كتب واصدارات

مقدمة للمنجز "ومضات الكتاب" الظلال للمؤلف حسن فياض

مقدمة: لانَنْفي إطلاقا أن الأدب بكل أنواعه وتنوعاته وليد ُعصره، تتحكم فيه الظروف الزمانية والمكانية قبل كل شيء انطلاقا مما هو موجود وسائد، وكلما تغير العصر، إلا وكان التجديد في الأدب على أنقاض سلبيات القديم محتفظا بخيط إيجابي رفيع تمتد ذؤابته لتعلق بأغصان الجديد فتنمو وتكبرلتعطي أدبا ناضجا، وهكذا يتطور الأدب نحو الأرقى، بتأسيس أشياء حديثة وجديدة تتجاوز المألوف، بشكل مدهش وغيرعادٍ، بقفزة نوعية على ماسبق، فتبقى خالدة، تساير التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعيشة، لأن الأديب لايكتب من فراغ، بل من تجارب لملمها من حوزة الآخرين، أو المحيط المعيش، أو موروثات ثقافية تسربت إليه عبر الأجداد، فينطلق من النهايات ليخلق بدايات، بتشكيل منتَج جديد مشحون بجوانب فنية من نوع آخر، تنفخ في صوره طاقات جديدة تُحدث تغييرا على المستويين معا :شكلا ومضمونا، ودون شك الأشياء الجديدة تَخلُق جدلا قويا بين رافضيها و مؤيديها .. والقصة القصيرة جدا أو الومضة، أتت بها سيرورة تاريخية مثل سائر الأشكال الفنية والأدبية الأخرى، تحكّمت فيها متطلبات العصر بكل تغيراته وأنماطه.

 

1) تعريف الومضة أو القصة القصيرة جدا

ماهي القصة القصيرة جدا أو الومضة على حد قول بعض النقاد الذين حبذوا هذا المصطلح ؟؟؟ولمَ سميت الومضة ؟؟ وماهو تعريفها ؟؟...

لقد أطلق النقاد عدة أسماء على هذا الجنس الجني الأزرق، الذي نبت من الأرداف دون إذن من أحد، وأمطروه بعدة ألقاب وعدة مصطلحات، لكن لاأحد منها استقر بشكل رسمي متداول ...سموها: لسعة نحلة / قبصة ملح /وخزة إبرة /قضمة /لطمة /حفنة ألفاظ /شذرة /نتفة شعرية /قصة لحظة /ومضة برق/حبة عدس ..إلى آخره..

 وإلى حدود كتابة هذه السطور لم يوضع للومضة تعريفٌ مقنع يُقتَدى به، أو يُتّخذ نموذجا معروفا بشكل ملموس وواضح، لأنها تتميز بعدة خصوصيات، تجعلها في كل تعريف تنفلت من بين الأصابيع، تارة ينعتونها بشذرة سقطت سهوا من قصيدة النثر، وأخرى يرونها وليدةَ الأمثال الشعبية أو الحِكم بشكل متطور مناسب للعصر،  ...غير أنه مهما كانت الأحوال، ومهما كانت الصعوبات، فلابد أن نجد مخرجا لنضع تعريفا للومضة ولو بشكل تقريبي، انطلاقا من خصوصياتها وبعض العناصر التي تتميز بها وتساهم في بنائها : يمكن القول أن القصة القصيرة جدا أو الومضة، هي جنس من الأجناس الأدبية، تعتمد التكثيف بجمل قصيرة جدا، تتركب من ألفاظ قليلة خالية من الزوائد والحشو والوصف، مفخخة بالإيحاء والتلميح والترميز والمجاز، بكل ماتعنيه الكلمة من استعارات تتركب في صور شعرية،  لتعمق المعنى وتوسع الدلالة، فتشكل لوحة لها بعد دلالي عميق، تنتهي أخيرا بقفلة صادمة مدهشة ..

لو اختلف النقاد في التسمية أو التعريف فالومضة جنس أدبي فرض نفسه ليس من فراغ، بل أتت به سيرورة تاريخية، تدحرجت عبر موجاته ليصل إلينا في نضجه الكلي، وإن قوبل بالرفض من قبل البعض بالسخرية والتهكم، والمقارنات مع القصص العادية، التي تعتمد اللغة التقريرية المباشرة في بناء هرمي، ينطلق من المقدمة منحدرا في شلال وصفي للأحداث المتلاحقة، وقوفا عند حل العقدة، حيت يستوعب القارئ نفس المعنى لدى القراء الآخرين وينتهي الأمر.

 

2) ومضات الكتاب من منظوري الخاص

الكتاب الذي بين يدي، يتضمن ومضات متنوعة، بمواقف متعددة وتيمات متنوعة، لها أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية، وحتى الإبداعية، لكن ليست باللغة المعروفة المتداولة بشكلها المألوف، ولا بطريقة وصفية مطنبة مكتنزة بالشروحات، زاخرة بتفسيرات تبعث على الملل، وإنما بحبكة قوية، وتكثيف شديد، يلاعب اللغة ويراقصها في مراوغة عجيبة، لتنمو وتتجدد داخل الفن القصصي، فتنطق بأشياء ليست أحيانا على بال المؤلف، وقد يلتقطها القارئ بعمقه الفكري وجرابه المعرفي الممتلئ، ومهارته في الغوص بين تموجاتها الصاخبة، وهو يذرع عبابها ليصل إلى المحار حيث الدّرر، وحين يقترب من شطها يصطدم بقفلة مدهشة ...ولنأخذ على سبيل المثال قصة (الأديب) (عرّى بنات أفكاره، تحرش بهن النقاد).

لاحظوا معي هذه القصة الجميلة التي سأبحر قد المستطاع في نهرها العميق بغض النظر عن العنوان ...

عرى بنات أفكاره : الأفكار هي إشراقات، لملم الكاتب شتاتَها من المجتمع بكل أوضاعه المأساوية والموجعة، والسارة، من خلال نظرة تأملية عميقة لما يجري ..قد تكون أفكارا عن معتقدات دينية لبعض الطوائف المذهبية، أو التيارات المنغلقة أو المنفتحة ..أوأفكارا سياسية يمينية متطرفة تحابي السلطة، وتخدم آراءها وتدعم توجهاتها، وتصفق لسياستها ...أو أفكارا يسارية متحررة لها بعد إنساني واسع، تناشد العدالة في المواقف والآراء المختلفة، والحرية في التعبير والمساواة في إبداء الرأي بكل ديمقراطية ودون تمييز، وقد تكون أفكارا فلسفية بنزعة إنسانية متجذرة في الطبيعة، للبحث في مكونات الوجود، وعناصره، والقدرة القادرة على ضبط أشيائه ، والكشف عن المنطق الذي يحركها، والتفحص بعين ثاقبة في جوهرها للبحث عن الحقيقة، باعتبار الوجود بكل أسراره وإبهامه نقطة هامة للتأمل والتفكير فيه بعمق، أو أفكارا حرة لاتقبع تحت توجه سلطوي أو سياسي أو ديني، بل لها نزاهتها وموضوعيتها في رؤية الأشياء على حقيقتها دون إملاء أو مهادنة، أو محاباة ؛تواجه المعارك ببسالة نقدية صارمة ، وصراع مرير لمواجهة الأوضاع المختربة، والقيادات المهيمنة، والسياسات غير الصحيحة والخطاطات الفاشلة ...

وهذه الأفكارتشرق في خلد المؤلف حسن الفياض، تتراكم في مسودة ذهنه، تكلمه في صمت، ويحاورها في ظلام العيون المطبقة، داخل زوايا مظلمة يحجبها الكتمان، تختلج في الوجدان، وتعتمل في الذهن، تحركها نبضات القلب في الخفاء، فتجري جريان الدم في العروق ...وقد رفع عنها الكاتب الحجاب والأستار، وأنزلها على الورق لتصبح عارية مكشوفة للجميع، ليقتحم بها حلبة الصراع بين مايحلم به ويتمنى تجسيده على الواقع، والحائل المنتصب ضد تحقيق ذلك، من ظروف غير مواتية، والإمكانات الغائبة، والآليات الحصرية، فيحاول تحقيق حلمه في الإبداع باجتراح تركيبات مناسبة، وصياغات تحتضن توثباته الثقافية لترميم النفس وإسكات خلجاتها ...وهنا تتجمع على حدائقها جحافل النقاد ليقلبوا ترتبتها، وينبشون عن دررها المتخفية، أي قراءة مابين السطور: قراءة تركيبية باطنية /تحليلية/تشريحية، تقوم على تشَرْذُم النص، وتفكيك شبكة العلاقات المعقدة بين مكوناته، من تيمات وحمولات اللغة، والجانب الفني بمختلف عناصره، والأدوات التي اشتغل عليها الكاتب .. وهذا النوع من القراءات يُعَد إبداعا ثانيا من منظور القارئ، عبر تأويل حازم له قواعده وأسسه، لكن دون تجاوز حدود مقصد الكاتب كي تكون قراءة موضوعية بانية وليست فوضوية عبثية ...لن أطيل فهذا باختصار شديد محاولة توسيع رقعة ومضة (الأديب) بالشروحات والتفسيرات المقصودة، وكيف اختزلت في ألفاظ قليلة، لتفسح المجال لشساعة المعنى، وتوسيع الدلالة، ومن وجهة أخرى لتعطي للقارئ إمكانية قراءتها من زاويته الخاصة، ومنهجه المعتمد، وطريقته التفكيكية وطقوسه المألوفة التي تساعده على فك تشفيرها ...

 

الخاتمة:

لن أتحاشى الصواب إن خرجت بنتيجة سارة جدا، حول هذا المنجز الرائع (ومضة الكتاب) للمؤلف حسن الفياض، وقلتُ بكل موضوعية ونزاهة أن ومضاته في صغر حجمها تختزل العالم برُمّته بشكل رفيع جدا، تنطلق كالنيازك تشع بضوئها الفوسفوري إلى صميم القلب، فتترك حَرّ وخزة مربكة لعدة اعتبارات :

ــ أولا بلغتها الرشيقة التي هي بخفة الفراشة وثقل المعني ..

ــ ثانيا عمق الدلالة

ــ ثالثا أسلوب مجبول بالاستعارات والانزياحات والإيحاءات والترميز..

ــ رابعا التكثيف

ــ خامسا تخاطب في القارئ حدوسه وفكره، وقدراته ..وبالتالي إعطاؤه إمكانية ليصبح بقراءته مبدعا ثانيا ..

ــ سادسا القفلة المدهشة الصادمة التي تترك أثرها على لسان الوجدان ...

ــ سابعا نصوص زئبقية برخاوة السمكة، لايمكن القبض عليها إلا بعد جهد جهيد ..ولن يستطيع أي كان القفز على أسوارها، إن لم يكن محترفا، ومسلحا بأجنحة معرفية لها مهارتها في التحليق ..

أخيرا أحيي أخي حسن فياض على ثقته الكبيرة في في شخص مالكة عسال وتسليمي نصوصه لقراءتها ...مودتي وتقديري

 

في المثقف اليوم