كتب واصدارات

عبدالجبار الرفاعي وأنطولوجيا الحرية

801-jabarفي  تقديمه للكتاب، يحدد المفكر الاسلامي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بأن هناك (ظمأ  أنطولوجيا) للمقدس، أو هو الحنين للوجود، أوظمأ الكينونة الناقصة الباحثة عن  تكاملها الوجودي، إذ أن لكل موجود نمط كماله من جنس كينونته. وهو يقرن  الدين، بالفن، والفلسفة، ويرى ان الفنون تثري وجود الكائن البشري وتمنحه السعادة والسكينة، وهي ترسم ما نتخيل، وتطرح أسئلة ميتافيزيقية، وتنشغل بتصوير عوالم الموت والحياة المبهجة والمحزنة، وتعالج قلق الاغتراب فالفنون تلوّن العالم بالجمال، لكنها بلا طقوس الدين، أو عباداته.

الانسان يطلب الأبدية. الدين بخلاف الفن، يُخلّد الانسان، الذي يطلب الأبدية، ويسعى الى التسامي نحو التكامل في ما بعد الحياة، ويخلع الدين هالة سحرية على العالم الدنيوي، على وفق ايقاع موسيقى الوجود اللامتناهية.

ترتبط الطقوس الدينية عضوياً - كما يؤكد الرفاعي- بصيرورة الوجود، وبلوغ معنى المعنى، بتوالد تأويلاته وتعدديتها.

وفي مقاربة الرفاعي للدين مع الأيديولوجيا، يرى ان الأخيرة تخفض من طاقة الدين المقدسة، وترحله بعيداً عن مضمونه الأنطولوجي، وتتغافل عن حقيقة (الموت) الوجودية العميقة والصادقة.

801-jabarسبق للكاتب المسرحي الروسي (غربوءدوف) ان كتب مسرحية بعنوان: (ذو العقل يشقى)، وهذا الامر نجده من متبنيات (الرفاعي) الذي يكمل طرف هذه المقولة، بأن (أخو الجهالة يمرح)! وهو يرى ان (الذات) بطبيعتها باطنية، عميقة، ينتابها القلق، واليأس، والغثيان، وان تحقيق وجودها يتم (بالحرية) ومن خلال انجاز (الفعل) يتحقق امتلاء الذات، لأن الحرية تمثل الارادة، وتتخذ بوساطتها المواقف من الحياة والوجود.

وهو يخشى، بوصفه مفكراً حرّاً، ان تنميط (الذات) في مجموع مجهول الملامح، يمحو هويتها المتفردة. ينجذب الرفاعي، بحساسية مرهفة، الى نسج شبكة من خيوط ثمينة، تتفاعل فيها الفلسفة بالتصوف بالعرفان. وكل ذلك يتطلب نظراً وتدبراً وتفكيراً، في استكناه الذات، واثراء الوجدان، لا الانجرار وراء روح القطيع، كما يؤكد (الرفاعي).

وكأنه يعيد – ايضاً- مقولة سقراط (اعرف نفسك)، فيدمج الفلسفة بروح المتصوفة على لسان (أبو اليزيد البسطامي)، الذي كما تذكر الحكاية، بحث عن نفسه منذ أربعين سنة فما وجدها. وهذا الحرص على اكتشاف الانسان لذاته، توجبه الضرورة القائلة بأن اكتشاف العالم من حولنا، يبدأ من اكتشاف الذات، كما يشدد (الرفاعي). ينحاز الرفاعي الى الذوق، وإشراق الحالات، فيدوّن قولاً للشيخ محيي الدين بن عربي: "قوالب الالفاظ، والكلمات، لا تتسع لمعاني الحالات".

وبالتأكيد لا يذهب الكاتب الى نفي الآخر، او الغائه، لأنه يبقى مرآة الذات، وهذا ما يقتضيه التنوع والاختلاف، بخلاف تلك الوثوقية التي تنمط التفكير قسرياً، وتركز أحاديته.

يقدم الرفاعي مدونة عن حياته، بجرأة، ومكاشفة، وبوح وصدق مع الذات، وهو يقول: (حاولت ان اكتب مستحضراً بعض جروح طفولتي وفتوتي وشبابي وكهولتي، ووشم ذاكرتي بالمدن والمجتمعات والمهام والوقائع والكتب والأفكار والمفاهيم والشعارات)....

ذلك لأنه يدرك كما يقول هو بنفسه: (ان من يعترف بخطئه في مجتمعاتنا يغامر بفقدان هويته، ويكون الطرد والنفي واللعن مصير كلّ من ينتقد قبيلته، وطائفته وحزبه).

