كتب واصدارات

حزب الدعوة الإسيلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي (3)

ali almomenالدوافع الواقعية لانبثاق حراك اسلامي شيعي: قبل أن تنبثق فكرة حزب الدعوة الإسلامية وتتحول الى نظرية، ثم تنظيم، ثم حزب واقعي؛ كانت مجرد فكرة في أواسط الخمسينات من القرن الماضي في رؤوس عدد من الشباب الإسلامي الشيعي الناشط في العراق؛ وتحديداً في النجف الأشرف؛ ممن هم في العشرينات من عمرهم أو دون ذلك، وكان وراء الفكرة مزيج من الدوافع العقلية والعاطفية التي تحفزها هموم الساحة الدينية العراقية ومنظوماتها وأساليب تفكيرها، والواقع الاجتماعي، وحالة القهر السياسي، والتمييز الطائفي والتاريخية التي يعيشها شيعة العراق وعموم الشيعة العرب جراء ممارسات الأنظمة السياسية الحاكمة، والتقهقر الميداني والثقافي لحالة الإصلاح الإسلامي، ووجود التنظيمات العلمانية الجماهيرية الفاعلة.

ومن هنا؛ فإن مجمل دوافع هؤلاء الشباب كان وراءها الشعور باللوعة والهم الكبيرين؛ بسبب التراجع الذي عاشه التيار الإسلامي الإصلاحي والتغييري في العراق؛ منذ منتصف العقد الثالث وحتى أواسط العقد السادس من القرن الماضي، والذي كان يقابله جو مشحون بالتيارات والأفكار السياسية والايديولوجية العلمانية الوافدة، ووسط مهرجان من الأحزاب والتنظيمات العلمانية؛ التي يبرز من بينها التيار الماركسي الذي يمثله الحزب الشيوعي، والتيار القومي الذي يعد حزب البعث أهم أركانه، وما يعرف بالتيار الوطني، الذي يعد الحزب الوطني أحد أهم قواه، وما تبقى فقد كانت أحزاب سلطة أو أحزاب رموز، وكان انكماش الإسلام الحركي؛ يمثل فرصة مهمة للتيارات العلمانية، ولاسيما الجماهيرية؛ للإمساك بالساحة السياسية والاجتماعية؛ حتى في المدن التي تمثل قلاعاً دينية حضارية؛ كالنجف الأشرف.

 

تجمعات إسلامية

وكانت الحاجة الى العمل المنظم الشامل الذي يتبنى عملية التغيير في واقع الأمة الثقافي والسياسي؛ ولاسيما في الوسط الشيعي؛ كبيرة وملحة؛ لأن الوسط السني سبقهم إليه، فقد برزت منذ نهاية العشرينات تنظيمات وتجمعات إسلامية سنية كبيرة؛ كـ “الإخوان المسلمين” في مصر، و”حزب التحرير” في بلاد الشام، والجماعات الإسلامية في الهند وباكستان وتركيا وغيرها، ومن جانب آخر فإن الوجودات الشيعية الرائدة؛ كجمعية “النهضة الإسلامية” و”حزب النجف” و”الجمعية الإسلامية الوطنية” وغيرها؛ كانت تجمعات آنية تشكلت لأغراض محدودة وانتهت حال ارتفاع هذه الأغراض.

أما الجماعات الإسلامية الشيعية التي تأسست في أوائل وأواسط الخمسينات؛ كحركة “الشباب المسلم” ومنظمة “المسلمين العقائديين” وغيرهما؛ فكانت هي الأخرى محدودة وذات إمكانات متواضعة تنسجم مع أهدافها، ولم تسمح لها ظروفها باستيعاب الساحة؛ وبالتالي لم تكن قادرة على القيام بمهمة إحداث تغيير شامل في الواقع الإسلامي الشيعي، لأسباب وظروف تتعلق بقيادة هذه الجماعات وخصوصيات يتميز بها العراق بشكل عام، ووضع الوسط الديني العراقي بشكل خاص.

 

التغيير الشامل

هذه الهموم التغييرية الكبيرة التي كان يحملها بعض علماء الدين والناشطين الإسلاميين المثقفين؛ دفعتهم للتوصل الى مقاربة لعلاج الواقع؛ من خلال تبني أسلوب العمل التغييري المنظم الشامل في شكله الحزبي؛ بعد دراسة نظرية العمل السياسي في الإسلام، وتأريخ الأمة الإسلامية عموماً والعراق خصوصاً، وتجارب الشعوب وحركات المصلحين والوجودات الإسلامية السياسية السابقة، فكان نتاج الدراسات والمداولات العميقة المطولة يتمثل في تأسيس حزب إسلامي؛ يتحرك في المجالات كافة، وقد أسموه فيما بعد بـ “الدعوة الإسلامية”.

ولم يكن الحراك التغييري الإنقلابي الجديد المتمثل بحزب الدعوة الإسلامية يسعى لأهداف سياسية أو تنظيمية محدودة؛ بل كان مؤسِّساً لحالة مختلفة في مسار التاريخ الشيعي؛ شكلت انعطافة كبرى على مستويات الفقه السياسي والسلوك الحركي والعمل التنظيمي والرؤية التأصيلية لعملية التأسيس العصرية للدولة الإسلامية القائمة على مذهب أهل البيت، وهو عمل لم يسبق اليه الدعاة أحد من النخبة الشيعية في العراق وغيره.

 

تجارب تاريخية

ولا يمكن تشبيه العمل التأصيلي التأسيسي للدعاة الأوائل بالتجارب النضالية السياسية والحكومية للنخب الشيعية في المراحل التي سبقت تأسيس حزب الدعوة الإسلامية؛ كما هو الحال مع “الدولة العلوية” في طبرستان، وحكومة “السربداران” في سبزوار، و”الدولة الحمدانية” في شمال العراق وبلاد الشام، و”الدولة الإدريسية” في شمال أفريقيا، و”الدولة الفاطمية” في شمال أفريقيا ومصر، و”الدولة البويهية” في ايران والعراق، و”الدولة الصفوية” في ايران والجوار، وصولاً الى الحركات النضالية للنخب الشيعية في لبنان وإيران والعراق والبحرين في مطلع القرن العشرين الماضي وحتى أواسط الخمسينات، ومنها “ثورة المشروطة” في ايران، وثورتا “النجف” و”العشرين” في العراق، و”الثورة الدستورية” في البحرين، والحراك السياسي في جنوب لبنان.

 

الدولة الإسلامية

وقد تفوق الإنجازات الميدانية لهذه التجارب إنجازات حزب الدعوة بكثير، ولكن حديثنا هنا ليس عن الإنجازات الميدانية وحسب؛ بل عن الإنجاز التأسيسي لفقه وفكر وبنية سياسية شيعية تختلف عن كل التجارب السابقة؛ فقد أسس حزب الدعوة لأول مرة لمبدأ إقامة الدولة الإسلامية في عصر غيبة الإمام المهدي ( 329هـ / 941 م )، وهي دولة تقوم على تأصيل فقهي خاضع لنظرية الشريعة الإسلامية وأحكامها التفصيلية، وليست دولة سلطانية تقوم على التوريث والطقوسية الشيعية؛ كما هو الحال مع الدول الشيعية التي قامت من قبل.وينسجم التأصيل في موضوعة الدولة مع التأصيل الفكري والفقهي للعمل السياسي والتنظيمي والجهادي لحزب الدعوة نفسه؛ لأنه ليس كالحركات النضالية السياسية الشيعية التي انبثقت لمواجهة ظرف معين.

 

حركة المختار الثقفي

وإذا أردنا أن نكون أكثر واقعية؛ فيجب أن نذعن الى حقيقة تاريخية مهمة؛ تتمثل في السبق المستمر للنخب السنية في تحقيق الإنجازات الفكرية والسياسية والميدانية لمصلحة الواقع السني، وتعقبها النخب الشيعية في التشبه بهذا الانجاز؛ لتحقيق مصالح للواقع الشيعي، فقد حاولت الحكومات الثورية والسلطانية الشيعية التأسيس لتقاليد وسلوكيات نضالية شيعية، تحفظ للواقع الشيعي حقوقه وبقاءه؛ وإن كانت مستقلة نسبياً عن الخط الخاص للشرعية الدينية؛ وهو ما حصل - ابتداء - مع حركة المختار بن يوسف الثقفي، الذي كان مؤسساً لأول تحرك ثوري وسياسي وعسكري شيعي؛ مستقل نسبياً عن الخط الخاص للشرعية الدينية الشيعية آنذاك متمثلة بالإمام علي بن الحسين السجاد، ومؤسساً لأول سلوك سلطاني في التاريخ الشيعي، واقتفت بعض النخب السياسية والثورية الشيعية بعد ذلك أثر حركة المختار؛ لضمان مصالح الطائفة وحقوقها؛ عبر الثورات والجيوب الحكومية والحركات السياسية المجتمعية.

 

الحكومة السلطانية الشيعية

ثم تطور الأمر الى التشبه بالحكومات السلطانية السنية؛ وهو ما بدأه العلويون في شمال ايران والحمدانيون في شمال العراق وبلاد الشام، ثم الأدارسة والفاطميون والبويهيون والصفويون. وحيال ذلك اضطر الفقهاء الشيعة الى منح الشرعية لهذه الحركات الثورية والحكومات السلطانية التي لا تستند في أساس حاكميتها الى الفقه السياسي الإسلامي بصيغته اللصيقة بموروث أهل البيت (ع)، وكان الهدف من كل ذلك حماية المجتمعات الشيعية من الاستهداف والاستئصال والمذابح الجماعية والتهجير والتهميش والتمييز الطائفي الذي تتعرض له من الحكومات السنية والفقهاء

السنة، وكذلك فسح المجال أمام العقيدة الإسلامية الشيعية للتحرك بحرية؛ بمعزل عن دعوات التكفير والإقصاء والنبذ الذي تتعرض له باستمرار.

 

إبادة جماعية

وهكذا أصبح للنخب الشيعية فقه سلطاني تتحرك في إطاره، أسوة بالنخب السنية، وأصبح للحكومات الشيعية منصب (شيخ الإسلام) أسوة بالحكومات السنية؛ لمواجهة قوة القهر العسكرية والسياسية؛ بقوة دفاعية تعادلها، ولمواجهة سلطة الفتوى؛ بسلطة أخرى توازيها؛ وإلّا فالإبقاء على الحال كما كان عليه في عصر الدولة الأموية والفترات الأطول من عصر الدولتين العباسية والعثمانية؛ اي قوة وسلطة مهاجمة من جهة، وبيئة مهمشة مدافعة من جهة أخرى؛ سيؤدي بالمجتمعات الشيعية الى الاندثار والإبادة، أو اللجوء الى الغابات والجبال والقلاع والسواحل، وبالتالي الابتعاد عن أصول المعتقد وتبني معتقدات دخيلة، كما حصل مع المجتمعات الشيعية في شمال لبنان وغرب وشمال سوريا وشمال العراق وجنوب تركيا وشرق البانيا وكوسوفو، الذين يعرفون بـ”العلويين”، وهم بالأساس شيعة إماميون إثنا عشريون، وعددهم اليوم أكثر من خمسين مليون نسمة؛ وذلك لعدم وجود سلطة تحميهم في مقابل الإبادة الأموية والقمع العباسي والبطش السلجوقي والأيوبي والمملوكي والعثماني، وهو ما حدث بمفارقة أكبر مع  عشرات الأسر الشيعية في لبنان وسوريا التي اعتنقت الديانة المسيحية، أو دفعت أولادها الى الاحتماء بالأسر المسيحية؛ تخلصاً من القتل والإبادة الجماعية؛ لأن السلطات العثمانية كانت تحرِّم دم المسيحيين وتعدهم أهل ذمة، بينما تهدر دم الشيعي، وتستبيح ماله وعرضه، ولا تنفعه جزية دينية ولا ضريبة دنيوية.

 

ثورة العشرين

وفي العصر الحديث ظلّت النخب الشيعية تتمثل النخب السنية في حراكها الميداني، فانتمى بعضها الى الواقع الأوروبي في تبني القوانين الوضعية والدساتير الزمنية، كما حدث مع النخب الإيرانية خلال “ثورة المشروطة”، أو تقتفي أثر الإسلامويين السنة في التبعية للدولة العثمانية في صراعها مع الغرب، أو تتجه نحو الحركات القومية المعادية للإنجليز والفرنسيين، أو المتحالفة معها، فكانت النتيجة خسارة الشيعة الكبرى بعد “ثورة العشرين” في العراق، ومجيء حكم طائفي عنصري ينتمي الى الحاضنة السنية العربية التي تبلغ نسبتها 16 بالمئة من نفوس العراق، وأذاق الاكثرية السكانية الشيعية الويلات حتى عام 2003؛ حتى ترحّم الشيعة على طائفية الدولة العثمانية.

 

خسارات الشيعة

وكذا خسارتهم في لبنان بعد تأسيس لبنان الحديث عام 1934 ومجيء حكم طائفي يقوم على التحالف السياسي بين الأقلية السنية (ركيزة الاحتلال العثماني) والأقلية المارونية (ركيزة الاحتلال الفرنسي) ضد الأكثرية السكانية الشيعية، وكذا الحال في البحرين؛ الذي ظلت تحكمه أسرة تنتمي الى الأقلية السنية التي قوامها 20 بالمئة من نفوس البلاد، فكان الشيعة دائماً ضحايا الوطن والشعارات الوطنية واللحمة الوطنية والحراك القومي والأممي والثورات التحررية والصدام بالاستعمار والمحتل؛ تمسكاً بالموازين الدينية والمعايير الوطنية والانفعالات الإنسانية؛ الذي يعبرون عنه بالتكليف الشرعي والانتماء الوطني والشعور القومي؛ دون أن يفكروا بواقعية ببناء حاضرهم ومستقبل أولادهم ومجتمعاتهم، أو بمرحلة استلام السلطة كنتيجة لمرحلة العمل النضالي.

 

النخبة السنية

بينما تضع النخبة السنية عينها على السلطة قبل البدء بأي تحرك وطني وديني وقومي وتحرري، وبالتالي؛ عندما ينجلي غبار المعارك وتحين لحظة السلطة؛ يجد الشيعة أنفسهم خارج اللعبة، ويتحولون بالتدريج الى معارضة وأٌقلية سياسية معزولة، وما يتبع ذلك من تهميش وتمييز طائفي وتهجير وإسقاط للجنسية وملاحقة، وصولاً الى المقابر الجماعية؛ على الرغم من أنهم الأكثرية السكانية في العراق ولبنان والبحرين، وفي المقابل ترفع سلطة الأقلية الطائفية شعارات الوطن والوطنية واللحمة الاجتماعية والأهداف الدينية والالتزام القومي والتهديد الخارجي والتآمر الاستعماري؛ لاستغفال القواعد الشعبية وتسويغ أية ممارسات قمعية وتمييزية تقوم بها وضمان بقائها في السلطة.

-  يتبع –

 

بقلم: د. علي المؤمن

 

في المثقف اليوم