تجديد وتنوير

رسالة مفتوحة الى وزراء التربية والتعليم (سؤال النهضة)

من منكم سيكون رسولاً لهذه الأمة؟! .. سادتي وزراء التربية والتعليم في عالمنا العربي والاسلامي..

دعوني أشرح لكم قضية هذه الأمة التي تنتظر منكم لا من غيركم علاج مشكلتها المزمنة.. إنها مشكلة النهضة.. فما السبيل الى طَرْقِ أبوابها؟

فما زالت فكرة النهضة عالقة في اذهان العرب والمسلمين دون ان يجدوا لها حلاً ومساراً عملياً سهل الارتقاء. وما زالت الأفكار النظرية تطرح حول أسباب تخلف المسلمين وعدم القدرة على ان يتجاوزوا واقعهم المزري منذ قرنين من الزمان. وقد يكون من المناسب ان تطرح الأفكار العملية القابلة للتطبيق بدل ان تسرح اذهاننا في الاطر المثالية أو البعيدة التحقيق. وقد يكون الحل ماثلاً أمامنا من دون ان نراه..

اننا نجد هذا الحل لديكم، فهو يعنيكم سادتي الوزراء ولا يعني غيركم..

اسمحوا لي بداية أيها الأفاضل أن أسأل أي نهضة نحتاجها ونريدها؟ فنحن نواجه أشكالاً من النهضة في مجالات عديدة علمية واقتصادية واجتماعية واخلاقية وثقافية. وكلها مطلوبة لكن تحقيقها جميعاً دفعة واحدة هو ضرب من الخيال. فلا غنى من ان نبحث عن وسيلة سهلة قد تحقق لنا الحد الادنى من بعض ما ذكرنا. وقد تكون هي الخيط الرابط لهذه السلسلة على صعيد المستقبل.

اذن لنبحث عن طريقة ما تؤهلنا بان نرتقي عما نحن فيه بنوع من الضمان دون عوائق كبيرة.. ولنتساءل أي نوع من النهضة قابلة للتحقيق في المستقبل القريب؟ ومَنْ باستطاعته ان يكفل تحقيق ذلك؟ هل من السهل تحقيق نهضة علمية.. أو اقتصادية.. أو ثقافية.. الخ؟

من المؤكد سادتي الوزراء انكم تدركون بان التفكير في نهضة علمية أو اقتصادية هو اليوم أمر بعيد المنال، فلا بد من ان يُترك الى مراحل لاحقة. لكنكم تدركون في الوقت ذاته ان الخوض في النهضة الثقافية ليس بالصعب العسير.. وهي المهمة التي تقع على عاتقكم سادتي الكرام.. فأنتم دعاة التثقيف والتعليم وبيدكم تتحقق رسالة هذه الأمة وشعوبها..

ان تحقيق النهضة الثقافية ليس امراً صعباً ولا مستحيلاً، وهي لا تتطلب الكثير من الجهود والاموال كما تتطلبها النهضة العلمية والاقتصادية مثلاً..

كذلك تعلمون سادتي انه لو خُيّر عقلاؤنا اي نهضة هي الافضل من بين الاطر النهضوية المطلوبة، لكان الجواب لا يتعدى النهضة الثقافية باعتبارها تتعلق ببناء الانسان ذاته، وهو الهدف الاسمى، وليس الحال كذلك في النهضة العلمية أو الاقتصادية، فهي وسائل هامة لخدمة الانسان لكنها لا ترتقي الى بناء ذلك الهدف.

فمثلما يحتاج الانسان الى الرغيف ليعيش، فهو يحتاج الى الثقافة لينمو عقله وتسمو روحه..

والكثير منا حينما يفكر في النهضة يتبادر الى ذهنه النهضة العلمية والتقنية. رغم ان هذه النهضة قد تكون أداةً لاستعباد الناس كرهاً وطواعية، فعلى الاقل انها تدفع بالناس اليوم ومنذ الطفولة الى ان يكونوا أدواتاً استهلاكية فحسب، واصبح العالم الغربي المتقدم علمياً يهدف الى تحويل الانسان الى أداة للشراء واللهو، وآلة تُدفع به هنا وهناك، وكأنه رجل آلي (Robot) يفتقد الى الروح والحياة.

لذلك كانت المسؤولية الملقاة على عاتقكم سادتي الوزراء كبيرة للغاية.. فإحياء الأمة وبعث الحياة فيها متوقف عليكم انتم بالذات..

إن مما يؤسف له ان الغرب المتقدم علمياً لم يتمكن من ان يصنع ما يوازي هذا التقدم من نهضة ثقافية. فالمثقفون ما زالوا فئة قليلة، أما اغلب الناس فهم أدوات للتحكم واللهو والاستهلاك.

قد تغيب هذه الحقيقة على كثير منا، فعندما يقال ان للغرب تقدماً علمياً وان لديهم فلاسفة كثيرين ومثقفين وأدباء وفنانين ومؤلفين وما الى ذلك.. قد يتصور البعض انهم قد حققوا النهضة الثقافية مثل تحقيقهم للنهضة العلمية والتقنية الظاهرة للعيان.

لا يغيب عليكم سادتي الأفاضل.. إن الفارق بين النهضة العلمية والثقافية هو ان الأولى محكومة بأقلية تخصصية، وليس الحال كذلك في النهضة الثقافية، فهي معنية بكل فرد وانسان، اذ يفترض ان يكون كل فرد مثقفاً ليحقق انسانيته، ولا يفترض ان يكون كل فرد عالماً. ولو استعرنا لغة الفقهاء تسامحاً فان الوجوب في الاول عيني، وفي الثاني كفائي. لذلك فان الغرب قد حقق بالفعل نهضته العلمية وما زال يتقدم باضطراد، لكنه بحسب الموازين الانسانية ما زال لم يفعل شيئاً ذا بال حول النهضة الثقافية، بل ان النهضة العلمية قد جاءت على حساب النهضة الأخيرة، مع ان الحاجة اليها هي كالحاجة للضرورة الاخلاقية، فلا غنى من ان تتنمى وتثمر قبل ان يدمرها التقدم العلمي، وكل ذلك يكون على حساب الانسان ذاته. فالتقدم العلمي ان لم تكون معه موازين التقدم الثقافي والاخلاقي يكون كالأعمى الذي يتخبط في ضلاله. وعليه ينبغي ان تكون النهضة الثقافية متقدمة على النهضة العلمية والاقتصادية وصائنة لغلوائهما. ولو استعرنا تقسيم الفيلسوف الفرنسي لويس روجيه (المتوفى عام 1982) للحضارة الى نمطين كيفية وكمية؛ فإننا بصدد بناء حضارة كيفية كما تجسدها الثقافة الانسانية، وذلك في قبال الحضارة الكمية المتمثلة بالعلم القياسي التجريدي كما يزاوله الغرب، وهو اليوم يتجلى بأبلغ صوره لدى أمريكا.

ولا يغيب عليكم – أيّها الأفاضل - انه ينتظر من النهضة الثقافية ان تكون دافعاً للنهضة العلمية والاقتصادية وغيرها من الاطر النهضوية.. فهي الاساس الذي يبنى عليه بما يخدم كينونة الانسان وليس على حسابه كما نشهده اليوم من الازمة الانسانية لدى الدول المتقدمة علمياً ناهيك عن غيرها.

هنا بيت القصيد سادتي الكرام.. ان عليكم مهمة جعل الشعب الذي يترأسه كل واحد منكم ان يكون شعباً قارئاً مثقفاً يتميز بحلية الاطلاع والنقد.. انكم من يمكنه خلق هذا الشعب الذي سينفرد بين الأمم ليكون شعباً مثقفاً من ألفه الى يائه..

انكم من تتزعمون هذه الرسالة العظمى لتُنقذوا بها شعوبكم والبشرية من الانحرافات الانسانية.. وبذلك تجسدون رسالة السماء على الارض..

لا تسألوني كيف؟ فانتم ادرى بعملكم.. لا يضركم شيئاً لو جعلتم حصة الزامية لموضوع المطالعة، كسائر الحصص التعليمية، بل ان هذه الحصة ستكون افضل من غيرها لأنها ستلزم الطالب منذ مرحلة الابتدائية ان يعتاد على المطالعة الخارجية وان يرغب فيها شيئاً فشيئاً حتى تترسخ فيه الهواية والمهارة في الاطلاع والنقد والبحث والابداع، وهو الهدف ومحل استواء العود وتخلية السبيل.. ومن الواجب ان يكون في كل مدرسة مكتبة تتلائم مع المستوى الدراسي لها.. وان تكون متنوعة في الأدب والفكر والعلم والفن.. وان تكون البرامج التعليمية غير مؤدلجة قدر الامكان.. مع التأكيد على أهمية القيم الانسانية المشتركة وفلسفتها، واحترام الناس جميعاً مع احترام الرأي المخالف واخلاقية الحوار.. كل ذلك يحتاج الى اساتذة مدربين يتحلون بهذا النحو من التدريس.

يضاف الى ان من الضرورة ان توضع حصة لتعليم طرائق النقد، على الصعيد الفكري والعلمي والادبي وما الى ذلك، وهي الحالة التي تعمل بها المدارس الغربية في مرحلة الاعدادية ضمن عنوان التفكير النقدي Critical thinking.

ان كل ذلك سيؤدي بالشعب الى ان يكون شعباً مثقفاً وناقداً، وانه بهذا سوف لا يستسيغ العنف والتطرف والارهاب، كما لا يستسيغ التبعية الى الجهات التي تعتاش على التفكير بالنيابة عن الناس، مستغلة جهلهم وتخلفهم، كما ليس من السهل استغلاله داخلياً أو استعماره خارجياً.. ان هذا الشعب سيكون مثقفاً وناظراً مميزاً وحاملاً للقيم الانسانية المشتركة السامية والمصالح الوطنية باعتبارها الجامع الذي يجمع المواطنين تحت سقف البلد الواحد.. أياً كان هذا البلد.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم