كتب واصدارات

قراءة في كتاب علم الاجتماع التربوي والمدرسي .. دراسة في سيسيولوجيا المدرسة لمؤلفيه: د. علي وطفة ود. عبد الله المجيدل

qusay askarعلى الرغم من أن الكتب الأدبية شعرا ونثرا هي التي تلفت نظري وتجذب اهتماماي وتستحوذ على جل وقتي قبل غيرها من كتب المعارف والحقول الأخرى إلا أن بعض الكتب التي تعالج موضوعات غير الأدب تضطرني لقراءتها ومتابعتها ككتب علم النفس التي أستفيد من بعضٍ مما في بطونها من تعمقٍ وتحليلٍ لاغنى عنهما لفهم العمل القصصي والروائيّ،ورسم سلوك الأبطال والشخصيات وعلاقة الفرد بالمجتمع وبما يجد من أمور تتطلبها التقنية والصناعة التي غزت مجتمعاتنا بحضور قوي لم نكن لنألفه من قبل.

 أما هذه المرة فلم أتعب نفسي في البحث عن كتاب لا يختص بالأدب فقد وصلني قبل بضعة أيام كتاب علم الاجتماع التربوي والمدرسي وهو من تأليف أستاذين جليلين في علم النفس أحدهما الأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة الأستاذ في كليّة التربية بجامعة الكويت والأستاذ الدكتور عبد الله المجيدل الأستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق، والكتاب يحتوي على مقدمة وأحد عشر فصلا وخاتمة، ومقدمة الكتاب غنية بالحديث عن التغيرات التي طرأت على مجتمعاتنا العربية وثقافتنا والحاجة إلى التغيير في النمط التربوي السائد في البلاد العربية لنواكب التطورات العالمية حتى نلحق بدول العالم التي تواظب التطور العالمي لتتكيف مع الحاضر من أجل المستقبل.

سوف لن أستعرض فصول الكتاب كله بل أذهب إلى الفصل الأخير" الحادي عشر " الذي عنوانه " التربية المدنية وقضايا المجتمع المدني" ولكون الكتاب من الكتب العلمية الأكاديمية فأن مؤلف الفصل يبدأ تعريفه للتربية وهي:مجموعة من عمليات النمو والتكيف مع البيئة لحل المشكلات القائمة.فيشير المؤلف إلى أنّ علم التربية في الماضي انصرفت مناهجه وأهدافه إلى العناية بالأخلاق وسياسة المدن، أما في العصر الحاضر فموضوعات علم التربية مستحدثة أوجدها التطور التقني والصناعي.

وهنا لا بد أن أوضح إلى أن المؤلف أشار إشارة ذكية إلى الهدفين المختلفين وفق الماضي والحاضر ولتبيان ذلك أود أن أضرب مثلا بما هو في أوروبا،فمما يقره الأوروبيون أن التربية الأخلاقبية الموضوعة هدفا في المدارس كانت تمنع دراسة الاساطير من الناحية الدينية والأخلاقية منذ العصور الوسطى إلى وقت متأخر بحجة أن الأساطير ذات معان وثنية وغير أخلاقية والشيء نفسه ينطبق على ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة الذي تم حذف بعض قصص منه لسبب أخلاقي إلى بداية القرن الماضي، أما الجنب التقني والصناعي فأذكِّر به عن شريط سينمائي ذهبت لمشاهدته مع بعض المعلمات برفقة تلاميذ صف تأهيلي børnehave klass يتحدث الشريط عن طفل يجد المدينة التي يعيش فيها ذات يوم فارغة مع ذلك حين يستقل الحافلة فإنه يقتطع تذكرة وعندما يرغب في شرب قنينة عصير يضع نقودا في الماكنة.. وهكذا إن المدرسة نفسها راعت في التطور التقني مبدأ الأخلاق أي أن المبدأ الأخلاقي جاء موازيا لعملية اندماج الطفل بالتطور العلمي والتقني. إنه يقدر أن يستقل الحافلة ويستخدم الماكنة لكن عليه أن يدفع وإن لم يره أحد.

 إن التربية المدنية وفق رأي الدكتور عبد الله المجيدل تهدف إلى تكيف الإنسان مع متطلبات عصره فهي تركز على قيم العمل والخير والسلوك الاجتماعي والعدل والديمقراطية والحرية، فغياب بعض هذه القيم يعني وجود خلل في المجتمع نفسه لذلك لابد من تربية المواطن على قيم التسامح التي تتمحور وفق الشكل التالي :

قيم التسامح

الحل السلمي للخلاف

 

احترام حقوق الإنسان احترام الاخر الحوار التعايش  

ثم يتحدث الكاتب عن التربية المدنية وتكوين المواطن فالتربية المدنية لاتعني المؤسسات الحكومية فقط كالمدارس الحكومية وروضات الأطفال بل جميع مؤسسات المجتمع ووسائل الإعلام والأندية الثقافية ودور العبادة والنقابات والأحزاب السياسية. والهدف من كل ذلك هو بناء شخصية متوازنة.

 إن التربية المدنية هي نفسها التربية من حيث العموم أو تعرف بأنها " جانب التربية الذي يحدث شعور العضوية في جماعة حتى تتسق حياتها لفائدتها المتبادلة" ويذكر المؤلف أن هذه الفكرة وجدت من قبل في تاريخ المجتمع العربي حيث دون ابن خلدون " ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا في الحكام مراسا".

 أما عن علاقة التربية المدنية بالعلوم الاجتماعية فإن الكاتب الدكتور المجيدل يرى أن التربية المدنية هي إكساب أفراد المجتمع بصورة عملية وفعالة مباديء ومهارات السلوك الاجتماعي المرغوب فيه في البيت والمدرسة والشارع والأماكن العامة والعمل".

وهنا أود أن أقف ثانية عند التعريف أعلاه الذي يركز على إكساب مهارات السلوك الاجتماعي المرغوب فيه في هذه الحالة يمكن أن نستفيد من الطرق التربوية الأوروبية التي امتازت بالخبرة والتخطيط فعلى سبيل المثال نرى مثالا في مدرسة دنماركية تقع في منطقة Svønemøllen وهي مدرسة علمانية يسارية لا علاقة لها بالدين لكنها تحتفل شأنها شأن المدارس الدنماركية بأعياد الميلاد فنجد المعلم يقف في الصف التحضيري يتحدث عن العذراء وحملها وولادتها المسيح في الحضيرة إنه يسرد الوقائع التاريخية من دون أن يتدخل في أنه لايقر معجزة حمل امرأة من دون رجل تاركا تفصيلات الأمر للأسرة التي هي جزء من المجتمع ومن خلالها يتعلم الطفل تناقضات التاريخ في بعض الأمور لا من قبل المدرسة ومثل هذا المثال نجده فيما يتعلق بإجراءات المدارس حين تعلم التلاميذ الصغار التربية المدنية في اختيار المواضيع الدينية والآيات الكريمة التي تعنى بتعذيب الكافرين وتصور مشاهد العنف فيجب على مدارسنا أن تؤجل تلك إلى مراحل متقدمةإن هناك الكثير من الآيات التي تدعو للسلام والمحبة والإخوة التي يجب أن تعتمدها المدرسة، ومادمنا بصدد الموضوع وهو التربية المدنية يمكن أن نستفيد من التجربة الإنكليزية أيضا في معالجة التنسيق بين المدرسة والمؤسسات المدنية الأخرى أو مؤسسات المجتمع المدني.نحن نعرف أن المدارس البريطانية تنضوي تحت عنوان (المحافظة) وأمر كالمثلية لا تتطرق إليه المدرسة في حين يقره القانون البريطاني، في هذه الحالة المدرسة عليها أن توضح ذلك عبر التنسيق مع مؤسسات أخرى لأن الطفل يُعَدّ ليندمج بالمجتمع وعليه أن يعرف عن مجتمعه كل شيء، قبل خمس سنوات حضرت مع مجموعة من التلاميذ مسرحية " سندريلا" تلك الأميرة التي تكرهها الملكة زوجة أبيها فتأمر أحد أتباعها أن يلقيها في الغابة، وهنا يتجمع بعض الرجال والنساء لإنقاذها هناك عامل وفلاح وأقزام وتدخل فتاتان المسرح لنسمهما أنيته وجانيت تعرفان نفسيهما فتقول أنيته : أنا أنيته أحب جانيت جئت لمساعدة سندريلا ، وتتقدم جانيت فتعرف نفسها قائلة أنا جانيت أحب أنيته جئت لمساعدة سندريلا ، إن كلا منهماتستعمل كلمة "love" لا كلمة "like" وعندما سألت المعلمة الإنكليزية أجابت إن الطفل يجب أن يعرف مثل هذه الأمور قبل أن يصطدم بها فجأة من دون معرفة سابقة من هذا نستنتج أنّ هناك منظمومة اشتركت لتعلم الطفل خصائص المجتمع بأمانة من دون تغطية هي المدرسة التي أرسلت التلاميذ إلى المسرح ، وإدارة المسرح التي عرضت المسرحية والكاتب الذي أضاف بعض التغيير على نص شعبي قديم ليجعله يحتوي تطورات المجتمع المعاصرلذلك يقول الدكتور عبد الله المجيدل في ص 241 وص 242 إن التربية المدنية هي علم في الأساس وفن في الأداء هدفها تكوين الموطنة التي هي شعور الفرد بالانتماء إلى الجماعة وشعور الجماعة بجمعها وتركيبها وشعور الإثنين بالرابطة المتبادلة وفق معايير منها الوثائق والدستور ولائحة الحقوق المدنية والفلسفة العامة ومفهوم الديمقراطية والخصوصية التاريخية والتقاليد الخاصة ودرجة تطورها.

 ثم يتحدث الفصل ذاته عن المجتمع المدني فنجد أن فكرة المجتمع المدني برزت في القرن التاسع عشر وشغل بها آدم سمث وهيجل والواقع إنّ المصطلح اختفى في القرن العشرين ثم عاد إلى الظهور في نهاية القرنالحادي والعشرين وأحد تعاريف المجتمع المدني هو"جملة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة سياسية ونقابية وثقافية..."إن الكاتب يطرح من خلال هذا التعريف تجربة رائعة تعيشها مجتمعات شمال أوروبا فالذي يقدم طلبا غرض الحصول على عمل ما فإن هناك هامشا في سيرته الذاتية يذكر فيه هواياته ونشاطاته الاجتماعية كي يثبت خبرته وتفاعله مع المجتمع عبر مؤسسات المجتمع المدني، وهناك دعم من الدول نفسها فالذي يعمل متطوعا "voluntary" لخدمة المؤسسات الخيرية ودور المسنين الحكومية والخاصة أو رياض الأطفال والمنشآت العامة يمُْنَح حق النقل مجانا خلال عمله التطوعي ولكي نقرب فكرة المؤلف في تعريف المدني نذكر أن الدول نفسها كما في بريطانيا قد تضع خدمة المؤسسات العامة مقابل عقوبة قانونية، في الدنمارك من يرفض الخدمة العسكرية تحيله الدولة إلى الخدمة في رياض الأطفال أو مكاتب الأمم المتحدة ، وفي بريطانيا قد يحكم القاضي على شخص بتنظيف الشارع مع عمال البلدية بدلا من السجن، إن مؤسسات المجتمع المدني هي التي تشرف وتراقب وتصحح مسار الدولة وتطالب بحقوق الأطفال والعجزة والمرضى والنساء وتساهم مساهمة فعالة وحيوية في اختيار الحكومة والسلطات المحلية.

من خلال هذه الفكرة يذكِّرنا الكاتب بالتاريخ العربي القديم حيث يستشهد بنماذج من مؤسسات المجتمع المدني التي نشأت قبل الإسلام مثل دار الندوة ويذكر أن فهم الإسلام للدمقراطية وحقوق الإنسان متأتٍ من مباديء إنسانية أما فهم بعض الدمقراطيات المعاصرة لقضايا الحقوق والمجتمع المدني فيأتي من أجل مصالح معينة.

 ونجد أيضا رصدا لبعض الاتجاهات المعاصرة لطرق التربية المدنية ووسائلها وهي:

أولا: المعرفة المدنية التي لابد أن تعتمد على مباديء النظرية الدمقراطيّة.

ثانيا: المهارات المدنية وهي أفعال يشارك بها المواطن لضبط السياسات العامة.الفضائل المدنية والسمات الضرورية للشخصية من أجل الحفاظ على الحكم الديمقراطيّ.التعليم المنتظم.الحكم الديمقراطي والمواطنة.

ثالثا:تحليل الدراسات الواقعية. التطبيق.

رابعا: تطوير مهارات الفرد.

خامسا: التحليل المقارن للحكم والمواطن على المستوى الدولي.

سادسا: تطوير المشاركة ومهارات المشاركة عبر نشاطات التعليم.

نذكِّر فيما يخص الفقرة السادسة التنسيق بين المدرسة والسينما والمدرسة والمسرح والمدرسة والبيت وقد ضربنا لذلك أمثلة من المجتمع الدنماركي والبريطاني.

 ولا يغفل مؤلف الفصل عن ذكر النصوص التراثية التي تهتم وتعالج مسألة التربية المدنية بأسلوب مباشر وتوجيه واضح وها نحن نضمن مقالنا هذا بعضا من أسطر يعنى كاتب الفصل فيها بمسألة الأدب والتراث فيتحدث عن دور الأدب في عملية التربية المدنية " ويمكن للأدب أن يمارس وظيفته المدنية بوساطة الأجناس الأدبية الأخرى فليس تمثل القيم بالشخصيات الروائية هو الوسيلة الوحيدة وإنما الخطاب المباشر والشعر قد يملكان التأثير إذا ماكانت العناصر الجمالية متوافرة فيهما حيث يتوجه إلى العقل والشعور في أن واحد، ويمكننا أن نذكر هنا ما يتضمنه الأدب العربي من حكمة، وأمثال شعبية تمثل خلاصة تجربة الشعوب والتي لعبت دورا فعالا في ترسيخ القيم السامية،وتوجيه الفرد نحو الفضيلة، كما تتضمن الرسائل المشهورة في تاريخ الأدب العربي كثيرا من القيم التي أسهمت في تهذيب الفرد لكي يكون عضوا صالحا في المجتمع ".ص 251.

 أما دور الأسرة فيوضحه المؤلف في كون التربية المدنية هي علاقة الوالدين بالولد، وعلاقة الوالدين ببعضهما وتتمثل وظيفة الأسرة في التربية الجسمية والصحية والتربية الأخلاقية والوجدانية، كذلك التربية العقلية والاجتماعية والوطنية والاقتصادية ، والتربية الجنسية ، والتربية الترويحيّة، وهو دور مهم وعبء ثقيل على الأسرة تتحمّلَه كونها نواة المجتمع، فعلاقة الوالدين ببعضهما تؤثر سلبا أو إيجابا بالأبناء ،،وطريق تربيتهما لها أثرها في الطفل . إنها تترك بصمة واضحة في نفسيته وطريقة اندماجه وتكيفه مع مجتمعه الذي يعيش فيه وإعداده للمستقبل.

 

الخلاصة:

وبعد لا أريد أن أثني على الكتاب لأنه عمل متكامل وجدت الكثير من طرقه المنهجية التي عالجها المؤلفان وأشارا إليها محل تطبيق واهتمام في أوروبا لاسيما في موضوع التربية المدنية أي الفصل الأخير من الكتاب، فالأستاذ الدكتور عبد الله مجيدل باحث قدير حصل على درجة الدكتوراه من جامعة موسكو ويتحدث اللغتين الروسية والإنكليزية وهذا يعني أنه ملم بالطرق التربوية والمناهج المختلفة ومتابع لما يتحقق في أوروبا وروسيا من طرق في التربية فيتبنى من تلك التجارب ما يلائم ظروف مجتمعنا وخصوصية مدارسنا العربية. 

 

قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم