نصوص أدبية

ماجد الغرباوي: وانشق القمر ..!!

خرج على غير عادته .. تتبع حركة السواقي والأنهار .. بهرته الطبيعة بسحرها .. استدرجته .. حتى غاص في أعماق الحقول المجاوره، وتغلغل في أحراشها العالية.

كان الجو صحوا، والشمس ترسل أشعتها ندية.. تنعكس على صفحة أحلامه، فيحلّق مع ميامي، وتأخذه نشوة الحديث معها.

فجأة تلبّدت السماء، وأضرمت غضبها، فهطل المطر، بعد أن زمجرت وأبرقت، لتعلن عن بداية عاصفة هوجاء.

بحث عن ملاذ .. ضاقت به الأرض بما رحبت. همّ بالفرار .. خذلته إرادته. هرول ليحتمي بظل شجرة عارية .. دمدم الرعد، وراح سنا البرق يملأ الحقول والبساتين. وهو يتلفت مرعوبا، ينظر الى دواب الأرض كيف تلجأ الى جحورها. نزلت صاعقة مدوية فأحرقت كل ما حوله .. بهت مذعورا، يا إلهي ....

لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلا أنها أحرقت نصف جسده الأيسر.. فظل مشدوها، فاغرا فاه، متشبثا بنصفه الثاني، لا يدري ماذا يفعل. راح يلملم جراحه، ويشد من أزره بارتباك .. ملتحّفا بخوفه وترقبه.

 ماذا يفعل..؟ .. تساءل وهو في الرمق الآخير من الحياة.

عجز عن الكلام، غير أن علامة استفهام ارتسمت على صفحة حيرته، واندهاشه.

كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أن يعيش؟

علامة استفهام أخرى، طفت .. لكن هذه المرة على مساحة واسعة من الأفق .. كاد ان يحدد نهايتها، فارتد بصره خاسئا.

عاد يتلفّت .. لم ير الا أعمدة دخان، بعد أن أتت النار على كل شي، سوى نصفه الأيمن.

انتصب بما تبقى من جسده .. نظر الى نصفه الآخر ..  وانهمرت دموعه شلالا من الأسى،.. لم يجد شيئا من معالمه، الا عينا، وشبح أطراف، وصدرا عاريا، وبضع كلمات.

نظر الى السماء .. راحت الغيوم تجر أذيالها، بعد ان أنهت مهمتها، والشمس أذنت بالمغيب، الا خصلات ذهبية، أضفت لمسة سحرية على ذكريات ميامي الجميلة. لكنها سرعان ما توارت، خلف أمله التعيس، ليبقى فريسة سهلة للظلام الزاحف بلا روية ولا رحمة.

عاد تحت هول الصدمة، ينظر لنصفه الأيسر، يتأمله، يدقق فيه. كان أول ما لفت نظره تلك الكلمات .. حاول أن يقرأها، فاستفزه صوت جسده بعد أن هبط الليل بثقله.. كان مرعوبا، لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية، وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض .. ولا يرى سوى احشائه المتدلية، فلاح له سؤال حيّره، هل نصفه الأيسر أحترق، أم اختطفه ضوء الصاعقه فصيّره رمادا؟

كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة .. ما الفرق في ذلك؟ .. جسده الان ملقى، بعد أن انتزعت النار كل معالمه. لكن يبدو هناك لغز يتوقف على فهمه لهذا السؤال اللعين. سؤال محيّر فعلا، أين يعثر على شفرته؟

وسرعان ما جرفه سيل الأسئلة .. أين احشاؤه .. قلبه .. رئته؟  هل ما زالت هناك، حيث يرقد نصف جثته المتفحم؟.

ثم راح يتأمل فاجعة الإنسان بعد موته، ماذا يتبقى منه؟ كيف خمد جانبه الأيسر بلا حراك، وماذا لو كان مات كله، من سيكون الشاهد على مأساته؟ .. مغرور هو الإنسان، هل كل ما تبقى من جانبي الأيسر بضع كلمات؟ آه يا لحسرتي .. ربما هي كل ما تبقى مني .. من يدري، يلفنا الغيب من كل جانب، ولا نبالي. تحاصرنا الدنيا من كل زاوية، ولا نفكر بما هو آت.

آه يا إلهي .. اراد ان يصرخ، يستغيث، يتشبث بصدى صوته، لكن حيرة الدهشة والسؤال عقدت لسانه الثاوي.

جانبه الأيسر، كان نابضا بالحياة، كان قلبه يعزف موسيقى الصباح .. يدندن كل يوم أغنية جديدة. كانت ميامي لا تأنس الا به .. بايقاعه .. بنبضه. هل ستعود ميامي الى أحلامه أم اختطفها سنا البرق الأهوج؟؟ .. سؤال آخر فاجأه بينما بدأ الليل يجهز عليه، ولم تبق سوى نقاط بعيده من الضوء، لا تبعث على التفاؤل اطلاقا.

هل يرحل ..؟ .. كيف يترك نصفه الأيسر؟

سمع صوتا خافتا ينبعث من النصف المحطّم .. حاول ان يصغي له جيدا، لكن دون جدوى. عليه الاقتراب ولو قليلا.

كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟

انها بضع خطوات.

لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، إنه القدر حينما يطاردني.

ليس من حيلة .. ألقى نفسه على الأرض .. زحف تحت جنح الظلام، سمع أصواتا غريبة .. ارتعدت فرائصه .. استلقى بجانب نصفه الآخر يرتجف، نظر اليه مليا، استغرب وجود تلك الكلمات .. حاول ان يصغي ثانية .. ركّز بكل جوارحه .. لم يسمع سوى صداها المحيّر .. تارة تتقاطع وآخرى تنتظم، أو ترسم عمودا من النور.

في غمرة تأمله، وحيرته، عاد يتساءل: كيف يعيش  بنصف جسد لو قدر له أنْ يعيش؟ وكيف يواصل حياته؟ وماذا عن احلامه مع ميامي؟

أفاق على أنين ميت قريب، أو كائن لم يفهم كنهه. تخيله يزحف اليه، اجتاحته قشعريره .. حاول أنْ يتجلد .. أنْ يتمالك نفسه، لكنه فشل.

استسلم للرقاد، او كاد ..  أرعبته الاصوات ثانية.

التف بحيرته، ليس معه سوى نصف جسد متفحم .. انه جسده، وعينه اليسرى، وأربع كلمات، تتخذ أشكالا مختلفة.

ماذا يفعل؟؟

كان من الصعب ان يمسك بما تبقى من جسده، كان خائر القوى .. أصوات مخيفه. آه يا الهي .. تخيّل ان ذلك الأنين يصدر عن جثث أخرى. من يدري .. ربما هو لرجل عظيم، أو امرأة صالحة..

إنه الموت، يخاتلني، يسلبني روحي، أنظر من حولي، لعلي أتحرر من مخالبه، ولو لبرهة. يا له من حدث مرعب ذلك الموت الذي يتحكم بقدرنا.

ماذا تبقى من نصفي الأيسر، سوى بضع كلمات. ما قدرها. نصفي الأيسر ذلك الكائن الجميل، الذي أرهق حياتي ..

لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة  فصيلته، أخذ يحوم حولها، وينظر اليَّ بعين حمراء متوقدة، كجمرة في يوم شتائي قارص. أقترب من الجثة الهامدة، كتمثال أهمله تمادي القرون الطويلة، ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى .. تمتم بأصوات غير مفهومة، ارتبكت جثتي،  ثم تجهّمت وأشتد غضبها حين خطف الطير إحدى الكلمات وحلق عاليا.

رأيت عيني اليسرى، كيف أجهشت بالبكاء .. توسلت بقواي كلها،  لأقترب أكثر، وأصون ما تبقى منها. كنت أرتجف .. أصرخ .. استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

سر نجاتك!!

***

بقلم: ماجد الغرباوي

01 / 05 / 2012

 

في نصوص اليوم