كتب واصدارات

تقديم لديوان بوح الغريب: للشاعر نور الدين المتوكل

ridowan alrokbiالشعر غوص في أعماق الذات الإنسانية، واستنطاق لمكنوناتها الباطنية، فهو الحقيقة في أسمى تجلياتها وأبهى صورها، يأسرك ليسافر بك الى عوالم خفية، بحثا عن المجهول الذي يسكننا. فالشعر بهذا المعنى هو القوة الاصلية بما هي ذات الحقيقة التي تصدر عن العمل الفني، وهي في نفس الوقت الهاجس الذي يسعى الى التعبير عنه كطبيعة روحية. فهو بهذا المعنى لا يتحقق الا بوصفه عملا شعريا ما دامت القوة التي يصدر عنها هي روح الحقيقة ذاتها بما هي طبيعة شعرية وما دامت غايته التعبيرية كحقيقة فنية، هي ان يصل الى الامساك بما يجعل من كل ممارسة فنية قولا شعريا. لا يهم عند هذا الحد ان تختلف الاساليب والممارسات الفنية وتتعدد، وانما الذي يهم ان ما يشكل قوام الحقيقة لا يقال الا على نحو شعري.

الشعر مسكن الوجود، يغوص في أعماق الذات الإنسانية، ليكشف مجاهلها، ويفك طلاسم هذا الكائن المجهول في عمق كينونته. فهو لا يتطابق إلا مع الأفكار اليقظة الشغوفة بالمجهول، والمنفتحة على الصيرورة، فليس هناك من شعر إلا حيث يكون ثمة خلق وإبداع مطلق، يكشف عن الحركة الباطنية لروح الأشياء وعمقها. فالشعر كما يقول Novalis تمثل لعمق روح العالم الباطني في كليته.

فالشعر هو القوة الأصلية الضاربة في أعماق روح الإنسان والطبيعة المطمورة تحت رماد الجهل المكدس في باطن الناس، والذي لا يكف عن التكتم والاختفاء باعتباره قوة سرية، وعليه يحاول الإبداع/ الشعر الكشف عن هذا المستور والغوص في باطن الذات الإنسانية، ليترجم قلقها وألمها وأملها في لوحة تصويرية بلغة صادقة، بعيدة عن التيه الخطابي، وعن التصنع والتزخرف اللفظي، الذي يلوي عنق التجربة ليحولها إلى زيف لفظي ووهم شعري. 

فالكتابة الشعرية تعني محاولة قول حقيقة الوجود، بما هو حقيقة مقدسة، بل إن هذه الحقيقة هي أكثر من ذلك ما تكمن فيه ماهيتها من حيث هي الموطن الأصلي للروح والعمق الذي ينبجس منه الأصل نفسه، كما يؤكد ذلك هيدجر. فهذه الحقيقة هي الأساس أو العمق الذي يطبعه القلق والتوتر، إن العمق الكئيب وكآبة الأعماق هي مصدر غناء الشاعر وانجذاب الفنان... ومن ثمة كان ديوان بوح الغريب، محاولة لفهم طبيعة هذا القلق الإنساني الذي ينتابني في كليته، لذلك جاءت هذه النصوص الشعرية لتترجم هذا الإحساس العميق بالغربة والضياع في غياهيب هذا العالم المليء بمعاني الظلم والاستبداد والقهر...

ديوان بوح الغريب، هو باكورة تجربة شعرية صادقة تترجم عمق الاكتواء برمضاء الغربة، راجيا أن يجد فيه القارئ بعض لإجاباته وأسئلته التي تؤرقه في سيرورته الوجودية. وأن يكون – الديوان – قد لامس بعض الجراح وحاول تضميدها عبر القصيد.

ديوان بوح الغريب للشاعر نور الدين المتوكل، هو باكورة اعماله الفنية، وبوح بمكنونات الذات المكتوية برياح التغيير على واقعها المزري، وتامل في واقع فتنوي انسلخ فيه الإنسان عن فطرته، وهو استجابة طبيعية لادراكات الشاعر المهوس بالكتابة بما هي ممارسة نقدية لمقاربة الواقع ومحاورة له في لوحة شعرية تتسم بالعمق وبحسن التصوير، وبما هي استشراف للمستقبل ورسم لبعض معالمه التي يتصورها الشاعر. فكان البوح للغريب في زمن الاغتراب الوجودي والحضاري، مسكونا برؤية شعرية متميزة هي بمثابة المنظور الفلسفي كوعي بالكتابة وبحقيقتها.

وعلى العموم فديوان بوح الغريب هو تعبير صادق عن عمق المأساة الإنسانية، وعن التيه الوجودي لهذا الكائن في زحمة أسئلة انطولوجية تؤرق الشاعر المبدع نور الدين المتوكل، فيبحث لها عن أجوبة في عالم الشعر الموسوم بأسلوب فني يتميز بالكثيف والاختزال واقتناص اللحظة الزمنية العابرة، وبلغة شاعرية أخاذة، تمتزج فيها ضراوة ومرارة الواقع المعيش للشاعر، بتطلعات استشرافية إلى غد يحفر في الذاكرة معاني الإنسانية الخالدة.

ديوان بوح الغريب هو سنفونية شعرية تتراقص على إيقاعات التشكيل اللغوي والتصويري الذي يعكس جرح وكلوم الأمة الإسلامية، وفي الوقت ذاته يتطلع إلى تقديم إشراقات. فالخيط الناظم بين جميع قصائد الديوان، يتجلى في طبيعة اللغة المائية المتسمة بقصر دفقاتها الشعورية، التي تحمل في طياتها مشعل الابداع الفني في زحمة مختلف الحساسيات الشعرية الجديدة. وكذا على مستوى الإيقاع الشعري المتجلي في الاختزال الدلالي والتكثيف الإيحائي، الذي يختزل جوهر العملية الإبداعية عند الشاعر، الحاملة لرؤية خاصة تميز كتاباته الشعرية. فالشاعر المبدع نور الدين المتوكل مهووس إلى حد الجنون بسحر الإبداع والتخييل يصور ما لا يراه الإنسان العادي في سيرورته الوجودية.

إن القارئ لديوان بوح الغريب سيستمتع بلا شك باللغة الإيحائية الراقية المفعمة برؤية فلسفية، وبجمالية الحبك الشعري المأسور بعالم الدهشة والتخييل الشيء الذي سيجعل المتلقي يرقص.. ويسافر.. ليرسو في جزيرة شعرية تربتها حفر في الذاكرة الموشومة بالضياع والتيه الهيدكري، وأشجارها نصوص شعرية، عميقة الدلالة والمعنى، وأغصانها لغة رمزية إيحائية مشحونة بأبعاد ودلالات متعددة، وثمارها نفس جديد في الكتابة الشعرية.      

 

رضوان الرقبي - اكادير 

 

في المثقف اليوم