كتب واصدارات

النزعة التلفيقية في التفكير النقدي العراقي .. كتاب: (بويطيقا الثقـافة) للدكتورة بشرى موسى صالح مثـالا

تتأسس وجهة النظر المطروحة في هذه الورقة على أن ثمة تفكيراً نقدياً عربياً وهو مجموعة العمليات الذهنية التي تشمل القراءة المتفحصة ومن ثم الفهم والتفسير والتأويل للفكر الحداثي والذي هو إنتاج غربي أصيل أوجد ثورة كبيرة في مناهج النقد وقطيعة مع الأنماط الفكرية النقدية السابقة عليه.

شيدت وفقا لهذا الفكر مشاريع التفكير النقدي الطموحة التي أقامها النقاد العرب الكبار من أمثال ادوارد سعيد في قراءته للإستشراق، ومحمد عابد الجابري في نقده للعقل العربي ومحمد اراكون ونصر حامد ابو زيد في نقدهما للخطاب الديني وفاطمة المرنيسي وعبد الله العروي في الحقل السوسيولوجي، ومجموعة نقاد الأدب المغاربة في تبنيهم للمناهج النصية "البنيوية وما بعدها". قد كان آخر هؤلاء النقاد السعودي عبد الله الغذامي والذي أعاد قراءة الشعرية العربية في ضوء نظرية الدراسات الثقافية والنقد الثقافي .

والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا، ما هو موقع العراق من هذا التفكير النقدي الحداثي؟ وما هي المساهمات التي قام بها النقاد العراقيون في قراءة فكر الحداثة وتقديمهم لطروحات نقدية مجددة بناء عليه ؟ وما نوع التوصيف الذي من الممكن ان يطلق عليه، هل هو تجديدي، تفسيري، اجتراري، استنساخي، هل يوصف بالتلفيقي بإختلاف مستويات ومداليل لفظة التلفيقي والتي تعني لغويا مزج الحق بالباطل؟.

ليست هنالك إجابة جاهزة عن هذا السؤال إلا بدراسة مجمل الجهد التأليفي للنقاد العراقيين في الأربعين سنة المنصرمة، ولمقاربة الأجابة من الممكن أن تكون الدكتورة "بشرى موسى صالح" مثالاً صالحاً للمعاينة والتطبيق فالدكتورة اسم معروف في النقدية العراقية في العقدين الماضيين وخلال هذا العقد أيضا، وتعد ضمن مجموعة الأكاديميين والأكاديميات الذين تبنوا وواكبوا فكر الحداثة منذ بداياته في الجامعات العراقية وقاموا بتدريسه لطلاب الأدب العربي في مراحل الدراسة الأولية والعليا الماجستير والدكتوراه.

ولذلك فهي تعد نفسها ممثلة رئيسة للحداثة النقدية وما بعدها في العراق، فما إن يظهر منهج نقدي جديد تسارع لتدلي بدلوها به وتقول كلمتها فيه في ضوء مطالعتها له، وهكذا فعلت في كتبها المرآة والنافذة، التأويل والمتاهة، ونظرية التلقي، وعندما أصدر نبيل راغب وسعد البازعي كتابهما "دليل الناقد الأدبي" قامت موسى صالح معارضته بكتاب" المفكرة النقدية" الى أن وصلت لمعارضة مشروع الغذامي في كتابه النقد الثقافي .وقد استغرقت تأملاتها في هذا المنهج النقدي عشر سنوات هو الزمن الذي يفصل صدور كتابها عن كتاب الغذامي الذي صدر 2002 لتتمكن من تقديم أطروحتها في النقد الثقافي، وقد جاء كتابها "بوطيقيا الثقافة نحو نظرية شعرية في النقد الثقافي الصادر ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2012.

الواضح من العنوان أنها تقدم نظريتها في الشعرية الثقافية العربية أو العراقية استنادا الى طروحات التاريخانية الجديدة والتي تعد جزءاً فاعلا في الدراسات الثقافية، لكن الملاحظ في المقدمة وما بعدها وحتى آخر صفحة من الكتاب أن كلمة نظرية تكاد تختفي نهائيا في الإصطلاح والإجراء لتحل مكانها كلمات مثل رؤية أو نشاط أو ممارسة، وهذا أول تناقض مبدئي يكتنف الكتاب. في مقدمة الكتاب تعلن التبني الشامل لفكر الحداثة وما بعدها، وهي لا تناقش جملة التحولات في التفكير النقدي العراقي التي جعلت الاهتمام ينتقل من جدلية النص/النظام الى النص/الخطاب وفتحت فضاءات واسعة لدراسات ما بعد الحداثة، وتتغاضى عن كون النص المحايث قد عدت الايديولوجيا التي آمن بها جيل الدكتورة ودافع عنها بحماس منقطع النظير وان الإنتقالة إلى السياق والمرجع في مجال الدراسات الثقافية جاءت نقلة غير محمودة العواقب لهؤلاء النقاد!.

في مقدمتها تشن هجوما على المحافظين تطلق عليهم" المتطفلين" وهم الذين يشككون في مشروعية الدرس الحداثي ويسخرون من ممثليها لأنهم رجعوا في النهاية للاعتراف بقيمة السياق والمرجع في دراسة الأدب، ومن مهاجمة المتطفلين تنتقل الى تدبيج المدائح لمناهج ما بعد الحداثة كأن تقول "تصحح المسارات المستهلكة وتحدث في اللغة والخطاب النقديين، وترمي بعيدا بالثمار التي فات زمن نضجها". لست أدري ما أهمية هذا الكلام الإنشائي الفضفاض للناقد المتخصص؟ وما الذي يضيفه للمعرفة بالنقد الثقافي؟، وتستمر في مقدمتها بين كيل الاتهامات للمناوئين في رفض صارخ للآخر المختلف بما يناقض توجهات ما بعد الحداثة وبين اللغة الإعلان الدعائي للمناهج لما بعد حداثية وبين اجترار ما جاء في عشرات المصادر التي تحدثت عن المرجعيات الفكرية للنقد الثقافي.

ملاحظتان تستحقان الوقوف عندهما في المقدمة، الأولى إنها تتحدث عن الفكر الواحد المتعدد" الذي يواكب مناهج ما بعد الحداثة، والمعروف ان اجتماع النقيضين لا يجوز في المنطق السليم ومرفوض فلسفيا. الملاحظة الثانية تخص نظريتها في بويطقيا الثقافة وهي تستخدم المصطلح الأجنبي بويطيقا بديلا عن ترجمتها المتعارف عليها وهي الجماليات، فتحاول شرحها في أربعة أسطر لا غير قائلة: " وكان لتوسع مفهوم الثقافة ذاتها وتحولها من ثقافة النخبة الى الثقافة الجماهيرية اثر في نشأة بويطيقا الثقافة "، هذا الكلام ليس دقيقا ولا يقدم فهماً صحيحاً للتاريخانية الجديدة وهو منقول حرفيا من كتاب الغذامي، فالاصل في هذا المنهج هو العلاقة الجدلية بين الدراسات الثقافية من جهة وتاريخ الأدب من جهة ثانية وهو يبحث في كيفية دخول آثار الماضي وتصوراته الى الثقافة المعاصرة فهو وكما جاء في المعجم النقدي لجامعة كامبرج"عملية تفاوض مستمر يعيد النظر في مواقع القوى الثقافية والنصية والسياسية المعقدة التي تتدخل بين الماضي والحاضر". ويشير القاموس ذاته الى ان مفهوم كتاب غرينبلات مفهوم غامض يتحدث عن القوة البلاغية التي تكتنف كتابات عصر النهضة، تنتهي المقدمة من دون معرفة الوجهة الإجرائية التي سوف تطبقها في نظريتها والتي لم تتبين ملامحها للقارئ تحديدا خاصة ان مقولة بويطيقا الثقافة سرعان ما تراجعت تداوليا لغموضها وتناقضها أولا ولصعوبة اجراءاتها ثانيا ولتحل محلها الدراسات الثقافية مصطلحا وإجراءً.