ولد – الكاتب- في قضاء الرفاعي بقرية (آل حواس) عام (1954) بمدينة الرفاعي.

للمكان أهمية استثنائية في حياة البشر، لأنه ليس شيئاً ميتاً، صامتاً، بل انه بصمة الهوية كما يراها الرفاعي، انه صوت الكائن اللامسموع، انه صورته اللامرئية، وكأنه هنا ينقل احساساً مقارباً للفيلسوف (ميرلوبونتي)، الذي يجد الجسد البشري، هو مكان منغرس في الوجود بما يحمله من نداء الكينونة الجامع بين المرئي، واللامرئي، بوصفه انشودة الحياة.

وللطرافة يذكرالرفاعي - انهم كانوا في القرية يقلبون حرف الجيم- ياء. فقام احد الطلاب مخاطباً والده (بوجه جازع جوعان)، بدلاً من (بوية يازع يوعان).

في موقف من النظام التربوي والتعليمي في مدارسنا، يرى ان ثمة وحشية متفشية شكلت دوافع العنف وأرضية للنزعات العدوانية في مجتمعنا، وساقتنا لحروب دموية مجنونة.

وفي تناص مع (سيمون بوفار)، التي تقول: ان المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك، يقول (الرفاعي) لا يولد المرء عدوانياً، لكن المجتمع يصيره عدوانياً.

ويذكرنا بقول (الامام علي): لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم، فهم خلقوا لزمان غير زمانكم. وكذلك في تلميح آخر الى سعة حلم علي، حين قال: لا تقتلوا الخوارج من بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه.

يقترب الرفاعي من هيدجر، ويذكّرنا بمقولة (كيركجارد): (الانهيار الديني ناجم عن كثرة الكلام في الدين)، وهذا ما يقتضيه عروج الذات من مكابدات الطريق نحو الحق، وان الايمان، هو تجربة تنبعث من ذات الانسان.

وفي التفاتة لماحة، يقارن الرفاعي بين الكتابة الاصلية للفيلسوف، حين تترجم الى لغات أخرى كالشرقية مثلاً، نجد فيها ان الفلسفة، أو الفكر الغربي الحديث والمعاصر، تختلف وتتباين تفسيراته وتمثلاته، تبعاً للغة المترجم لها، فمثلاً –كما يكتب الرفاعي- ان مارتن هيدجر يتحقق بالفارسية عبر العرفان والموروث الايراني. و(فوكو) يتحدث الينا عبر الترجمة بالعربية في سياق انساق مسلماتنا ورؤيتنا للعالم.

يؤمن الرفاعي بأن الحضارات العظمى انبثقت عن اسئلة مصيرية عميقة كبرى، لأن: (السؤال رحمة الفكر) كما يقول هيدجر.

ويذهب كيركجارد الى ان الايمان يعتبر البرهان العقلاني، خصمه اللدود. بوصفه تجربة ذاتية باطنية، وليست مقولات ذهنية تخص سياقات العالم الخارجي.

ولأن كيركجارد، وهيدجر، ينطلقان من موقف (انطولوجي)، وان اختلفا بالمنهج، والفكرة، والهدف، لكنهما أعطيا تفسيراً يتفوق على الجزئية (الوجودية) التي تتقلص كثيراً على المستوى النفسي الذاتي، ولا تتمدد الى الآفاق الانطولوجية الأوسع، والأكثر تغلغلاً في (الماهية) وعدم فصل الظواهر عن جواهرها.

لذلك يقارب (الرفاعي)، طروحات هيدجر، فيما يخص الكينونة (الأنطولوجية)، التي هي الدوام في الحضور، والمجهول الاعظم، كما يرى (مارجوري جرين)، ليست هي ما يخص موجودات مثل: منضدة، كرسي، بل ذلك الذي يتجاوز أشياء العالم، الى ما ورائها الدائم

وتتكون من الصيرورة (الدوام) والظاهرة غير المتغيرة، والفكر الذي يوجد هناك بالفعل، وما ينبغي ان يكون او لا يكون متحققاً من قبل. ويقترح علينا هيدجر للخروج من هذا العماء الا نبحث عن الأشياء الكائنة، بل ان نبحث عن"الكينونة" ذاتها.

وبمثل ما يقارب ايضاً (الحرية) والمسؤولية والاختيار عند (سارتر)، والمرئي، وغير المرئي عند (ميرلوبونتي) نجده، يتوقف بجدية عند (كيركجارد) وهو من مؤسس الوجودية المؤمنة، الذي قدّم اطروحة الدكتوراه، عام (1854) الموسومة (فكرة التهكم)، وتناول فيها (سقراط)، وبخطاطة سريعة، يقسّم كيركجارد رتب الوجود (الانطولوجي) الى (مدرج حسّي) ويطرح (دون جوان) ممثلاً لهذا المستوى، بما فيه من قوة وجدانية، وشهوانية مندفعة، ترهن نفسها للحاضر (الآني)، ببرهة نزوية منتقاه من الحاضر، ولا تركن للماضي، بل تحذفه. والمستوى (الثاني) هو (الأخلاقي)، المؤطر بضوابط أخلاقية، تجعل الزوج يحرص على سمعة بيته، والكفاح من أجل بنائه، بعيداً عن التجاذبات الحسية الخاصة بكينونة المرأة، والتي ينبغي ان لا تذهب الى التطرف (المقابل) من الزهد، بوسطية، أخلاقية، تحدد بسهولة الحياة اليومية الزوجية. اما المستوى (الثالث) فيخص المنعرج (الديني)، وهو يقع ما فوق الاخلاق، وطاعة مطلقة لله، كما فعل النبي (ابراهيم الخليل) حين اراد التضحية بابنه (اسحاق)، وهي الطاقة التي بوساطتها، عفا الله عن الذبح، لينجو ابنه من الذبح بفضلها، ذلك لأن (الحصول على كل شيء، يكون بالتخلي عن كل شيء)،كما يفصّل ذلك عبد الرحمن بدوي.

كيركجارد، يرفع من راية الحب عالياً، بوصفه اشبه بينبوع متدفق، أبدي لا ينضب، وهي حركة تنطوي على خلود، لكي يرن نداء الله في وعي الفرد الذاتي. هذا الفيلسوف بلغ من الصدق مع نفسه، كان قد اشهر معاداته للكهنة، متهماً اياهم باستغلال الدين، من اجل منافع دنيوية زائلة، فرفضوا حضور مراسيم طقوس وفاته ودفنه.

لكنه، قام باجراء مراسيم الدفن على وفق طقوس كنسية كاملة، حتى ان (كيركجارد) ترك خطيبته، لمروره بأزمة نفسية (سوداوية) خاف على حبيبته من ان يبهض رفيقته هذه، بما ابتلي به من تأزمات نفسية مقلقة، متشاءمة.

وتضمّ قائمة الرفاعي، اسماء وجودية وانطولوجية، لا تتميز من بعضها الاّ بالدرجة، لا بالنوع، ويحاول ان يمرّن ذاته على المغايرة، واسقاط التابوات، سواء فيما يكتبه، ويحرره من طرح أفكار مضادة للسائد، او في تبشيره بمواقف فلسفية تتعارض مع منطق الفكر السلفي، الاصولي، والتفلت من خطوط حمراء فيها تحذيرات عقائدية، وطائفية، والاحساس بالغبطة بصحبة فلاسفة وجوديين، جرى تشريحهم، وتقبيحهم، بجهل مريع، وتلفيقات مرائية حمقاء. وهو على سبيل المثال، لم يعر اهتماماً لوصمه الالحاد لسارتر، او نازية هيدجر المبكرة، التي قرأها قراءة مغايرة للسائد، المألوف.

 ولغرض التدليل سنقوم باستعراض وباختصار كبير، لاطروحة هيدجر الفلسفية، التي يرى فيها ان وجودنا، مرآة للكينونة التي تتحدد؛ (بالانوجادية)، التي تتحرك بأهداف متوقعة، وما يمكن ان يكون عليه الانسان، بالتجاوز (ترانسندنتال)، والثانية (الوقائعية) التي تخص العالم، عالمي الذي قذفت اليه، وليس الطبيعة الميتة، وهو ليس من صنعي، ولكني لا أكون نفسي بدونه، بلا فصل بين ذات وموضوع بين نفسي والعالم. والثالثة (الخسران)، حين ننسى الكينونة من اجل كائنات جزئية تمثل اللاجدوى، والثرثرة والفضول، تحت ضغط (الهم) الذي يحتم علينا الاندفاع للامام، لكي نصنع شيئاً جوهرياً، دون جدوى.

يعاني (هيدجر) من هذا التفكك بسبب مصالح يومية متهالكة، ممن نعيش بين ظهرانيهم من رفاق الطريق، وما يجره ذلك من امزجة متقلبة، وجار ثرثار، في وجود يومي مبعثر.

فالحرية، تنتظر مني ما سأفلعه بمحددات الوراثة، والبيئة، سواء في توتر (التاريخي)، او (الحاضر) اللاتاريخي (المحض).

يوزع (هيدجر) القلق، والضمير، والمصير، ولتحديد عرضية الماضي، وتوقعات المستقبل، وتفكك الحاضر. ولكي يكون الانسان نفسه، عليه ان يتحرر من اوهام الناس، بحرية منفعلة قلقة، تكشف عن علاقة جوهرية تخص عدمية الانسان، هذا الوجود نحو الموت، هو الذي يجعل من القلق امكانية انطولوجية، ولتفادي الخسران، فان العزلة عند الناس هو خلاصي من الذين يقتحمون خصوصيتي، فيصبح (الموت) وعلاقتي به، هو الحادثة الوحيدة التي تخصني بشكل فريد، ومطلق.

و(بالضمير) نهرب من العبودية الى (الحرية)، المبهم هو ما أخلقه انا في التمسك بقدرتي الباطنية، بدلاً من تشتيت نفسي، تبين هذا، وذاك، وانما بالرجوع الى نفسي، وزمني المنطلق من الحاضر، الذي يجب عليّ انجازه، ولكني لا استطيع انجازه، لكنه مصيري الأصيل الذي العبه من أجلي انا نفسي، لا من أجل الجمهور الذي يصفق من أجلي.

هيدجر، وجد عند الاغريق اتساع الكينونة عند (سوفوكلس) في مسرحياته، وفي شذرات بارمنيدس، وهيرقليطس، قبل ان تتقولب الفلاسفة لدى سقراط ومن جاء بعده من فلاسفة، وكتاب، سؤال الوجود، هذا، قد نجده عند شاعر مثل نبي، يتلفظ بالكينونة، بلغة هي منزل الوجود، فيما يخص مبحث الكينونة، رتب: الحقيقة، واللغة، والشعر. بالشعر يتجلى الاله المخفى في الليل الكوني.

درس الرفاعي في (الحوزة) المقدمات والسطوح والبحث الخارج حتى صار فقيهاً، درس اللغة والفقه والاصول وعلوم الحديث والتفسير والمنطق والفلسفة والعرفان وعلم الكلام، وهو يثبت حديثاً (للنبي محمد): (ان الشريعة اقوالي، والطريقة أفعالي، والحقيقة احوالي). في مجتمع تكثر فيه السوءات، يقول الرفاعي: (لقد وفّرت عليّ مواقف الغدر والخيانة والكيد والتآمر من بعض من كنت احسبهم اقرب الاصدقاء- الكثير من الجهود في اكتشاف النزعات العدوانية الغاطسة في النفس البشرية). وهنا يحضر قول (ابن عربي) ان (المحبة هي اصل الموجودات)، وهذا يضمر مقته للكره والاحقاد وعند ذوي النفوس المريضة.

يلتفت الرفاعي الى ضرورة الشك، ويثبت رأي (الغزالي) بـأن الشكوك موصلة للحق، فمن لم يشك لم ينظر ولم يبصر ويبقى في العمى والضلال، وكأن هذا النمط من حيرة الشك، هو ما عناه النبي في حديثه، (اللهم زدني تحيّرا)، ذلك لأنها تضيء الروح.

ثم ينتقل بنا الى سلطة الاسلاميين في الحكم، فيراهم لم يعرفوا من الدين سوى الظفر بالغنيمة، ويرى ان السلطة ستمسي مقبرتهم التي يدفنون فيها، لأنهم انتهكوا انسانية الانسان باسم الاسلام، وهدروا كرامته ولم يفيدوا من فلاسفة ومفكرين أحرار، ممن عاشوا الدين بوصفه حباً وجمالاً وقداسة، ويحرك اكثر القيم تفوقاً. حسبما يؤشر شلايرماخر.

الرفاعي يرى البعد الانطولوجي للدين يتمثل في الايمان بالحياة الروحية، والاخلاقية، لانها جوهر الدين.

على المستوى العمودي (الأركيولوجي)، والأفقي (الاجتماعي)، والمضمون الأنطولوجي  يتحقق بالتذوق، لا بالادراك الذهني، وبذلك يكف الدين عن ان يكون أداة صراع على الثروة والقوة والسلطة، ولا ينحرف الدين باتجاه الأيديولوجية للاهوت العبودية، ويحافظ على انطولوجية الحرية. فالرب اله للجمال والحب والرحمة، وليس للقبح والحشية.

 

د. عقيل مهدي

عميد كلية الفنوان الجميلة في جامعة بغداد

 

 

في المثقف اليوم