كتب واصدارات

علي المؤمن: ظاهرة الإنشقاقات في حزب الدعوة الإسلامية (32)

ali almomenالأسباب العامة للإنشقاق في الجماعات: الأسباب العامة للانشقاقات والتصدعات في الجماعات عموماً، و كيان حزب الدعوة الإسلامية، وكل الكيانات التي تشابهه في المنهج الفكري والنظمي خصوصاً؛ هي أسباب إنسانية ومنهجية عامة. ومن فرضياتها:

1-  إن الانشقاق والتمرد والخروج والتساقط ظاهرة انسانية طبيعية؛ بدأت مع وجود البشرية على الأرض، وكان أول انشقاق هو الذي حصل في بيت آدم (انشقاق قابيل).

2- إن الانشقاقات تكثر في الجماعات الايديولوجية (إسلامية، عنصرية، ماركسية...)، وتزداد كلما ارتفع منسوب الايديولوجيا؛ لأن الايديولوجيا تنطلق من مفهوم احتكار الحق والحقيقة (دوغماتيزم)، بينما تقل الانشقاقات في الجماعات الليبرالية والمصلحية؛ لأنها تتعامل مع مفهوم الحق بوصفه نسبياً ومتعدداً (بلوراليزم)، وتتحمل الخلافات الداخلية ووجود الأجنحة والتكتلات داخلها، وتضيق الجماعات الايديولوجية ذرعاً بالخلافات الداخلية ولا تتحملها، وتحولها الى صراعات ومعارك وانشقاقات؛ لأن كل مجموعة فرعية داخل الجماعة الايديولوجية تدعي امتلاك الحق المطلق الذي يسوغ لها التمرد والتشهير والتهجم والخروج والدم وانتهاك الحرمات؛ فاختلافها تعارضٌ يمنع الاجتماع، ومثال ذلك الانشقاقات الهائلة في صفوف المسلمين منذ وفاة الرسول (ص) وحتى الآن، والتي تفوق كل الأديان والعقائد الأخرى؛ لأن الإسلام هو أكثر العقائد حزماً في الجانب الايديولوجي؛ رغم أن العقيدة الإسلامية هي عقيدة تآلف قلوب وأنفس ووحدة أفكار وتضامن مجتمعي، وكونها تنطوي على كوابح قوية تمنع الارتداد والتمرد والانشقاق.

وبالنتيجة؛ فإن نسبة الايديولوجيا في الأحزاب سيف ذو حدين؛ فكلما ارتفع منسوب الايديولوجيا ارتفع منسوب الخروج على الحزب، ولكن في الوقت نفسه فإن الايديولوجيا المنظمة فكرياً والمدونة بمنهجية استدلالية؛ كفيلة باستمرار حياة الحزب وديمومته، ونرى هذه الظاهرة بوضوح في الأحزاب العراقية الايديولوجية الثلاثة: الحزب الشيوعي، حزب البعث وحزب الدعوة؛ فهي أكثر الأحزاب العراقية تعرضاً للانشقاق منذ تأسيسها؛ ولكنها استمرت بفاعلية ولا تزال قوية في حواضنها الاجتماعية؛ بالرغم من أن متوسط عمرها هو سبعون عاماً.

واللافت أن أعضاء الأحزاب الايديولوجية هم أكثر شعوراً بالمسؤولية تجاه أحزابهم قياساً بأعضاء الأحزاب الليبرالية والنفعية، وأكثر تضحية من أجلها ومن أجل أهدافها.

3- تتشظى الجماعات الايديولوجية في ظل عدم وجود قيادة كارزمية قوية تمسك بخيوط الجماعة، وتشكل عقلاً مركزياً جامعاً، أو في ظل عدم وجود مرجعية عليا روحية تتدخل وتردع وتوجه.

 

الأسباب الخاصة للإنشقاقات في حزب الدعوة

أما الأسباب التفصيلية الخاصة بظاهرة الانشقاق والإنقطاع والتصدع والتساقط في حزب الدعوة الإسلامية؛ فيمكن تلخيصها بما يلي:

1- إن حزب الدعوة الإسلامية هو حزب ايديولوجي تنطبق عليه الفرضيتان السابقتان (2 و3)، والعامل الايديولوجي هو عامل ذاتي بنيوي أساس، وتأثيره في الانشقاق أقوى من العوامل الخارجية. ومن أهم مخرجاته مزاعم الأفراد والمجموعات المنسجمة فكرياً ومزاجياً ومصلحياً داخل “الدعوة”؛ تمثيل الحزب وفكره وسلوكه، واحتكار هذا الحق.

