صحيفة المثقف

قراءات في ديوان"عواصف الحنين" للشاعر عناد جابر/ جلال جاف

تطيرها عواصف الحنين

حنيني الى الاحتراق

بلهيب نجومك

التي تحلم

ان تكون شهبا

تتساقط كالثلوج

وتغمرني

برقيات عشق

يناجيني

من وراء المحال/10

 

الصرخة اشارة نصية قوية لمحاولة اسماع صوت الشاعر من خلال تحدي العواصف بما تحمله من قوة رادعة لصوته اذ يصنع من "صرخته " طيورا تصارع الرياح أثاَرتها تجليات الحنين الذي يقيسه الشاعر بعمر الزمن والوقت الذي لا يرحم المحبين ولا يمهلهم زمنا للقاء. الحنين حالة شعورية تحركها العواطف الإنسانية تظهر جلية عندما ابتعد الشاعر عن حبيبته أو وطنه ولعل الشاعر اتصل بمشاعر شعراء المهجر في تصويرهم للحظات حميمية اشتغلوا فيها بالإستذكار .

أن لفظة الحنين تقترن بالحبيبة أو الوطن أكثر لكونه مأوى يجمع كافة ما ألفه الإنسان من ذكريات وأحبة ومن تربى وترعرع بجوارهم من ذوي قرابة وأصدقاء ومناظر طبيعية تحيط به لها أثر في نفسه ولكون الحبيبة هي الوطن الروحي للشاعر، وبجولة آسرة نلمس من خلال كلمات النص أن الحنين احتل موقعا مرموقا برزت فيه آلام الشاعر الإنسان الغريب في هذه الحياة فقد يكون مسافرا إلى غير رجعة "وقد تكون الحبيبة وقد يكون التلاقي مستحيلا"، حتى يعبر به للوصول لغرضه المقصود من إنشاء القصيدة .. وتمتاز أشعار الحنين بالصدق والعذوبة ورقة معانيها ودقة ألفاظها وسلاسة أسلوبها ويرجع ذلك لقوة العاطفة التي تحرك القريحة حينها، مما لايدع مجالا للتكلف والصنعة .

الشاعر يهوى قرب الحبيبة بما يخلفه من احتراق كأن النجوم لهب يتقد "شهابا" باللقاء متوهج كالشهاب وهو نقطة حادة تتجمع عندها نجوم الحبيبة كانها مجرة ولعل الشهاب في صفحة السماء على شكل ضوء خافت اللمعان خلال الليل، أو قد يكون له مظهر كرة ملتهبة تجر وراءها ذيلاً يمكن رؤيته على مسافة مئات الكيلومترات من سطح الأرض . وبعض الشهب قد تكون شديدة اللمعان، حتى أنها قد ترى في ضوء النهار على الرغم من أشعة الشمس الساطعة في السماء.

كأن الشاعر يقلق مخيلة القاريء من خلال تكثيف عملية إحتراق الشهاب وهو في الأصل نجم لكن لهيب النجوم لا يكفيه إحتراقا بل يخلق دلالة لترسيخ صورة الإشتعال والإرتطام بالارض وبزوغ "فجر الحبيبة" التي تتوارى في سماء بعيدة يكاد الشاعر يخفيها لانها لا توصف ولا تقارن بامراة اخرى بذلك يرسم وجه الارض الحبيبة التي يناجيها العاشق الوحيد تحت سماء اخرى وفوق ارض اخرى.

برودة الثلوج تنير ظلمة الشاعر العميقة الممزوجة بالوحدة التي تسكب نيران الحنين وليحول إشارات النص الى صورة جمالية تريح القاريء من دوامة النجوم الملتهبة .

 

الغياب

تغيبين خلف الوقت

فتصبح الثواني

مدى

تقطع أوصال صبري

و الدقائق/13

الغياب مقياس يتحول الشعر فيه الى معرفة تلتمس سر الوجود المنفتح على نداء الروح المرتحلة من بر الى بر وتشظيات المعنى عبر طقس الاغتراب كلغة منفتحة على الشعور الكوني وذوبان الذات في حضرة الحبيبة ويمكن استكشاف إنزياحات الأشياء والموجودات الماثلة أمام حضرة الوقت المخضب بالوجود وجها لوجه مع عمق البحار داخل سياق الكينونة ونسقها . ولا يمكن أن نستقريء شعرية النص دون الشعور بتدرج الوقت من ثواني ودقائق حيث يصف الشاعر "عناد جابر" في صور خاطفة الدقائق والساعات في "حضرة الغياب" كمقياس أكبر وهو مقياس القرون التي تقاس بها عمر الأمم وعمر الارض وليس عمر البشر. كأن الشاعر يؤكد على سر خلوده وشغفه وتطلعه للقاء الحبيبة برغم ما سبّب للشاعر من الم وعذاب. إنتظار لقاء الحبيبة تشاكل زمني وتقسيم زمني يدل على تقسيمات الاغتراب حيث ان الوحشة والإغتراب الروحي هو السائد في اخر مقاطع القصيدة بذلك يتسع المدى وتتقطع أوصال الشاعر بالصبر ويصير الإغتراب مكانيا إذ ينأى الشاعر بنصه الى بحار لا شاطئ لها حتى لا يتوقف عن التجديف صوب عوالم بعيدة يقيم فيها علامات ترحاله المستمر:

بحار

تشاطرني مرقدي

و تصبح الساعات

قرونا

من وحشة...و اغتراب

 ولأن "الإنسان جمعي يستطيع أن ينقل ويشكل اللاشعور أو الحياة الروحية للنوع البشري" مثلما يقول "يونج"، فان أدب الرحيل والفراق ليس قاصرا على بلد باسره بل هو أدب عالمي عرفته الأمم وانطلقت منه فكره الرحيل الى آفاق عريضة ففى الرحيل والاغتراب تتجلى غصة الوداع ووفاء المنتظر وهم الشاعر على الرغم من صعوبة المسالك ووعوة الدروب .وفى الرحيل تتفتح جراح "الحنين" ويكون هناك رحيل آخر الى أعماق النفس لإستجلاء سرها ومعالجة سقام الحب وتصدير للإحساس النابع من شعوره بالنفى والتشرد فى سبيل الكلمات . .

 

"تصوف"

زُمَراً

وحولك كالفراش

يحومون ويلهثون

العاشقون المغرَمون

يتسابقون لغزو قلبك

في ميادين الجنون

لكني ياحلوتي

متصوف فيك

وحب مثل حبي

لم يكن ابداً

وحتماً لن يكون/23

 

 ان المحبة أعلى مقامات التصوف ومن خلال كلمات النص البسيطة صوّر الشاعر "الحبيبة " او "الحلوة" ذلك النور الذي يطوف حوله " الفراش" مستلهما تركيبة الفراش الطبيعية من ألوان زاهية وجميلة مشبها بها "العاشقون المغرمون" الذين يتسابقون "لغزو" قلب المراة التي يحب لكن حبه المتصوف يتنزه على البريق الكاذب للفراش اذ بمجرد اقترابه من النور يحترق وكأن المراة هنا حددت ملامحها بنورانية وروحانية على عكس ما حاول مواراته في نصّيه الاوليين. فمقدار حبه وشغفه بها لا يضاهيه حب رجل آخر و"لن يكون" حتماً .متقاطعاً مع إشارات نصوصه الأربع راسما خطا نورانيا في سماء الحبيبة التي تتوارى "خلف الوقت" ولا يقاس حبها بزمن غير زمن الكتابة ولحظة الإبداع التي تكون مولدة الصور المكثفة والخاصة بالشاعر في تقليص مجال البوح حتى يملك القاريء كل مفاتيح القراءة والإستكشاف.

 

"في الغياب"

 

الآنَ جزُرُ

والبحرُ

يرقدُ في سرير الصمت

لا سوقُ الرمالِ لموجهِ

يجدي

ولا عطش الصخور

يهمس للشطِ

ويذهب نحو الامس

غاص الكلام

وكل حرف

بات غي الاعماق

بركانا يثور

هناك مدٌ

للذاكره سر آخر

لا هو يحيى

ولا هو يموت

يعود

مع الموج الآتي

وبريقك يحضر

وضحكاتك تتجلى

فيمطر جزرا فيّ

واسكنكَ.. بحرا

في الغياب/ 35-26

 

 

 تتكرر موضوعة الغياب في نص الشاعر "في الغياب"/ص35 في حين يجدد الشاعر الدلالات ويلبس نصه ثوب الحداثة بتجليات الغياب والإغتراب في رسم لملامح الحبيبة بين البريق والضحكات، ويثور بركان الوجد لدى الشاعر ليحاول الحفاظ على سر لا يبوح به في نصه . بذلك ينحو نحو "المحافظة" لانه يساوي الحبيبة بالارض المقدسة، مانحاً القاريء سلسلة مترابطة بين نصوصه التي تصور الاغتراب والفقد والاشتياق. وحاول الشاعر الإشارة بداية في افتتاحية القصيدة الى الجزر مشبها حياته بين مد وجزر ومحاولة النسيان والتذكر. فبناء الشعرية واللغة ببساطة الايقاع لتتسارع في نهاية القصيدة كأن الشاعر يقول للحبيبة:

 

" فيمطر جزرا فيّ

واسكنكَ.. بحرا

في الغياب"

 

 حتى يكون المخاطب الوطن والسكن والحبيبة بسعة البحر فتكون اشارة البحر دلالة على النقاء والصفاء الروحي رغم الغياب والاغتراب.

 

"الفرق"

 

لم يكن بيننا وبين التقائنا

سوى خفقة من زمن

وحبّةٍ من مسافة

هي البعد

مابين الواقع والخيال

أو ربما.. ربما

هي الفرق

مابيننا/19

 

 من خلال النص،على كثافة كلماته ودقة صياغتها، لم يترك الشاعر منفذا للقاريء سوى إثارة وإستحضار مخليته في ادراك الزمن الذي يتكلم عنه الشاعر "خفقة من زمن" هل قصد بها خفقات القلب وهل يقاس خفقان القلب بمقياس الزمن الشعري ؟ ان الزمن لحظة إبداعية تشبث بها الشاعر حتى يبقي على نفس النسق الروحي بداية من النصوص الاولى .حاول تجسيد الفعل المتميز بالمسافة والبعد كانه في عالم بعيد عن عالمه الواقعي اذ ألغى مقياس الزمن وحاول البحث عن منطقة بين "الواقع والخيال"التي تفرق بينه وبين الحبيبة والفرق الروحي او الجسدي لا يجسده الشاعر بل يترك للقاريء كل المفاتيح لفتح نصه وتضمينه زمنا كامنا في لحظة الحب. أما التحدث عن الفرق المكاني وليس الروحي حين يتطلع الشاعر الى لحظة الخفقان بين "المسافة والبعد والواقع والخيال " حيث نلاحظ أن الشاعر يتكلم عن الشكوى الناجمة عن الحب ما يصاحب هذا الشعور من ألم ومرارة، غير أنه من مكملات الوجود الإنساني بطبيعة الحال، ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا خارج الزمان، لهذا فهو عرضة لتجليات الزمان الذي يطوله من خلال الحب والحزن والفقد وسائر ما تختص به حياته في هذا الوجود.‏

 كأنما لجوء الشاعر الى الخيال يريحه من ألم الواقع وإرهاصاته، في لحظة زمنية إبداعية يسلم حرفه الى اللاوعي حتى يفيض على لحظة اللقاء وإن كانت خيالية بينه وبين الحبيبة .

  

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2103 الجمعة  27 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم