صحيفة المثقف

نص وحوار

يسرّ "المثقف" استضافة الشاعر القدير د. محمّد عدلان بن جيلالي، ضمن برنامج نص وحوار، لتحاوره حول نصّه "إمام" من خلال طرح بعض الأسئلة، فأهلاً ومرحباً به.

د. محمّد عدلان بن جيلالي أستاذ ومحاضر جامعي وشاعر له حضور موسمي في صحيفة المثقف لكنّه حضور مميّز وله بصمة بلاغيّة متفرّدة. يشارك الأخوة الأدباء ويتفاعل مع إبداعهم بين الفَينة والأخرى نظرًا لنشاطه الأكاديمي. 

إصداراته:

- أطروحة دكتوراه: سينمائيَّة الخطاب الفيلميِّ. مقاربة سيميو- شعرية. Titanic إخراج جيمس كمرون (James Cameron) أنموذجاً؛ (11/ 05/ 2011)، جامعة وهران. 

* المقالات المنشورة:

- الشعريَّة ومزايا التفكيك. القلم؛ مجلَّة لغوية أدبية دورية أكاديمية محكَّمة. العدد:15، أوت 2010. جامعة وهران.

- الترجمة في كنف تحليل الخطاب؛ اقترابٌ واصفٌ في المفاهيم. الآداب العالميَّة، مجلَّة فصليَّة تصدر عن اتحاد الكتَّاب العرب بدمشق. العدد: 142، ربيع 2010. دمشق، سوريا.

- السِّينمائيَّةُ؛ مُحاولةٌ في بناء المفهوم ونَحْت المصطلح. القلم؛ مجلَّة لغوية أدبية دورية أكاديمية محكَّمة. العدد:22، أكتوبر 2011. جامعة وهران.

- مقولة الأسلوبيَّة بِمُقاربةٍ شِعْريَّة، - قراءةٌ واصفةٌ فِي بُؤر المقارَفة -، مقاربات، مجلَّة دوليَّة أدبيَّة، علميَّة، ثقافيَّة، محكَّمة، العدد: 13، 2015، جامعة الجلفة.

- الشِّعْريَّة الكريستيفيَّة بِمقاربةٍ هايدغيريَّة؛ - نحو فهْمٍ تقْنو- وجوديٍّ لآليات اشتغال النصِّ الإبداعيّ-، قيْدَ النَّشْر بمجلَّة: السَّرديَّات بقسْم اللُّغة العربيَّة وآدابها: جامعة قسنطينة.

* المؤتمرات:

- يومان دراسيان: الاتصال وسيميولوجيا الخطابات الفيلميَّة. المداخلة: قراءةٌ سينمائيَّةٌ في فيلم تيتانيك (Titanic) إخراج جيمس كمرون. قسْم علوم الإعلام والاتصال، (14 و15/ 03/ 2004)، جامعة وهران.

- ملتقى وطني: المصادر والقيم الخبريَّة. المداخلة: قِيَم الشَّكل في بِنْية الخبر المكتوب والمرئيّ. قسْم علوم الإعلام والاتصال، (03 و04/ 05 2005)، جامعة مستغانم.

- ملتقى دولِي: إشكالية حضارة المجتمع الإعلامي. المداخلة: الصُّورة الفيلميَّة في ميزان إشكاليَّة تَجْميل الإعلام. قسْم علوم الإعلام والاتصال، (14 و15/ 03/ 2005)، جامعة وهران.

- ملتقى دولِي: الدرس الأسلوبِيُّ بين قراءة التراث وتطبيق المناهج النقديَّة الحديثة. المداخلة: الأسلوبيَّة والشِّعريَّة؛ هل هما مصطلحان لِمفهومٍ واحد؟، (16 و17/ 12/ 2013)، جامعة حسيبة بن بوعلي، الشلف.

* ثلاثة دواوين شعريَّة مخطوطة: التحضير لنشْر الديوان الأوَّل، بالموازاة مع تَحْرير مجموعةٍ شِعريَّةٍ خاصَّة بعنوان: تغاريدُ غضبِ على تْوِيتِرٍ عربِي – 100 تغريدة -.

 

الجوائز التي نالها:

- الجائزة الأولى عن مُشاركتِي بقصيدة: متَى سيعترف المسدَّس باليدين؟ فِي أمسيةٍ شعريَّةٍ بقسْم اللُّغة العربيَّة وآدابِها بجامعة وهران عام 1998. (التاريخ تقريبِيّ).

- نشْرُ مجموعةٍ من القصائد في صحُفٍ وطنيَّةٍ مختلفة: على غرار صوتِ الغرْب، والجمهوريَّة.

- قراءةُ بعضٍ من قصائدي على أثير الإذاعة الوطنيَّة فِي إطار حصَّة: أقلام على الدرب، إعداد الشَّاعر الجزائريِّ القدير: علي ملاَّحي؛ مثْل: قصيدة (إلى ثَرِيَّة)، ومقاطع من مُطوَّلة: (وصولُ غودو) ... 

ميّادة: الشاعر القدير د. محمّد عدلان بن جيلالي، وصلتْ قصيدتكَ إلى بريد المثقف الإلكتروني برفقة عبارة مشوبة بالتردّد والقلق:

هل للمثقَّف الهَمْهام

الشَّجاعة لنشْر هذه القصيدة الخبيثة؟

حرّرتها ونشرتها بفخر وبلا تردّد لأنها قصيدة جريئة تنحاز إلى قضيّة إنسانيّة وآفة اجتماعيّة، تتفاقم في ظلّ الاحتراب والإرهاب باسم الدين، ضحيتها المرأة.. وفيها تلاقح باهر بين الشعر والسينما يستحق وقفة تأمليّة.. فالشاعر، كمخرج سينمائي، يتقمّص الشخصيّتين ببراعة تتجلّى بركوب "البحر السريع" مع شراع قافية الهاء الساكنة.. قصيدة تَعْبر حدود الدّهشة بمشهد يضمّ تصاعد الحدث والذروة معًا... 

د. محمّد عدلان بن جيلالي:

فِي البَدْء، دعينِي سيِّدتِي أفْتحُ أفْضيَةَ امتنانِي لكِ، وللمثقَّفِ البَجِيل النبِيل .. على أن كانتْ لِيَ الحِظةُ فِي شُرْفةٍ من شرُفاتِه النُّورانيَّة، لأُلْقِيَ من فوْقِها بكَبْتِيَ النقْديِّ حَوَال قصيدتِي: (إمام) على أرض القراءة، والتلقِّي، والاقتراب ...

فشُكْراً .. تسْعينَ ألْفَ مرَّة .. لكِ سيِّدتِي، وللمثقَّفِ الحبيب.

حقّاً، كنتُ مَهْجوساً .. مسْكوناً بالخوف قبْلَ الإقدام على نشْر هذا النصِّ المَحْمومِ المَجْنون. ولَمْ أكُ فِي شيءٍ خائفاً على المنْشور، بقدْر ما كنتُ خائفاً على النَّاشر؛ فهذه القصيدةُ – كما أرى- جريئةٌ جُرْأتَيْن: جُرْأةَ الموضوعة (الطَّابُو)، وجُرْأةَ المُعْجَم. وأمَّا الجُرأةُ الطابُوهاتيَّةُ فتأتِي من كونِ النصِّ يتوجَّه بالفضْحِ، والتعْريَّة إلى فئةٍ مُنَزَّهةٍ .. (مُقدَّسةٍ) فِي عيون المجْتمَع العربِيِّ من الخليجِ إلى المحيط، والأدهَى أنَّه نصٌّ ما ونِيَ عن تصْويبِ نِبالِ الفضْح نَحْو بُؤرة الجنْس وهو يُحاكِي قصَّةً واقعيَّةً لإمامِ حارةٍ لَمْ يتورَّع عن التحرُّش الجنْسِيِّ بامرأةٍ عفيفةٍ .. شريفةٍ هيَ جارَتُه.

وأمَّا الجُرْأة المعْجميَّةُ، فتَرْشَحُ عبْرَ بعض مُفْردات القصيدة، على سبيل: الجنس، والشَّهوة، والتقبيل، ومُفْردةِ (النَّهْد) التِي لَمَعتْ فِي النصِّ ثلاثَ مرَّات. فكيفَ .. كيفَ لِي أن أتوقَّع ردَّ فعْلِ بعضِ القرَّاء البَرَّانيِّين الذين يَجْتزئون بقراءة الشِّعر من خارِج الشِّعر، قراءةَ مَرْجِعٍ، لا قراءةَ نسَقٍ، وبِنْيَةٍ، ورسالة؟

هؤلاء القرَّاء (الجانِبيُّون الهامِشيُّون) عندما يُصادِفون كلِمةَ (النَّهْد) فِي أيِّ نصٍّ من النصوص، الشِّعريَّةِ أوِ النثْريَّة، كأنَّما صادَفوا لُغْماً، أو شبَحاً فِي طريقِ القراءة! فوُشْكانَ ما يَبْدُرون إلى التعوُّذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم .. ومنَ النَّصِّ، والنَّاصِّ، والمنصوصِ له معاً.

فماذا هُم فاعِلون حين يُصادِفون كلمة النَّهْد جارِيةً على لسان إمامٍ يُمَثِّل الورَعَ، والتقوى، وسلْطةَ الدِّين فِي المؤسَّسة المُجْتمَعيَّة؟

سيَلْعنونَنِي حتْماً، ويتهافتون على إهْدار دمي .. ومن هُنا كنتُ أخشى أن تطالَ اللَّعْنةُ ذاتُها صحيفةً بريئةً بسَبَبِ نشْرِ قصيدة.

عجيبٌ أمْرُ هؤلاء .. يَخْرَسون حين تقَعُ الفضيحةُ على الأرض، ويتزَبَّبونَ، ويرْعَدونَ، ويُلَعْلِعونَ كالخرْطُوش الأبْيض حين تقَعُ على الورقَة!

فضْلاً عن ذلك، أحبُّ، سيِّدتِي، أن أنوِّه فِي مَطْلَع هذا الحوار الرَّحيب بأنَّ قصيدة (إمام) قد وقعَتْ وقْعتَيْن: وقْعةً فِعْليَّةً على مسْرَح الحقيقة؛ وهي وَقْعةُ الهَيُولَى والمادَّة الخام، ووَقْعةً شِعْريَّةً على بساط الصَّفحة؛ وهي وَقْعةُ الرُّؤيا، والجمالِيات، والهنْدسة اللُّغويَّة .. على أنَّ الوقْعةَ الشِّعْريَّة، الوَقْعةَ النصِّيَّة هي ما يُهِمُّ قارئَ الشِّعرِ الأريبَ حيْثُما كان.

كذلكِ أعْجبنِي قولُكِ، سيِّدتِي، إنَّ هذه القصيدة تنِمُّ عن تلاقُحٍ باهِرٍ بين الشِّعر، والسِّينما؛ فهو الأمر الذي كنتُ قد أومأتُ إليه فِي ردِّي على تعليقٍ عميقٍ للشَّاعر القدير: عبد الفتَّاح المطلبِي فِي صفحة النشر الإبداعي، حيث قلتُ إنَّ هذه القصيدة – لا ريْبَ – مُمَفْلَمة، وإنَّ ثَمَّة خيطَ تصويرٍ سينمائيٍّ يتَهَسْهَسُ طيَّ دُخيْلائها، إذ يرصُّ الصدرَ إلى العجُز رصّا .. ويقصُّ البيْتَ فالبيْتَ قصّا.

وقلْتُ، أيضاً: إنِّي لَمْ أكن شاعراً فِي إنتاج هذا النصّ، بل مُخْرِجاً سينمائيّاً. ولَمْ تكُنِ القصيدةُ هذه بيْن يديَّ شِعْراً، بلْ آلةَ كاميرا!

ثُمَّ اسْمحي لِي، سيِّدتِي، أن أنْبُهَ إلى أنَّ (الهاءَ)، و(التَّاءَ) السَّاكنتَيْن فِي بِنْية القافية التِي قامتْ عليهما قصيدتِي، ليستا سوى حرْفٍ دخيلٍ على المجال الحيويِّ لفضاء التقْفية، وهُما، من بابِ المُصْطلحيَّة العروضيَّة ما يُمثِّل حرْفَ وصْلٍ بِحُكْم أنَّ قافيةَ هذه القصيدةِ قد وردتْ مُطْلقةً مُجرَّدة؛ أي موصولةً بوصْلِ الضمير تارةً (نفتحَهْ)، وتارةً بوصْلِ تاءِ التأنيث (مَصْلحَةْ). وأمَّا حرْفُ الرَّويِّ، سيِّدُ الأحْرُف فِي هذا النصِّ، إنَّما هو حرْف (الحاء) المفتوح؛ ذلك الصَّوت الشَّبَقِيُّ المُخاتِل .. المُشْرَبُ بلوْن الشَّهوة طوْراً، وطوْراً بلوْن الكبْتِ، والتوجُّع ... 

س1: ميّادة:

نستهلّ الحوار بالعنوان: إمام ..

مبتدأ يفتقد خبره..

هل كان الايجاز بالعنوان نابعًا من الإرهاق الذّهني بعد ولادة القصيدة؟ أم بدافع التكثيف وتسديد أول سهام الغموض ليصيب بؤرة الهدف: عنصر التشويق؟ أم إنّك اتخذت من العنوان خزنة لادخار الغموض في رصيد القصيدة... بعد أن استغنت القصيدة ذاتها عنه وتبنّت الصراحة والمباشرة؟ 

ج1: د. محمّد عدلان بن جيلالي:

هذا السؤالُ ذكيٌّ كمِسْبارٍ آلِيّ .. يسْتهدِفُ مُكاشَفةَ الوازِعِ التقْنِيِّ، والاستراتيجيِّ الذي أنتجْتُ بهِ نصَّ القصيدة.

لذا، يتعيَّن عليَّ أن أتعَاطى الإجابةَ عنه، وعن مثْلِه من الأسئلة، برُوح قارئٍ، لا برُوح شاعر، مع اعترافِي سلَفاً أنَّ هسْهَسَةَ التحليل قد تنْزلِقُ بِي إلى جوْف القصيدة، فأضطرَّ لِمُفاعلَة بعض الأسئلة من داخلِ النصِّ، لا من خارِجِه.

لا تُرهقنِي عنْوَنةُ قصائدي أبداً. وإذا حدثَ وأنِ امتصَّ النصُّ القطْرة الأخيرةَ من مياه طاقتِي النفسيَّة، وقريْحتِي الإبداعيَّة .. أمتنِع عن عنْوَنتِه إلى أن تتجدَّد الطَّاقة، وتنشَحِن القريْحة.

أنا شاعرٌ يأخذ كامِل وقْتِه قبْل أن يُعَنْوِن نصوصَه. وإنِّي لأسْتجمِع كلَّ قوايَ الإدراكيَّةِ، واللُّغويَّةِ .. قبْل أن أباشِر فِعْلَ العنْونة. فقد أستغرِق، بعضَ الأحايِين، ساعاتٍ، بل أيَّاماً قبْل أن أرْسوَ على صياغةٍ عنوانيَّةٍ لقصيدةٍ واحدة، يقتنِع بِها عقْلِي، ويطمئنُّ لَها قلْبِي.

ولن أقترِف ذنباً إذا اعترَفتُ أنَّ هذه العتبَة: (إمام) كانت آخرَ لَمْسةٍ .. يرْتشُّ بِها وجْهُ القصيدة.

قدَرُ هذي القصيدةِ أن تَخِذ عنْوانُها شكْلَ كلمةٍ غيْرِ مُعرَّفة؛ وهو، من ثَمَّ، عنوانٌ لَمْ يكُن مُبتدَأً يفتقِر إلى خبَرٍ وحسْب، بل كان نكِرةً تفتقِر إلى تعْريف. وإذَن، فالابْتداءُ المبْتور، والتنكير المقْصود، كلاهُما، أسْهَم فِي جعْلِ النصِّ مَحلَّ تكثيفٍ دلالِيٍّ، ومُوارَبَةٍ قرائيَّة ..

فِي ضوء هذا المُعطى، يتراءى لِي، بوصْفِي قارِئاً، أنَّ العنوان هنا ينتصِب مُبْتدَأً، وخبَراً دفْعةً واحدة؛ كلمةً تبْتدئُ الجمْلة، وتُخبِر عنها فِي آن .. تفتحُ النصَّ، وتغْلِقه .. كأنَّه عنوانٌ يُخْبِر عن كلِّ شيءٍ، ولا يُخْبِر عن أيِّ شيء .. ولقارئٍ آخرَ الحقُّ المطْلَقُ فِي أن يرى أنَّ هذا العنوان مُبْتدَأٌ، وجسْمَ القصيدة خبَرُه، على الرُّغم من أنَّ فِي هذا الرَّأي، على مشْروعيَّتِه، ما يألَتُ من المكابَدة الدلاليَّة للقصيدة، وينتقِصُ من قيمتِها الجماليَّة.

إمام .. من دون ألِفٍ ولام: ذاك لأنَّنِي حريصٌ على مُطْلقيَّة اشتغالِ القصيدة؛ أي إنَّنِي أقصُد الإمام فِي كلِّ الأزمنةِ، وكلِّ الأمْكِنة من دون أن أقصُد جَميع الأئمَّة. أردتُ أن أقول إنَّ ما يُشكِّل الموضوع فِي هذا النصِّ ليس الإمامَ - الدِّين، ولكنَّه الإمامُ – التديُّن، وليس الإمامَ – الافتراض، ولكنَّه الإمامُ – المُمارَسة ..

فها هُنا يتحصْحَصُ الحقُّ، ويتأكَّد أنَّ لِهذه القصيدة الفاحِشة رسالة. وها هُنا ينْكتِب على وعْي القارئ، وعلى ورَقِ نفسيَّتِه ألْفُ سؤالٍ عن الهويَّة العمَليَّة لِهذا الإمام:

هل هو الإمامُ الاجتماعيُّ النظاميُّ المُعاصِرُ الذي يكْتفِي بتلاوة خُطْبتَيِّ الجُمُعة كالرُّوبُوت على مسامِع شرْذمةٍ من المُصلِّين .. يتردَّدون كالآلات على المساجد ليتلقَّوا خُطَباً فِي الدِّين من عصْر صدْر الإسلام، أو من عصْر المَماليك، أو من العصْر الأمَويِّ السَّحيق؟ أمْ هو الإمام الإرْهابِيُّ الذي صعَد الجبالَ بفعْل فاعلٍ سياسيٍّ .. فتَماهَتْ فِي روحِه السِّياسة بالدِّين، واختصَر اللهَ، وملائكتَه .. فِي كرسيِّ السُّلْطة؟ أمْ هو الإمامُ الداعِشيُّ الذي لَمْ يلبَثْ يُحرِّم الزنَى ويزْنِي، ويُحرِّم القتْل ويقْتُل بِمهارة رسَّامٍ تكعيبِيٍّ، ويُجرِّم اللِّواط ويُمارِسُه فِي ردهات السُّجون اللِّيبيَّة، والعراقيَّة، والسُّوريَّة؟ ...

إمامٌ .. من دون خبَرٍ، أو توصيف: لأنَّنِي شاعرٌ، ولسْتُ مُخْبِراً .. أو صِحافيّاً، أو مُرْشِداً واعِظاً. فالشَّاعرُ هو ذلك الكائنُ الإيحائيُّ الذي يلْهثُ كفراشةٍ هيْماءَ خلْف ضياء الآفاق المجْهولة .. الكائنُ الهُلامِيُّ الذي يَحْترِف فتْحَ العبارةِ كما يفْتح الشِّراعُ أفُقاً فِي مدى البحر. ليس إذَن، من شأن الشَّاعرِ قولُ العبارات النهائيَّة .. المُقفَلَةِ إمَّا بِخبَرٍ، أو بنعْتٍ، أو بشِبْه إضافة ...

فتصوَّري، سيِّدتِي، لو أنَّنِي أضفْتُ نعْتاً للمنْعوت (إمام) فِي لوحة العنوان؛ كأن أقول: إمامٌ فاسِقٌ، أو منافقٌ ..، كيف سيكون المَصير التأويليُّ، والجمالِيُّ لِهذا العنوان؟ وكيف سيكون مَصير قصيدتِي معَه؟ فسُرعان ما يتحوَّل جُمْلةً قطْعيَّةً .. مُنتهيةَ الصلاحيَّة.

لا مَحالةَ، إنَّ الإخْبارَ بأيِّ وصْفٍ من الأوصاف عن حالِ هذا الإمام فِي مسْتوى العتبَة، سيقتُل القصيدة قبْل الولادة، أو يُجْهِض مَوْلودَها الجمالِيَّ فِي يوْمه الأوَّل، ما يَجْعل القارئ، مهْما تكُن إيْجابيَّةُ التلقِّي لديه، يصْدِف عنِّي، ويشْعُر بديكتاتوريَّة العنوان ما دام يفْرض عليه قراءةً (نعْتيَّة) واحدةً، أو أحاديَّة الاتِّجاه .. فلا يفكِّر، ربَّما، حتَّى فِي تَخطِّي العتبَة إلى غُرَف بيْتِ القصيدة.

وإنِ ابتلاهُ الفضولُ وقرأ النصَّ، قرأهُ كما يقْرأ خبَراً مُبْتذلاً .. منشوراً فِي صحيفةٍ صفراء، ومُحرَّراً بتقنية الهرَم المقلوب!

هكذا يَجب أن تكون العلاقةُ بيْن مِنصَّة العنوان، وبساطِ النصِّ فِي مِحراب الإبداع: علاقةً إيْحائيَّةً مُضْمَرَة .. تنهَض على خيطِ وصْلٍ إنتاجيٍّ، بَلْهَ عَدائيٍّ مُتبادَلٍ بينَهما، حيث تنتقل عدْوى ذلك إلى علاقة النصِّ برُمَّته بكلِّ من يقرؤه.

هي علاقةُ اتصالٍ من حيث هي علاقةُ انفصال، وهي علاقةُ انفصالٍ من حيث هي علاقةُ اتصال. وإنِّي، إذ ذاكَ، لأستَسْمِج أن تُعَنْوَن قصيدةٌ ما بعنوانٍ يَحمل عقليَّةً أكاديْميَّةً؛ حيث يستغرق نصَّه استغراقَ تطابُقٍ، ووفاء ...

وأمَّا قضيَّة المُباشرَة، أو الوضوح الذي تبنَّتْه قصيدتِي فِي غفْلةٍ من ضبابيَّة العنوان، فتيْكَ قضيَّة معقَّدةٌ .. وقد أُجْريَتْ من أجل فهْمِها الجِرايات، وأُلِّفتِ الكتُبُ الضِّخام.

لكنَّنِي أحاول، فِي هذا المقام الخاص، اختزالَها فِي تسْويغيْن اثنَيْن:

أوَّلاً؛ أعترِف لكِ سيِّدتِي، وللقارئ الفضيل بأنَّ لغة هذه القصيدة، وكثيرٍ من قصائدي، لغةٌ واضحةٌ كالوصْفة الطبِّيَّة. بيْد أنِّي أتساءل: هل كان بوُسْعي أن أفضحَ مَخْفيَّ هذا الإمام الفاسق بلغة الغموض؟ وإذَنْ، هل يُمكن لِي، ولشاعرٍ غيْري، أن يفْضح غموضاً بِخطابٍ غامض؟

أعْنِي: أنَّ الموْقف السُّلوكيَّ، والفكريَّ الذي تناقشُه قصيدتِي موقفٌ حسَّاسٌ .. ما يزال يتحرَّك فِي السَّراديب المظلمة لِمجتمعنا العربِيِّ تَحرُّكَ الطَّابُو. وأنا شاعرٌ قد قرَّرتُ فضْحَ هذا الطَّابُو؛ فهل يُعْقَل أن أتَحدَّث عن الطَّابُو بلُغة الطَّابو؟ وهل يُعْقَل أن أفْشيَ سرّاً بصَمْت البانتُومِيم؟

أرى أنَّ فضَحَ تعْنِي وضَّحَ، وبذلك فإنَّ فعْل الفضْح منطوٍ سلَفاً على منطِق الإيضاح. وأرى، أيضاً، أنَّ المنطقيَّ هو أنَّنا نفضَح غموضاً، ولا نفْضح وضوحاً! فبالله .. كيف تُريدينَنِي يا سيِّدتِي أن أفْضَح غامِضاً بتغْميضِه؟ القضيَّة قضيَّةُ جنْسٍ صعَّد خفقان اللِّيبيدو فِي دم إمامٍ مُنافِقٍ، أو مضغوطٍ عاطفيّاً .. هذا الذي هو نفْسُه سرْعان ما استنكَرَ الغموض الذي لبِسَ وجْهَ جارتِه صادِعاً: (ما أوْضَحَ الجنسَ وما أوْضَحَهْ)!

من ذا رأى لغةَ جنْسٍ مُرَمَّزةً وفْق تعاليم المذهَب الرمزيّ؟ ذاك ليس جنْساً، ذاك جبْسٌ لا لونَ، ولا ذوقَ له. ومن ذا رأى رجُلاً يطْلب يدَ امرأةٍ للزَّواج .. بِهُلاميَّةِ أدونيس، ورمْزيَّةِ مالارْميه، أو بودْلير؟

أقول آخرَ الأمر؛ لأنَّ موْضوعة قصيدتِي واضحةٌ، كان عليَّ أن أتعاطاها بِمُعْجَمٍ واضِح.

ثانياً؛ أعترِف، مرَّةً أخرى، بأنَّنِي بالغْتُ فِي تشْفيف هذا النصِّ إلى درَجة أن تَماهَتْ هويَّتِي مع هويَّة المصوِّر الفوتوغرافِي، أو انْعجَنَتْ روحي بروْحِ الأنتْروبولُوج.

لكنَّنِي أحبُّ أن أشوِّر إلى أنَّ وضوحَ قصيدتِي ها هُنا وضوحٌ مُعْجَميٌّ فَحَسْب. إذ ثَمَّة أبعادٌ كثيرةٌ متناقضةٌ، ومتداخِلةٌ، ومتناسِلةٌ .. تضْطرِب تَحْت قشْرتِها الخارجيَّة. هل لِي الحقُّ فِي أن أسِم هذا النَّوع من الوضوح (الشِّعريِّ) بالوضوح الرُّؤيَوِيِّ الدَّلاَّلِ اللمَّاح ..؟ لكِ سيِّدتِي أن تَحْكُمي على هذا الوضوح بكلِّ وضوح. وللقارئ الكريم أيْضا.

أرى أنَّه وضوحٌ مَشْروطٌ بسنَديَّةٍ بلاغيَّةٍ، جَماليَّةٍ .. من شأنِها حِمايةُ النصِّ من وضوحٍ مُطْلَقٍ مُفخَّخ، من وضوح العلَماء، والفقهاء، والخُطباء .. وإلاَّ تَحوَّل، حقّاً، إلى دالَّةٍ لوغارتْميَّةٍ فاصِلة، أو إلى مَحْضِ أوامرَ، ونواهٍ فِي نصِّ خُطْبةٍ من خُطَب صلاة الجمُعة ...

فهذا النَّوع من الوضوح البلاغيِّ الإيْحائيِّ .. هو ما أفْضى بِي مثَلاً إلى قول جُمَلٍ سَهلةٍ وصعْبةٍ فِي الوقتِ عيْنِه، من قبيل: (البابُ مَخْلوقٌ لكي نفْتحَهْ). دعينِي أختصِر فأقول إنَّ من يقرأ هذا النصَّ كمَنْ يسْتعمل المنظار فيَرى الأشياءَ، والكائناتِ قريبةً منه، حتَّى تكاد تلْتصِق بعيْنيْه، لكنَّه بِمُجرَّد أن ينتهيَ من القراءة / من استعمال المنظار، تنعدِمُ الرُّؤية، كأنَّه لَمْ يقرأ، ولَمْ يرَ شيئاً قبْل قليل!

س2: ميّادة:

تقديم القصيدة بحلّة جديدة.. قصيدة كمشهد سينمائي..

إذ جمعت عناصر السينما تحت خيمة الشعر:

الحوار المباشر (همسًا) بين شخصين: إمام الحيّ وجارته الحسناء.

الزمان: قبل صلاة الفجر.

المكان: باب دار الجارة.. يلتصق بجانبيه المتضادين الإمام والجارة.. وكلاهما كفوهة بركان ثائر.. الجارة، من الداخل، تنفجر غضبًا وقلقًا.. والإمام، من الخارج، ينفجر شهوة ورغبة.

الإضاءة: بقعة ضوء فوق باب الدار.. تشاكس بقايا العتمة وقت الفجر.

الموسيقى التصويرية: الموسيقى الشعريّة من البحر السريع الذي يحاكي دقات قلبَي الشخصيتين المتسارعة.. وقافية "الهاء الساكنة" التي تتصاعد من تأوهات شهوة الإمام وشهقات صدمة الجارة.

كل عنصر يجرّ خلفه شريطًا طويلًا من الدلالات الواضحة للقارئ.. فيثير إحساسًا مغايرًا.. فيغدو القارئ رهين مشاعر متناقضة..

انطلاقًا من أن الشاعر، بعد انعتاقه من أسر القصيدة، هو أول قارئ وأول ناقد لها. فما هي المشاعر الّتي داهمتك لدفع ضريبة الإبداع؟ 

ج2: د. محمّد عدلان بن جيلالي:

ها أنتِ سيِّدتِي تقْرئينَ القصيدة بعيْنَيْ سينِفَايْل (Cinephile) – عارِفةٍ بِخبايا السِّينما! لا بدَّ أن تكونِي كاتبةَ سيناريُو ماهِرة .. ولا بُدَّ لِي – إذَنْ – أن أتعلَّم على يديكِ أبْجديَّةَ الكتابةِ السِّينارْيُوهاتيَّة ...

صدقْتِ، قد تعَمَّدتُ كتابةَ هذا النصِّ مُتقمِّصاً وعْيَ كاتبِ سينارْيُو، ومُلْتبِساً بِنفْسيَّة مُخْرِجِ أفْلامٍ سينِمائيَّة. نعَمْ، وقد فعلْتُ ذلك بسَبْق الإصرار، والترصُّد.

فقد حاولْتُ أن أستثْمِر، قدْرَ استطاعتِي، ما أتيحَ لِي من مَعْرفةٍ بالترْسانة التقنيَّة لِخطاب السِّينما؛ المونتاجُ، والقطْعُ، وأحجامُ اللَّقطات، والكادْراجُ، والزُّوم ... وهلُمَّ جرّا. تلْك نقْطةُ ارتكازِ قصيدتِي، ومصْدرُ قوَّتِها الاستراتيجِيُّ فِي تفْتيق الإيْحاء، وإنتاج القيَم الجماليَّة .. بِمعْزلٍ عن غطائها البلاغيِّ، والبَيانِيِّ الذي لا أراهُ سوى مَسْلَكٍ إبْداعيٍّ يقع على هامِش الخطاب.

وأنتِ تعْلمين، سيِّدتِي، ويعْلَمُ قارئُ "المثقَّف" أيضاً، أنِّي ثرْثرْتُ كالطَّاحونة الدَّاهِمة بُغْيةَ استظْهار هذا المُرتكَز التقْنو- جَمالِيِّ المُعتمَد فِي كتابة القصيدة عندما رددْتُ على تعاليق السَّادة القرَّاء، بعْد إيداعِها بيْن يديِّ الصَّحيفة الأمينتَيْن. وضربْتُ للقارئ مثالاً تطْبيقيّاً عن ذلك .. لكنَّنِي، فِي هذا السِّياق، أفضِّل تأجيلَ تفصيلِ الكلام إلى سؤالٍ لاحق، إن شئتِ.

التناقُض الوجْدانِيُّ، والفكريُّ .. هو ملْحُ الشِّعر، وبنْزينُ القصيدة. بشرْط ألاَّ يكون تناقُضاً أجْوَفَ، يُحنِّط جذْوةَ الإبداع، ويشُدُّها إلى وتِدٍ مغْرُوسٍ فِي أرضٍ جدْباء، بدَلَ التحليق بِها إلى أعلى، فِي سَموَات الفكْر، والنقاشِ الحضاريِّ المؤسَّس.

لا غرْوَ، قصيدةُ إمام هي قصيدةُ المفارَقة .. والتناقضِ بين الدَّاخل والخارِج، بين العُمق والسَّطح، بين الجوهَر والمظْهَر. وأفْصِح هنا بأنَّ هذا الوضْع الأنطولوجيَّ المتناقضَ لَمْ يأتِ من أعماقِي الداخليَّة، بقدْر ما أتى من خارِج ذاتِي؛ فلطالَما شاهدتُ من الظَّواهر فِي مُجتمعي ما يُدوِّخ العاقلَ، والمجنون: ثلَّةٌ من سُكارى يُعاقرون الخمر بِبراعة أبِي نواس على هامشٍ معْتمٍ من الشَّارع، ويَخوضون، فِي الوقتِ عيْنِه، حديثاً راقياً عن سيِّدنا إبراهيمَ عليه السَّلام، وعن موسى، وكيف شقَّ البحر بعصاه .. متحجِّبةٌ وفْق المعايير الشَّرعية لارتداء الحجاب تُمارس الفسْق، وتفْحش فِي الكلام، وتتهجَّم على النَّاس كأنَّها الحُطيئة .. إمامٌ وقورٌ، ورِعُ الهندام يتحرَّش بالنِّساء، والرِّجال، ويُطارِد الأطفال بسياط الجنس فِي حرَم مدْرسةٍ قرآنيَّة ...

إلى أين يتَّجه عالَمُنا العربِيُّ مَشحوناً بِهذه التناقضات المتناقِضةِ يا سيِّدتِي؟ الأدهى أنَّ هذا التناقض المرَضيَّ قد بات ينسحب على طبقات المجتمع برُمَّته؛ فهذا الإمام الذي حدَّثتكم عنه حديثاً شِعريّاً قد يكون ربَّ أسْرة، وقد يكون وزيراً، وقد يكون رئيسَ دولة!

غيْر أنَّ ما خشيْتُه بعد أنِ انفصلتِ القصيدة عن فمي، وتَحوَّلتْ من الملْكيَّة الخاصَّة إلى الملْكيَّة العامَّة، هو انتقال عدْوى ذلك التناقضِ إلى القارئ بصورةٍ معْكوسةٍ، وفِي شكْل موْجاتٍ سالِبةٍ هادِمة. فلا ريْبَ، إنَّ قارئَ هذا النصِّ البسيطِ المعقَّد، بِمُجرَّد أن يفْتح فعْلَ القراءة، يَجدْ نفسَه مُتوَّهاً كمَوْجة بَحْرٍ فِي دهاليزَ صوتيَّةٍ لا تُفضي إلى أذُنٍ صاغية، ومُلتطِماً بألْف سؤالٍ، وسؤالٍ حول الهويَّة الحقيقيَّة لِهذه الأصوات الفاعلة على رُكْح القصيدة:

صوتِي أنا بوصْفي شاعراً، أو مُخْرِجاً شِعْريّاً. صوتُ الإمام، وصوتُ جارتِه بوصْفِهما مُمَثِّليْن على البلاتوه. صوتُ الإيقاع، وصوتُ الفجر، وصوتُ باب الدَّار .. بوصْفِها حوافَ الشَّاشة. مع انْضيَاف صوت القارئ نفسِه إلى فوضى هذه الأصوات المتلاطمة المتناطِحةِ المتماهِية ... بوصْفِه صوتَ تفاعُلٍ، ومُشاهَدة.

أيُّهما هو صوتُ الإمام، وأيُّهما هو صوتُ الشَّاعر/ الرَّاوي داخلَ هذا المشْهد الشِّعريِّ الملْتهب؟ هذا هو السُّؤال الذي خفْتُ، ولا أزالُ خائفاً، من أن يُسْنِد إليه القارئُ فعْلَ قراءتِه بكاملِه، مُختصِراً قصيدتِي فِي التنقيب عن صوتِي أنا داخلَ النصِّ، ابْتغاءَ تثبيتِ دلائلِ اتِّهامي بالزندقةِ، والفسْق .. بعْد أن يكتمل الرأيُ فِي وعْيِه، آخرَ الأمر، بأنَّ صوتِي وصوتَ الإمام سواء، أو بأنَّنِي إمامٌ لا شاعرٌ، أو بأنَّنِي مُجرَّد شاعرٍ مُتَوارٍ خلْف جُبَّة الإمام فِي حال أنصفَ هويَّتِي الشِّعريَّة.

ذلك إذَنْ، هو المصدر الفعليُّ لِمشاعر الخوف التِي اجتاحتْنِي قبْل كتابة القصيدة، وأثناءَ الكتابة، وبعْد الكتابة. ففكَّرْتُ فِي انتهاج تقنيةٍ تَحْريريَّةٍ يكون من شأنِها أن تُحيِّن للقارئ مسافةَ حيادٍ وظيفيَّةً بيْن ذاتِي، وبيْن ذاتِ الإمام؛ فلَمْ أجِدْ أفضلَ ما يُفعِّل هذه المسافةَ باحترافيَّةٍ، وبأجْلى صورةٍ من معْوَل السَّرد، وتقنية التعبير السِّينمائي، حيث تفْصِل عدَسةُ التصوير ذاتَ المصَوِّر عن الموضوعِ المصَوَّر.

من هذا المنطلق، فزِعْتُ إلى ضخِّ القصيدة ببعض الأبيات التِي لَمْ أكُ أبْغي من ورائها غيْرَ التذكير بأنَّ هذا الإمام الذي أصوِّره، وأشخِّص حالَه .. لسْتُه. تَمْثيلاً، لا حصْراً، أدعوكِ، سيِّدتِي والقارئَ، إلى تأمُّلِ هذين البيتَيْن:

وَيْكَ! إمامُ الحيِّ .. يا ما أرى

مِقْصلَةٌ لِحْيَتُهُ .. مَذْبَحَهْ

باللهِ .. هذا الفمُ يا ليْتَنِي

من شُعراء الحبِّ كي أمْدحَهْ

فِي البيتِ الأوَّل، سُرعانَ ما تصْطدِم نيَّةُ القارئ بِنيَّةِ الجارة، ليقتنع، إذْ ذاكَ، بأنَّ الذي انْفتَحَ على لسانِه نصُّ القصيدة هو الإمام، وليس الشَّاعر، هذا الإمام الذي انتصَبَ أمام بيْتِ جارَتِه كعَمودٍ كهْرَبائيٍّ يبْحث عن بطَّريَّة شَحْنٍ إضافيَّة!

وأمَّا البيتُ الثَّانِي، ففيه تبْئيرٌ على مِفْصَل التباعد بين صوت الشَّاعر، وصوتِ الإمام؛ هذا الذي يتمنَّى لو كان شاعراً من شُعراء الحبِّ ليَمْدح فمَ جارتِه بالمستوى البلاغيِّ المطلوب.

نعَم، هناكَ نوعٌ من التمْويه يُوالِج بين صوتِي، وصوتِ الإمام على صعيد هذا البيت الشِّعريِّ بالذات؛ فقد يتساءل قارئٌ: كيف لِهذا الإمام أن يكون على هذا المستوى من قولِ مثْلِ هذا البيت، مُتمنِّياً أن يكون شاعراً فِي الوقت عيْنِه؟ إنَّها لَمفارَقة!

هنا، لا بُدَّ لِي أن أحيل هذا النَّوع من القرَّاء إلى أنَّ التداخلَ بين الصَّوتيْن فِي هذا البيت تداخلٌ تقْنِيٌّ، سرْديٌّ ليس إلاَّ. ثُمَّ أليس التمويهُ ضرْباً من ضروب اللُّغة السِّينمائيَّة التِي كانت منطلَقاً حاسِماً فِي نسْج الحلَّة التعبيريَّة لقصيدتِي؟ وهو ما يُصْطلَح عليه فِي المعجم السِّينمائيِّ بالخدْعة السِّينمائيَّة.

الأدْهى أنَّ هذا النصَّ مُدَوْزَنٌ بالخُدَع اللُّغويَّة، والبلاغيَّة .. من حيث تداخل الأصوات فِي فضائه. أيُّهما أنا، وأيُّهما هوَ؟ وفِي أيِّ موْطِنٍ من النصِّ تنفتِح أنايَ وتنغلِق أناه؟ وفِي أيِّ موْطِنٍ آخرَ تنفتح أناهُ، وتنغلِق أناي؟

تلكَ هي مكيدة اللُّعبة الدلاليَّة الخبيثة! 

س3: ميّادة:

كتب الشاعر الكبير نزار قباني في كتابه "قصتي مع الشعر":

"إن اللغة تتحرك باستمرار دون أن نشعر بحركتها اليومية تمامًا كما لا نشعر بحركة الكرة الارضية.

إن الشعراء – لا اللّغويين، ولا النّحاة، ولا معلمي الإنشاء- هم الّذين يحرّكون اللّغة، ويطوّرونها، ويحضّرونها، ويعطونها هويّة العصر."

ففي قصيدة "حبلى":

لا تَمْتَقِعْ!

هيَ كِلْمَةٌ عَجْلَى..

إنّي لأشعرُ أنّني حُبْلَى..

وصرختَ كالملسوعِ بي.. "كلاَّ"..

سنُمزِّقُ الطفلا..

وأخذتَ تشتُمُني..

وأردتَ تطرُدُني..

طبّق مبدأ التقنين واستعمل لغة الدراما والحوار المسرحي لأن المسرح كان، في زمن كتابة هذه القصيدة، الفنّ الأكثر رواجًا وتأثيرًا فِي المجتمع.

واليوم، بعد أن استقطبت السينما اهتمام البشر وتربّعت على قمّة الفنون المرئيّة، شغلت الذاكرة البصريّة الحيّز الأكبر في ذاكرة الإنسان.

فجاءت قصيدتك، الّتي تستشفّ جماليات السينما، دليلًا على بحثك الدؤوب من أجل التجديد وفلاحك باحتلال حيّز للشعر في وجدان القارئ، رغم استبداد السينما.

هل تعتقد أن القصيدة السينمائيّة قادرة على "حفظ ماء وجه" السينما؟ خاصة بعد أن تخلّت الأعمال السينمائية (ليس جميعها) عن رسالتها الإنسانية وقادت السينما إلى هاوية الفنون؟

ج3: د. محمّد عدلان بن جيلالي:

قبْلَ أن أخوض فِي الإجابة عن هذا السُّؤال المُعاصِر، لن أتْركَ الفرْصة تغْتالُنِي .. وأنا أقفُ فِي مقام الشَّاعر المُبْتكِر، الرَّاحلِ نزار قبَّانِي، فأقول:

أنا قطْرةٌ فِي بَحْر نزار قبَّانِي. وشِعْري الذي كتبْتُه، والذي لَمْ أكْتُبْه .. نثْرٌ أمام قصائدِه الخالدة.

لكنَّنِي قطْرةٌ تُحاول أن تُشْبِه نفْسَها .. تَجْتهِدُ اجتهادَ كرَة الثلْج الصَّغيرة .. عسى أن تنتفِخ يوماً، وتكْبُرَ .. تكْبُرَ .. حتَّى تغْدوَ بَحْراً آخر ...

هذا العصْرُ هو عصْرُ عيُونٍ، لا عصْرُ آذانٍ، ولا عصْرُ أفْواه. أقول لكِ سيِّدتِي ما أقول بقلْبٍ مفْجوعٍ بسبَب الهامش الضيِّق الذي بات الشِّعرُ يأوي إليه فِي عصْرنا البصَريِّ هذا.

لكنَّنِي، على الرُّغم من ذلك، أحاوِل دائماً أن أستثْمِر فِي بصَريَّةِ عصْري بِنحْوٍ يُجدِّد نفَسَ القصيدة، ويُحصِّنُها من داء النَّمطيَّة. ولَئنْ كانتِ السِّينما قدَراً فنِّيّاً مُحتَّماً علَيْنا، لَمْ أجِدْ بُدّاً من الاستنجاد بطاقاتِها التعبيريَّة، والتزوُّدِ من نُسْغِها الجمالِيِّ .. قصْدَ تَحْريك جنْس الشِّعر، وتطْعيمِ دمِه الأصْفر بِمزيدٍ من الكريَّات الحمْراء ..

ولقد مضيْتُ فِي تَهْجين جِنْسِ الشِّعر بفنِّ السِّينما فِي كثيرٍ من قصائدي حتَّى تَحوَّلَ ذلك عندي واحداً من المنطلقات الفكريَّة، والجماليَّة فِي كتابة القصيدة. ولَكَمْ كان هذا المنطلَقُ ماثلاً فِي قصيدتِي (إمام)، فلا أعتقِد أنَّ قارئها سيجِد أيَّةَ مَشقَّةٍ فِي استشْفاف مَحْتدِها السِّينمائيِّ المُتوَاري مثْلَ الرُّوح خلْفَ لُحْمة تراكيبِها، وتَعطُّفاتِها الجُمَليَّة ...

واسْمحي لِي، سيِّدتِي، أن أضرِبَ هذا المثال البسيط، علَّ أن أكشِف عن بعض مسالِك اللُّغة السِّينمائيَّة داخل هذا النصّ:

وَيْلَكَ .. يا حسْناءُ قلْتُ افْتحِي

تاللهِ .. بابَ الدَّارِ لنْ أبْرَحَهْ

لو لَمْ أضعِ الفتْحةَ على كاف الكلمة الأولى من هذا البيت، لكان من المحتَمَل أن يضَع القارئُ مكانَها كسْرةً، بِحُكْم أنَّ بقيَّة الكلام فِي البيت تَجْري على لسان الإمام مُخاطِباً جارتَه الواقفةَ كالبابِ خلْف بابِ دارِها.

لكنَّ تلك الفتْحة على كاف (ويْلَك) هي بيتُ القصيد فِي هذا البيت؛ فهي ما يُجسِّد صوتَ الجارة، الأمْرُ الذي يُمكن أن نتخيَّل له لقْطةً كبيرةً تسْتظْهِر لون الذُّهول، وحُمْرةَ الغضب على وجْهها .. وأمَّا جُمْلة النداء (يا حسْناءُ قلْتُ افْتحي)، فهي ما يُمكن أن نتصوَّر لَها لقْطةً مُتوسِّطةً تؤطِّر الجزءَ الأكْبرَ من مُثُول الإمام عند العتَبَة، على أنَّ عجُز البيْت يُغطِّي حدَثاً لقرارٍ أقْسم الإمامُ على تنفيذِه، لذلك الأجدى أن يتجسَّد بلقْطةٍ شاملةٍ تسْتغرِقُ الإمام، والباب، وجزءاً من واجهةِ البيت مرْشوشةٍ ببعض قطرات ضوءِ القمر ...

أتلْحظينَ سيِّدتِي؟ هناك تدرُّجٌ تصاعُديٌّ .. دراميٌّ فِي مستوى أحْجام اللَّقطاتِ الثلاث. ذلك، ربَّما، ما يُفرِّق بيْنِي ساعياً إلى تسْنيم الشِّعر، وبيْن العظيمِ نزار قبَّانِي ساعياً إلى مَسْرَحة الشِّعر؛ إذِ الكتابةُ بِمِخْيال التقنية السِّينمائيَّة هو ما سوَّغَ لِي بأن أُمَنْتِجَ بين صوتيْن لِمُمَثِّلين اثْنيْن على صعيد البيْتِ الواحد، بل على صعيد صدْر البيت وحسْب، بعكْس المنطق السَّرديِّ للمسْرَحة الذي يفْرِض على الشَّاعر توضيحَ الانتقالة من صوْتٍ إلى صوْت .. كما هو الشَّأن فِي المثال الذي أوْردتِه أعْلاه من شِعر نزارَ العظيم.

هكذا أنا أثابر كدودة القزِّ .. على كتابة شِعْرٍ لا يُقرَاُّ، بل يُرى، ويُشاهَد.

فِي الحقيقة، ومن بعْض هذا المنظور، أرى أنَّ الْتحاد الشَّاعر إلى فلَك السِّينما هو ما سيحْفظ وجْهَ الشِّعر، على هَوْنٍ ما. وهُنا عليَّ أن أوضِّح قضيَّة (حفْظ ماء الوجْه) هذه، وأفكَّ بعْضاً من شِفْراتِها؛

لا جرَم، إنَّ أيَّ نصٍّ فِي العالَم، مهما يكُنِ انتماؤه الأجْناسيُّ، سوف يأفَل نَجْمُه، ويَسْوَدُّ وجْهُه بِمُجرَّد أن ينفصِم عمَّا يقع خارِجَه من تَحوُّلاتٍ وجوديَّةٍ، وثقافيةٍ، وأنترُبولوجيَّة ... وليس لأيِّ ناقدٍ، أو فيلسوفِ جَمالٍ .. أن يُلاوِص الفنَّ على تَجْريده من فاعليَّة المشاركة فِي تغيِير العالَم. فبالله، ما كُنْهُ هذا الفنِّ الذي يُمارَسُ بِحافز الفنِّ، وداخلَ الفنِّ، ومن أجْل الفنِّ .. خارِجَ خارطة الكرة الأرضيَّة؟

إنَّ فِي قوْل القائلين بِمَذهَب (الفنِّ للفنِّ) خطَلاً كبيراً، ومغالَطةً فاحشةً لَم تعُدْ تنطلِي على أحد، ولقد رأينا مُنظِّريَّ هذا المذْهَب المزْعوم، ومُمارسيه كيف اجْتثَّهمُ المعْول الوجوديُّ للكتابة الإبداعيَّة مثْلَ الأعشابِ الضَّارَّة .. لذا، أرى أنَّ الفنَّ، والشِّعر بِخاصَّةٍ، ليس مُجرَّد طابِقٍ فِي عمارة، أو رُتْبةٍ فِي سلَّمٍ تراتبِيٍّ، أو إداريٍّ ثابتٍ تعْلو الواقعَ، وتتجاوزُه، إنَّماهُ ضلْعٌ ضالِعٌ فِي واقِع الإنسان، ودمٌ بنفْسجيٌّ يسْري فِي الدوْرة الدمويَّة للحياة. والذي يرى عكْس ما أرى، فرأيُه لا نَجْمَ له!

أتساءلُ الآن، ولْتتساءلِي معي سيِّدتِي، هل ما يزال الشِّعر فِي هذا الوطَن العربِيِّ المأفون يفْعل أفاعيلَه، كما كان، خارِجَ الشِّعر؟ لا والله. أظنُّنِي، فِي حدود قراءاتِي على الأقلِّ، لَمْ أقرأ حتَّى الآن قصيدةَ شِعرٍ من هذا العصر هزَّتْ دولةً، أو غيَّرتْ قراراً سياسيّاً، أوِ انْعطفتْ بتاريخِ شعْبٍ نَحْو اتجاهٍ حضاريٍّ مَحْسوب ..

لَمْ يعُدِ الشِّعر يُحرِّك الإنسان، ويُحضِّر الأممَ، والدُّول. أقولُها بِمرارة الحنظل فِي حنجُرتِي. الشِّعر فِي زمانِنا هذا قد بات يعانِي من عقْدة الفُصام الوجوديّ؛ يُعْجب القارئَ، ولا يُحرِّكه .. يُثير عواطفَه، وأعصابَه، ولا يُحرِّضه على فعْلِ أيِّ شيء .. فقُلْ أيُّها الشَّاعر ما شئتَ، فإنَّك لن تَخْرق الأرض قولاً، ولن تبْلغ الجبالَ طولا!

لِماذا لُذْتُ بالشِّعر إلى جنْسٍ فنِّيٍّ مُجاوِرٍ هو السِّينما؟ بَحْثاً عن تَجديد أدواتِي، وتقنياتِي الإبداعيَّة، وابتغاءَ نفْض الغبار عن منطلَق الكتابة الشِّعرية. بل لِأتبَرَّك بالفاعليَّة الأسطوريَّة التِي أضْحتْ تسْتميز بِها السِّينما فِي التأثير، والتغيِير ..

فما أكثر الأفلام التِي زلْزلتِ التاريخ، وجعلتِ الحكماءَ، والأمراءَ .. يُهرولون كالخرْفان لاتخاذ القرارات إمَّا بالمنع، أو بالتصرُّف على نَحْوٍ آخر. واسْمحي لِي سيِّدتِي فِي هذا السِّياق المَحصور أن أعطيَكِ عن ذلك أبْسطَ مثال: تصوَّري لو أنَّ واقعةَ صحيفة إبْدو شارلِي (Hebdo Charlie) قد وقعَتْ خارجَ منطِق الصَّوت والصُّورة، أي وقعتْ شِعْريّاً، هل كان لَها أن تفْعل ما فعلَتْ بالرَّأي العام العربِيِّ، والعالَميِّ حتَّى؟ لا أعتقد ذلك. وأتَمنَّى ألاَّ تعتقدي أنتِ، والقارئُ ذلك أيضاً.

ذاك إذَنْ هو قدَر الشِّعر فِي زمانِنا .. وذلك هو قدَر السِّينما. كأنَّ وجْه السِّينما محفوظٌ (فِي لوْحٍ محفوظ)!

مع ذلك، يَجْمُل بِي أن أومئ هنا إلى أنَّ لُجوئي إلى دُنيا السِّينما لَم يكُن، فِي قصيدتِي هذه خاصَّةً، لِسواد عيون السِّينما، بل كان لِسواد عيون الشِّعر بالتأكيد. لأنَّ الشِّعر، آخرَ المطاف، هو أرْقى الفنون، ولسْتُ أنا مُخترِعَ هذا الحكْم، بل هو هيجل وقد أثْبتَه، بالتنظير والتمثيل، فِي فلسفتِه الجماليَّة الخالدة، إذْ إنَّ الفنون جَميعَها لتنصَهِر فِي صلْصال الشِّعر. وعلى هذا الأساس أرى أن السِّينما بِموسيقاها، ومرْئيِّها، وحركيَّتِها .. موجودةٌ بالقوَّة داخل القصيدة، لا خارِجَها، وما على الشَّاعر إلاَّ استنطاقها، وإخراجها إلى سطْح الوجود بالفعْل، والمراس، والتجرِبة ...

ما أحْوجَنا إلى شِعْرٍ يتحقَّق خارِجَ الشِّعر! وأمَّا قصيدتِي هذه، فمذْ كتبْتُها لَمْ يبْرَح الإحساسُ حناياي بأنَّه لو فُتِّحتْ لَها أبوابُ النشر هنا فِي الجزائر، لَحقَّقتْ، ربَّما، ما لَمْ يكن فِي الحسْبان ..

لكنْ لِمنْ تقرأ زابورَكَ يا داوود؟ ولِمنْ تقرأ شِعْركَ يا عدلان!

س4: ميّادة:

في محاضرة عن تاريخ الفن التجريدي.. تمّ فيها عرض لوحات تشمل خطوطاً وأشكالاً هندسيّة بسيطة.. علّق أحد الطلبة: كل شخص بإمكانه رسم هذه الخطوط والأشكال.. وردّت المحاضِرة: لكن لا يملك كل شخص الجرأة على تقديم هذا للجمهور كإبداع، وعبقرية لإقناع الجمهور بأنه فنّ.

وكذا حال الفلاسفة حين يؤطّرون المنطق بالكلمات.

فهل بإمكاننا، من هذا المنطلق، اعتبار الشاعر فنانًا وفيلسوفًا جريئًا حين يقدّم عبارة بديهية على هيئة حكمة؟ كما في قصيدتك:

البابُ مَخْلوقٌ لكيْ نفْتَحَهْ 

ج4: د. محمّد عدلان بن جيلالي:

قبْل أن أفاعِل هذا السُّؤال، أحبُّ أن أقول: ليس من حقِّ الشَّاعر أن يُقنِع القرَّاء بأنَّ ما يكْتُبه شِعر، بلِ القرَّاءُ، والنُّقَّاد .. همُ المالِكون الشَّرعيُّون لِهذا الحقّ. مع ذلك، للشَّاعر حقٌّ فِي أن يُرافِع، ويُدافِع عن شِعْرِه، وعن قناعاتِه الإبداعيَّة فِي حال أُلْصِق بِها نوعٌ من الأحكام النقديَّة المُغْرِضة فِي شكْلِ تُهَمٍ شخصيَّةٍ، أو خناجرَ مسمومةٍ تطال ظهْرَ الشَّاعر، وظهْرَ قصيدتِه معاً.

نعَمْ، بإمْكانِكِ أن تنطلِقي هذا المنطلَقَ الفكريَّ العميق فِي فهْم قضيَّة الشَّاعر المعقَّدة. الشِّعر مُمارَسةٌ مَعْرفيَّةٌ .. لكن بأدواتِ الشِّعر، لا بأدواتِ المعْرِفة. وما انْسَحب هذا الوصْفُ على الشِّعر فِي أيِّ عصْرٍ من الأعْصار السَّالفة كما انسَحب عليه فِي عصْرنا مُذِ اتَّلَج فِي كنَف الحداثة، وما بعْدَ الحداثة، وتاهَ فِي دهاليزِ أسْئلة التجريبِ الشَّكلانِيِّ الهَرْمَسيَّة ..

وإذَنْ، فإنَّ الشاعرَ الذي ما يزال يكتُب الشِّعرَ من أجْل أن يكتُب الشِّعر، ومن دون أن يكون له مشروعٌ فكْريٌّ يُسْنِد إليه فعْلَ الكتابة، إنَّما هو أشْبَه ما يكون بالحِرَفِيِّ المندَسِّ كاليَرَقة فِي شرْنقة الفولْكلور، وتكون (القصائدُ) التِي يكتُبُها كالصِّناعات التقليديَّة التِي لا يعْدو تأثيرُ بُهْرُجِها زُجاجَ البصَر.

نعَمْ، الشَّاعر فيلسوفٌ، ويَجب أن يكون كذلك. وهو فيلسوفٌ لا بالمقاييس العلْميَّة، والأكاديْميَّة التِي يذْعَن لَها خطابُ الفلْسَفة، وإنَّما من حيث يُريد إلى تعْميق الرُّؤى، أوِ العلاقةِ بيْنه، وبيْن الوجود .. وإلى اقْتراح بديلٍ، أوِ اجْتراح أنْموذَجٍ جَمالِيٍّ .. فِي مُمارسة الحياة.

فِي هذا الضَّوء، بوُسْعي القول إنَّ ما بيْن الشِّعر، والفلسَفة كالذي بيْن الفجْر، والصُّبْح .. كلاهُما خطابٌ أوَّلِيٌّ، وعميق، على أنَّ العُمْق فِي الفكْر يَجْنح إلى الأحاديَّة، والتدقيق، والهدوء العقْلِيّ، بينَما يَجْنح العمْقُ فِي الشِّعر إلى التعدُّد، والهُلاميَّة، والصَّخبِ النفْسيّ العارِم ...

فخارِجَ هذا المنظور الفلْسفيِّ المُناوِر، ستكون قصائدُ الألاعيبِ اللُّغويَّة، والبلاغيَّة الجوفاءَ كالأفلام القديمة، أو كالسِّينما الصَّامتة .. قصائدَ خرساءَ، ومكتوبةً باللَّونيْن الأبيضِ، والأسود!

ولعلَّ نظْرتِي (الفلسفيَّة) إلى كتابة الشِّعر هي ما يُفضي بِي إلى إنتاج مثْلِ هذه الجُمَلِ البسيطةِ المركَّبة، السَّهلةِ الصَّعبة، السَّطحيَّةِ العميقة: (البابُ مَخْلوقٌ لكيْ نفْتحَهْ)؛ وإذا كنَّا قد تعوَّدْنا على تسْمية مثْلِ هذه الظاهرة الأسلوبيَّة بالسَّهل الممتَنِع، فدعينِي، سيِّدتِي، أصْطلِح عليها اصطلاحاً آخر، ولْيَكُن: أسلوب السَّطح المعَمَّق مثلاً.

ثُمَّ أضيف أنَّ مثْلَ هذه العبارات الحكيمة كما تفضَّلْتِ، يسْتحيلُ عزْلُها عن السِّياق الدلالِيِّ للقصيدة، فلو قيلَ هذا البيتُ الشِّعريُّ خارِجَ بنْية قصيدتِي، لتحوَّلتْ حكمتُه تفاهةً .. وضحِك عليه القرَّاءُ، والنقَّاد ضحْكَ المجانين ...

لذا أقول: كلَّما كان سياقُ القصيدة عميقاً، تعمَّقتْ معَه عباراتُها، وكلماتُها، دوالُها، ومدْلولاتُها، حروفُها، وفواصِلُها، ونُقاطُها ...

وما أدرانِي، وما أدراكِ سيِّدتِي، أنَّ هذا البيت يَخْلو من أيِّ أثرٍ للبداهة: فكلمة (الباب) وحْدَها هُنا كلمةٌ خبيثةٌ، أعنِي: عميقة، إذْ يسْتحيلُ حصْرُها فِي بُعْدٍ دلالِيٍّ واحد؛ ألا ترَيْن أنَّ لَها بُعْداً ماديّاً معْماريّاً، وبُعْداً سياسياً، وبُعْداً اقتصاديّاً، وبُعْداً جنسيّاً ...

نعَمْ .. فلْنُحاوِل قراءةَ (الباب) تَحْت ضغْط هذه الأبعاد المتلابِسة!

س5: ميادة:

مِن قبْضة الدِّين أنا هارِبٌ

وهارِبٌ من قبْضة الأضْرِحَةْ

مِنْ فِقْهِ أحْكام الْمَراحيضِ .. مِنْ

أدْعيةٍ تَدُور كالمِرْوَحَةْ

مِن نُسُك اليومِ .. ورُوْتينِها

مِنْ دوَران اللهِ فِي المِسْبَحَةْ

تفضح هذه الأبيات الصراع الداخلي لدى الإمام.. ومعتقداته الّتي تتناقض مع الدور الذي يؤدّيه كل يوم..

لو كنتَ الممثّل القانونيّ لضحيّة المجتمع - الإمام - في محكمة "الجنايات الإجتماعيّة"، ما هي التّهم الّتي تقدّمها لإدانة المجتمع؟ 

ج5: د. محمّد عدلان بن جيلالي:

ليس الأئمَّة - وعلماءُ الدِّين حتَّى- فِي المجتمعات العربيَّة سوى عرائس قَرَقُوسٍ تُحرِّكُ خيوطَها أيادٍ خفيَّةٌ من وراء ستائر الخشبَة. لذلك، أرى أنَّ من المجْحف أن نُدين المجتمَع، ولا نُدين المتحكِّم فيه، والمتربِّعَ على عرْشِه؛ إنَّه نظامُ الحُكْم، أوِ المؤسَّسة الرسْميَّة للدولة.

إنَّ المجتمع الذي يتوافر على هذا الطراز من رجال الدِّين، إنَّما هو يُدينُ نفْسَه بنفْسِه. لأنَّه هو، ومن يَحكُمه، من يرْسُم تصاميمَ الإمامة، ومن يضَع مقاييس الجُبَّة التِي يَجب أن يلْبَسَها كلُّ إمام، ومَن يُحدِّد شكْلَ العمامة التِي يَجب أن يلْتفَّ بِها رأسُ كلِّ رجُل دين ..

فماذا ننتظر من نظامِ حُكْمٍ لا أمْهَر منه فِي تنْميط الدِّين، ورموزِه، وتشْكيلِ قوالِبَ تَحْنيطٍ له بِمفْهوم (الأشكال الرمْزيَّة) لعالِم الاجتماع، والأنتروبولوجيا إرْنَسْت كاسِيرَر؟ وماذا ننتظر، نتيجةً لذلك، من إمامٍ يتصرَّف كالطَّبْخة المُعلَّبة .. بوصْفِه كائناً بِنْيويّاً، نظاميّاً .. يُحرِّم ما يُحرِّمه النظام، ويُحِلُّ ما يُحِلُّه النظام؟

الإمام عندنا .. مُجرَّد موظَّفٍ لدى الدولة؛ يُصلِّي بالناس، ويقْذفهم بِخطَب الجمعة كالحجارة كلَّ نِهاية أسبوع .. ولا يُمكِنه أبداً أن يتحوَّل من موْضع الموظَّف إلى موْضع الفاعل الاجتماعيِّ، لأنَّ ثَمَّة عيوناً تراقبه، وتترصَّد خطواتِه يوميّاً من بوَّابة المسجد إلى عتبَة الدار ...

الإمام عندنا .. مضغوطٌ عاطفيّاً، وجنْسيّاً .. بفعْل الازدواجيَّة اللَّعينة التِي يُكرِّسها السُّلطان فِي خطاباتِه الرسْميَّة صباحَ مساء؛ فهو يَحثُّ الناس على ترْك الفواحش ما ظهَر منها وما بطَن، والسلطانُ يُمارسُها فِي الفنادق الفخمة، والميادين العامَّة .. كما تُمارس الرِّئتان عمليَّةَ التنفُّس ...

فِي هذا السِّياق، أتذكَّر تصْريحاً فُكاهيّاً لوزير الشُّؤون الدينيَّة فِي الجزائر، أدْلَى به قبْل بِضْعة أشْهُر، بشأن قرار تَحْرير تِجارة الخمور، وتسْهيل بيْعِها فِي الفضاءات العامَّة المتَّخَذِ من لدُنْ زميلِه فِي بيْت الحكومة: حيث أفضى إلى الصِّحافة دون حياء بأنَّه ليس من الحياء فِي شيءٍ أن يُدين قراراً لوزيرٍ مثْلِه (وزيرِ التجارة)، ويقْدحَ فِي شخْص من يتقاسَم معه الوظيفة الحكوميَّة نفْسَها!

أتلْحظين؟ وزير الدِّين، ووزير التجارة كلاهُما موظَّفٌ لدى الدَّولة وكفى. ولا يضير وزيرَ الدِّين شيءٌ إن أحلَّ وزيرُ التجارة الخمْرَ أمْ حرَّمَه!

باسْم هذه الازدواجيَّة النكْراء، أستطيع الزعْمَ أنَّ السَّواد الأعظم من أئمَّتنا، ورجالات الدِّين قد باتوا يتصرَّفون كالأيقونات المُذَهَّبة على المنابِر .. باتوا كالشُّعراء يقولون ما لا يفْعلون، وفِي كلِّ وادٍ يُريدُه السُّلطان يَهيمون ...

بِهذه الطريقة، لو سَمحْتِ سيِّدتِي، أدافع عن الإمام ضحيَّةً، ومُتَّهماً فِي آن: المجتمع المنافِق .. لا يُنتِج إلاَّ إماماً منافِقاً، أو أكْثرَ منه نفاقا ... 

س6: ميّادة:

كابدتَ مخاض هذه القصيدة في آذار، عام 2005.. لكنها تحرّرتْ من حدود تاريخ ولادتها.. ولم يجرؤ قانون التّقادم المسّ بها حتّى الآن.. فهي تكشف حقيقة معاصرة تنضوي إلى قضية مؤلمة تتناسل لتواكب مهرجانات الفساد في مجتمعاتنا.

ما هي المقوّمات التي تحدّد مدّة صلاحيّة القصيدة وتطيل مكوثها في الذاكرة الحيّة؟

ج6: د. محمّد عدلان بن جيلالي:

هناكَ مُقوِّماتٌ شتَّى، تَخْتلِف من حيث الحِدَّةُ، والأولويَّة. وقد أبْدو غامضاً، أو مُتهرِّباً من الإجابة عن سؤالكِ حين أقول إنَّ المقوِّم الأوَّلَ، والأخيرَ الذي يضْمن للقصيدة عُمْراً أبَديّاً .. هو أن تكون القصيدةُ قصيدة.

لكنَّنِي أرومُ إحالتَكِ، وإحالةَ القارئ الكريم، إلى سبَبٍ من أسْباب دخول القصيدة جنَّةَ الخلْد؛ يَمْثُل أساساً فِي عدَم شفافة النصِّ، وعدَم وقوعِه فِي مصْيَدة التسْمية والتوصيفِ المؤقَّت، وعدَمِ نزولِه إلى درَكِ التشخيص، والسبِّ، والشَّتيمة ..

أردْتُ أن أقول إنَّ النصَّ الشفَّاف هو النصُّ الذي يُعبِّر عن شيءٍ ما، فيتجاوز ذاتَه؛ أي بِنْيتَه الشِّعريَّة، وديناميَّتَه الجماليَّة .. فيظلُّ لازِباً كالدِبْق بذلك الشيء .. وهكذا سيكون مَصيرُ هذا النصِّ الزوالَ المحتوم بزوال الأشياء.

على حين إنَّ النصَّ الخالد هو ذلك النصُّ الذي لا يُعبِّر عن أيِّ شيءٍ من الأشياء، ولكنَّه يُعبِّر بالأشياء. وعمَّا يُعبِّر إذَنْ؟ عنِ الرُّؤى، والفِكَر، والآفاق الدلاليَّة المفتوحة ...

هكذا حاولتُ أن أكون فِي قصيدتِي إمام: لَمْ أقُلْ شيئاً عن الإمام، لكنَّنِي قلْتُ بالإمامِ أشياءَ، وأشياء .. فما أعطيْتُه إسْماً، ولا سَمَّيْتُ جارَته، وما شخَّصْتُ مكاناً، ولا ثبَّتُّ تاريْخاً .. تركتُ الأبواب، والنوافذَ، والكُوى مفْتوحةً، فبقيَتِ القصيدةُ مفْتوحة!

قد أضيفُ إلى ذلك عامِلاً آخرَ من عوامل دوام صلاحيَّة القصيدة: أن تأتِيَ على هيئة بيْتٍ شِعريٍّ واحد، فتتمَنَّع عن القراءة بالتجْزئة، والتقسيط تَحْت أيِّ ظرْفٍ من الظروف، وفِي أيِّ سياقٍ عمَليٍّ من الأسْيِقة.

فمثَلاً؛ من يَجْتزئ بقراءة هذا البيْت من قصيدتِي: (فما صحيحُ (مُسْلمٍ) .. إنَّنِي / من كتب (الصَّحيحَ) من صحَّحَهْ)، سيظلِمنِي، ويظلِم قصيدتِي ظلْماً تاريْخيّاً، وسيُدينُنِي بتُهمة الزندقة، والكفْر، واتِّخاذ رموز المسْلمين هزُؤاً .. ولا أمْلِكُ أنا، بِمنطِق التجْزئة الفطيرِ هذا، إلاَّ أن أمتثِل لِحكْم الإدانة، مُعترِفاً (أنِّي أسْتحِقُّ الإدانة).

حسْبِي أنَّ معايِير وضْعِ تاريْخ انتهاء الصلاحيَّة، أو دوامِها على علْبة القصيدة أمرٌ نسْبِيٌّ، ويبْقى نسْبيّاً كالبحْثِ عن موْجةِ بَحْرٍ فِي بَحْر، أبَدَ الآبدين ...

على أنَّ أجْملَ تعْريفٍ بالشِّعر، وأدْوَمَ تعْريفٍ بالشِّعر، هو أن نقول: الشِّعرُ هو الشِّعر.

وكفى النقَّادَ شرَّ التنظيرِ، والمَفْهَمَة!

 

ميّادة: شكراً لك مجدداً الشاعر القدير د. محمّد عدلان بن جيلالي وشكراً على الحوار الممتع، والآن نترك الباب مفتوحا لمداخلات القراء لطرح المزيد من الاسئلة لإثراء الحوار.

 

ميادة أبوشنب

المثقف - نص وحوار

.............

إمَام / مُحمَّد عدلان بن جيلالي

 

صَمْتاً .. ولا تَحْتجِبِي .. وافْتحِي

البابُ مَخْلوقٌ لكيْ نفْتَحَهْ

 

أَغافِلٌ بَعْلُكِ؟ يا ليْتَهُ ..

لِي نزْوةٌ عندكِ .. لِي مَصْلَحَةْ

 

لَعَمْرَكِ اللهَ اْذَنِي لِي .. كما

مِئذنةٌ تدعو إلَى مَفْلَحَةْ

 

وَيْكَ! إمامُ الحيِّ .. يا ما أرى

مِقْصلَةٌ لِحْيَتُهُ .. مَذْبَحَةْ

 

قلْتُ افْتحِي .. هذا جُنون الهوَى

ليس بوُسْعي الآنَ أن أشْرَحَهْ

 

رَبَّاهُ .. كُفِّي وافْهمِي مَأرَبِي

ما أوْضحَ الجِنْسَ وما أوْضحَهْ

 

وَيْلَكَ .. يا حسْناءُ قلْتُ افْتحِي

تاللهِ .. بابَ الدَّارِ لنْ أبْرَحَهْ

 

لسْتُ منَ الإرهابِ يا جارتِي

لا سيْفَ واللهِ .. ولا أسْلِحَةْ

 

تَحْت قَميصي انْفعلَتْ شهْوةٌ

لَها عيونٌ .. ولَها أجْنحَةْ

 

مِن قبْضة الدِّين أنا هارِبٌ

وهارِبٌ من قبْضة الأضْرِحَةْ

 

مِنْ فِقْهِ أحْكام الْمَراحيضِ .. مِنْ

أدْعيةٍ تَدُور كالمِرْوَحَةْ

 

مِن نُسُك اليومِ .. ورُوْتينِها

مِنْ دوَران اللهِ فِي المِسْبَحَةْ

 

باللهِ .. هذا الفمُ يا ليْتنِي

من شُعراء الحبِّ كي أمْدحَهْ

 

فقبِّلينِي .. تنْعَدِمْ عُجْمَتِي

الفمُ بالتقْبيلِ ما أفْصَحَهْ

 

عيْناكِ تَحْلُمانِ بِي .. فاحْلُمي

وحُلْمُ هذا النَّهْدِ أن أسْفَحَهْ

 

يُريد أن أجْرحَهُ أوَّلاً

وثانياً، يُريد أن أمْسَحَهْ

 

يُرى بِشَمْسِ العيْنِ خيْرٌ لهُ

منْ نَتَنِ العُتْمة .. ما أكْسَحَهْ!

 

النَّهْدُ كالصَّحراء يا نَخْلَتِي

يُحبُّ شَمْسَ اللهِ أن تلْفَحَهْ

 

أنا فَقِيهُ العشْق فاسْتفْتِنِي

لَمْسِي حلالٌ .. ويدي مُفْرِحَةْ

 

فما (صحيحُ مُسْلِمٍ) .. إنَّنِي

مَنْ كتَبَ (الصَّحيحَ) .. مَنْ صحَّحَهْ

 

وقْتُ صلاةِ الفجْر لِي داهِمٌ ..

وأنتِ بابُ البابِ .. مُسْتوْضِحَةْ؟

 

أسْتغفِرُ اللهَ .. انْصَرِفْ، وانْخسِفْ

مِثْلُكَ كمْ نَحتاجُ كي نفْضحَهْ

 

نَهْدٌ شريفٌ يا إمامَ الْخنَى

خسرْتَ إسْلاماً لكي ترْبَحَهْ

 

آذار، عام 2005

mayada aboshanab2alhbib erzayqالمثقف تستضيف، ضمن برنامج نص وحوار، الاديب القدير الحبيب أرزيق لتحاوره حول نصه:"الصبي والملاك"، فأهلاً ومرحباً به.

 


 

الحبيب أرزيق قاص وشاعر له حضور دائم ومميّز في صحيفة المثقف

 

ميادة ابو شنب: الاديب الحبيب أرزيق بعد أن قرأت نصك "الصبي والملاك" وجدته إصطفاف صور من "ألبوم" الطفولة، التقطتها بكل ابعادها الاجتماعية والنفسية ونقلتها لنا بلغة شعرية باذخة وهي أحدى سمات نتاجك الادبي، ما دفعني إلى إختياره لباب نص وحوار في المثقف ومحاورته من خلال بعض الأسئلة، تاركين الفرصة للقراء الكرام لطرح المزيد منها وإغناء الحوار بمداخلاتهم.

أهلاً وسهلاً بالاديب الحبيب أرزيق في المثقف، في باب نص وحوار.

 

الحبيب أرزيق: أهلا وسهلا بك أستاذتي الكريمة ميادة ابو شنب، طبت وطاب وقتك بكل خير.

دعيني أولا أعبر عن سعادتي العارمة لأنه ولأول مرة في حياتي أدخل في حوار أدبي فني وهذا حدث مهم يجعلني أحس كأنني ولدت من جديد.. والفضل يعود للذائقة الأدبية التي تتمتعين بها أستاذتي الكريمة ميادة  ولتوجيهات الشعراء والأدباء والقراء ببيت المثقف الذي كان ملاذا لي ومدرسة تعلمت فيها الكثير.. ومن خلال هذا المنبر أشكر كل العاملين على دعم ثقافة الحوار ورفع ذائقة الأدب إلى مراتب أحسن فأحسن بهذا البيت الدافئ الذي تعرفت عليه من خلال الابحار بالصدفة ورب صدفة أجمل من ميعاد كما يقول المثل المغربي.

 

س1: ميادة ابو شنب: "نقِفُ على أعْتابِ الدِّيار زُرافاتٍ ونَصْدحُ بما علَّمنا الفقيهُ"............... أخَذْنا ما تيسر من صَاحبة الدار"

إن العادات والتقاليد جزء من الحياة الاجتماعية التي نُـقلت عبر الاجيال وتداولتها الشعوب مع بعض التعديلات كي تتلاءم هذه العادات مع البيئة الجديدة، وغالباً ما يغفل الناس عن تاريخ هذه العادات لجهلهم بمساهمة الحضارات القديمة بالمعرفة الإنسانية لتوطيد أواصر المجتمع المدني أو الريفي على حد سواء.

الى اية عادات وتقاليد تراثية تعود هذه العادة- طرق الاطفال لأبواب البيوت - للحصول على ما تيسّر؟ ولماذا تمسّك بها الناس حتى زمن القصة؟

 

ج1: الحبيب أرزيق:كثيرا ما تتطاول بعض الدراسات على مفهوم التقاليد لتخرجها من معناها المدحي إلى معناها القدحي بدعوى الحداثة أو بمعنى تجاوز الماضي بالمرة أو القطيعة معه تماما وهذا أمر يجب أن يعاد فيه كثير من النظر ذلك أن الكثير من أشكال ونماذج السلوك الانساني القديم ثبت حتى الآن دوره الايجابي في دعم المجتمع سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي والأمثلة على ذلك عديدة وعلى رأسها  دور الجدة وأحاجيها التي تدخل في إطار الخرافة  في حين أن المجتمع العربي افتقد هذا العنصر في تركيبة الأسرة_ ويجب أن أذكر كذلك أن الأصل في الحضارة وهو مصطلح انحاز في فهمه إلى المدنية أو قل إلى المدينة وتمظهراتها البراقة وإلى التقدم العمراني والتكنولوجي الذي وصل إليه الانسان في حين أن الحضارة قبل أن تكون مظهرا في الشكل هي في الأصل أخلاق وتعاملات لذلك فحنيني مثلا للماضي هو نوع من الحنين  إلى إشاعة قيم الاخلاق الحميدة وهو ما نفتقده أساسا في حضارتنا لا على مستوى الافراد ولا على مستوى الجماعات...

أعود إلى سؤالك بالتحديد من الناحية التاريخية فإن عادة طرق الأبواب من طرف أطفال صغار لنيل قليل من السكر أو الدقيق ليس لي على وجه التدقيق تفسير موضوعي تاريخي للظاهرة_ هذا من تخصص المؤرخين وهم أدرى مني في رصد هذه الظاهرة  وتأويلها على الوجهة التي يرون_ وأنا إنما تناولتها من جانب التأثير القوي الذي أحدثته في  حياتي هذه الفترة المعشوقة من الطفولة.. فجاء النص من خلالها عبارة عن ترجيع فني وعفوي تدفقت من فجواته اللغة كشلال هو إلى الشعر أميل منه إلى الحكي أو السرد.

ولعل الحياة في الارياف _ في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي  _وفي وقت كانت فيه هذه الاماكن  حافلة برزمة من العادات والتقاليد والنظم الخاضعة لمعايير القبيلة وأشكال العيش البدوي الذي يعتمد على كثير من السلوكيات التي تتسم ببساطة العيش وعتاقة وسائل الانتاج وقلة رواج السيولة النقدية وانعدام وسائل الاتصال _إلا ما كان من مذاييع هنا وهناك _شكلت عاملا رئيسيا في التمسك بالعادات القديمة وبقائها بحيث كانت تشكل جزءا من الثقافة الشعبية  ومكونا من مكونات التراث عموما وسببا في انتشار ظاهرة التعاضد الانساني والتكافل بين الناس والرضى بقلة ذات اليد وما إلى ذلك من أشكال السلوكيات الانسانية الفاضلة ما أعطى فعلا للمجتمع صبغة مثالية تسوده السعادة والطمأنينة.

 لكن من وجهة نظري فإن العادات والتقاليد في العالم الاسلامي عموما هي عادات متشابهة ومن أصول واحدة حتى وإن نزلنا بها إلى أدنى مستوياتها في المحلية والخصوصية _ وأذكر صديقا لي في إحدى الغرف الصوتية على شبكة الانترنيت وهو من المشرق كنا نتجاذب أطراف الحديث حتى بلغ بنا إلى طرق موضوع العادات والتقاليد وكنت واياه نصفها بشكل دقيق حتى وجدت نفسي في دهشة غريبة أمام هذا التشابه في الألعاب الشعبية  والعادات والتقاليد وبعض الأمور المحلية الغارقة في الخصوصية على الرغم من بعد المسافة بين الأقطار.. وهنا أشير إلى أن كثيرا من الكتاب يخشون الدخول في ابداعاتهم في الخصوصيات والمحليات خوفا من ألا يفهمهم الآخرون

وأنا أدعو من هذا المنبر كل المبدعين أن يخوضوا في المحلي بلغة العام وأقصد الفصيح الممتاز لأنهم بذلك  يساهمون  في توطيد  أواصر المشترك بيننا جميعا وهذا يدفع نحو الوحدة والتعاضد ولا شك ..

فكلما استطاع الكاتب أن يوفق بين لسان عربي بديع وتراث ثري بلغة ساحرة وجذابة يستطيع أن يصنع المعجزات في ميدان الأدب عموما..

 

س2: ميادة أبو شنب: تلتقط صورة الطفولة ببانوراما شاملة. الاحياء، الازقة، البيوت، الناس، اللباس، الالواح، النشيد وغيرها.

هل تلوذ الى فضاء الامس البعيد هرباً من قفر حاضرنا الرتيب؟ وعلى اية أغصان من الاحاسيس يتأرجح وجدانك بعد كل جولة في هذا الفضاء؟

 

ج2: الحبيب أرزيق: لا أخفيك .. قريتي الصغيرة تعتبر البوصلة الوحيدة لمعظم كتاباتي لذلك استلهم منها لذات الكتابة فهي العنصر الأبرز لأنها شكلت مرحلة مغرية.. ومهما حاولت مطاردتها بالكلمات لا أقوى على ذلك.. إنها الذاكرة التي تفيض ببراءة الطفولة وعنفوان الشباب. .وأشياء أخرى.. وأكاد أقول لك الشعراء والكتاب وحدهم يحسنون قراءة الماضي بلغتهم الساحرة والعذبة التي تنحاز إلى الحميمي وهي محاولة منهم_ بشكل _أو بآخر لتجاوز معاناة الحاضر الذي غالبا ما يبدو غير متوقع لديهم ..إن الماضي هو ذلك الحضن أو الفردوس الذي لا يمكن الحصول عليه إلا عبر أنفاق الكتابة وتهريب ما يمكن تهريبه من لحظاته المفقودة.. وبالتالي يجد فيه الكتاب _كل الكتاب بدون استثناء _محطة استرخاء لبث شكواهم وتفريغ الفائض من ضغوطات الحاضر وهمومه..

وأنا عندما أعيد قراءة هذا النص بالذات ونصوص أخرى مشابهة أحس بنوع من التحليق الحر في سماء ولا أجمل .. بل يحصل لي في كثير من الأحيان قراءتُه بصوت مرتفع لدرجة أخاطب بها نفسي: ما هذا الذي كتبتَ أيها البهي !! وذلك بنوع من النرجسية المغرقة بالحميمي الجارف..

 

س3: ميادة أبو شنب: تدور احداث القصة في زمن الكتاتيب وتظهر شخصية "الفقيه" كشخصية مرجعية والاكثر أهمية في حياة الصبية.

ماذا في جعبتك من ذكريات لتضيف عن صلاحيات "الفقيه" لتصبح الصورة أكثر وضوحاً عن تأثيره في "صقل" رجال المستقبل؟

 

ج3: الحبيب أرزيق:لعل الترجمة الحقيقية بكل صراحة لشخصية الفقيه في النص هو ذلك التأثير العميق التي تركته  في حياتي  شخصية جدي الذي كان يزاول إماما وفقيها_ كنت  وقتها طفلا  صغيرا_ وكان هو من الليونة واللطف والحنو ما جعل منه شخصية تُنعت بالطيبة والصدق والأمانة وحسن الخلق كان مضربا للمثل في العفة والوقار _وعلى لسان كل أهل القرية_  كان رجلا بسيطا لا يضمن قوت يومه إلا بما يضيفه من أشغال في الحقول.. ومن أروع القصص التي ظلت خالدة في ذاكرتي أنه في يوم من الأيام قام أحد أعمامي الذي كان يشتغل بالأوراش وطلب من رئيسه أن يمده بألواح يجلبها إلى الدار لصناعة  سرير له من خشب.. والحال أن الأخشاب هي للدولة أي لعموم الشعب لكن ما إن علم جدي بأن الألواح ببيتنا حتى أقسمها يمينا غليظة  ألا تبيت تلك الألواح في منزلنا وكنت أسمعه يقول:" أتريدون أن تخلطوا مالنا بالمال الحرام".. القصة عشتها بأم عيني وكلما تذكرتها يقشعر لها جلدي وينتابني نوع من البكاء ..

 

س4: ميادة ابو شنب: "أمام العتبة الموالية كان يقتضي منا الأمر أن نلتحق بالجامع _سيدي الفقيهُ ينتظرنا_له نصيبٌ مما جمعنا وعلينا الطاعة والتقبيل."

كان لرجال الدين هالة من التقوى تبثّ أجواءً روحانية مسالمة، تمنح الصغار والكبار شعوراً بالسكينة والرضا عن الذات، في زمن كانت فيه راحة الضمير هي كل ما يصبو اليه البسطاء، فيطيعون ويكافؤون رجال الدين ويتقاسمون معهم رزقهم رغم تواضعه.

ما مدى تطابق تلك الأجواء مع حاضرنا؟

 

ج4: الحبيب أرزيق:إن عبارة رجال الدين أو رجال السياسة أو.. هي عبارات غريبة في قاموس أهل القرى والبوادي لذلك تظل تلك العبارات تحمل دلالات ما.. لكن التسميات البسيطة والهادئة والتي تبعث على الارتياح أو تأخذ مدلولها من اليومي المتداول تكون أنفع وأجمل وأجدى حتى.. وهذا ما كان حاصلا في القديم قبل أن نسقط في الصراعات الدينية التي لا تخدم الانسان في شيء بل تعمق الطائفية المقيتة وتؤجج العدوانية بين المذاهب وهذا أعطى ولا شك طعما آخر للحياة وصل إلى حد الانتقام والانتقام المضاد كما أدى إلى انعدام الثقة بين افراد المجتمع .. في وقت يسعى فيه الدين أصلا لبناء مجتمع تسوده المودة والعدالة والسلام والسعادة فضلا عن الأخوة والرخاء.

 

س5: ميادة ابو شنب: "تراءتْ لي المرأةُ التي قَبَّلتْ جبيني، كأنها آتيةٌ تأخذني إلى بيتها، فأشارتْ إلي، فإذا أنا في دوامة النائم أرى إلى جَنْبِهَا كأنه حَمامٌ بِرَفِّ ملاكٍ، ثم اختفتْ صُورتُها للتَّوِّ عني، ثم بقيتُ كأني ممسكٌ بروح الملاك، مُعلقٌ إلى السماء وجسمي في التراب."

أثناء النوم تضعف وتتراخى القوى الواعية - التي يطلق عليها فرويد اسم "الرقابة الحلمية"- التي تراقب وتمنع الرغبات اللاشعورية من الظهور بصفة مباشرة وتحتفظ على وضعية المكبوت.

وعندها تنتهز هذه الرغبات الدفينة الفرصة لتتبدى أثناء النوم، لكن يتوجب عليها توخي الحذر، فترتدي ثوب الاحلام لتتخفى عن أنظار "الرقابة الحلمية" حتى يتسنّى لها إختراق ساحة الشعور.

لذلك تظهر في الحلم بشكل غريب واستثنائي وغير منطقي ، يصعب إدراك دلالاته الحقيقية.

ما هي الرغبات اللاشعورية التي ظهرت على شكل ملاك في حلم الصبي؟

ولماذا فسّر "الفقيه" الحلم بـ "ذلك الينبوع الذي لا يسلم انسان من حلاوته"؟

 

ج5: الحبيب أرزيق:إن تحديد المصطلحات ودلالاتها في نص ما يبدو أمرا صعبا للغاية فكلمة ملاك دائما تدل على الطهارة القدسية النقاء تحيل كذلك على عالم علوي مثالي كما أنها أميل إلى الروحاني الصافي والمشرق أيضا كما أن كلمة الملاك في المخيلة هي نور أو ضوء لا يمكن وصفه لذلك يتوق الكتاب والشعراء إلى إضفاء صفة الأنثى على الملاك ايمانا منهم أن المرأة هي مخلوق نوراني أو هكذا يحدث في المخيال.. هذا المقام المثالي للمرأة يخدم من جهة مكانتها المقدسة _رغم ما نشاهده من ممارسات هنا وهناك في هضم لحقوقها_ قلت مكانتها المقدسة في تمثل الرجل عموما.. ومن جهة ثانية فإن لفظة الملاك هي من وحي قاموس الكتابة التي تضفي  إحدى اللمسات الفنية التي تؤثث الفضاء الجمالي للنص.. لا بد أن أشير أننا  في الكتابة او بالأحرى في لغة الكتابة يكون التلميح هو سيد الموقف حتى لا تتعرى الصورة بالكامل لتسقط في  أحضان المباشرة المقيتة والمبتذلة .. ويفقد الوعاء الفني جاذبيته فينكسر..

 

س6: ميادة ابو شنب: ما بين "الايام" لطه حسين و"قوت الارض" لاندريه جيد، ثمّة كتاب سيرة وذكريات طفولة.

من خلال متابعة نصوصك حول الذكريات نلحظ توجّه متفرد بتوثيق الكثير من ملامح الماضي.

هل هناك مشروع للغوص في هذا الضرب من الكتابة حتى إصدار كتاب؟

 

ج6: الحبيب أرزيق:أصعب ما في الوجود هو أن تكتب.. كما أن أجمل ما في الوجود هو أن تكتب أيضا.. لذلك ففي خيالي حلم بكتابة رواية .. رواية تكون متنفسا واسعا لي_ مثل صحراء تماما_ متنفسا لإشفاء غليلي في الكتابة بلم شتات الماضي عبر المرور بالأمكنة والأزمنة الجميلة ورصد الشخصيات الفائتة والفاتنة التي كانت تتسم بالسخاء بالحكمة والبساطة والعفاف.. رواية تحمل رسالة إلى العالم وإلى الانسان أنه في البدء كانت البساطة وأن سعادة الانسان في الرجوع إلى أصله الى الطين  الذي يحمل رمزية الخلق الأول وما يشكله ذلك من دلالات للتواضع الذي أعتبره أسمى شعار للإنسانية..

في كل لحظة أحلم بهذا المشروع أفكر دوما في أن يكون نمط السرد مختلفا حتى لا أجتر أشكال الآخرين..

دعيني أقول أيضا بهذا الصدد إن الكتابة مثلها مثل النار لا يمكن أن تتأجج إلا بوجود الاوكسيجين ويكون بذلك الماضي الذهبي أحد النسائم اللطيفة التي تغذي تلك النار .

 

ميادة أبوشنب: شكراً لك مجدداً القاص والشاعر القدير الحبيب أرزيق وشكراً للحوار الممتع، والآن نترك الباب مفتوحا لمداخلات السيدات والسادة لطرح المزيد من الاسئلة لاثراء الحوار أكثر.

 

الحبيب أرزيق: أشكرك سيدتي الفاضلة وأتمنى أن أكون قد لامست بعضا من مبتغاك بإجابات ملائمة احتراماتي وتقديري

 

 

 

المثقف

نص وحوار

ميادة أبوشنب

 2012/11/29

.............

 

النص:

 

الصبي والملاك / الحبيب ارزيق

 

وإني أنا الصبيُّ أصطحبُ رفاقا، تدفَّقَتْ ألوانُ جَلابيبِهِمْ أسْمالا، تغشى وُجوهَهُمُ الفِطْرة، قال صَغيرُهُمْ_أنا من كنتُ أحجبُ بالقميص لوْحَ الخَتْمِ المُبين تحْتِي،

 مُزَوَّقاً لا أُريهِ لِغَيْرِي ولا لأحدٍ _وإن ألحَّ علي _حتى يأتيَنا بالفتح المُبين، أحرُفهُ ببهاء الستر مستور، مُغمض خلف ثيابي أقيهِ بصدري وأمشي حافيا حتى يُدركنا الحالُ عصْرا، أو نتوسلُ لمن نُصادفُهُ طريقنا فينفَحُنا ببعض ما يَجُوُد به علينا، ذلك هو الفتحُ المبينْ.

ما كان أحمدُ إلا رفيقا يَحْمِلُ قفة القمح، وقفةُ الشعير_نحنُ علينا جميعا _حملُها بالتناوب بيْننا، نقْطعُ مسافةَ ما بين قصْر وقصْر، والقصرُ ليس للملوك وإنما كتلةٌ من الطينِ احتلت مكانا يتصدره القوسُ هو عنوانُ الدخول.

تطايرتُ فَرَحا حين تفرّقْنا نسعى، نقِفُ على أعْتابِ الدِّيار زُرافاتٍ ونَصْدحُ بما علَّمنا الفقيهُ_ ليس نشيدا على نحو ما تعلمناه من المدارس_ ولكنه أحلى، نرددُه واقفين على الأعتاب، "بيضة بيضة لله.باش نزوق لوحي...لوحي عند الطالب والطالب في الجنة، والجنة محلولة حلها مولانا.مولانا مولانا.يا سامع دوعانا.لا تقطع رجانا .في حرمة محمد.محمد واصحابو.في الجنة ينصابو.يا بارئ يا بارئ.يا مفتاح الهواري.والهواري قاري.ترحم من قرانا.سيدنا محمد عليه السلام.يا حجاج بيت الله، اما ريتو رسول الله ؟خليناه يتوضأ باش نقراو حجاب الله.عينينا وعنيكم في الجنة ينصابكم.داك الفاس المذكور في الجنة وعليه النور1"وينتهي اللغط المباح.

أخَذْنا ما تيسر من صَاحبة الدار، عنْدما فتحتْ للتو أشرعةَ الباب، تحملُ طبقا من متاع، كان بُرًّا يشي بلون فاتح، وألحَّتْ علي_أنا الصبيُّ_ أن أستظهر لها الماعون، فما كان مني إلا أن تَلَوْتُ لها بلسان متلكئ، لسان الصبي الذي لا يزال يتهجى الفُرقان، حتى إذا أنهيتُ، أضافت لي قطعة من السكر، وقبَّلتْ جبيني، فاحمر وجهي خجلا إذ لم أعْتَدْ التلاوة أمام النساء، كنت فقط أستظهر لوحي قدام "سيدي"، ومن خجلي أصبح الصبيان يضحكون مني، مِنْ يْوهِما أدركتُ أن التلاوة على النساء شيء عظيم، إذ أخذني السرور لما حكيتُ قصتي للفقيه فانتشر وجهُه بالحبور مثلي، ولم أعلم ما الذي أغبطه من قصتي حتى الآن.