2-  إن حزب الدعوة الإسلامية - من وجهة نظر علم الاجتماع الديني - نشأ في بيئة ضاغطة على أعضائه وطاحنة لانتماءاتهم الفرعية، وتعتمد معادلات معقدة وصعبة، وهي البيئة النجفية الخاضعة لمعادلات المرجعيات والبيوتات والبرانيات والشأنيات، فكان الانتماء لحزب الدعوة يشكل انتماءً فرعياً لعلماء الدين من أبناء الاجتماع الديني النجفي، وليس انتماء أصلياً؛ على عكس انتماء غير المعممين أو المعممين من خارج الاجتماع الديني النجفي؛ فعندما يوضع عالم الدين المنتمي الى الإجتماع الديني النجفي؛ بين خيار الانتماء للحزب وخيار الإنتماء لاجتماعه الديني الأصلي؛ فإنه يختار الأخير؛ لأنه انتماؤه الأصلي والأساس، وهي حالة لا تزال قائمة؛ أي أنها ليست ظاهرة تاريخية في حزب الدعوة.

ولم يتخلص حزب الدعوة من الضغط الهائل للاجتماع الديني النجفي إلّا حينما انتقلت القيادة الى بغداد؛ وتحديداً حين هيمن عليها غير علماء الدين بعد عام 1963. ولو بقي الحزب في النجف قيادة وفكراً وسلوكاً؛ فسيبقى محاصراً بقواعد الاجتماع الديني النجفي؛ ولتحجّم قبل أن يبلغ عامه الخامس؛ لأن الصدام في المساحات المشتركة كان سيأتي لا محال. ولكن في الوقت نفسه؛ حمل التخلص النسبي للحزب من ضغط الاجتماع الديني النجفي؛ حمل معه بذور انشقاقات جديدة، وخلق حالات من الضبابية في انتماء شخصية الحزب الى تفاصيل عقيدة أهل البيت؛ استمرت حتى عام 1975؛ وهو العام الذي جهر فيه حزب الدعوة بانتمائه لكل تفاصيل مذهب آل البيت. ثم عاد الحزب بعد سقوط نظام البعث عام 2003 الى ضغط الاجتماع الديني النجفي، والذي لن يتخلص منه إلّا بتنظيمه وتقنينه؛ بما ينسجم والمنظومة الإجتماعية الدينية الشيعية الأصلية؛ سواء في ظهورها المرجعي أو الولائي.

 

غياب القيادة المهيمنة

3-  طبيعة القيادة الجماعية ونوعية الهيكلية التنظيمية، وعدم وجود قيادة كارزمية ضاغطة مهيمنة؛ في ظل منظومة نفسية اجتماعية عراقية عربية شرقية؛ تعيش رواسب البداوة والريف؛ ظلت ثغرة تنفد من خلالها عوامل الانشقاق والتصدع؛ بينما تقل هذه الظاهرة في ظل وجود قيادة ضاغطة مهيمنة تستمد قوتها من طبيعة البيئة المجتمعية التي تتماهى مع هكذا قيادة وتذعن لها.

4- عدم وجود مرجعية عليا للحزب وقيادته؛ تعمل على حل الخلافات وتردع المخطئين؛ كأن تكون ولاية فقهية أو مرجعية دينية، أو على أقدر تقدير هيئة إرشادية تحكيمية عليا تكون خارج إطار قيادة الحزب والدولة؛ شبيهة بالهيئة الشرعية في حزب الله لبنان، او المجلس العلمائي الراعي لحركة الوفاق في البحرين، وهو ما ينسجم مع طبيعة النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

5-  تأثير الفكر التربوي لحزب الدعوة على الداعية، وأساليب صقل شخصيته كـ (قائد في الأمة)؛ وصولاً الى تحوله لواحد من قادة الأمة بوصفه من نخبة الدعوة القائدة للأمة، وخلق حالة المسؤولية لديه تجاه "الدعوة"؛ كونه (دعوة تمشي على قدمين)، وغيرها من مفاهيم كبيرة ومصطلحات أكبر؛ ربما تحفز الداعية على الفعل وتدفعه للعمل والإنتاج والعطاء؛ ولكنها في الوقت نفسه تتسبب في حالات انتفاخ وتعالي لاشعورية ولا إرادية؛ لا ينفع مع بعضها أساليب التهذيب والإرشاد ومواعظ التواضع. ومن جانب آخر فإن الداعية حين يتفاعل وينشط ويقدم؛ ثم يريد ممارسة دور القائد والمسؤول داخل الحزب؛ فإنه يكتشف أنه ليس قيادياً ولا مسؤولاً، ولا يمثل "الدعوة"، ولا (دعوة تمشي على قدمين)؛ بل أن “الدعوة” هي مجموعة القيادات والكوادر التاريخية حصراً، وهذا ما يجعله يتمرد وينشق ويتكتل؛ أما حفاظاً على تاريخه وحضوره في حزب الدعوة من الضياع، أو شعوراً بالمسؤولية تجاه "الدعوة"؛ جراء ما يعتقده أخطاء لدى القيادة.

 

مصالح وتفسيرات

6- الاختلاف في المصالح الشخصية وفي أساليب إدارة المواقع وتسنمها؛ سواء على مستوى المواقع الحزبية أو مناصب الدولة، ويلعب اختلاف الأمزجة وعدم القدرة على تطويعها دوراً مهماً في هذا المجال. ثم في مرحلة الدولة برزت ظاهرة التداخل والجمع بين المسؤوليات التنظيمية والمسؤوليات الحكومية لتلعب دوراً سلبياً أيضاً في الخلافات الشخصية؛ ولاسيما أن الأغلبية الساحقة من الدعاة دخلوا في دوامة العمل الحكومي في العراق بعد عام 2003.

7- التفسيرات والقراءات المـختلفة والمتعارضة للأفكار والأحداث والوقائع المستجدة، وتبني بعض الدعاة أفكار جديدة تتعارض مع الفكر التاريخي للدعوة أو ما نستطيع أن نسميه بالثوابت والتابوات؛ بصورة إفراط وتفريط وعدم توازن. ومن هذه الأفكار المتعارضة: التمسك بقيادة علماء الدين والالتزام بأوامر المرجعية الدينية والذوبان في مؤسسات ولاية الفقيه، أو ما يعاكسها في الاتجاه؛ أي تبني الانتماء الوطني حصراً، والإيمان بالليبرالية والديمقراطية (كفلسفتين وسلوكين سياسيين)، والابتعاد عن قيادة علماء الدين، وظل هذا العامل فاعلاً منذ عام 1979 وحتى الآن؛ بسبب عدم حسم حزب الدعوة موقفه الفكري والسياسي في كثير من الملفات، وتركها لعنصر الفعل ورد الفعل.

8- العامل الخارجي المهم، الذي برز بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو عامل مهم جداً؛ تسبب في تصدعات وانشقاقات عديدة؛ سواء في تنظيم «الدعوة» العالمي أو تنظيم «الدعوة» العراقي، وكان هذا العامل يجد بيئات ملائمة داخل الحزب؛ تتماهى مع النموذج الفقهي والفكري والسياسي والسلوكي الذي تطرحه الأجهزة الثورية في الجمهورية الإسلامية، وقد خفّ تأثير هذا العامل كثيراً بعد عام 2003.

وقد ظلت هذه العوامل (الثمانية) الخاصة؛ تتحوّل بسرعة من القوة الى الفعل بسبب عدم تحمل الخلاف في الرأي والموقف والقراءة داخل الحزب؛ بل يؤدي الخلاف غالباً الى صراع داخلي وتراشق متبادل بالتقصير، ثم انشقاق او خروج فردي او جماعي.

 

أجنحة حزب الدعوة الحالية

هناك ثلاثة أنواع من الانشقاقات الحزبية؛ الفردية والجماعية:

الأول: خروج على القيادة والتنظيم.

الثاني: خروج على النظرية والفكر.

الثالث: خروج على التنظيم والفكر والمنهج معاً.

وقد شهد حزب الدعوة عدداً كبيراً من حالات الخروج الفردية منذ تأسيسه؛ على خلفية تغيير المسار الفكري أو العملي لهؤلاء الأفراد، أو الخلاف مع القيادة، إضافة الى سبع حالات انشقاق؛ لا يزال أربعة منها قائماً الى جانب الحزب الأم.

ويتوزع "الدعاة" حالياً على خمسة تنظيمات؛ تمثل أجنحة مدرسة حزب الدعوة الإسلامية:

1- "حزب الدعوة الإسلامية"؛ أمينه العام نوري المالكي، وهو الحزب الأم؛ أي التنظيم الأكبر حجماً والأهم نوعاً، والذي تجتمع فيه معظم قيادات الحزب التاريخية ورعيله الأول وكوادره الأساسيين. وينتمي اليه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ورئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، ويترأس أمينه العام نوري المالكي "ائتلاف دولة القانون"، الذي يعد أكبر ائتلاف سياسي حكومي في العراق منذ تأسيسه عام 2009،  كما يترأس القيادي في الحزب علي الأديب كتلة ائتلاف دولة القانون في البرلمان العراق الذي يضم حوالي ( 103) نائباً، وهي الكتلة الإئتلافية الأكبر في البرلمان بعد عام 2014،  ويمتلك الحزب أكبر كتلة حزبية في البرلمان هي "كتلة الدعوة" التي تضم ( 56 ) نائباً يرأسها عضو مجلس شورى الحزب الدكتور خلف عبد الصمد.

وقد تعرض حزب الدعوة (الأم) الى تصدع خطير في أعقاب قضية استبدال قيادة الحزب مرشح الحزب لرئاسة الحكومة نوري المالكي بقيادي آخر هو حيدر العبادي، وتسبب ذلك في بروز ثلاثة توجهات (لم تبلغ مرحلة تحولها الى أجنحة) في الحزب:

أ‌- توجه الأكثرية الذي يقوده الأمين العام نوري المالكي.

ب‌-  توجه الأقلية الذي يقوده رئيس الوزراء حيدر العبادي.

ت‌- التوجه المحايد الذي يبرز فيه علي الأديب.

كما تعرضت "كتلة الدعوة" الى التصدع والإنقسام الميداني بعد الإعتصامات البرلمانية المطالِبة بإقالة رئيس مجلس النواب العراقي، ووقوف جزء من أعضاء الكتلة الى جانب المطالبين بالإقالة وتشكيلهم ماعرف بـ "جبهة الإصلاح" التي تضم مايقرب من (100) برلماني من جميع الطوائف والقوميات؛ بينما كان الجزء الآخر من الكتلة خارج صفوف المعتصمين ولم ينضموا الى جبهة الإصلاح وبلغ هذا الإنقسام الرفوف العليا للحزب أيضاً؛ فكان رئيس "كتلة الدعوة" خلف عبد الصمد مع المعتصمين وضمن جبهة الإصلاحات، بينما لم يقف القيادي في الحزب علي الأديب رئيس "كتلة ائتلاف دولة القانون" في البرلمان مع المعتصمين. وكذلك لم يكن القيادي في الحزب ورئيس الوزراء حيدر العبادي مؤيداً للمعتصمين وجبهتهم؛ سيما وأن جزءاً منهم كان يدعو الى إقالة رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية أيضاً الى جانب رئيس البرلمان (الرئاسات الثلاثة).  وفي الوقت نفسه؛ عدّت "جبهة الإصلاح" نفسها قريبة من توجهات أمين عام الحزب نوري المالكي؛ الأمر الذي سمح للمالكي بالدخول وسيطاً بين الفرقاء وتطويق الإنقسامات.

2- "حزب الدعوة الإسلامية - تنظيم العراق"؛ أمينه العام السيد هاشم الموسوي، وهو ثاني أكبر تنظيم كماً ونوعاً بعد التنظيم الأم. ومن أبرز قادته الدكتور خضير الخزاعي نائب رئيس الجمهورية السابق، وهو جزء من "ائتلاف دولة القانون"، ولديها كتلة برلمانية ضمت بعد عام 2014 عشرة نواب ووزيرين في الحكومة.

3- "حزب الدعوة الإسلامية - تنظيم الداخل"؛ أمينه العام عبد الكريم العنزي؛ وزير الأمن الوطني الأسبق، وهو إنشقاق عن تنظيم العراق، ولديه عضو واحد في مجلس النواب بعد عام 2014، وهو جزء من "ائتلاف دولة القانون".

4- "تيار الإصلاح الوطني"؛ يرأسه الدكتور إبراهيم الجعفري؛ رئيس الوزراء الأسبق ووزير الخارجية الحالي، ولديه ستة أعضاء في البرلمان. ومن أبرز قادته فالح الفياض عضو المكتب السياسي لحزب الدعوة سابقاً ومستشار الأمن الوطني بعد عام 2009.

5- "حركة الدعوة الإسلامية"؛ التي كان يتزعمها عز الدين سليم؛ رئيس مجلس الحكم الإنتقالي الذي اغتيل في عام 2004. وهي أقل تنظيمات مدرسة الدعوة فاعلية على المستوى السياسي والحكومي بعد رحيل أمينه العام. لدى الحركة أعضاء في بعض مجالس المحافظات؛ ولاسيما في البصرة.

والتنظيمات الثلاثة الأولى التي تحمل اسم "الدعوة" متحالفة في إطار "إئتلاف دولة القانون"، وذات منهج فكري وتنظيمي واحد، وقريبة من بعضها سياسياً. أما تيار الإصلاح فمتحالف معها في إطار ائتلاف دولة القانون على مستوى مجالس المحافظات ( البرلمانات المحلية) فقط.

(يتبع)...

 

بقلم: د. علي المؤمن

 

في المثقف اليوم