ثقافة صحية

القسوة والعنف والجينات

bahjat abaasالدراسات المتتالية أثبتت أن الجينات تلعب دوراً هاماً في تصرفات الفرد وحاله العقلية. فالتوائم المتناظرة، مثلاً، الذين يشتركون في جيناتهم وليس في بيئاتهم، متشابهون في الشخصية والذكاء والتركيز العقلي أكثر من إخوانهم غير التوائم الذين يشتركون معهم بنصف الجينات، ويرثون أيضاً الأمراض مثل انفصام الشخصية والكآبة. لكن الجين يجب أنْ (يعمل) مع جينات أخرى في عمليات معقدة ليُظهـِرَ فعلَه. إنً عمل الجين يرجع إلى فعل البروتين الذي يُنتجه. فمثلاً نقصان مادة السيروتونين من الدماغ يُؤدي إلى الكآبة، لأنَّ السيروتونين يسيطر على مزاج الإنسان وعاطفته وتصرفاته في المجتمع. السيروتونين يكبح الاعتداء والغضب، ويسيطر على الشهية والرغبة في تناول المشروبات الروحية، وينظم النوم ويُحسّـنه، فلذا يُحسّن النشاط والحيوية. وهو موجود في الغدة الصنوبرية ويُنتـَج أثناء النهار ويتحول إلى مادة الميلاتونين بتوسيط (cAMP ) ليلاً. فتركيزه يرتفع استجابة للضياء. أما الميلاتونين فيرتفع في الظلام. وهذا الأخير يسيطر على الساعة البيولوجية في الإنسان ويتناقص مع التقدم في العمر، إذ ينخفض تركيزه ليَصلَ 10% عندما يبلغ الإنسان ثمانين عاماً من عمره نسبة إلى ما هو موجود منه في من كان في العشرين. وهو يساعد على النوم المنتظَم، فلذا يكون كبار السن عادة أكثرَ أرقاً من الشباب إذا كانوا في ظروف متشابهة.

   وثمة مادة أخرى تـُـفرَز في الدماغ كناقل كيميائي هام هي الدوبامين. هذه المادة التي تـفرزها جينات معينة في خلايا (منطقة الانشراح) الدماغية، وتكون مسؤولة عن الطرب والانشراح وإنَّ نقصانها يسبب مرض الرعاش (باركنسون) والكآبة.

   ولا ننسى الناقل الكيمياوي أوكسيد النتريك (NO) الذي يُنتـَج كغاز يدوم بضع ثوان فقط مسبباً انبساط الأوعية الدموية، ومن هنا يأتي عمل العـقـّار المعروف بـ (فياغرا).

إنً قلة وجود أكسيد النتريك في الدماغ أو قلة إفرازه نتيجة خلل في خميرة نايتريك أسيد سينثيز التي تتوسط إنتاجه، يسبب الغضب والعنف، كما يقول مكتشفه د. سنايدر وزملاؤه (1993) من جامعة جونز هوبكنز. هذه الخميرة هي نتاج جين مُعَيّن والخلل الذي يصيب هذا الجين أو عدم وجوده أصلاً يقود إلى العنف.

وهناك حقيقة وجب ذكرها، ذلك أنَّ كثيراً من الجينات لا يظهر فعلها ما لمْ تجابه ظروفاً ملائمة. فالشخص الذي يرث جين مرض السكر النوع الثاني من أبيه أو أمه ليس محتماً عليه أن يصاب بمرض السكر إذا التزم بنظام صحي في الغذاء ومارس الرياضة والتمارين البدنية المنتظَمَة، فالجين في هذه الحال (نائم)، ولكن (استفزازه) بالانغماس في الطعام والشراب وزيادة وزن الجسم وعدم الحركة أو قلة النشاط البدني (يوقظه) وهذا ما يؤدي إلى الإصابة به.

لذا يمكننا القول إنَّ الجينات تلعب دوراً في تصرفات الإنسان بالتناغم مع البيئة. الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تلعب دوراً كبيراً في (تحفيز) أو(إثارة) جينات العنف، الغضب، الكآبة وغيرها. أما الفوارق بين الأفراد فهي في درجة هذه الحال من حيث شدّتـُها أو

ضَعفـُها، فقد يعود إلى عدد (نسخ) هذه الجينات التي تعود بدورها إلى الظروف التي تجابهها أو قوة الإثارة أو الاثنين معاً ومدى استعداد الفرد لتحمّـلِ هذه الظروف.

النواقل الكيميائية التي تتوسط جينات الخلايا العصبية في الدماغ بإفرازها، تلعب الدور الأساس في تصرفات الإنسان. فقلة إفرازها أو كثرته تعتمد على (فعالية) الجين المختص الموجود أصلاً أولاً وعلى (تفاعله) مع البيئة ثانياً. الدماغ يسيطر على العاطفة والتفكير والكلام، وأنَّ هذه السيطرة تـتمّ بواسطة موادَّ كيميائيةٍ تفرزها خلاياه العصبيةُ وتؤدّي فعلَها، يتبين الدورُ التي تقوم به هذه الخلايا أو الجينات التي تفرز هذه الموادَّ استجابةً لظروف البيئة أو نتيجةَ تعاملها معها. ولما كانت هذه الموادّ التي تـُسمّى النواقل العصبية neurotransmitters، متخصصةً ويُـقـدّر عددها بخمسمائة ناقلٍ، يكون ثمة 500 مجموعةٍ من الخلايا العصبية موجودةٍ في الدماغ. وتنتقل هذه النواقل من خلية إلى أخرى بواسطة فجوات خلوية synapses. ومنها أدرينالين (إبينفرين)، نورأدرينالين، دوبامين وسيروتونين، هذه النواقل الكيميائية تلعب دوراً هاماً في ضغط الدم والسيطرة على العاطفة. ولكنَّ ثمة خميرةً (بروتين) في الدماغ تنظـِّم عملَ هذه النواقل، وتسمـّى مونوأمين أوكسيديس monoamine oxidase، توجد على الغشاء الخارجي للميتاكوندريا في معظم خلايا الجسم. هذه الخميرة تحطِّم الأدرينالين ونورأدرينالين وسيروتونين وتحولها إلى مواد َّ غيرِ فعالةٍ. وقد و ُجـد حديثاً أنَّ هذه الخميرةَ تلعب دوراً كبيراً في تصرف الإنسان، وخصوصاً العنف، حسب كميتها الموجودة في الدماغ. فقد وجد الدكتور هانز برونر (هولندا) في السبعينات من القرن الماضي عائلة تَمَـيّـزَ رجالُـها الثمانيةُ بالعنف، فقد اغتصب واحد منهم أ ُختـَه وطعن حارسَ السّجن، وآخـرُ استعمل سيارته لدهس رئيسه الذي وبـّخه لكسله، واثنان آخران قاما بحرق بعض المباني. أمّـا الإناث من هذه العائلة فلم تقم أيّ ٌ منهن بأيِّ عنف. فدرس الأساسَ الجيني، وبعد ثلاثين عاماً من أبحاثه وبالتعاون مع زاندرا بريكفيلد (مساشوسيت)، وجد أنها تنطبق على جين يقع على الذراع الطويل للكرموسوم X في الذكـر، وأنّ كلا ّمن الرجال الثمانية يملك نسخة من هذا الجين بحالة متغيـِّرة (مـُشـوَّهة) mutated، أيْ غير فعالة، وبمعنى آخر، إنّ هذا الجين لا ينتج الخميرة مـونوأمين أوكسيديس. ولما كان التركيب الجيني الجنسي للرجل هو XY ، لذا يوجد هذا الجين بنسخة واحدة، ويُورث من الأم فقط. أما الأنثى، فهي تملك نسختين لتركيبها الجيني XX ، فإذا كان أحدُ الجينين متغيراً (عاطلاً)، فالجين الثاني يعوِّض في الإنتاج.

وفي حالات نادرة أنْ ترثَ الأنثى نسختين عاطلتين من هذا الجين، فإن ورَثتْ، فالعنفُ يكون ديدنـَها. وقد تبيّـن من دراسات قام بها باحثون آخرون مثل أفشالوم كاسبي من معهد لندن للأمراض النفسية سنة 2002 أنَّ بعض الأولاد الذين يُساء إليهم في طفولتهم ينشأون طبيعيا،ً إذا كانوا يحملون الجينَ غيرَ المشوَّه، وبعضهم يكون عنيفاً في تصرفاته، إذا كان الجين الذي يحمله مشوَّهاً. وهذا يعني أن ثمة اختلافاً ( جينيّـاً )، فالأشخاص الذين لديهم كمية كبيرة من البروتين مونوأمين أوكسيديس يكونون (مـُحصَّـنين) من العنف، والذين هم بفعالية واطئة من هذا البروتين، إذا أ ُسيء إليهم في طفولتهم، يكونون أقـلَّ امتزاجاً بالمجتمع وأربعَ مراتٍ أكثرَ عنفاً ومسؤولية ًعن حوادث الاغتصاب والسرقة والاعتداءات، وبمعنى آخرَ، إنّ الإساءة إلى الطفل ليست كافية، فيجب أن يكون ثمة جين واطئُ الفعالية، كما أنَّ هذا الأخيرَ ليس كافياً وحده للعنف، بل يجب أن تكون إساءة مصاحِـبة له. وهذا يعني أنَّ كمية البروتين مونوأمين أوكسيديس تلعب دوراً في العنف، سواء أ ُسِيءَ إلى الشخص في طفولته أم لم يُـسَـأْ إليه.

وليست هذه الخميرة وحدها تسبِّب العنف، إذ أنَّ أوكسيد النتريك NO الذي اكتشفه دكتور سنايدر وزملاؤه (جامعة جون هوبكنز) سنة 1993 يلعب دوراً في السيطرة على العنف في الفأر والشمبانزي، ولربما في الإنسان لتشابه الجين الذي ينتجه. ففقدانه سبّب عنفاً وهياجاً في الفأر. وأما الناقلان العصبيان دوبامين وسيروتونين المسؤولان عن المرح والانبساط في الإنسان، فقلة وجودهما في الدماغ يسبّب الكآبةَ التي قد تؤدي في بعض الأحوال إلى الانتحار.

وهنا يمكن القول إنَّ بعض الأشخاص أكثـرُ عنفـاً من الآخرين. هذه حقيقة. ويمكن لظاهرة العنف هذه أن يسيطر عليها جين واحد فقط يتفاعل مع ظروف البيئة، وهذا يعني أن (كلَّـنا يحمل جين العنف – ولكنّ الباحثين شخّصوا تغيراً جينياً بسيطاً يؤدي إلى الانفجار) كما يقول د. جيمس واتسون مكتشف التركيب الجزيئي لـ دي. أن. أي.، على "أنَّ هذا الانفجارَ لا يحدث إلاّ إذا كان ثمة دوافعُ أو حوافـزُ.

مقتبس من كتابي (الجينات والعنف والأمراض – مطبعة فيشون ميديا 2007)

ولكنّ الباحثين واصلوا أعمالهم في السّنين الأخيرة لمعرفة الجينات التي تسبّب القسوة والعنف في الإنسان، فوجد الباحثون في فنلندا بأنّ 5-10 في المئة من الجرائم العنيفة تعود إلى جينيْن يحوّران / يغيّران فعالية الدماغ فنشروا أبحاثهم في Journal Molecular Psychiatry في 28 أكتوبر 2014. وفيه يقول البروفيسور يان تيهونين Jan Tiihonen من معهد كارولينسكا في ستوكهولم الذي أدار البحث بأنّ ثمّة دليلاً علميّاً على تأثير هذه الجينات على الجرائم العنيفة وقد صرّح لجريدة الإندبندنت اللندنية (21 آب 2015) قائلًاً " إذا لم يوجد هذان الجينان، ربّما تقلّ الجرائم العنيفة في فنلندا بنسبة 5-10 في المئة ولكننا لسنا متأكّدين من آلية العمل التي يسبِّبانها." مستأنفاً " لقد وجدنا جينيْن لهما تأثير كبير على التصرّف العنيف ومن المحتمل أنّ ثمّة عشراتٍ أو مئاتٍ من الجينات التي لها تأثير أقلّ. لذا يكون اختبار العنف غير ممكن من هذه الدراسة." فالدراسة التي قام بها البروفيسور تيهونين على جينوم 895 مجرماً في سجون فنلندا أكّدتْ أنّ جيناً ينتج خميرة (انزايم) مونوأمين أوكسيديس - ألف monoamine oxidase A (MAO-A) ، التي تُزيح الناقل الكيميائي دوبامين، موجودة في المجرمين العنيفين أكثر ممّا هي موجودة في الأفراد العاديّين. فقد وجد أنّ حواليْ 60% من المجرمين الذين يكرّرون إجرامهم يحملون النوع واطئ الفعالية من هذا الجين مقارنة بالأربعين في المئة من بقيّة الأفراد العاديّين.

أمّا الجين الثاني الذي سُمِّيَ بـ كادهرين 13- Cadherin13 أو مختصراً (CDH13 ) الذي هو واسطة الاتّصال بين خلايا الدماغ والمسؤول عن السيطرة التلقائية للتصرّف، وُجد بأنّ له علاقة بالإجرام العنيف. لذا جاءت استنتاج الدراسة الفنلنديّة بأنّ هذين الجينيْن MAOA و CDH13 يرتبطان بعنف الإجرام. كما إنّ الأبحاث التي أُجْرِيَت على 400 شخص عام 2002 وجدت أنّ الأطفال الذكور الوارثين جين MAO-A واطئ الفعّاليّة والذين تعرّضوا للإساءة خلال طفولتهم كانوا مرّتين أكثر عنفاً من حاملي هذا الجين الذين لم يتعرّضوا للإساءة.

 

أمّا البروفيسور جان شْنُبْ Jan Schnupp من جامعة أكسفورد في علم الأعصاب فيقول: "الشيء الذي يجب أنْ يُقال مراراً عدّة إنّ نصف الناس يحملون الإنزايم MAOA واطئة الفعّاليّة ولكنّ عدداً قليلاً ممّن يحملون جين الإنزايم MAOA واطئ الفعّاليّة يُبدون عنفاً شديداً إذا واجهوا (تهميشاً) اجتماعيّاً أو إقصاءً أكثر ممّن يحملون جين MAOA عاليَ الفعالّيّة."

وخلاصة القول إنّ وظيفة إنزايمات MAOs هي تحطيم النواقل الكيميائية مثل السيروتونين والدوبامين ولذا فهي تؤثّر على العاطفة والإحساس والشعور والتصرّف في الأفراد. وعلى هذا الأساس، إن كان ثمّة (تشوّه) أو تغيّر في الجين الذي يصنعها، من زيادة أو نقصان، يكون تغيّر في (شخصيّة) الفرد أو تصرّفه حيث يسبّب (عنفا) لا يسيطر عليه. إنّ هذا الخلل في هذا الجين يكون عادة في الذكور.

وتبقى هنا العوامل فوق الجينيّة لتلعب دورها وذلك بإدخال مجموعة المثيل CH3 إلى الجين فتغيّر عمله ويحدث هذا في الإناث يوجد ترابط بين إدخال هذا المثيل إلى الجين والإدمان على الكحول عند الإناث. ولكنّ وجود مجموعة المثيل في هذا الجين عند الذكور أقلّ مما هو عليه عند الإناث وإنّهم يرثونه أكثر ممّا ترثه الإناث.

لكنّ الباحثين الفنلنديين لم يجدوا علاقة بين الإساءة في الطفولة والعنف، بل وجدوا عاملاً آخر هو التسمّم بالكحول أو بالأمفيتامينات. وجدوا التسمّم بالكحول هو العامل الرئيس في الجرائم التي تحدث في فنلندا. ذلك أنّ الكحول يتفاعل مع MAOA مؤثّراً على النواقل الكيميائية منتجاً العنف التلقائي .

سمّي هذا الجين بالـ(محارب) لارتباطه بالتصرّف العدواني. فكلّ مَنْ خضع للتجارب كان يحمل نسخة الجين واطئ الفعّالية. وهذا يعني أنّه (ينتج) قليلاً من هذه الخميرة والتي يكون من عواقبها (فيضان) من الدوبامين، وخصوصاً إذا تناول الشخص كحولاً أو أمفيتامين كما يقول تيهونين الذي يتابع بأنّ (أغلب الأشخاص الذين قاموا بإجرام عنيف كانوا تحت تأثير الكحول والعقاقير" ولكن، كما يقول تيهونين، "يجب أنْ لا يكون لهذا أيّ تأثير على المحكمة في إصدارها الأحكام." حيث " توجد أشياء أخرى كثيرة تُسهمُ في قابلية الشخص العقلية للسيطرة على تصرّفه." وهذا ما وافق عليه د. كريستوفر فيرغسون من جامعة ستيتسن الأمريكية في ولاية فلوريدا قائلاً "نحن نتاج تركيبنا الجينيّ وبيئتنا إلى حدّما ولكن هذا لا يسلبنا حريّة الإرادة من فهمنا الصحيح من الخطأ." وهو لا يعتقد بأنّ هذين الجينيْن "يستطيعان أنْ يقودانا إلى العنف والجريمة."

ثمّ أنّ هورمون التستوستيرون له علاقة بتصرف الفرد ضد المجتمع حيث تذهب هذه النظرية إلى أنّ مستوى التستوستيرون في الجنين وفي الطفولة مصحوبة بحوادث الحياة السلبية أو الإيجابية تسبب حياة انعزالية (سلباً) أو تحفيزاً (إيجاباً) إلى إنجازات كبيرة؛ زعامة، مساومات تجاريّة أو تصميم حازم على تحقيق ما يروم .

 

د. بهجت عباس

 

في المثقف اليوم