الرئيسية

رسالة إلى آدم الذي فاتنا أن نعلمه الخوف / صائب خليل

 فمساء العراق يمتلئ بأشباح الأطفال، مثلك يا آدم.

الثعبان الذي ابتلعك وأنت تصرخ بوجهه: "كافي! كافي! ".. لكنه لا يكتفي، فقد إبتلع الكثير من الأطفال قبلك، وسيبتلع الكثير منهم بعدك.

قبلك ابتلع الوحش أطفال النعيرية، ولم نسأل، وقبلها وبعدها ابتلع آخرين في كل مكان .... ولم نسأل! ربما كنا مثلك نأمل أن الثعبان سيكتفي يوماً، وفضلنا الإنتظار على مواجهة الوحش بالسؤال، لعله يشبع. لكن الوحوش لا تكتفي ولا تشبع يا آدم! الوحوش يفضلون الشعوب التي تفضل الإنتظار إلى الأبد، على إزعاجها بسؤال.

ونحن أجبن من سؤال يا آدم. ها أنت تدفع ثمن انتمائك إلى سلالة مرتجفة، نما الرعب في أحشائها كالسرطان، حتى أن قرداً يكفي لجعلها تلوذ بالصمت، وتعود لإكمال طعامها ومشاهدة التلفزيون. نعتذر لك ولكل الأطفال الأشباح الذين معك. أبلغهم أننا خجلون منكم... فنحن، ربما دون جميع الحيوانات، لا ندافع عن أطفالنا أمام الوحوش.. إننا ننحني خجلاً، فنحن لا نقوى على النظر في عيونكم الصافية.

 

الوحش الذي أكلكم، يتبختر أمامنا.. نراه يأتي ويذهب..لكننا لا نرفع صوتنا، حتى يكون قد مضى...إننا نعرفه جيداً، لكننا نخشى أن نقول..بل نخشى حتى أن يعرف بأننا نعرفه!

 

لقد كنت شجاعاً يا آدم.. أتعلم لماذا يا حبيبي؟ لأنك لم تعش بيننا ما يكفينا لنعلمك الجبن.. لو بقيت بضعة سنوات أخرى، لعلمناك كيف تغلق فمك وعينيك. لو أنك بقيت قليلاً معنا، لما هتفت بوجه الموت: "كافي!".. لكنّا علمناك أن الصراخ والعويل والشجب والإحتجاج، ممكنة بوجه الأشباح فقط! مسموح لنا أن نلعن ونشتم "قوى الظلام" دون غيرها..فـ "قوى الظلام" وحدها، لا تنزعج من الصراخ بوجهها، ووحدها من يصيبها الحبور حين تشجبها.

لو بقيت معنا، لرأيت ذلك بنفسك، لكن، وقد ذهبت بسرعة هكذا، فليس لي إلا أن احدثك عما كنت ستراه. إن وجدت حديثي حزيناً، فلأنني حزين لأجلكم، لعالمنا كله. وإن حدثتك مرة كطفل صغير وأخرى كرجل كبير، فما حيلتي وقد اختصرت أنت العمر في ثلاث سنين؟

 

مسموح لنا يا آدم أيضاً أن نغني لشجاعتك، على أن نتعهد أن لا نفكر أن نمارسها! مسموح لنا، بل ومطلوب منا أن نلعن من ابتلعكم جميعاً، .. لكن ليس مسموحاً أن نحاول أن نقتفي آثاره أو نفكر أن نزيح قناعه..مسموح أيضاً بالزعيق والتهديد بالويل والثبور في كل مرة يقيم فيها الوحش وليمة دموية، ولكن فقط بعد أن يمضي بعيداً، خشية أن يفهم أنه هو المقصود، فتسوء العاقبة.

 

لقد تحولت إلى ملاك يطوف سماء العراق، سماء بلادك الأزلية التي لن تهاجرها أبداً، لكنك أيضاً، معذرة يا طفلي العزيز، صرت سلعة متاجرة أخرى في عالمنا! نحن لا نتغنى بشجاعتك لكي نتعلم منها كيف تقف الحياة بوجه الموت، لن نلصق صورتك في الأماكن العامة لتذكرنا بما يكلف الجبن من جواهر ولآلئ، لن نكتب فيك الشعر لتكون قدوة للأجيال القادمة منا، أن نرسمك نجمةً لنعلم الصغار أن يتطلعوا إلى الأعلى، ولن ننحتك تمثالاً لنقف أمامه خاشعين، أو نعلنك شهيداً، أو نعمّدك قديساً لتلهمنا الإيمان بقيمة الحياة والموت بكرامة. إننا نفعل ذلك فقط، ومعذرة لما سأقول يا ولدي، لنرفع قيمتك كسلعة متاجرة، فلسنا في النهاية سوى تجار، وليس لنا سوى أخلاق التجار ولا نعبد سوى آلهة التجار.

صرت يا آدم سلعة عظيمة، يمكن لمن شاء أن يبيعها لمن يشاء، ومطية يمتطيها من يريد أن يصل إلى ما يريد. تاجر سيهتف باسمك ويطالب بهجرة أهلك من وطنهم، وآخر سيذكرهم بك ليطالب بإقليم مستقل أو ربما "دولار عن كل برميل نفط" لـ "أهالي الضحايا"، وآخر سيرفع صورك في الأمم المتحدة مطالبا بحماية دولية وآخر سيصر على أن يسمى قتلك "جينوسايد"...

 

وقتلك هو "جينوسايد" يا آدم، ليس لأنك مسيحي، بل لأنك طفل إنسان، مستقبل إنسان، والوحش يريد الإنسان عبداً، لذا توجب قتل أطفاله أمامه ليبدأ رحلة العبودية الطويلة متحزماً بالخوف والصمت والنسيان... نسيان السؤال! عرفنا جينوسايدات كثيرة يا آدم، لكني لا أعرف واحداً منها لم يتحول إلى وسيلة ابتزاز واضطهاد لشعب ضعيف. هل سمعت يوماً بشعب قوي، حكم عليه بارتكاب جينوسايد يا آدم؟

قتلك كان "جينوسايد" يا آدم، ليس من المسلمين على المسيحيين، ولتسأل أباك الشهيد يخبرك عن الحب الذي بيننا. إسمع، سأريك رسالة وصلتني من صديقي "فارس أمانه" قبل أيام فقط.. كان يتذكر صورنا أيام الدراسة، فيقول:

 

"صور قديمة

قديمة جدا

عثرت عليها في أعماق وجداني

كلما أمعنت النظر

أحسست بشعاع ضوء خفي ينفذ الى روحي

من هو الشيعي في هذه الصور؟

من هو السني؟

من هو المسيحي أو اليزيدي ؟

من هو الكردي أو العربي أو التركماني أو السرياني ؟

هذه الصور وعشرات أخرى غيرها تنير لي ما تبقى من عمري"

 

هكذا كنا وهكذا سنبقى يا آدم، لم نكن نعرف حتى دين أو طائفة أو قومية أصدقائنا، ولم يكن يهمنا، فلا تصدق خرافات تتحدث عن الكراهية بيننا.

كذلك لا تصدق الحكومات التي تنادي اليوم بإنقاذ المسيحيين من المسلمين، فهم لا يهمهم المسيحيون العراقيون قيد شعرة، إلا كـ "سلع" مناسبة لما يريدون. الإسرائيليون يقتلون الأطفال المسيحيين الفلسطينيين في بيت جالة منذ ستين عاماً، ولم يقل الأوروبيون والأمريكان كلمة واحدة دفاعاً عنهم، لأنهم لم يكونوا السلع المناسبة للبيع.

الجينوسايد الذي يحدث ليس من دين على دين أو من طائفة على طائفه، لكنه من وحوش الأرض الكبار على مستقبل الإنسان، وكان من سوء حظك أنك كنت "مستقبل الإنسان". ولأنكم أنتم الأطفال مستقبل الإنسان، فأنتم الأكثر فقراً والأكثر بؤساً وشقاءاً. حتى في قمة العالم، يزداد الأطفال توتراً وعدوانية مع الوقت، ويزداد تعليمهم صعوبة وكلفة، أما في بلاد الفقر، فيعملون الليل والنهار ليأكلوا، ويشردون في الشوارع، بل وتقطّع أجسادهم لتستخدم كأدوات احتياطية للوحوش!

 

لو أنك عشت عمرك لرأيت ما يراد لجيلكم من خراب: أرض تتصحر وغابات تقطع ومناخ يسخن وحيوانات تفنى وجوع يتزايد وفقر يرتفع وبيئة تتلوث وفضاء يثقب وبحار تستبدل أسماكها ومرجانها بمساحات شاسعة من قناني البلاستك الطافية وبقع من النفط يمكن رؤيتها من القمر، ودول ثرية تعلن إفلاسها وأخرى فقيرة تعود إلى القرصنة وخرافات تستشري ونساء تترمل وأطفال تتيتم وأسلحة تتزايد فتكاً وإعلام يزداد كذباً وكتب تزداد سخفاً وفقراء يموتون جوعاً أو ينتحرون يأساً، وأثرياء يزدادون سلطة ووحشية.. ونحن، نحن أهلك الكبار، لا نفعل شيئاً من أجل عالمكم يا آدم، وبدلاً من توفير الطعام للجائعين، صرنا نحول قسماً منه وقوداً للسيارات، ونتسابق في شفط نفط الأرض خشية أن يبقى منه شيء لكم!

 

على مواقع الإنترنت يتجول عندنا متخصصون بالقضاء على اي أمل. لهم من الصبر واللطف ما يجعلك تبدو قبيحاً إن اعترضت عليهم، ومن شبكة العلاقات ما يحصنهم من أي هجوم. مهمتهم أحباط من لم يحبط بعد، وتثبيت صورة اليأس وضرورة قبول الواقع، وأن وجود الوحوش بيننا ضرورة لنا، لأننا سنأكل بعضنا البعض بدونها. حيثما وجدت أحدهم تراه يتغنى باليأس ويكتب فيه الشعر، ويحفظ عن ظهر قلب كل هزيمة لحقت بمن حلم بالأفضل ومن حاول الوصول إليه في التاريخ. يخبرك أنه كان مثلك في الماضي، لكنه "صحى" من حمقه، وعرف أن العالم الأفضل ليس سوى خرافة وأن الكرامة وهم قديم وخير الناس من "تاب" عن طموحه وتقبل "الواقع". وإن انتقد أمراً، أنتقد بشكل عام شامل، يغلق أمامك كل الطرق.

 

فعندنا لك أن تلعن أيضاً كل ما هو عام. يمكنك أن تسب جميع البرلمانيين، وتشتم جميع السياسيين، وتتهم جميع المثقفين بالتقصير والجهل، وأن تصرخ بأننا جميعاً متخلفون دون أن يحتج أحد. فمن ناحية أولى لا يخدم هذا إلا بتثبيت اليأس، ومن ناحية ثانية فكل ما هو عام، هو شبح أيضاً، ولك أن تسبه كما تشاء!

أما السؤال المحدد المميز بين الصحيح والخطأ، الموجه إلى شخص محدد عن موضوع محدد، المدعوم بالدلائل المحددة والمطالب بجواب محدد، فهو من الكبائر في بلادنا. لو تجرأ أحد بسؤال محدد يطلب جواباً محدداً، فسيتوقف الناس عن الكلام وتنظر الأعين بذهول وتفغر الأفواه ! من هذا الوقح الذي يجرؤ على تعكير صفو مسائنا بسؤال محدد؟ من الذي "يشخصن" اتهامه؟ الكلام يجب أن يبقى بلا أشخاص محددين لكي لا يزعج أحداً! نحن جميعاً طيبين ولطفاء! ومن اين يأتي الأذى إذن؟ يأتي من "قوى الظلام"، ومن يشير إلى غير "قوى الظلام" يكون مدافعاً عن "قوى الظلام"! لو عشت عمرك يا آدم لرأيت كل هذا، لكنك ذهبت مبكراً..

إن تسألني ما الذي نفعله لإنقاذ عالمنا؟ أقول لك إننا مشغولون بالعمل ليل نهار لإنقاذ البنوك من الإفلاس، وبين الحين والآخر، نفتح فمنا، لنلعن "قوى الظلام" و "الإرهاب" و "الأرواح الشريرة"!

 

لو بقيت معنا وفكرت بسؤال خارج الطقوس، فستهرع الجموع اليك، البعض يصرخ فيك والبعض يحاول أن يرضيك وغيرهم يفحص حرارة رأسك، بل أن بعضهم سيبحث في تأريخك لعله يجد تفسيراً لهذا الخلل الجيني، وغيره سيعيد فحص مناهج تربية القطيع! بعض "الخيرين" سيهرع لتهدئة الجميع و "إصلاح ذات البين" ويقول للآخرين أنك ولد طيب، لكنك "غير دقيق" مشيراً إلى رأسه وغامزاً "إنه مجنون" فلا تؤاخذوه. ماذا ستفعل؟ إن تكلمت قالوا كلامك دليل جنونك، وإن سكتَّ وجدوا في سكوتك دليل هزيمتك. إن غضبت برهنت الخلل فيك، وأن تأدبت كان ذلك دليل على ضعف موقفك وتراجعك عن غيك! بعضهم سيلعنك وبعضهم سيعطف عليك، لكن لا تسئ الظن، فلا أحد يكرهك حقاً. المهم أن تنسى سؤالك، وتشارك القطيع في اللغو العام ومهرجان لعن "قوى الظلام" وسيتحول الجميع إلى أصدقاء يمتدحون اعتدالك وتوازن مقولتك وحكمة تحليلك العميق!

 

ستغضب وستسأل لماذا يعامل سؤالك بهذا الشكل، وقد تشعر بالإحباط، لكنك ستشعر أيضاً بالسعادة تغمرك، حين تدرك أن وصول الخفافيش إليك، يعني أن سؤالك اقترب من غار الثعبان وأن هذا الأخير يرتجف خوفاً!

 

لقد بدأت رسالتي لك بما هو محزن، لأترك ما يسعدك في نهايتها، فلا تذهب من عندي مهموماً. أقول لك، لقد وجد سؤالك مكان له في قلوب الناس..بين امرأة تدافع ببسالة وترفض الحجج وتطالب بالجواب، وبين رجل يحميه بلطف وأدب، ويرفض زخات الكذب والترهيب والتهديد المبطنة والمكشوفة. وقفنا جميعاً فريقاً واحداً نطالب بسؤالك الذي هو سؤالنا، وبحقك وحقنا في الجواب.  وكان الكذب حيثما هرب، يجد من يكرر له السؤال الذي يرن جرساً لا يهدأ في أذنه. لذلك أقول لك أنهم لم يستطيعوا خنق السؤال هذه المرة، وأن شمس الحقيقة صارت تزعج الثعبان. الوضع صعب وشائك، ولكن، وكما يقول شاعر هولندي جميل، نقول ...

" لابد ان يكون هناك...من يوقد الشموس "

عندما يصرخ الآخرون: “ان لاجدوى..انها النهاية”

لابد ان يبقى هناك…من يصر أن “العالم لن يسقط”

ينادي من على السطوح “ان هناك الحب والفرح”!

ويرى في كل نهايةٍ, .... بدايةً جديدة..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1586 الاربعاء 24 /11 /2010)