كتب واصدارات

الجمال والوعي في كتاب"في أُفق الأَدب"لـ سعيد عدنان

abdulelah alyasri"في أفق الأدب"ــ 206صفحة، من الحجم المتوسط، الطبعة الأولى2014م، دار تمّوزــ كتاب للأستاذ الجامعي العراقي الدكتور سعيد عدنان. وللكاتب مؤلفات أُخرى منشورة: "الشعر والفكر عند العرب"، و"علي جواد الطاهر الناقد المقالي"، و"الصدى والصوت في شعر ابراهيم الوائلي"، و"أدب المقالة وأدباؤها"، و"الإتجاهات الفلسفية في النقد الأدبي عند العرب".. حين نظرت إِلى ما ضمَّ فهرست هذا الكتاب ــ قبل أن أَقرأه ــ من أسماء لأدباء مُجيدين كثيرين، لاتكاد تستوفي حقَّهم مجلَّدات من الكتب، تعجَّبت من إقدام الكاتب على هذه المغامرة الأدبية، واستبدَّ بي الفضول، لمعرفة ماسيقول فيهم في كُتيّب صغير!. وما أنْ فرغت من قراءة الكتاب، حتى تذكَّرت ما رُويَ عن عبدالله بن عُمَر: أَنّه لما قرأَ الآية: "أَلا له الخَلْقُ والأَمْرُ"، قال: "مَن بقيَ له شئ، فليطلبه". أَيْ انَّ كلمتين في آية، قد أَحاطتا بكل شئ في الوجود. أَجلْ. من يقرأ كتاب "في أفق الأدب"، وهو على علم ببعض المكتوب عنهم، يقلْ عنه ماقال ابن عُمَر عن الآية. إذاً ماهذا الكتاب؟.. بُنيَ الكتاب خارجيَّاً على أَربعة محاور: أَوَّلها عن أساتأُذة أدباء، وثانيها عن شعراء وناقد، وثالثها عن أَعلام، ورابعها عن قضايا ثقافيَّة أدبيَّة.. وعلى هذه الأربعة، تدور فكرة رئيسة، هي الأدب، وتربط بعضها بالبعض الآخر، في وحدة موضوعيَّة، أَبانها الكاتب في "مقدمة" الكتاب الوجيزة إِبانة وافية.. وبُنيَ الكتاب داخليَّاً على مُعطيين: فنيّ وفكريّ. أمَّا المُعطَى الفنيّ، فلا أُريد أنْ أَحصره بخصائص الكاتب الأُسلوبيّة العامّة، ومادلّت عليه من موهبة فنيّة، وعقليّة نقديّة، وثقافة واسعة، وانّما أُريد أنْ أُشير فيه الى سمات التجديد، التي اختصَّ بها في الكتابة المقاليّة دون غيره، وأقف عندها قليلا. وأُولاها: الإيجاز، الذي وُظِّفَ له ما قلَّ من اللفظ، تركيزاً على شحنة اللفظة الوجدانية والفكريَّة، لتوليد معانٍ لايُستطاع التعبير عنها، إلا بما وسع من القول وطال. فالكاتب مُقتصِد في اللفظ، خلاف ماجرى عليه كُتَّاب المقالة من إفراط وإطناب. وحسبي دليلاً، أنَّه استوفى بأَقلَّ من مئتي صفحة، حقّ أَربع وعشرين شخصيَّة أدبيّة: (علي جواد الطاهر، ومهدي المخزومي، وابراهيم الوائلي، وعبد الحميد الراضي، وصلاح خالص، وجميل سعيد، وعناد غزوان، وعبدالإله احمد، ومحمد يونس، وعبد الباقي الشواي، وحياة شرارة، وعبد الأمير الورد، وعدنان العوادي، ومحمد حسين الأعرجي، ومرتضى فرج الله، وعبد العزيز المقالح، وعبدالرزاق محيي الدين، ويوسف الصائغ، ورشدي العامل، وزكي نجيب محمود، والجرجاني ـــ هذا ليس الجرجاني: مُؤلِّف كتابي دلائل الإعجاز، واسرار البلاغة ـــ وأحمد امين، والشيخ محمود محمد شاكر، ولويس عوض) . إيْ والله إنَّ الكاتب سعيد عدنان لَمِيْجَاز، لايُجارى في وَجْزه!وما من مغالاة في ذلك.. وثانيتها: الإيحاء. فهو كثيرا ما يعمد الى التلميح لا التصريح. كأنه ينقل رؤيا لا فكرة. إنه مشغوف بذلك حبّاً ورغبة في أن يُشرك قرَّاءه معه، ويجعلهم يتأملون، ليهتدوا بأنفسهم الى كشف ما تضمر الكلمات، ويختبئ وراءها من معانٍ. فكلَّما انتهت مقالته قراءةً، ابتدأت وتجدّدت بإشاراتها وإِيماءاتها، التي ماتبرح عالقة بذاكرة المتلقّي لكي يشارك في التأمّل والبحث والتفكير. ولم تكُ ظاهرة المشاركة في النص، معروفة في أدب المقالة من قبل، وانّما هي عُرفت في الشعر الحديث، خصوصا قصيدة الشاعر الإنكليزي ت. س إليوت. ودونك بعض الشواهد، : ختمَ مقالته ــ مثلاــ عن "حياة شرارة" (ص81) بقوله: "وكان مماتها شهادة صدق على وضع ردئ وما آل اليه". (ماهذا الوضع؟) وعن "يوسف الصائغ"(ص144) بقوله: "لعل دارسا حصيفا يقف عنده، في الذي له، والذي عليه.. "(ما الذي له؟وما الذي عليه؟) وعن "رشدي العامل" ( ص155) بقوله: "لعل قراءة جديدة تتناول شعره فتجهر بما أخفى"(ما أخفى؟) . وختم مقالته عن "صلاح خالص"(ص48 ) بقوله: "وتسأل: أين أجد آثاره من كتب ومقالات؟"(أين توجد؟) ماأكثر الأمثلة في الكتاب على مثل أُولئِك التلميحات، وذلك التساؤل!.. وثالثتها النزعة الروائية: فلو استثنينا المقالات الثلاث الأخيرة (ص187، ص193، ص199)، ونظرنا الى مجموع المقالات الاخرى، دون المستثنى منها، لوجدنا عملا روائيا هو أقرب الى "رواية البحث" الحديثة، من حيث عناية الكاتب بمجموعة من الأشخاص الأُدباء، الذين يمثّلون الطبقة الإجتماعية الوسطى، ويشتركون في العطاء الأدبي، متشابهين في السلوك الإجتماعي أو مختلفين، بالدرجة أو بالنوع. والراوي هنا هو الكاتب عينه، الذي لايريد أن يؤرخ لهؤلاء الأدباء، ولكن يريد أن يستبطن درجة الإبداع الفنيّ في أدبهم، والوعي الإجتماعيّ في مواقفهم، مستعينا بتجاربه الشخصيّة، حاذفا الكثير مما يَعرف، لإثارة التشويق والتفكّر فيما يُحذف. فما يعنيه هو الحالة الأدبية، والحالة الفكرية والنفسية للأشخاص، وليس الحالة الفسيولوجية. لذا ركَّز في المحور الثالث من الكتاب، على ثلاث حالات معاكسة، لسياق السلوك الإجتماعي العام، عند أشخاصه (ص171ص178ص184)، إبرازاً للصورة الأخلاقية المُثلى، التي أحسبها، وهي مندمجة في الأدب، الهدف الأساسي من التأليف. ولعلَّ مايدلّ عِياناً، على هذه السِمَة الثالثة، الحوارات التي ترد بعض الأحايين، بين الكاتب وصاحبه. وما إِخالُ صاحبه هذا إلا هو الكاتب نفسه. ومن بعضها: ـــ"أكان يحرص على الصدارة في غيره؟". ـــ "لاتستبق القول!"(85) ..

ومنه: ـــ"أَفيُعدّ في أعلام التمثيل في العراق؟". ـــ"عندما يُعدّ في أعلام الشعر العراقي!"(87) .. ومنه: ــ "وأين الإنكليزية في ذلك، وقد اطلت الحديث! ــ"إن موقعها وراءه، وسيأتيك القول!"(181) . وغير هذه الشواهد. وإنْ تَبغِ زيداً عليها تجده في (ص16 وص41 وص75 وص84 وص88 وص143 وص154 وص175 وص169 وص177ص185) . إنَّ تأكيد الكاتب على هذا الأسلوب القصصي، في كتابته المقالية، في اكثر من موضع، لايمكن أن يُغضَى عليه، ويُعتبر شيئا عابراً.. إذاً. في معياريّة جمال هذا المعطى الفنّي الخاصّ(الإيجاز، الإيحاء، النزعة الروائيّة) الذي حاولت، باقتضاب، أن أكشف سماته الثلاث، لايُعدّ الكاتب سعيد عدنان واحداً من كُتّاب المقالة الكبار وحسب، وانّما هو رائد حداثتها، من حيث جماليّة الشكل، التي تجاوز بها، ما مضى من جماليَّات مقاليّة سابقة، وتخطّاها. غير أنّ هذا التجاوز، وهذا التخطّي، لايعنيان انّه منفصل عن تراثه الأدبي، بل هو متَّصل به كلّ الإتّصال، ولكنَّه منفصل عنه بتجربته الفنيّة الخاصّة. إنَّ الشكل المقاليّ الجديد عنده، كما يتمثّل لي، ليس انعكاسا صوريا مباشرا لواقع ماديّ، بل هو فتح وخلق وتاسيس، لما يتطلّبه روح العصر ومستجداته. وهوــ بتحفظ شديد ــ لقاء بينه وبين شكلي القصيدة والرواية الحديثتين.. وأمّا المُعطى الفكريّ للكتاب، فانّه يتوزّع على"الأدب"، محصورا ببعض أساتذته العراقيّين في الجامعة، وبعض شعرائه وكُتَّابه في الوطن العربي (ماعدا الجرجاني) وبُضعٍ من قضاياه وشؤونه. ولئن كان الأدباء من اساتذة وشعراء وكُتّاب، يتساوون نظريّا، من حيث المفهوم الأدبيّ العامّ، فانّهم يتباينون عمليّا، من حيث الموقف الإجتماعيّ أو الأخلاقيّ. منهم من كان أديبا ذا موقف: (علي جواد الطاهر ص9، ومهدي المخزومي ص18، وصلاح خالص ص43، ومحمد يونس ص65، وحياة شراره ص76، ورشدي العامل ص145، وغيرهم) ومنهم من كان أديبا متغيِّر الموقف: ( يوسف الصائغ ص134، ولويس عوض ص184) . ومنهم من كان اديبا بلا موقف أو كالذي بلا موقف: (احمد أمين وزكي نجيب محمود ص171، والشيخ محمود محمد شاكر ص178) . إنَّ الكاتب لم يقصر كتابه، على النظر وحده دون العمل والتطبيق، بل ركّز على اندماج فكرتي الإبداع والوعي كلتيهما عند ادبائه، وجعلهما المعيار النقديَّ لتقويمهم، متّخذا من الشاعر الجرجاني، نموذجا تاريخيّا للشخصيّة الأدبيّة، التي اكتملت بممارستها العدل ــ أودّ أنْ أقف هنا إجلالا، لهذا المثقّف الطاهر (الجرجاني)، الذي انتظم في سلطة الدولة، ولم تفقد مثقَّفيته الفضائل الثلاث (لحق والخير والجمال) . وقلّما يتطهّر مثقّف من رجس السلطة ــ وعلى اندماج هاتين الفكرتين الأساسيتين(الإبداع والوعي)، كان مدار الافكار الثانويّة الأخرى في الكتاب، تركيزا على مالم يُكتشف منهما، أو مالم يُقوَّم من قبل مثل: (أستاذية عبد الحميد الراضي ص37، ورومانسية مرتضى فرج الله ص103، وعدالة الجرجاني أبو الحسن ص165، وشاعرية عبد العزيز المقالح ص111) وغير هذه الأشياء، من الموضوعات المطموسة جهلا أو ظلما.. إِنَّ استقراء مفهوم الأدب عند الكاتب، يفضي ضمنيَّا، الى أنّ الأدب الحقّ، ليس إلا الكتابة الفنيّة المرتبطة بالمسؤوليّة الإجتماعيّة والأخلاقيّة معاً. وعلى هذا، فانَّ قيمة الأدباء الذين تناولهم، لاسيّما العراقيّون منهم، لم تكن كامنة في جمال أَدبهم وحده، وانما في جماله المقرون بعمق وعيهم الإجتماعي، المستقل عن سلطات القمع في المجتمع. فهو، أي الكاتب، من هذه الناحيّة المفهوميّة، لايدور في فلك المفاهيم التراثيّة السلفيّة، ولا في اطار المفاهيم الغربيّة المترجمة، ولكنّه يتألّق في مداره المفهوميّ النقديّ الخاصّ به، جامعا بين روحي الأصالة والمعاصرة. ومهما يكن من شئ، فانّي أَرى شخصيّته الأدبيّة، استخلاصا من المضمون الفكري العام للكتاب، قد تميَّزت بشيئين: خصوصيّة نقديّة تجديديّة، وجرأة إكتشافيّة إبداعيّة. وبهاتين الصفتين اللتين تميّز بهما من غيره، يكون قد خرج من دوران الماضي الأدبي المعاد، مساهماً في إضافة شيئ جديد، الى الحاضر والمستقبل، لتنوير الواقع وتغييره وتطويره.. وكلا المعطيين (الفنيّ والفكريّ) يقودان في مجملهما، الى دلالة عميقة في الكتاب. هي انّ الأدب ليس هو الغاية من التأليف، بل الغاية هو الإنسان. إنّ قيمة الأديب، وقيمة أدبه مرتبطتان بقضية الإنسان، ومرهونتان بها. فالأدباء المبدعون يكونون عظماء، على قدر مايتصل إبداعهم بتلك القضية. فهم لم يحقّقوا عظمتهم في الإبداع، ولن يحقّقوها، إِلّا إذا حقَّقوا للإنسان عظمته، وانطبقت صورهم العمليّة، على صورهم النظريّة المتّصلة به. إنَّ حركة التغيير والتطوّر، والأدب العربي هو الجزء الأكبر منها، مرهونة بالأدباء المبدعين الوعاة الناهضين تحدّياً وتجدّداً، لا الأدباء المدجّنين الخاضعين لسلطات الواقع، واستهتارها بحقوق الإنسان وكرامته. فما الأدب الحقّ إلا المعاناة والمجاهدة والإيثار، وليس اللهو والأَثرَة والارتزاق. وشتّانَ بين أَديب عملاق النور جامح، وأَديب منطفئ صَفعَان!.. واخيراً: أَشعر، إزاء هذا الكتاب، بأني قبضت على جوهرة ثمينة، في زمن الرماد والصدأ، فآثرت أنْ أُعلم مُحبّي الجواهر بعض نفاستها، وأَلا أَستأثر بها وحدي دونهم. ولئن أَعلمتهم، فلا أزعم أني أستطعت أن أكشف لهم مايجب أنْ يُكشف منها شكلا ومضموناً، وانما حاولت. فما أنا إلا عاشق جمال ووعي. لاغير. ولعلَّ هناك من هو أَهل للنقد، فيتصدَّى لهذا النجم الساطع، "في افق الأدب"، بالدرس والتحليل والتقويم، مُغنياً المكتبة العربية بما سيقول.

 

عبد الإله الياسري

 

في المثقف اليوم