كتب واصدارات

صالح الرزوق: علم الاجتماع بين التعليم والتربية

saleh alrazukفي كتاب (علم الاجتماع التربوي والمدرسي) لمؤلفيه علي وطفة وعبدالله المجيدل، الصادر في دمشق عن دار معد، موضوع يتألف من ثلاثة بنود:

أولا المدرسة، وهي الفضاء التعليمي الذي يعلم الناشئة أصول التفكير والمنطق، ويلقنهم العلوم المختلفة، ولكن ليس بالمفهوم الكلاسيكي للمدرسة، وإنما بنظرة أبعد من ذلك. فالمدارس في هذا الكتاب هي أي درجة من درجات التدريب والتعليم، وبالمقارنة بين إنتاجية الأمي  والمتعلم، يرى أن الذي تلقى تدريبات نظرية وبعض التطبيقات، ولو لسنة واحدة، تزيد انتاجيته بنسبة ٣٠ ٪‏. أما الدراسة لمدة ١٣ عاما فترفع الانتاجية بنسبة ٣٢٠٪‏ والدراسة الجامعية ترفعها ٦٠٠٪‏. ص ٣٧. وهذا يعني أن معنى التعليم يشمل بالإضافة للمراحل الأولى دراسة التخصص.

البند الثاني هو التربية. لكن لهذه المهمة فضاء بحدود سائلة، بمعنى أنه لا يمكن فصل التربية في داخل المؤسسة عن خارجها.

وتقسم هذه الوظيفة في المدارس إلى مساحتين، لكل منهما قوانين وظروف، مع أنها ضرب من الوهم، مثل وهم الحرية والحداثة والتطور. فهذا شيء يتوفر بغزارة في الخطاب الإعلامي ولكنه في الواقع بلا رصيد. واستهلاك الحداثة لا يعني إنتاجها، ناهيك عن عدم توفر العقل الحديث بأي مقياس بين أيدينا. إن المدرسة هي نظام يرعى بنية سلوكية محددة، ولكن التعريفات الرسمية لحدود النشاط تبدو غير دقيقة وتعاني من خلل في رسم الحدود.

ويرى الكتاب أن هناك خطأين جسيمين:

الأول هو النظر إلى كل نشاط يحدث في داخل المدرسة كأنه جزء من بنيتها، فغالبا ما يحمل الطلبة الآثار العامة لشروط الحياة في الفضاء العام، مثلا نشوء علاقة خاصة بين طالبين لأنهما جيران. فهذا سلوك نوعي منشأه الواقع الاجتماعي الموجود وراء عتبات باب المدرسة. ص ٣١.

الخطأ الثاني أن تتصور أن كل ما يحدث وراء أسوار المدرسة لا علاقة له بنظامها، مثلا أن يصحح المعلم أوراق الامتحان في بيته، وهذا نتاج معرفي، في الواقع، وليس نشاطا اجتماعيا منفصلا، فلو لا المدرسة لم يضطر المعلم أن يشغل نفسه بهذه المهمة، ص ٣٢.

و يبقى البند الثالث والأخير وهو علم الاجتماع ذاته. ومع أنه المدخل للبحث لكنه يلعب دورا وصفيا أو معرفا ومحددا لمؤسسة التعليم والتربية. ولذلك هو يفسر، ويدخل في إطار التطبيق وليس علم الاجتماع النظري. فالكتاب لا يقترب من أي من مشاكل السلوك والعقل الاجتماعي إن لم تتوفر أشكال الرسالة التربوية: المرسل وهو المعلم، والمتلقي وهو التلميذ، والسياق وهو عملية التعليم وبناء القدرات المعرفية.

إن علم الاجتماع أداة وليس غاية كما هو شأنه في (الإنسان ذو البعد الواحد) لماركوزة أو في (القول الفلسفي للحداثة) لهابرماز.

فماركوزة يحلل آلية عمل الطبقات في الفضاء النفسي لنشاط المجتمع الرأسمالي. وينظر إلى طريقة انهيار الرأسمال وتفتيته على أنه تلبية لاحتياجات الطبقات الناشئة وفي المقدمة البورجوازية بما هو معروف عنها من أنانية وعبث وفوضى في الاستهلاك.

في حين يتوسع هابرماز في قراءة نظام عقل المجتمع أو المعرفة. ويركز اهتمامه على العقل وكيف يقرأ الظواهر التطبيقية.

ولا شك أن المدرسة تلعب دور مصنع للمعرفة، وأساليب تأثير هذه المعرفة على نضوج العقل الإنساني وانعكاس ذلك على إدارة المجتمع.

إن أهم ميزة في الكتاب هو النظر إلى المدارس كما نظر فوكو إلى السجون والمصحات العقلية والتاريخ. فهي فضاء مفتوح على غيره. ولا يمكن لدوائر العزل (المحميات التي تؤلف جماعات الخطاب) أن تلغي الدور التفاعلي للتربية والتعليم.

بتعبير آخر إن خصوصيات التعليم تلغيها شمولية النشاط التربوي، ولذلك يدعو الكتاب إلى الاهتمام بالمظاهر التفاعلية  لأنه كما يراها عبارة عن بوتقة يتشكل فيها الكائن الإنساني على نحو رمزي، ص ٣٩.

وأحب أن أنوه إلى أن التصورات الرمزية سباقة في التشكل، فقد سبقت العقل الكلاسيكي والرومنسي الذي مهد للحداثة الصناعية في وقت لاحق (حسب أطروحة هيغل المعروفة).

ومع أن الأولوية في المدرسة لبناء العقل ص ٤١ هذا لا يقلل من دور الجانب التربوي و الاجتماعي ص ٤١. وهو ما تلاحظه في ثورة الطلاب في الستينات خلال الاحتجاج على فشل المؤسسة في تلبية الحاجة النفسية للأفراد. والمقصود هنا جيل التحولات الأساسية او الجيل الذي عاصر ما يسمى بموت وحدات السرد الكبرى، مثل الاستعمار التقليدي، ومركزية العقل الأوروبي، وسياسة الانتداب والمحميات.

لقد واكبت المدارس ومؤسسات التعليم هذه التحولات واستبدلت أسلوب فرض المعلومات (التلقين) بأسلوب المحاورة، وألغت منطق توصيل المعلومات بطرق تداولها أو بالتناوب: بين أطراف غير متساوية (معلم وطالب) وبين أنداد (حلقات النشاطات التي تتكون من الطلبة أنفسهم).

وقد جرى توسيع غير مسبوق في ناحية التعليم التفاعلي في كل مجالات المعرفة: في الإعلام حيث يمكن للقارئ أن يشارك بالنقاش ولو عن بعد، وكذلك في التعليم ولا سيما باستعمال وسائط الصناعات الصغرية كالإنترنت مثلا. وهو ما يغطيه الكتاب تحت عنوان "ديمقراطية التعليم."

فالديمقراطية هنا لم تعد سؤالا يدل على مشكلة طبقية وتوفير المدرسة لأبناء الفقراء فقط، وإنما يعني تفكيك رهاب الخصاء الذي يزرعه المجتمع البطريركي في عقول الصغار. بتعبير آخر إن ديمقراطية التعليم ليست مشكلة اقتصادية ولكنها نفسية ولها بعد تربوي. فهي تعلم الصغار كيف يتعاملون مع مصدر المعلومات بشكل إيجابي وبناء بحيث أن أسلوب تلقي المعلومة يحدد أيضا طرق إنتاجها وتوصيلها.

فتحصيل العلوم والمعرفة كما يقول المؤلفان: يشكل نوعا من الخيرات المادية والروحية، والتوزيع العادل لهذه الخيرات ضرورة لا مهرب منها لضمان صحة المجتمع وسلامته، ص ٦٢.

ولكن يضاف إلى ذلك: الحض على حرية القول والتفكير، وقبول الآخر، واحترام مبدأ الكرامة الإنسانية، ص ٦٩. وهذا يضمن إسقاط وهدم الحواجز النفسية بين الأطراف المشاركة في التعليم. ص ٦٩.

ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال عدة مبادئ هي بالترتيب حسب الجدوى النفسية: مبدأ الحرية، والحب، ص ٧٠ والتجربة الذاتية للطفل، بمعنى النمو الذاتي للطفل (ص٧١) حيث يترتب على المعلم أن يكون حارسا لعقل الطفل ومداركه وليس مجرد منتج للأوامر والنواهي. بتعبير آخر مهمة المعلم في كل المراحل هي تشجيع النشاط النوعي والاستفادة من النتائج الطبيعية لسلوك الصغار ص ٧٢، وبلغة أوضح أن يتألف التعليم من دورات انتاج ذاتي يلغي فيه اكتشاف الصواب الأعمال الخاطئة.

ويضاف إلى ذلك مبدأ المسؤولية والاحترام والتوازن وتنشيط وعي إدراك الاستقلال وتخفيف التفكير الاتكالي ما أمكن، ص ٧٤.

ولا داعي للتذكير أن علي زيعور وسلوى خماش، منذ الثمانينات، أثبتا بدراسة ميدانية أن الفكر الاتكالي يتسبب بالغيبوبة الاجتماعية، وهذه الظاهرة تنتشر أكثر ما تنتشر في قاع المجتمع حيث فرص التعليم منخفضة، وفرص الثقافة معدومة، وحيث تكون العلاقة  طردية بين النكوص النفسي والعنف.  وسبقهما إلى ذلك الدكتور جلال صادق العظم في كتابه (النقد الذاتي بعد الهزيمة) فربط بين ضعف الثقافة والشخصية الفهلوية وتجهيز الأرض للفتن والحروب. واعتبر ذلك جزءا من بنية مجتمع الهزيمة (مجتمع نكسة ٦٧ في هذه الحالة وبالاستطراد مجتمع الحرب الأهلية في لبنان عام ١٩٧٥).

وإن كنت أرى أن الحرب الأهلية في لبنان هي نتيجة ضعف التربية الثقافية وانتشار التعليم باتجاه واحد، أو شمولية العقل التربوي في الطائفة، فإن ما يسمى الربيع العربي هو نتيجة الطغيان والفساد والذي مهد لهما ضعف العلاقة بين أساليب الانتاج والاستهلاك. لقد كان المستهلك في الواقع لا يعرف شيئا عن مضار أو منافع الأدوات المتاحة بين يديه.

إن التعليم التفاعلي هو أسلوب من أساليب تنمية المدارك والثقة بالذات وتقريب الفراغات التي تعزل أطراف المجتمع: حامل المعلومات والذي يتلقاها، وإذا كان الهدف من التفاعل غير مباشر في المجتمعات الرأسمالية وهو نفعي لأنه طريقة من طرق الترويج للثقافة والمعلومات والتي ينظر إليها كسلعة معروضة للبيع، ويتوقع الحصول على أكبر مردود منها، فإن الهدف في المجتمعات التي لا تديرها رؤوس الأموال هو الحض على وجهات نظر النظام. فالغائية هي أساس تربوي لا مفر منه. وهذا ما يسميه الباحثان: الارتباط في مستوى الحاجات والرغبات والوسائل، ص ٤٥. ثم يضيف "و الغايات". بمعنى أن الغاية هي المحرك الدافع لكل أشكال بناء نظام المعرفة، ومن ورائها الأساليب التربوية في المدارس وخارجها.

ولذلك إن الكتاب يميز إطلاقا بين شكلين من أشكال إدارة المدرسة: المعلم الديمقراطي الذي يساعد على تحقيق التوازن في العواطف داخل الوجود الإنساني، في حين أن المتسلط الذي يعمل بالإلزام والإكراه يخفف من الدافعية ويلجمها، ص ٤٩.

لم يهمل الكتاب شاردة أو واردة في مجال التربية وتوسيع المدارك عن طريق التعليم المنظم، ولكن افترض تساوي المتعلمين وتشابه الأهداف.

بالنسبة للنقطة الأولى لم يتوقف عند مشكلة تربية الأطفال العسرين (الذين يعانون من عجز في أدوات الإدراك كالمعتوهين) والذين يحتاجون لعناية خاصة كالمقعدين أو الصم والبكم أو المكفوفين.

ومن المؤكد أن المعتوه بحاجة لرعاية على مدار الساعة مع تدريب لبعض الحواس قبل أن يسمح له بالاعتماد على نفسه. وتعاني المكتبة العربية من عجز مرعب في هذا المجال باستثناء محاولات بسيطة ونادرة منها إسهامات صدقي اسماعيل وحافظ الجمالي وتيسير شيخ الأرض. وهي محاولات في النظرية وليس التطبيق، وربما لهذه الساعة لا يوجد بين أيدينا أي كتاب بطبعة بريل الخاصة بالمكفوفين.

ومع أن نشرات الأخبار تخصص دقائق معدودة للصم والبكم فإن معظم البرامج التثقيفية أو برامج الترفيه موجهة للأشخاص الطبيعيين، وكان مجتمعنا يخلو من الأمراض والعلل أو أنه يخلو من ضحايا الحروب والفتن.

لقد رفعت الأزمات الراهنة من نسبة العجز لدى الأفراد ولا سيما الشباب، ومنذ اندلاع شرارة الربيع العربي زاد عدد من فقد أطرافه كاليد أو الذراع أو الساق ولكن لم يقابل ذلك اهتمام مشابه في توفير الخدمات لهم. ولا تزال بيوت السكن الطلابي لدينا تخلو من هذا النوع من الرعاية. ناهيك عن المدارس وقاعات الدراسة في الجامعات. فهي تهتم بصناعة الكتاب ولكن لا تبذل أي جهد في تأمين المرافق الصحية لذوي الاحتياجات الخاصة كالممرات والمصاعد. وهذا يحرمهم من فرصة استكمال تعليمهم ويحرم المجتمع من الاستفادة من قدراتهم في التفكير وأداء الوظائف المحدودة.

ولا يجب أن نستغرب هذا التقصير، فحقوق المرأة كانت مهضومة لسنوات طويلة، ولا تزال بعض البلدان الغنية التي تسبح على بحر من النفط تناقش هل نسمح للمرأة بقيادة السيارة أم لا؟...

ولو فكرنا بالمشكلة من هذه الزاوية، أن الإعاقة الاجتماعية مثل العجز الخلقي أو العجز الطارئ، سننتبه لمقدار ما نخسره من القدرات البشرية المفيدة. وحبس المرأة في البيت لا يختلف قليلا أو كثيرا عن إهمال المكفوف الذي يعرف كيف يستعمل يديه وعقله.

بالنسبة للنقطة الثانية وهي تشابه أهداف أو أغراض التعليم. ربما تجاوزها الكتاب لأنها تحتاج لتغطية مستقلة. وأقصد بتشابه الأهداف مدارس الشرطة والجيش والمدارس الفنية كمدرسة الصناعة والزراعة. كيف يكون التعامل مع هذه الشرائح من المتعلمين، وما هي طبيعة العلوم التي يجب تلقيها، وما هو الفرق بين التعليم الداخلي كمدارس الشرطة التي تأري المتعلمين، والتعليم المفتوح كالمدارس الصناعية.

ويضاف لهذه الفئات الإصلاحيات أو المدارس الخاصة في السجون، فهي ذات طبيعة محرجة لأنه عليها أن تتعامل مع المتعلمين حسب مبدأين كما يقول فوكو، تعليم يختص بالرقابة، وتعليم يختص بالعقاب.

وبدمج هذين المحورين يمكن تحقيق الغاية المرجوة وهي تأهيل الإنسان ليعود إلى الفطرة البشرية المستقيمة، ثم أن يندمج بالمجتمع ويكون مقبولا من الإنسان العادي. إن تعليم المسجون مشكلة تنويرية، المقصود منها تدريبه على مهارات مقاومة أسباب الانحراف مهما كانت، ومعالجة أي مشكلة عقليا ووفق المعايير التي يقبلها المجتمع.

وتبقى أخيرا قضية المدارس الإيديولوجية الموجهة التي ترعاها الأحزاب أو المنظمات السياسية أو الدينية- ما جدواها، وهل يمكن تأهيل متعلمين لهم اتجاه محدد أو تفسير خاص لعلاقة الإنسان بمجتمعه ونظامه، وكيف ستكون الشخصية الاجتماعية لهؤلاء المتعلمين، هل لديهم القدرة على التعامل مع كافة الفئات والطوائف أم أنهم سيلجأون للعنف والقسر في تطبيق أفكارهم.

إنها أسئلة ربما هي وراء حدود موضوع الكتاب لكن في نفس الوقت أنتظر من يهتم بها ليضع النقاط على الحروف. ففي ظل الأوضاع الراهنة وتراجع سياسة التسامح وانتشار الفكر الإلزامي والقسري على رقعة واسعة من الشرق الأوسط أصبحت مواجهة هذه الموضوعات المسكوت عنها مهمة وطنية ووواجبا إنسانيا..

 

في المثقف اليوم