الرسالة عند ترجمتها الباكرة من مشكلات، ومنها سوء فهم دلالات ما يعنيه المؤلِّف في استخدامه لعدد من المصطلحات، وكذلك حذف بعض الجُمل والعبارات من النَّص، ناهيك عن تحريف دلالات المصطلحات، ما دعاه إلى الإقامة في النَّص الفارسي مباشرة، لكي لا يقع تحت تأثير أو "ظلال الترجمات العربية" السابقة عليه، بحيث اضطره ذلك إلى المكوث في لغة النَّص حرفياً؛ حفاظاً منه على أنطولوجية دلالات النَّص ودواله معاً، بل والحفاظ على "أدبيات النَّص وصياغته، كونه مرآة لملامح بيئة سياسية ثقافية اجتماعية هي بيئة عصر المشروطة. وما حفلت به من نقاشات وإشكاليات وصراعات، ونمط تعامل الفقهاء ورجال الدين معها".

ناهيك عن إضاءة المترجم لمتن النَّص بعدد من الهوامش الذي بدت له ضرورية تلقي أضواء مهمة عليه، خصوصاً أن النائيني نفسه لم يأتِ إلى رسم أي هامش توضيحي في أثناء كتابته لنصه هذا.

إن روح البحث الجاد عن دثار الأصل في هذه الترجمة، الأصل النَّصي والتاريخي، وضعنا عند مبادرة علمية مهمة، كشفت لنا عن النَّص الحجاجي الذي تأدّى بالنائيني إلى وضع رسالته (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، ذلك هو نص (كتاب تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل) للشيخ فضل الله النوري، وهي المادة المعرفية التي حرص المترجم الدكتور الحلو على إلحاقها في نهاية الكتاب، بينما خلت كل الترجمات السابقة منها، وهو خلل كبير، وبذلك يتضح السياق الفكري والمعرفي والديني والتاريخي الذي رافق ظهور هذا السفر الفكري الستراتيجي في تاريخ الوعي السياسي الإسلامي الحديث، وتلك هي أخلاقيات ضيافة الغريب، وتلك هي فضائل تكرار الترجمة، فطوبى لأصحاب هذا الجهد العلمي الكبير.

في المثقف اليوم