بعد ذلك سوف نكتشف ان الكتاب عبارة عن سلسلة مقالات لا علاقة لها بالتاريخانية الجديدة وإنما هي مجموعة مقالات متفرقة يجمع بينها مصطلح الثقافة بوصفه مصطلحا انتشاريا عصيا على التحديد .

في الدراسة الأولى تتحدث عن ريادة الباحث والمفكر الاجتماعي العراقي "علي الوردي" لطروحات النقد الثقافي العربي في كتابه"أسطورة الأدب الرفيع"، وقد جاءت هذه الدراسة متأخرة جدا في اطارها التاريخي، اذ ان وجهة النظر هذه قد استنفدت في الأروقة الثقافية العراقية والصالونات الادبية منذ صدور كتاب الغذامي وأطروحته في دراسة الأنساق المضمرة للشعرية العربية من وقتها والعراقيون يقولون ان علي الوردي كان سباقا في دراسة علاقة الشعر بحركية المجتمع.ودعا لدراسة الأدب دراسة اجتماعية ناقدة وليست دراسة انبهار وتعصب.

في دراستها الثانية تأتي على ذكر كتاب الغذامي وتحاول مقاربته نقديا، وتصفه بالانقلابي في طروحاته النقدية، لأنه بدأ بنيويا ثم أصبح تفكيكيا ومن ثم تبنى منهج النقد الثقافي.لقد مثل الغذامي انموذجا للمشاكسة النقدية الباحثة دائما عن الجديد والمتجاوز من الأفكار والطروحات التي تحرك الساكن الثقافي وتضخ الدماء الحيوية في عروقه في وقت كانت الديكتاتوريات العربية المتحجرة في التسعينيات وما بعدها تحاول سحب المجتمع والثقافة والأدب الى الوراء، فالدكتورة وهي تتحدث عن التاريخانية لم تحسن وضع مشروع الغذامي النقدي في إطاره التاريخي والسياسي .

وعند المقارنة بين تجربة الغذامي في الكتابة النقدية وتجربة احد من النقاد العراقيين في التسعينيات وما بعدها سنلاحظ البون شاسعا بالتأكيد؟!.وتظل الدكتورة بشرى وعلى امتداد دراستها تعيد كلام الغذامي بانبهار الخاشع المتبتل بإنجاز الغذامي والذي اكتشف بذكائه ما عجزت الأقلام عن الإتيان به بالرغم من قرب مأخذه.

في دراستها "الحريم الثقافي" تتماهى مع سرد فاطمة المرنيسي في كتابها(نساء على اجنحة الحلم)، وهذا المبحث هو الافضل من ضمن البحوث الاربعة توضح فيه ولعها بالتقمص وقدمت فيه بعض الشروحات النسوية لسرد المرنيسي.

في مبحثها الأخير" التفلسف الثقافي" قدمت قراءة لرواية علي بدر"بابا سارتر" في ضوء أطروحة المركز والهامش" زاوج علي بدر من جديد بين ماهو شعبوي"العراقي عبد الرحمن"، الذي يقطن محلة الصدرية وما هو نخبوي الفيلسوف العراقي". وتظل ترصد حركة احداث الرواية وشخصياتها بين مقولتي المركز والهامش، وهذه القراءة تعد واحدة من بين عشرات القراءات التي قدمت عن هذه الرواية العراقية المهمة.

نهاية هذا المبحث جاءت هي خاتمة الكتاب والتي من المفروض في نهايتها أن يكون القارئ فهم منها نظرية الدكتورة بشرى موسى صالح في بويطيقا الثقافة والنقد الثقافي!.

 

د.عالية خليل إبراهيم

 

في المثقف اليوم