كتب واصدارات

مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب" لمالك بن نبي بين السيرة الشخصية والتاريخ وفلسفة الحضارة (1-4)

bobaker jilaliمقدمة: مذكرات شاهد للقرن كتاب أخرجه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي عام 1966 باللّغة الفرنسية، وترجم الدكتور (عبد المجيد النعنعي) القسم الأول منه المُسمّى "الطفل" الذي يروي مذكراته في الفترة بين 1905 و1930، وأخرج المؤلف القسم الثاني من الكتاب باللّغة العربية مباشرة، تحت اسم "الطالب" الذي يروي مذكراته في الفترة بين 1930 و1939.

المذكرات في قسميها "الطفل" و"الطالب" تُعبّر عن صياغة تاريخ فرد في ارتباطه بتاريخ بيئة ومجتمع وأمة وإنسانية في حقبة زمنية محددة، كما تُعبّر عن رؤية شاهد بصر وبصيرة للإنسان والتاريخ والحضارة من معايشته لأحداث وظروف كثيرة ومتداخلة وصعبة في الجزائر وفي العالم العربي والإسلامي كجزء من العالم ككل، يشهد على وجود اتجاهين في الفكر والواقع لعالمين مختلفين، عالم يقوده اتجاهه صوب التقدّم العلمي والتكنولوجي والرفاهية المادية والهيمنة واستعمار الشعوب واحتلال الأوطان، وعالم الضعفاء يقوده اتجاهه نحو التحرر، يتطلّع إلى النهضة، يحفظ الفطرة ويتمسك بالتراث ويُحيي قيّم الماضي.

المذكرات يجد فيها كل من المؤرخ والمفكر وعالم الاجتماع وعالم النفس والسياسي والأديب والفنّان وغيره ضالته، أهميتها تكمن في أنّها مرآة تعكس حقبة تاريخية ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وتعرض صورة العلاقة بين الأنا العربي الإسلامي الجزائري وغيره مما يتقاطع معه في الدين والعروبة والتخلّف والتهيّب من قهر الاستعمار واستبداد الأنظمة وبين الآخر وعملائه كونه استعمارا وثقافة وحضارة وتاريخا.

الهدف من المذكرات ليس الاستمتاع والفخر والاعتزاز وتمجيد الذات كما يفعل البعض، وليس للتاريخ فحسب، بل كشف لتكوين صاحب المذكرات ومكوّنات فكرة وفلسفته في التاريخ ونظريته في الحضارة، وكشف للهمّ الكبير الذي رافقه طيلة حياته وللمطلب الأعظم الذي عاش لأجله، البحث عن حلول لمشكلات الحضارة بغرض التأصيل والتأسيس للنهوض الحضاري في عالم توزع بين قوّي متسلط ومهيمن وضعيف متخلف ومتهيّب.

موضوع دراستنا القسم الثاني من مذكرات شاهد للقرن (الطالب)، تبحث الدراسة في الشهادات التي أدلى بها الطالب على الحوادث والظروف التي عرفتها الفترة بين 1930 و1939 في ارتباطها المباشر بصاحب المذكرات باعتباره إنسانا عاديا، وبكونه جزائريا عربيا مسلما، وصاحب قضية وفكر يجتهد طلبة العلم في دراسته وفهمه. تتبنّى الدراسة الخطة التالية:

1- مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب"، سيرة شخصية

2- مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب"، للتاريخ

3- مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب"، لفلسفة الحضارة

4- مميزات مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب"

 

1- مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب"، سيرة شخصية

يمثل كتاب "مالك بن نبي" مذكرات شاهد للقرن العشرين الذي يتألف من قسمين:القسم الأول "الطفل" يروي فيه مذكرات طفولته من سنة 1905 إلى سنة 1930، والقسم الثاني "الطالب" يروي فيه مذكراته وهو طالب في فرنسا من سنة 1930 إلى سنة 1939، فالكتاب سيرة حياة طفل وسيرة حياة طالب، يظهر الفرق جليا بين مذكرات الفترة الأولى ومذكرات الفترة الثانية، ففي مرحلة الطفولة سرد الراوي نشأته الأولى وتكوينه داخل أسرة جزائرية مسلمة ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، أما في المرحلة الثانية فسرد الراوي سيرته داخل حياة جديدة عليه وهو دخيل عليها، فيها تتجسد الحرية وسائر القيّم الإنسانية والحضارة للفرنسيين، في مقابل التخلّف والجهل والانحطاط والقهر والاستبداد الذي طبع الحياة في الجزائر بسبب الاستعمار.

يسرد الراوي قصصا كثيرة عن حياته في فرنسا، فرنسا الحرية والعدالة والمساواة فرنسا حقوق الإنسان فرنسا العلم والحضارة، إلا على الأهالي في مستعمراتها في الجزائر منها تبسة وقسنطينة وأفلو وغيرها من مدن وقرى وأرياف الجزائر، فكل الحقوق مهدورة، الجوع والجهل والمرض، الاستبداد في الفكر والرأي والتعبير، امتهان الكرامة والمسخ الديني والأخلاقي، إفساد حياة الجزائري المسلم بضرب مقومات دينه ووطنه وتاريخه وثقافته.

أثناء الفترة الثانية ومن خلال معاشرته للباريسيين وتنقله بين مدن وقرى فرنسا وتنقّله إلى الجزائر خلال العطل الصيفية وزياراته لأسرته بمدينة تبسة، يتعمّق اكتشافه للاستعمار وتتوسع مداركه، فيطّلع على نواياه وحقيقته، يحيا الاستعمار بوجهين مختلفين، وجه ظاهري ترتسم عليه قسمات الطيبة والخلق الرفيع والذوق السليم والسلوك المهذب وعلامات التحضر، ووجه باطني مخفي تخفيه صورة الوجه الخارجية خصّ به أبناء مستعمراته طُبع على الكراهية والظلم والاستبداد ولا يرضى عن غير هذا بديلا.

وبما أنّ الفترة الثانية تخص حياة الراوي الدراسية والسياسية بباريس وبمدن وقرى أخرى في فرنسا ما بين 1930 و 1939 أي تسع سنوات، وهو من بلد مستعمر سافر للدراسة، استطاع أن يطلع على ما كان يجري في العالم من أحداث سياسية وتطورات اقتصادية وتحولات اجتماعية وثقافية وتقلّبات عسكرية، خاصة وأن الفترة كانت حسّاسة وخطيرة باعتبارها جاءت قبيل الحرب العالمية الثانية ودولة فرنسا كانت من ضحاياها ومن المستفيدين منها في النهاية، وكان الرّاوي من أشدّ الناس تتبعا للأحداث والأحاديث علّه يجد في حديث أو حادث ما يبث في نفسه الأمل في نهاية عمر الاستعمار الفرنسي في الجزائر العربية المسلمة وفي سائر مستعمرات فرنسا.

الجدير بالذكر أنّ الراوي لم يجد أيّة صعوبة في التكيّف مع الوجه الظاهري للإدارة الاستعمارية، ولا مع زملائه في الدراسة، ولا مع زوجه الفرنسية التي دخلت الإسلام، ذلك لرزانته ونباهته وحدّة ذكائه وطيبته وأخلاقه الرفيعة وتحكّمه في اللّغة الفرنسية، لكنّه وجد صعوبة كبيرة مع الوجه الخفي للاستعمار، فلا يضرّ من جرأ وكان صريحا وأظهر السوء، لكنّ الخطر فيمن أظهر الرضا وأبطن الشرّ على سبيل النفاق، ولكون سجية الطالب لا ترضى سوى الذوق السليم والمنطق السليم والفكر السليم، ولا تقبل سوى الحياة السليمة بشروطها جميعا، المادية والروحية، الذاتية والموضوعية، الفردية والاجتماعية، الدينية والدنيوية، الأخلاقية والسياسية، فإنّ الوجود الاستعماري على أرض الجزائر مخالف للحياة السليمة، وهو مظهر من مظاهر التوحّش لا التحضّر، ولا سبيل لتحضر الشعوب المستعمرة إلاّ إذا تخلّصت من الاستعمار ولا يمكنها ذلك إلاّ بالتخلّص من القابلية للاستعمار وهي ظاهرة أخطر من الاستعمار.

يروي "الطالب" الجزائري المسلم من مدينة تبسة في شرق الجزائر المستعمرة، المغترب بفرنسا لطلب العلم والمعرفة ولما لا العمل سيرة حياته بالتفصيل في هذه الفترة "1930- 1939"، منذ نزل بباريس لا يعرف عنها شيئا إلاّ ما سمعه وقرأ، كان ذلك في صبيحة أحد أيام شهر سبتمبر من عام 1930 إلى يوم 22 سبتمبر من عام 1939، حيث تسلّق سلّم الباخرة بميناء عنابة بصحبة زوجته خديجة وهرّتها "لويزه" بعدما قرّر العودة إلى فرنسا وسلحفاة أهدتها له أم أحمد عند التوديع، وكان نعهم صديقه "خالدي" في طريق عودته إلى جامعة "تولوز"، يقول الصدّيق: "وعندما بدأت الأرض الجزائرية تغيب في الأفق، وجدت نفسي أقول وأنا متكئ على حافة الباخرة: يا أرضا عقوقا! .. تطعمين الأجنبي وتتركين أبنائك للجوع، إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرّة!..بينما بدأ ظلام الليل يسدل ستاره رويدا رويدا على بحر هائج تتراكم أمواجه بعضها فوق بعض".1

سرد الصدّيق قصة نزوله بمحطة ليون بباريس بعدما ترك الوطن والوالدين والإخوة والخلاّن والجيران وتبسة والشرق الجزائري والجزائر، ترك كلّ ذلك تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، وسرد قصصه الكثيرة والمثيرة، مع شوارع باريس ومع الفندق ومع بنات باريس الطائشات ومع بزّته الخارجة عن الذوق المألوف بلونها المشرق، يقول: "هكذا استقبلتني باريس، بوجه بناتها الطائشات الكاسيات العاريات العارضات لزينتهن وعرضهن دون أي شعور بالإثم. ولكنّ لباريس وجوه أخرى لا يكتشفها المرء عند نزوله. وقد كانت تجولاتي الأولى مجرد محاولات غير جريئة للتعرّف عليها في العالم الجديد الذي أصبحت فيه..."2 .

وضع جديد لم يألفه في بلده حيث عفّة الرجال وحياء النساء، حيث حفظة القرآن ودروس الوعظ والإرشاد، حيث يعيش الإنسان على الطبيعة والفطرة. لكنّه لم يكن ينظر إلى وضعه الجديد بعين الإنسان العادي بل بعين ثاقبة لأنّ باريس ليست فقط طيش وفسق وخمر بل لها وجهها الروحي المسيحي والحضاري والعلمي التكنولوجي، الوجه الذي أهّل فرنسا لتحتل الصدارة في القوّة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والعسكرية بين أمم وشعوب ودول العالم، قوّة حوّلتها الإدارة الفرنسية العليا في اتجاه ممارسة الاستعمار والهيمنة والتسلط وقهر الشعوب المستضعفة.

يروي الصدّيق قصته مع "الوحدة المسيحية للشبّان الباريسيين" التي أصبح عضوا فيها رغم أنّه مسلم، انظم إليها لحاجته إلى ضرورات العيش في مدينة باريس، التنظيم الذي شدّ اهتمامه وانتباهه لما يوليه من عناية بالجانب الإنساني من منطلق ديني مسيحي، الأمر الذي نمّ فيه جانبه الروحي كشخصية مسلمة، ولما ينطوي عليه الإسلام من قيّم ودلالات في اتجاه حفظ الإنسان في حياته وكرامته وعقله ودينه وماله، الأمر المعهود في التنظيم الوحدوي الشباني الباريسي، والمفقود تماما في مستعمرات فرنسا، إذ تجد حياة حيوانات المُعمرين في أفضل مما هي عليه حياة الأهالي التي تفتقد إلى أدنى شروط الحياة الإنسانية الكريمة لدى فرنسا حقوق الإنسان والعدالة والحرية والمساواة والتقدم الحضاري.

حال الاستعمار بوجه باطني خفي أنيابه حادّة شديدة القّوّة تفترس وتلتهم الأخضر واليابس، وبوجه ظاهري أبيض ناعم كريم متسامح، هذا التناقض الذي قد يغيب عن الكثير ويتجاهله الكثير من فرنسيين ومن أبناء المستعمرات كان يزيد في احتقان "الطالب" وشدّة غضبه وحزنه، كما يشتد حرصه على ربط كل ما يقع عليه فكره وما تقع عليه عينه - خلال صولاته وجولاته في مدينة باريس وخارجها وعند عودته إلى الجزائر في العطلة الصيفية وفي كل تحرّكاته داخل المدرسة وفي الأماكن العمومية وفي اتصالاته ومع علاقاته وبسائر الأماكن التي كان ينزل بها - بوجهي الاستعمار الظاهري والخفي، ويعمل على التفكير والتأمل في الظاهرتين للتين تتسع لهما حقيقة الاستعمار تحليلا وتفسيرا، فهو الضحية وفرنسا الاستعمارية هي الجلاد، والمشكلة مشكلة قابلية للاستعمار في الأصل والجوهر.

يروي الصدّيق "الطالب" قصّة رسوبه في امتحان الدخول إلى معهد الدراسات الشرقية بباريس، ويسرد مذكراته في اليوميات التي عاشها منتظرا الامتحان، فيصف تلك الحوادث التي مرّت عليه بحلوها وبمرّها، يصف الشوارع والمباني وأحوال الناس ويصف معارفه الجديدة وكل ما هو باريسي تقع عليه عينه، رغبة منه في التأقلم مع الوضع الجديد، والحصول على مقعد دراسي بمؤسسة تعليم عالي، ولما لا الحصول على منصب عمل يقتات منه حتى يُحرر والده من أسر الإنفاق عليه.

جاء خبر رسوبه في الامتحان على لسان مدير معهد الدراسات الشرقية الذي أشعره بعدم الجدوى من الإصرار على الدخول إلى المعهد، فبانت له بكل وضوح الحقيقة التالية: "إنّ الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع- بالنسبة لمسلم جزائري- لمقياس علمي وإنّما لمقياس سياسي... لقد أدركت في تلك الّلحظة نفسها ما سيتبع عبارات المدير من نتائج عملية دون أن أحللها، إذ لم أكن بعد قد اكتسبت خبرة هذا التحليل، الذي يريني اليوم بكل وضوح درجة القرابة بين هذه العبارات وما قاله لي قبل سنة مدير شون الطرق بمدينة تبسة، عندما سألته عن شروط الإسهام في المزايدة التي تجري كل سنة تحت إشرافه لإصلاح الطرق، أو لفتح طرقات جديدة في الناحية، وقد اهتممت حينئذ باستغلال وسيلة نقل كانت لدي أستطيع بها نقل مواد الطرق من أحجار وغيرها. ولكن عوض أن يدلي إلي بالمعلومات المطلوبة، أدلى إلي سيادته بنصيحة: - الأفضل أن تبيع ما عندك من وسائل نقل إلى مسيو "كانبون" أو مسيو "سبيتري" فإنّ المزايدة بين أيديهما. واليوم بعد أربعين سنة، أرى بكل وضوح أنّ الرجلين، المدير المتواضع لشؤون الطرق بتبسة والمدير المحترم لمعهد الدراسات الشرقية، إنما يتكلّمان لغة واحدة "لغة الاستعمار": فهذا حرمني من أن أصبح مقاولا في مصلحة الطرق وذلك حرمني من فتح مكتب محاماة بتبسة بعد سنوات الدراسة بباريس".3 هذه الحادثة وغيرها كثير تركت في نفسه أثرا بالغا زاده إصرارا على تمسكه بقضاياه العادلة وحقوقه المشروعة في التعلّم وفي الحرية وفي الاستقلال لوطنه وفي الحضارة لشعبه مثل بقية الشعوب المتقدّمة.

ويروي الطالب قصّته مع المعهد اللاّسلكي الذي حقق فيه حلمه في تحصيل العلم من غير اكتراث بمنصب سياسي عالي أو بمركز اجتماعي مرموق أو بجمع المال للثراء، وهي غايات الكثير من الشبان الجزائريين المغتربين في مختلف أنحاء فرنسا، غايات فرّقتهم وحوّلتهم إلى شتات فكري وإيديولوجي دعّمه الاستعمار وأسست له إدارته، فكان ذلك على حساب تكوينهم العلمي والتقني والفكري والثقافي عامة، في الوقت الذي كانت فيه الجزائر في أمس الحاجة إلى نخبة قويّة تفكر في الأوضاع وتحسن تقديرها لها، لتمتلك السبل والوسائل وسائر الإمكانات الروحية والمادية لتخلع عنها ربقة الاستعمار وقيوده الحديدية التي تعاني منها منذ عام 1830.

كانت الأحداث اليومية الباريسية والأحداث في الجزائر والتطورات الدولية تؤثر فيه باستمرار، تؤثر في تكوينه الفكري والسياسي والثقافي عامة، يوميات الحي اللاتيني والصراع بين الاستعمار وعملائه والانشقاق من جهة، وبين الوحدة والإسلام والعروبة والحرية والوطنية والعدالة من جهة أخرى، وقصّته مع معرض المستعمرات الذي ينتقص من المستعمر ويهينه ويقلل من قيّمه الدينية والتاريخية والثقافية، وكان لعلاقته من صديقه "حمودة بن ساعي" تأثيرها الإيجابي الكبير على حياته في نظره فكان يرى في "حمودة بن ساعي" الرجل المثقف الواعي المؤمن بقضيته والمخلص لها، ومن المحطات التي أثّرت فيه وفي حياته معاقبة الإدارة الفرنسية الاستعمارية والده بنقله من طرف رئيسه فاضطر الوالد إلى طلب إجازة ولم يعد إلى عمله حتى وافته المنية فضاعت حقوقه كلّها بوصفه موظفا وكان ذلك بسبب مواقف الصديق السياسية والإيديولوجية من الاستعمار.

يعبّر الصديق عن محنته في والده وأسرته بقوله "كنت أتأثر من هذه المحن التي بدأت تنصب على أهلي بسببي، دون أن أغيّر سلوكي بسببها، بل كانت الأحداث نفسها تزيدني تصلّبا وتحدّيا في نظر الإدارة الاستعمارية، التي بدأت في ذلك الشهر بالذات هر شباط "فبراير" عام 1932 تولي اهتمامها في الأوساط الطلابية بصدى حدث وقع بعاصمة الجزائر حيث أمر الحاكم بمنع أي نشاط لجمعية العلماء في مساجد الوطن".4 وفي هذا الوقت بالذات كان الصراع على أشدّه بين مكونات الحركة الوطنية الجزائرية في الجزائر وفي فرنسا والتي كان لها بعد عربي إسلامي كما كان لها بعد إقليمي مغاربي، الصراع الذي كان يتابعه الصدّيق عن كثب كما كان يتابع التطورات الدولية والحركات التحررية في العالم والحركات الداعية إلى السلام أو تلك الدّاعية إلى الحرب.

أسّس في هذا الوقت الصدّيق برفقة نخبة من المثقفين العرب في باريس "جمعية الوحدة العربية"، يصفها بما يلي: "وكأنّما كانت هذه الدعوة كما يتبيّن للقارئ مقدمة للجامعة العربية الحالية...وفي نهاية المطاف أصبح "محمد الفاسي وبلفريج والطوريس" يمثلون مراكش في الوحدة و"بن ميلاد" مع بعض مواطنيه يمثلون تونس، وأصبحت أنا أمثل الجزائر. وكانت سوريا مع لبنان، ممثلة في شخص فريد زين الدين وبعض مواطنيه ممن يقرضون الشعر. فكانوا عند افتتاح أو ختام كل جلسة، يشنفون مسامعنا بآخر قصيدة لهم في تمجيد العرب".5

يسرد الصدّيق ذكرياته مع مدرسة الكهرباء والميكانيكا بباريس، ومع سفره إلى الجزائر في العطل الصيفية أو عندما تدعوه الحاجة، فيصف الحياة في الجزائر وفي عنابة وفي قسنطينة ويضع يده على أدق التفاصيل، يصف الجغرافيا من دون أن ينسى التاريخ والثقافة بمختلف مظاهرها وغيرها، لارتباطه بموطنه جسدا وروحا، ويعرض ذكرياته مع زوجته خديجة معلقا عليها، ومما جاء في سرده لمذكراته مع شريكة حياته التي قاسمته الأفراح والأحزان وفتحت له آفاق الاطلاع على الحياة الأوربية الغربية الحياة في القرى والأرياف وفي المدن التي عايشها وكثيرا ما وصفها، وهكذا يصفها: "إنني أذكر هذه التفاصيل لأنني أعدّها دالة على التطور النفسي الذي سيجعلني أشد الناس نفورا لكل ما يسيء لذوق الجمال، ولأنّها تفسر ثورتي على بعض جوانب تخلّفنا التي تصبح موضوع السخرية في بعض المجالات، بإيعاز تلك الأوساط التي تتدخل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لإبقاء الوضع على ما هو عليه، باسم الوفاء للتقاليد عندما نحاول نحن، تحت أي راية تقدمية، أن نغيّره، غير أنّ الاستعدادات التي تدفعني إلى هذا الموقف كانت أصيلة في نفسي، لم أكتسبها اكتسابا بدأت معه تغيير بعض مظاهري منذ وجودي بمدرسة قسنطينة، وإنّما وجودي بفرنسا ومعايشتي لزوجي طوّر هذه الاستعدادات الوراثية إلى أفكار اجتماعية واضحة".6

ومن الذكريات التي استرجعها ووقف عليها وأثرت فيه كثيرا ذكرى وفاة والدته وما تركه فقدانها على الأسرة من تصدع واهتزاز، وفي معرض عودته إلى "تبسة" وبلغه خبر وفاة أمّه، يعبّر عن ذلك قائلا: "فوقفت كأنما نزلت على رأسي صاعقة، وكأنما الأرض تزلزلت تحت أقدامي، وفي لمحة بصر تحولت عواطفي من السعادة القصوى إلى المصيبة الدهماء...كانت الضربة قاسية ولكنني لم أشعر بعد بكل ألمها لأنها جديدة، كنت تلك الليلة أولي اهتمامي لمواساة والدي الذي كان يبكي خلف منديل يخفي وجهه، وكان خالي "أحمد شاوش" الطبيب التقليدي المشهور والمحبوب في المدينة، يصرف كل جهد لمواساتنا جميعا، بذكر نبذ من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام."7

سرد الصديق ذكريات حياته بعد وفاة والدته متتالية وعودته إلى فرنسا وكانت تصاحبه دوما صورة الحياة المزرية في الجزائر وصورة الحياة في الغرب الأوروبي، وقصصه مع السفارة المصرية والإيطالية والأفغانية والألبانية وغيرها، قصصه مع البوليس الفرنسي الذي كان يراقب نشاطه واتصالاته بأصدقائه، وشعوره بخيبة أمله في الحراك الوطني الجزائري آنذاك، إخفاءاته في الامتحانات وفي طلبه العمل وفي محاولات سفره خارج فرنسا خاصة إلى أرض الحجاز، بؤسه إلى درجة طلبه الموت، هذه الحال يقول فيها الراوي: "إنّ إيطاليا الفاشية لم تعطني الفرصة، و"سودرية" ومدرسة الميكانيكا والكهرباء خيّبا رجائي، والأمين العمودي لم ينشر مقالي في صحيفته، والمؤتمر الجزائري تبخّر، وخاب ظني في الإصلاح والعلماء المصلحين، وأصبحت أتساءل ماذا أفعل؟ بدأ هذا السؤال الذي طالما تردّد في نفسي بعد خروجي مدرسة قسنطينة، يتردّد على ذهني من دون جواب. وبدأت أشتم في نفسي رائحة الغرق... تنبأ بعض علماء الفلك بكارثة اصطدام ممكنة بين الأرض، وبين أحد الأجرام في السماء. وأتذكر أني قرأت هذا النبأ في صحيفة مسائية بمقهى الهجار، بعد أيام قلائل من عودتي من رحلتي، فتقبلته بكثير من الرجاء. إن المرء يعيش هذه الحالات النفسية عندما لا يبقى أمامه إلاّ رجاء الفناء."8

