كتب واصدارات

حزب الدعوة وإشكالية حكم العراق بعد عام 2003 (28)

ali almomenفي مرحلة البناء الفكري والتنظيمي التي عاشها حزب الدعوة بسرية طيلة 22 عاماً؛ نظّر كثيراً للحكم العقائدي العادل الذي ينشد تطبيقه، وكان تنظيراً مثالياً تنقصه التجربة، ولكن مرحلة المعارضة العلنية والصراع مع حكم البعث الذي استمر من عام 1979 وحتى 2003؛ ومعايشة الحزب لنشوء الدولة الإسلامية الإيرانية ومساراتها، ثم معايشته القريبة لتجربة حزب الله المنفتحة في لبنان، وكذا تعرف الدعاة عن قرب على واقع الديمقراطيات التقليدية في أوروبا، وتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا؛ دفعت حزب الدعوة الى  تنظيرات جديدة؛ أسدلت الستار على كثير من أفكار ما قبل 1979، وكان هذا التنظير أكثر قرباً الى الواقع، ويتلمس تجارب التطبيق في أكثر من بلد.

وحين دخل حزب الدعوة الإسلامية معترك المشاركة في حكم العراق دخولاً مباشراً ومفاجئاً؛ دون تحضيرات فكرية وفقهية كافية، ودون استعدادات سياسية وتنظيمية مناسبة؛ فإن مشاكل تثبيت السلطة، وأزمات إدارة الحكومة والدولة، ومقاومة المد الإرهابي المضاد؛ أخذته بعيداً عن التنظير لحل أزمات العراق حلاً علمياً حقيقياً؛ مستمداً من نظريته الإسلامية؛ وصولاً الى بناء الدولة الإنسانية المؤمنة العادلة؛ التي نادى بها منظرو الدعوة الكبار: السيد محمد باقر الصدر وعبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي ومحمد مهدي الآصفي. وبقي "الدعاة" منذ وصول السيد إبراهيم الجعفري وعز الدين سليم عام 2004 الى رئاسة مجلس الحكم الانتقالي، ثم قيادة نوري المالكي البلاد في دورتين حكوميتين من 2006 وحتى 2014، وحتى تشكيل حيدر العبادي حكومته عام 2014؛ منشغلين بالواقع اليومي الصعب والمأزوم.

والحقيقة إن تجاوز الدعاة لأوجاع تنازل نوري المالكي عن رئاسة الحكومة العراقية، ومخاضات تشكيل حيدر العبادي حكومته، وما كشفه الحدثان من صور ومشاهد؛ فرضت عليهم التأمل والتفكير العميق في سلوكياتهم السياسية، والمراجعة الحقيقية لفكر حزب الدعوة ونظريته وواقعه، والعلاقات بين أجنحته، والتنظير لمبادئ الحكم والدولة؛ كما تراها نظرية “الدعوة”، وكما يفرضه الواقع العراقي الجديد وتنوعه الفكري والمذهبي والقومي، وإيجاد مقاييس ومعايير للتوازن بين ممارسة الدعوة الدينية الإسلامية، وممارسة السلطة السياسية؛ أي بين الدعوة كمنظومة دعوية تبليغية دينية، وبين الدعوة كحزب سياسي يمارس السلطة العامة؛ كيلا يرتفع منسوب السياسة وينخفض منسوب الدعوة. ويخرج هذا الجهد بصورة بحوث ذات تخصص دقيق في نظرية الدعوة وفكرها، وفي العقيدة والفقه السياسي الإسلامي، وأخلاق الحكم، وفي علوم الاجتماع و القانون والسياسة والاقتصاد والإعلام. ولعل المبادرة الفكرية الجادة الوحيدة في هذا المجال؛ هي التي طرحها أمين عام حزب الدعوة نوري المالكي عبر دراساته الثلاث التي نشرها خلال عام 2015: “حزب الدعوة الإسلامية والقدرة على المراجعة المستمرة” و”العودة الى الدعوة” و”الحركات الإسلامية وتجربة المشاركة في الحكم”.

 

تنحي ابراهيم الجعفري

بعد أن نجح خصوم حزب الدعوة في إجبار السيد إبراهيم الجعفري على التنحي عن الترشح لرئاسة الوزراء في عام 2006، وترشيح “الدعوة” نوري المالكي بديلاً من قيادتها؛ بتشكيل الحكومة العراقية؛ تصوّر الخصوم أن حزب الدعوة دخل في نفق مظلم، وأنهم نجحوا في إضعافه ووضعوه على مشارف الانهيار، ولكن هذا التصور لم يكن مبنياً على فهم عميق لمنهجية حزب الدعوة وأساليب عمله التي تمكنه؛ ككل مرة؛ من الخروج من مشاكله وأزماته ببطئ ونجاح. وكنا كمراقبين متخصصين بحزب الدعوة والحركات الإسلامية؛ نتوقع أن يؤدي تولي مرشح حزب الدعوة رئاسة أول حكومة منتخبة دائمة الى صعود أسهم الحزب جماهيرياً وسياسياً بنسب غير مسبوقة؛ وهو ما حصل بالفعل؛ حتى بعد خروج القيادي الأبرز الدكتور إبراهيم الجعفري من الحزب. كما تحول نوري المالكي خلال حكومته الأولى الى الشخصية السياسية الجماهيرية الأولى في العراق، والقيادي الأبرز في حزب الدعوة؛ ولا سيما بعد انتخابه أول أمين عام لحزب الدعوة في مؤتمر الحزب عام 2007، وكسب الجولة السياسية والعسكرية في عمليات صولة الفرسان في البصرة عام 2008، ثم الجولة المشابهة في الموصل بعد فترة قصيرة، وانعكس هذا النجاح على انتخابات مجالس المحافظات عام 2009 والانتخابات البرلمانية عام 2010؛ إذ تمكن خلالهما حزب الدعوة وحلفاؤه المنضوون تحت “ائتلاف دولة القانون” برئاسة نوري المالكي؛ من اكتساح أصوات الكتلة الشيعية الناخبة؛ وذلك بفعل قوة حضور المالكي في الشارع الشعبي العراقي.

 

شخصية نوري المالكي

ومارس الخصوم السياسيون، وتحديداً أطراف التحالف الكردستاني وفي مقدمهم مسعود بارزاني، والفرقاء السنة المتخندقون في “ائتلاف العراقية” برئاسة أياد علاوي، وبعض الجماعات الشيعية والسنية؛ كالمجلس الأعلى الإسلامي؛ الذين سبق أن أجبروا إبراهيم الجعفري على التنحي؛ الدور نفسه ضد نوري المالكي في عام 2010. ثم انضم التيار الصدري الى المعارضة في محاولة سحب الثقة عن المالكي قبل ذلك بسنتين. ولكن حزب الدعوة تمكن من دفع مرشحه نوري المالكي مرة أخرى نحو تشكيل الحكومة العراقية الجديدة؛ بدعم من المرجعية النجفية العليا والقيادة الإيرانية؛ اللذين طلبا من الأطراف الشيعية تشكيل التحالف الوطني؛ بصفته الكتلة البرلمانية الأكبر؛ الأمر الذي أسقط في يد ائتلاف العراقية السني؛ بعد أن سعى بمختلف الطرق الدفع بمرشحه الشيعي أياد علاوي لتشكيل الحكومة، وبذلك بقي منصب رئاسة الحكومة بحوزة حزب الدعوة للمرة الثالثة على التوالي.

 

وتكرر الأمر في الانتخابات البرلمانية عام 2014؛ حين اكتسح النتائج حزب الدعوة وحلفاؤه في ائتلاف دولة القانون؛ وهي الانتخابات التي حصد فيها نوري المالكي نتائج تاريخية على المستوى الشخصي وعلى مستوى ائتلافه. وأجمع خصوم حزب الدعوة هذه المرة على تجريد حزب الدعوة من امتياز رئاسة الحكومة بأي ثمن؛ لأنهم باتوا مدركين بأن مشكلتهم ليست مع الأشخاص؛ وإن أعطوها غطاءً شخصياً؛ بل أن مشكلتهم مع المنظومة الفكرية السياسية التي أفرزت إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وعلي الأديب وحسن شبر وهاشم الموسوي وعبد الحليم الزهيري وطارق نجم وحسين الشامي وخضير الخزاعي.

وكانت خطوتهم الأولى تتلخص في حرمان نوري المالكي من حق تشكيل الحكومة؛ وهي الخطوة التي نجحوا فيها. ولكنهم اضطروا الى القبول مؤقتاً ببقاء رئاسة الحكومة في حوزة حزب الدعوة؛ في أعقاب خطوتين استباقيتين قامت بهما قيادة الحزب ( أغلبيتها ):

الأولى: ضمان تأييد الإمام السيستاني لإبقاء رئاسة الحكومة في حزب الدعوة؛ والتي أفصحت عنها ضمناً رسالته الجوابية لقيادة الحزب في آب 2014؛ والتي طلب فيها من قيادة “الدعوة” اختيار رئيس وزراء جديد.

الثانية: اتفاق أغلبية القيادة على مرشح بديل عن نوري المالكي هو القيادي في الحزب الدكتور حيدر العبادي.

وفي الخطوتين قطعت قيادة الحزب على الخصوم الطريق لتجريدها من حق تشكيل الحكومة. صحيح أن الخطوة الثانية تمت دون موافقة أمين عام الحزب ومرشحه الأصلي نوري المالكي وقياديين آخرين؛ إلّا أنها حققت للحزب في النتيجة احتفاظه بموقع رئاسة الحكومة.

 

منصب رئاسة الوزراء

ولم يستغرب المراقبون المتخصصون قدرة حزب الدعوة الإسلامية على تجاوز هذه الأزمة؛ رغم عسر المخاض والتباس النتيجة، فقد حصل الحزب على منصب رئاسة الوزراء في عام 2005 وهو يمتلك 15 مقعداً فقط؛ على الرغم من وجود كتل شيعية لديها عدد أكبر من النواب. ثم حصل على المنصب بعد أن حاز على خمسة أضعاف مقاعده في انتخابات عام 2010، ثم سبعة أضعاف العدد في2014 ؛ الأمر الذي يجعل دور الفرقاء السياسيين الداخليين واللاعبين الدوليين الخارجيين؛ تحديداً أميركا وإيران؛ متلخصاً في ترجيح داعية على آخر؛ ليكون رئيساً للحكومة؛ ربما حتى انتخابات عام 2022 .

وقد ظن معظم الفرقاء السياسيين العراقيين أن حزب الدعوة سيتشظى ويتآكل بعد ترشيح حيدر العبادي لرئاسة الحكومة على حساب المرشح الأصلي نوري المالكي؛ ولاسيما أن لكل منهما من يدعمه في قيادة الحزب. ولكن؛ كما فاجأت قيادة الحزب الجميع بترشيح العبادي؛ فإنها فاجأتهم بالاجتماع التاريخي في مساء 13 آب 2014 الذي تنازل فيه نوري المالكي عن حقه القانوني في الترشح لرئاسة الحكومة؛ لمصلحة محازبه حيدر العبادي؛ لينزع بذلك فتيل أزمة كبرى كانت ستطيح بكل شيء.

 

خصوم “الدعوة”

لسنا هنا بصدد شرح تفاصيل المنظومة الايديولوجية والمنهجية والسلوكية لحزب الدعوة الإسلامية؛ والتي تجعله سباقاً الى تحقيق أهدافه، ودقيقاً في معالجة العقبات ومواجهة التحديات، ولسنا أيضاً بصدد شرح طريقة تفكير "الدعاة" كما تفرضها تلك المنهحية؛ ولكن نوضح باختصار طبيعة هذه المنهجية وقواعد تكوينها وكيفية التعامل معها. وهذا الجانب المعرفي مهم جداً في فهم الفرقاء السياسيين لحزب الدعوة؛ سواء كانوا متحالفين معه أو خصوماً له؛ لأن سوء تنظيم العلاقة بين حزب الدعوة والآخرين؛ يؤدي دائماً الى أزمات ومشاكل مستعصية. وقد لاحظنا بعد عام 2003 أن معظم الجهات السياسية تعاملت تعاملاً انفعالياً وارتجالياً مع الدعاة، وظل هذا النوع من التعامل يزيد من أسهم حزب الدعوة ويساعده في الوصول لأهدافه بأسرع وقت؛ مما يزيد من غضب هذه الجهات وتشنجها، ولاسيما الجماعات التي تنتمي الى الحالة الإسلامية الشيعية، وتواجه تحديات مشتركة كبرى.

 

خبرة تاريخية وعالمية

باختصار وبمنهج توصيفي؛ إن حزب الدعوة هو أول حزب إسلامي شيعي عالمي، يمتلك ايديولوجيا شاملة في العقيدة والفكر والثقافة والسياسة والتنظيم والسلوك الجمعي والفردي، ويمتلك منهجا في إدارة المجتمع واستلام السلطة وقيادة العمل السياسي. وقد بلغ عمر حزب الدعوة أكثر من 58 سنة، وهذا العمر مليء بالتحديات والصراعات والتضحيات؛ منذ اليوم الأول لتأسيسه؛ بدءاً بالصراعات والتنافس والتجاذب داخل الحوزات العلمية وعلى تسميات المرجعيات وعلى استقطاب علماء الدين والمثقفين الشيعة من كل دول العالم؛ مروراً بالصراعات مع الأحزاب الشيوعية والقومية والبعثية، وانتهاء بالصراعات المصيرية الوجودية مع السلطات في العراق وإيران ولبنان والبحرين والكويت وغيرها.

أي أن "الدعاة" بطبيعتهم يولدون من رحم الصراعات الفكرية والثقافية والسياسية، والجدل الايديولوجي، والخطر الدائم الداهم، والمعاناة اليومية؛ حتى بات عنوان “عضو في حزب الدعوة” يعني الإعدام والقتل لدى السلطة العراقية قبل عام 2003، ويعني الانحراف الفكري والعقيدي لدى بعض الجماعات الدينية والسياسية الشيعية، ويعني الطائفية والصفوية والمجوسية لدى بعض الجماعات السنية. وظلت استقلالية حزب الدعوة في منهجه وفكره سبباً في معظم انشقاقاته وكثيراً من مشاكله الداخلية والخارجية؛ وإن ظلت بعض سلوكياته وسلوكيات أعضائه توحي بالتولي لإحدى المرجعيات الدينية النجفية أو القمية أو البيروتية أو الطهرانية، أو للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وبالتالي؛ فهو يعد نفسه منذ أن تأسس وحتى الآن؛ كياناً سياسيا دينياً مستقلاً قائماً بذاته.

وقد خلقت الأجواء الصعبة المتفاعلة المتخمة بالغليان الفكري والسياسي طوال 58 عاماً من عمر حزب الدعوة؛ وفي أكثر من بلد؛ خبرة تراكمية سياسية وفكرية كبيرة، وقدرة هائلة على الجدل والفعل لدى “الدعوة” و”الدعاة”، وهذه الخبرة التراكمية التي يمتلكها حزب الدعوة ليست خبرة عراقية وحسب؛ بل خبرة مزيجة فريدة لا تشبه أي من التنظيمات السياسية العراقية أو الشيعية؛ بالنظر لانتماء مؤسسيه وكوادره الى عدة بلدان؛ ولاسيما العراق ولبنان وإيران؛ وهو المثلث الشيعي الأكثر خبرة ونضوجاً سياسياً.

 

بقلم: د. علي المؤمن

 

في المثقف اليوم