كتب واصدارات

حزب الدعوة الإسلامية بين التجديد الإصلاحي والانقلابي (16)

ali almomenبما أن حزب الدعوة لم يجب على الإشكاليات (السابق ذكرها في الحلقة الماضية) إجابات رسمية مؤصلة فقهياً وفكرياً؛ فقد أدى ذلك الى تشتت فكري دون شك، وهذا لا يعني عدم وجود محاولات تأصيلية نشرها بعض قادة الدعوة؛ كالدكتور ابراهيم الجعفري ونوري المالكي والسيد هاشم الموسوي والسيد حسين الشامي وآخرين؛ ولكنها ليست مواقف فكرية رسمية مثبتة في ثقافة “الدعوة”، وربما يعود هذا الخلل الى عدم وجود مراكز دراسات تأصيلية معمقة في حزب الدعوة؛ تأخذ على عاتقها الخوض في هذه المهمة، فضلاً عن انقطاع صدور نشرة “صوت الدعوة” الداخلية في هذه المرحلة؛ والتي من شأنها حل هذه الاشتباكات الفكرية وتثبيت الكلمة الفصل حيالها، ولعل الدراسة الفكرية الأهم حول هذا الموضوع هي دراسة الأمين العام لحزب الدعوة نوري المالكي التي نشرها في مطلع العام 2015 بعنوان: “الحركات الإسلامية وتجربة المشاركة في الحكم”، والتي قارب فيها مجمل الإشكاليات والجدليات التي اعترضت الحزب خلال المفصل الثالث (مفصل تأسيس العراق الجديد والمشاركة في الحكم العام 2003)؛ إذ قارب موضوع  مشاركة الإسلاميين في دولة غير إسلامية، وفي ظل ظروف استثنائية؛ بالطريقة المنهجية نفسها التي استخدمها المفكرون الإسلاميون المصريون واللبنانيون والإيرانيون، وجزأ المالكي الديمقراطية الى فلسفة والى أدوات، ورفض فلسفة الديمقراطية لتعارضها مع فلسفة الإسلام ونظرية “الدعوة”، واستنادها الى فكر علماني ومناخات اجتماعٍ سياسي وثقافي وديني لا علاقة لها بمناخات المسلمين وخصوصياتهم، ولكنه دافع عن الأدوات الديمقراطية؛ باعتبارها أدوات فنية تتناسب والخيارات العقلانية، ويمضيها الإسلام، كما فكك إشكالية مشاركة حزب الدعوة في حكم العراق بعد العام 2003؛ أي في حكم دولة غير إسلامية وفي ظل ظروف الاحتلال، وقدم لذلك مسوغات فكرية وواقعية.

 

غورباتشوف إسلامي

ولكن تبقى هكذا إشكاليات أساسية بحاجة الى دراسات موسعة وجهد فكري جماعي ينتج عنه نظرية كاملة تحسم الجدل الدائر بين الدعاة أنفسهم، أو بين الدعاة وخصومهم النوعيين. ولا يختلف الدعاة حول أهمية حسم هذه الإشكاليات في إطار عملية تجديد نظرية “الدعوة” وفكرها وإعادة بناها ونظمها؛ ولكنهم يختلفون في منهجية التجديد؛ فمنهم من يعتقد بالتجديد الانقلابي الشامل؛ وصولاً الى صيغة سياسية وطنية عصرية، ومنهم من يدعو الى تجديد إصلاحي تدريجي؛ وصولاً الى صيغة إسلامية وطنية؛ تحتفظ بأصالة نظرية الدعوة وتعتمد أدوات عصرية. ويعتقد دعاة التجديد الانقلابي بأن التجديد الإصلاحي التدريجي هو إصلاح ترقيعي وغير مجدٍ، بينما يرى دعاة التجديد الإصلاحي تجربة التجديد الانقلابي خطيرة وذات نتائج تدميرية؛ وستأتي بغورباتشوف إسلامي ينفذ منهجيتي (البيريسترويكا والغلاسنوست)؛ ليكون فيه حزب الدعوة من الماضي. ومقتضى هاتين المنهجيتين إنهاء وجود الموروثات الفكرية التقليدية في “الدعوة”، وعزل الحرس القديم التقليدي، أو تحويلهم الى مستشارين في أحسن الأحوال، وتطبيق سياقات وأنساق تنظيمية جديدة لم يألفها الدعاة. والحقيقة أن في مثل هذه الحالات تبرز الحاجة الى تكامل بين العقل التقليدي والنظرية التقليدية والموروثات الفكرية والتنظيمية والحرس القديم من جهة، والعقل التجديدي المؤسَسي والأدوات التجديدية من جهة أخرى؛ ليكون التجديد منهجياً علمياً؛ لضمان أصالة الدعوة وعصريتها وقوتها واستمرار تأثيرها الاجتماعي والثقافي والسياسي.

 

بدائل فكرية

وفي إطار التوازن بين التمسك بنظرية “الدعوة” وثوابتها الأصلية، وضغوطات الواقع العراقي؛ يمكن البحث عن ثوابت جديدة منسجمة مع الواقع ومقبولة من النظرية؛ لتكون البدائل الفكرية لأسس النظرية السياسية للدعوة؛ ليتحقق مفهوم توطين نظرية “الدعوة”، ومنها مثالاً:

1- الإسلامية الحضارية بجرعاتها المقبولة شرعاً وعرفاً، وكما يفرضها الواقع العراقي؛ بديلاً عن النظرية المتخمة بالايديولوجيا.

2- المذهبية المعتدلة العقدية الفقهية؛ بديلاًعن اللامذهبية أو المذهبية الطقسية.

3- التغييرية الاجتماعية؛ بالمفهوم القرآني؛ بديلاً عن التغيير بمفهومه الحركي.

4- الاصلاحية؛ بديلاً عن الانقلابية؛ في الحكم وشكله وبنيته، والدولة ومؤسساتها.

العصرية؛ بمعنى عصرنة الخطاب الإسلامي وانفتاحه، وتحديث الوسائل والأساليب الحزبية والشكل التنظيمي.

5- الوطنية؛ بمفهومها المقبول شرعاً؛ بديلاً عن العالمية وعن تصدير الشريعة الى العالم.

 

ثورة المشروطة

لم يفرق تراث الحركات الإسلامية؛ ومنها حزب الدعوة ـ ككل التراث السياسي الاسلامي ـ بين مصطلحات الدولة والحكومة والنظام السياسي، وهو الأمر ذاته بالنسبة لمفاهيم الحاكمية والسيادة والشرعية والمشروعية؛ كما درجت عليه الدراسات الحديثة في فروع الفقه السياسي الاسلامي والقانون الدستوري الاسلامي؛ التي افترضت أن الشرعية والحاكمية تعالجان البعد الايديولوجي الفكري الفقهي للدولة الاسلامية؛ بينما تعالج المشروعية والسيادة البعد القانوني الحديث للدولة الاسلامية.

وكان الفقهاء الإيرانيون المعاصرون أول من استخدم هذه المصطلحات ـ ذات الجذور العربية ـ باللغة الفارسية في بحوثهم وكتاباتهم خلال ثورة المشروطة في إيران عام 1906؛ كالشيخ الميرزا النائيني والشيخ عبد الله النوري، وكذلك مراسلات الشيخ الآخوند الخراساني والسيد عبد الله البهبهاني والسيد كاظم اليزدي والسيد محمد الطباطبائي (فقهاء المشروطة والمشروعة)، واختلطت بالمصطلحات القانونية والسياسية الغربية الحديثة التي كان يطرحها المثقفون العلمانيون في ثورة المشروطة، وكان اختلاط المصطلحات والمفاهيم أحد أسباب الملابسات فكرية وسياسية وأعمال عنف شديدة بين دعاة التغريب من جهة، وبين دعاة المشروطة ودعاة المستبدة (وكلاهما ينتمي الى جبهة التأصيل) من جهة أخرى، وعند ترجمة هذه الكتابات الى العربية وقع المترجمون أيضاً في إشكاليات فكرية وقانونية أساسية؛ ولاسيما ما يتعلق بمصطلحات مشروعة ومشروعية وشرعية وحاكمية وحكومة ودولة وغيرها؛ على اعتبار أن استخداماتها العربية ومداليلها القانونية تختلف عنها بالفارسية؛ بالرغم من أن جميع جذور هذه المصطلحات عربية، ثم تعمقت إشكالية المصطلحات بعد دخول ترجمات كتب الشيخ أبو الأعلى المودودي من اللغة الأوردية الى العربية، وتبنتها الحركات الاسلامية المصرية، ونقلها عنهم الإسلاميون الشيعة، ولذلك حديث تخصصي طويل طرحناه في مطلع تسعينيات القرن الماضي خلال ترجمة رسالة الشيخ الميرزا النائيني وبحوث الشيخ عميد زنجاني وغيرهما.

 

نظام الدعوة السياسي

وبالانتقال الى الجانب المنهجي؛ كمدخل لبحث موقف حزب الدعوة من الديمقراطية؛ فان بحث النظام السياسي في فكر “الدعوة” يعتمد على ثلاثة أنواع من المصادر:

1- مصادر فكر حزب الدعوة في موضوع الحكم؛ ومنها نشرة “الأسس” التي كتبها السيد محمد باقر الصدر، وبحوثه التالية المجموعة في كتاب الاسلام يقود الحياة، لاسيما “لمحة فقهية” و”الدولة الاسلامية”، وبحث “شكل الحكم” المنشور في العدد 32 من نشرة “صوت الدعوة” الداخلية، وكراس “شكل الحكم” المعدل سنة 1981، والنظام الداخلي لعام 1982، ومقالات متفرقة موجودة في ثقافة الدعوة ( قسم الفكر السياسي). ومن هذه المصادر يتم استخراج البعد الفكري للدولة في فكر الدعوة.

2- الكتب المنهجية القانونية في مواد النظم السياسية والقانون الدستوري والقانون الدولي؛ لاستخراج التعريفات العلمية لمصطلحات الدولة القانونية وأركانها والسيادة والحكومة الشرعية والحكم والنظام السياسي؛ لتكييف الدولة الفكرية التي يتبناها حزب الدعوة مع الدولة القانونية التي يعترف بها القانون الدولي.

3- مصادر الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الإسلامي كما كتبها الفقهاء القانونيون الإسلاميون؛ أمثال الشيخ عباس علي عميد زنجاني والدكتور محمد هاشمي والدكتور مصطفى محقق داماد؛ بهدف الاستفادة من التكييفات الفقهية والفكرية الإسلامية المعاصرة لموضوع الدولة المقبولة إسلامياً ( فقهياً ) والمشروعة قانونياً.

ومن خلال الموائمة الفكرية الفقهية القانونية؛ يتم تقديم رؤية “الدعوة” في نظام الحكم والدولة، والقواعد الشرعية التي تسمح للدعوة بالمشاركة العلنية الرسمية في نظام غير إسلامي؛ مع الأخذ بالاعتبار حجم ونوع ومجال المشاركة، أي أنها رؤية تعبر عن موقف حزب الدعوة النظري والعملي؛ على وفق ما يتطلبه واقع الدولة العراقية في مرحلة ما بعد عام 2003، ليكون التكييف الفكري مرتكزاً الى دولة قائمة؛ بكل ملابساتها الفكرية والشرعية؛ وهو تكييف يوفق ويوائم بين الدولة الفكرية التي يؤمن بها حزب الدعوة وتأسس بهدف إقامتها، والدولة العراقية التشاركية القائمة من جهة اخرى، والدولة القانونية كما يعترف بها القانون الدولي والقانون الدستوري من جهة ثالثة.

 

بحوث ودراسات

والدراسات الناجحة التي يعول عليها علمياً في موضوع مشروعية الدولة القانونية وشرعيتها الاسلامية، هي التي تستخرج مصدر الشرعية الأرضية للدولة ومصدر شرعية الحكومة؛ سواء كان إذن الفقيه أو العقد الاجتماعي أو رأي أغلبية الأمة، أو الثلاثة معاً. أما البحوث الفقهية المحضة أو التنظيرات العامة (اللازمكانية) في مجال النظرية السياسية الاسلامية والنظام السياسي الاسلامي والدولة الاسلامية ونظام الحكم؛ والتي يفيض بها التراث الفقهي والفكري والفلسفي الإسلامي، فلم تعد هناك حاجة اليها؛ لأنها تتحدث عن الدولة كمفهوم ذهني مجرد؛ لا زمان لها ولا مكان؛ خارج الواقع الجغرافي والتاريخي، وغير محكومة بقواعد القانون الدولي والقانون الدستوري وحقائق الجغرافيا.

وعلى صعيد بنية الدولة؛ فإن رؤية حزب الدعوة الأصلية اليها هي رؤية ايديولوجية؛ فهو يدعو الى الدولة الفكرية؛ أي الدولة المتشكلة على أساس عقائدي فكري، وليس على أساس قانوني وضعي، ويقصد بها الدولة الإسلامية التي تعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بكل تفاصيلها وفي كل مجالات الحياة، وكذلك الأمر بالنسبة للأمة؛ فهو يؤمن بالأمة المتشكلة فكرياً وعقائدياً، وليس الأمة المتشكلة قومياً أو سياسياً.

 

التأصيل الأساس والمرحلي

وتفرض هذه الحقائق على حزب الدعوة نوعين من التأصيل للدولة أو النظام السياسي الذي يتبناه:

النوع الأول: التأصيل الأساس؛ الذي يتطابق مع نظرية “الدعوة” وفلسفة وجودها، بمعنى أن يكون هذا النظام اسلامياً خالصاً؛ بكل أبعاده العقائدية والفقهية الشرعية التي حددتها أدبيات حزب الدعوة وأسسها، وليس نظاماً توليفياً، ويكون هذا التأصيل خاصاً بالدولة التي يهدف حزب الدعوة الى تأسيسها في زمان ما ومكان ما، ورغم مثالية هذا الهدف؛ ولكنه يرمز الى التصاق حزب الدعوة بركائزه الدعوية السياسية الأصلية. وهذا اللون من التأصيل أنتجه الإمام الخميني؛ إذ عمل في نظريته “الحكومة الإسلامية” على نسف كل أنواع الأنظمة الوضعية؛ واستبدلها بدولة الولي الفقيه، وهي صيغة مختلفة من الناحية الدستورية عن كل النظم السياسية المعروفة.

النوع الثاني: التأصيل المرحلي؛ الذي يراعي حقائق الزمان والمكان ومتطلباتهما، وفيه يتنزل حزب الدعوة الى القبول بأنساق وضعية وآليات أرضية من نتاجات مشاريع حضارية أخرى؛ كالديمقراطية والليبرالية والمدنية مثلاً، مع الأخذ بالاعتبار أن لا يمثل هذا القبول قراراً سياسياً تتخذه القيادة؛ بل خيار فكري قائم على دراسات وبحوث منهجية. وهذا اللون أنتجه الشيخ الميرزا النائيني خلال “ثورة المشروطة” في إيران؛ إذ عمل في رسالته “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” على التوليف بين ثلاث ركائز:

1- الدولة الوطنية الملكية ( موروث الأمة الإيرانية)

2- النظام التعددي الانتخابي على وفق القانون العصري ( آليات الديمقراطية)

3- سياقات التشريع المقبولة فقهياً (إشراف الفقهاء الدينيين على التشريعات)

ومن خلال هذه النظرية حقق الميرزا النائيني هدفي المشروطة والمشروعة في آن واحد، وهو ما يحتاجه حزب الدعوة تحديداً في عراق ما بعد العام 2003.

(يتبع)...

  

بقلم: د. علي المؤمن

 

في المثقف اليوم