سرد الصدّيق ذكرياته مع إحدى المحطات الرئيسية في حياته، وهي محطة المؤتمر الجزائري الإسلامي الذي أشرف على إدارته بمرسيليا، المؤتمر الذي أسّسه عدد من المثقفين الجزائريين لأجل تعليم وتثقيف العمال الجزائريين، فتعلّموا حساب اللانهاية والجغرافيا، ودروس في السياسة والأخلاق، سرعان ما أقفل الاستعمار مركز المؤتمر الجزائري الإسلامي وعاد هو وزوجه إلى تبسة، وتعاون مع الشيخ "العربي التبسي"، واختلف معه في طريقة التفكير وفي أسلوب تحليل القضايا والأحداث والحكم عليها واتخاذ القرارات، وكان يتابع التطورات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يعرفها العالم العربي والإسلامي وتشهدها أوروبا الغربية، خاصة الحرب العالمية الثانية التي كانت على وشك الاندلاع، وكان الصدّق ممن يطمعون في تحريرها للشعوب والأوطان من الاستعمار الفرنسي الغاشم، كالغريق الذي يمسك بالقشة على سطح الماء.

سرد الصدّيق بالتفاصيل ذكرياته قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية وهو بتبسة عن حياته وعن حياة زوجه معه وعن هرّة زوجته "لويزة" وعن أسرته وجيرانه وأبناء المدينة وحاكمها والحراك الاستعماري فيها وعن اتصالاته بزعماء الإصلاح وبالمعممين والمطربشين وبغيرهم وعن متابعته للأحداث والوقائع المحلية والدولية، وعن حراكه عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية مع الخطوة الجزائرية في آخر شهر يونيو "حزيران" 1939 ومقاله "لا مع الفاشية ولا مع الشيطانية" واندلعت الحرب الشاملة وقرّر السفر إلى فرنسا تاركا وراءه أرض الآباء والأجداد الأرض التي أبت إلاّ أن تجوع أبنائها وتطعم الأجانب معاهدا إيّاها باللاّعودة إلاّ بعدما تصبح حرّة.

إنّ في قراءة مذكرات الصدّيق "الطالب" على مدى تسع سنوات حفر في حياة فردية جزائرية عربية إسلامية على المستويات النفسانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وفيها ينكشف مدى التواصل التاريخي والحضاري بين بني البشر وحاجته الملحة إلى ذلك لتستقيم الحياة ويستقر الوضع وتهدأ الأمور فيخلو الجو للعطاء وللفعالية وللمبادرة الفعّالة، وفيها تتبلور حقيقة الحياة في جزائر الاستعمار والقهر والاستبداد وفي فرنسا الحضارة والحرية وحقوق الإنسان، وفيها نكتشف الكثير من جوانب الصراع الفكري والإيديولوجي الذي ميّز الكثير من جوانب الحراك الوطني الإصلاحي وغيره في القيادة وفي القاعدة، كما تتضح الكثير من الأحداث التي عرفتها الإنسانية في هذه الفترة وتنكشف باستمرار عند القراءة الحقائق وتستنبط المعاني والعبر، فالمذكرات هي بحق شهادات قيّمة لشاهد ليس كغيره، هذه الحقيقة تتأكد كلّما قرأنا المذكرات بتأمل وتوأده.

في المثقف اليوم