أمام العتبة الأخرى_بالتناوب _ فتحنا أفواهنا تماما كالعصافير الصغيرة باللغط المبين،، ولم تكن تُرجِّعْ أصداءَ أصواتنا إلا أركانُ الزقاق الذي كان ضيقا، غير أننا كنا نفضل الركون إلى الزوايا المعتمة، ونحشر وجوهنا تارات كثيرة في قبب الجلابيب حياء من الكبار، فنخصم الإحراج عنا في ظلمة الأركان.

أمام العتبة الأخرى_بالتناوب أعني_يخرجُ شيخ طاعن في السِّن وعلى جلبابه صُرَّةٌ كبيرة من الشعير، جلس ففتح ناشرا رجليه فانبسطتْ أساريرُ وجوه الصبيان، وقالوا هذا فتح مبين، كَسَانَا مَدْحًا فقال أنتم الصغارُ عصافيرُ الجنة من غيركم تظل أبوابُها مُغلقة،، أمَدَّنَا بأحفان من يديه تاركا من وراءه أصداء بَرَكَةٍ لم تفارقَ ذهني حتى الآن، كلما تذكرت ذاك المكان.

ثم افترقنا، كل فريق ذهب يسعى، حتى إذا اقترب المغيبُ ضربْنا موعدا لا نُخلفه، جنب الدار الكبيرة ذات السور المرتفع، فكنت أوَّلَ من يسبقُ إلى ذلك المكان، كانت الشمسُ قد نشرتْ ألوانا حناوية على صدر الجدار المقابل لجبهة الصبي الصغير_الذي أنا، فلم أتمالكْ صبري إذ غمرني إحساسٌ بابتلاع شُعاعها النوراني الذي دخل حلْقي وأنا أمُدُّ عيني وحلقي معا في اتجاه الغروب فكأني تشَرَّبتُ رائحة الألوان جميعا، تَسَرَّبَتْ لكُلِّ مِفْصَلٍ من جسدي.مرورا بخياشيمي وحتى الدماغ، آنذاك أحسستُ بالارتياح.

أمام العتبة الموالية كان يقتضي منا الأمر أن نلتحق بالجامع _سيدي الفقيهُ ينتظرنا_له نصيبٌ مما جمعنا وعلينا الطاعة والتقبيل.

كنتُ إذا أحْنَيْتُ على يده أقبِّلُها أجدُها نورا من وُضوء.وهو يُرَبِّتُ على رأسِ الصبيِّ الذي يعشق تلاوة القرآن وحفظه.نادى علينا أن اصعدوا إلى سطح المُصلَّى، كان ذلك وقتُ الترتيلِ فقد رحلتْ أشفاقُ الليل من مكانها وخيَّمَ الهدوءُ مع الظلام، لا بد أن أدرك لوْحي، تلمَّستُه من بين ركام من ألواحٍ بِيَدِ المُتبصر، ثم دخلنا في تلاوة الحزب، أما الفقيه فيجلس مُراقبا بعصاه.

كانت أمي عندما أدخل _ليلتها_ تصفُ تلاواتنا بالأصداح الربانية فازدادُ إعجابا بوجهها الصَّبوح، قائلة لي:إن صوتك المتميز يُسمعُ من مسافاتٍ متفردا عن أقرانك، وإذ كانت الألواحُ تظل في الجامع أكواما ولا يُمكنُ حملُها للديار جَرْيًا على العادة، مَكَّنَنِي أبي من لوحٍ ثانٍ وهاج، هو لوحُ الدار، واشترى لي الصَّمغ والصلصال، "..تبدأُ يا بني بطلائها وتمسحُ عليها بالسَّاعَدِ، حتى إذا تيقنتَ أن طبقةً من صلصالٍ قد عمَّتْ كل اللوح، اِذهبْ وانشُرها تشِفُّ تحت شُعاع الشِّمسِ.والقلمُ لك من قَصَبٍ ممتازٍ سأُبْرِيهِ حين أنتهي من تحضير الدواة مع الصمغ."

كان ليلي كلُّهُ حبور، حتى إذا ما نالَنِي غمامُ النومِ، وغطَّيْتُ وجهي عن الظلام تراءتْ لي المرأةُ التي قَبَّلتْ جبيني، كأنها آتيةٌ تأخذني إلى بيتها، فأشارتْ إلي، فإذا أنا في دوامة النائم أرى إلى جَنْبِهَا كأنه حَمامٌ بِرَفِّ ملاكٍ، ثم اختفتْ صُورتُها للتَّوِّ عني، ثم بقيتُ كأني ممسكٌ بروح الملاك، مُعلقٌ إلى السماء وجسمي في التراب، فتعلَّقَ قلبي بروحِ الصُّورة المَلائكيةِ التي تجلتْ لي في تلك الليلة المجيدة، ثم بدأتُ أخْفِقُ بقلبِ نائمٍ، فاشتدَّ علي الحالُ لساعاتٍ بين الحيرة والاغتباط، فقلتُ في نفسي ما عساني فاعلٌ وقد تملَّكَ الحبورُ قلبي، فأسلمتُ أمري لقلبي، فقلتُ يا قلبُ أنتَ أعلمُ بالأمور مِنِّي: لكَ الملاكُ، الملاكُ لكْ..فلم أوَسِّعْ في التفاصيلِ لأني لم أكنْ سيِّدَ نفسي، كانَ الملاكُ في المنام سيدي

حتى إذا جاء صباحُ الغد، فضلتُ أن أكتمَ سِرِّي، لكنَّنِي تضايقتُ من أمري، وقلَّتْ شَهِيَّتِي للدَّرْسِ، وظهرتْ عليَّ علاماتُ الشُّرود، كأن شيئا مَلكنِي، حتى عَلِمَ سِيدي الفقيهُ بحالي،

قال ما بك يا محبوب؟

قلت قِلَّةٌ مِنْ نَوْمٍ يا سيدي

قال أرى من علاماتِ الشُّرودِ والضُّعفِ عليك في التحصيل هذه الأيام، ولم تعُدْ كما سابقُ عَهْدي بك وأنتَ النجيبُ الحبيبْ

قلتُ هيَ أيامٌ وأعودُ إلى عِزِّ مَقامِي

قال ومَا تُخفيهِ عليَّ؟

قلتُ رأيتُ في المنام ملاكًا

قال ملاك!!..

فهَمَّ إلى عَصَاهُ يُريدُ أن يضْربني.

قلتُ رأيتُ ملاكٌا ولستُ نَبِيًّا

قال مُتبسما والحبورُ يَعْمُرُ مُحيَّاهُ:

ذلك ينبوعٌ

لا يسْلُمُ

إنسانٌ منْ حَلاوته،

طأطأتُ ولم يشرحْ لي_سيدي_ بِالمزيدْ..

 

الحبيب ارزيق

...........................

1 أنشودة يرددها الاطفال قديما لجمع المال اثناء عشرية عيد الاضحى والقيام بوليمة تناسب أعمارهم

 

للاطلاع على النص في المثقف

 

الصبي والملاك / الحبيب ارزيق

 

 

 

خاص بالمثقف

 

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2289 الخميس 29 / 11 / 2012)

 

 

 

mayada aboshanab2hamed-fadilالمثقف تستضيف، ضمن برنامج نص وحوار، القاص القدير حامد فاضل لتحاوره حول نصه:"القناع"، فأهلاً ومرحباً به.

 


 

حامد فاضل قاص مبدع له حضور دائم في صحيفة المثقف، صدر له:

1- حكايات بيدبا ــ بغداد 1994

2- ما ترويه الشمس ما يرويه القمر ــ بغداد 2004

3- المفعاة ـ دمشق 2010

4- ثقافة الأمكنة ــ مرائي الصحراء المسفوحة ـ دمشق 2012

 

الجوائز

1- جائزة نادي الجمهورية / جريدة الجمهورية عن قصة للشاي طعم آخر / بغداد 1993

2- جائزة اتحاد الأدباء العراقيين عن قصة المظلة / بغداد 1994

3- جائزة القصاصين الشباب عن قصة الجسر الموصل 1994

4- جائزة القصاصين الشباب عن قصة النافورة / بابل 1995

5- جائزة تموز للقصة القصيرة / عن قصة بصوة أرض الجن / بغداد 1995

6-جائزة نادي الجمهورية/ جريدة الجمهورية في دورتها الثالثة عن قصة بئر الوجاجة / بغداد 1995

7- جائزة أفضل كاتب / استفتاء جريدة الوركاء / السماوة 1995

8- جائزة أفضل كاتب / استفتاء جريدة الوركاء / السماوة 2006

9- الجائزة الثالثة لمهرجان المسرح العمالي الأول عن مسرحية اهتمامات عربية /بغداد 1998

10- جائزة وزارة التربية النشاط المدرسي عن مسرحية الحرب / بغداد 1982

11- جائزة وزارة التربية النشاط المدرسي عن أوبريت حكايا لنساء رائعات / بغداد 1992

12- الجائزة الثانية وزارة التربية النشاط المدرسي عن أوبريت نمور الهوية/ بغداد1993

13- جائزة وزارة التربية للأدباء من أعضاء الهيئات التدريسية عن قصة النافذة / بغداد 2007

14- جائزة وزارة التربية للأدباء من أعضاء الهيئات التدريسية عن قصة المكتبة/ بغداد 2009

15- جائزة الإبداع العراقي وزارة الثقافة العراقية عن مجموعة ما ترويه الشمس ما يرويه القمر/ بغداد 2010 – 2011

إضافة الى المشاركة في معظم الملتقيات والمهرجانات والمؤتمرات الأدبية / والتكريم من عدد من الاتحادات والجامعات والمنتديات الأدبية

 

ميادة ابو شنب: القاص حامد فاضل بعد أن قرأت قصتك "القناع" وجدت فيها محاولة تقمص الجنون للفوز بحريّة التعبير وممارسة الاحتجاج دون الخوف من أي عقاب، في ظل الأنظمة التعسفية، ما دفعني إلى إختيارها لباب نص وحوار في المثقف ومحاورتها من خلال بعض الأسئلة تاركين الفرصة للقراء الكرام لطرح المزيد منها وإغناء الحوار بمداخلاتهم.

أهلاً وسهلاً بالقاص حامد فاضل في المثقف، في باب نص وحوار.

 

حامد فاضل: أهلاً وسهلاً بحضرتك، وشكري الجزيل لكل العاملين في صحيفة المثقف الصرح الثقافي التنويري

 

س1: ميادة ابو شنب: يتوحّد الكاتب بالراوي الداخلي، فيصبح الضمير (أنا) هو الأداة المركزية في السرد والراوي هو الشخصية المحورية.

يبدأ الراوي قصته بزخات من التساؤلات، تقدّم للقارئ أنطباعاته النفسية التي تنمّ عن حيرته وغرقه في بحر من الندم على فعل أقبل عليه دون تفكير بعواقبه، ويبدو أنها كانت وخيمة.

مقدمة فيها من الذكاء ما يملأ ذهن القارئ تشويقاً لاكتشاف الحدث المركزي.

هل استوفى المونولوج الداخلي المباشر، كأحد التقنيات الفنيّة لتيار الوعي، تقديم المحتوى النفسي لشخصية الراوي، كما نشدت؟

 

ج1: حامد فاضل: المسرح هو المكان الحقيقي الذي انطلق منه المنولوج، حيث يتيح المنولوج للممثل إظهار الامتلاء الداخلي للشخصية المُمَثلة من خلال مخاطبتها لنفسها.. وفي قصة القناع Mask لجأت الى العرض كي أتمكن من نقل أفكار الشخصية مما استدعى القطيعة بين كلام الراوي وكلام الشخصية الذي حصل قبل كلام الراوي فهو كلام مضمن في كلام ، إذن هو منولوج عرض لا منولوج سرد مباشر، فهو خطاب لوم وعتاب توجهه النفس الى ذاتها . ولقد قصدت من ذلك إظهار أفكار الشخصية عن طريق الاسترسال المنولوجي التركيبي بما يتيح للقارىء شغف الاسترسال في القراءة للاقتراب من الشخصية وفهم سيكولوجيتها للوصول الى الأثر الواقعي للحكاية وهو الذي نشدته من القصة.

 

س2: ميادة أبو شنب: "ولا أدري أي قدر مجنون ذلك الذي شدني اليهم بحبل من مسد، جعلني أتابع حركاتهم، وأحفظ كل ما يتفوهون به من كلمات واختزن كل ذلك في قبو الذاكرة، حتى تكون عندي أحتياطي رهيب من الجنون".

إن الفصام هو مرض نفسي. يفقد المريض إتصاله بالواقع ويجعله يعيش في الأوهام.

تتمحور القصة حول "الفصام" لكن ليس بمعناه المرضي، إنما تعدد الشخصيات التي يتقمصها الانسان حسب البيئة المحيطة به.

الراوي، مثلاً تتقاسم ذهنه شخصيتان متناقضتان. مخيال شخصية المثقف الواسع ومطاردته لأسرار الجنون، فضلاً عن أن تشابه شكله مع المجنون "أبو اللوز" جعل الجنون يئز في رأسه.

هل تلمّح الى حقيقة ان شخصية المجنون تسكن المثقف في المجتمع المنغلق؟

 

ج2: حامد فاضل: من المعروف والمؤكد أن المثقف غريب في المجتمع المتخلف والمنغلق.. نعم يستطيع المثقف التكيف مع المجتمع المتخلف ثم يعمل على تغييره، وتلك هي رسالته، ولكنه يصطدم بمصدات سلفية المجتمع المنغلق الذي لا يجنح الى التغيير لأنه يعيش ضمن إطار الماضي، فهو إذن لا يدرك أن الحياة حالة متجددة تستبدل عالماً قديماٌ بعالم جديد.. بينما يستشرف المثقف أثر الواقع Real Effect ضمن تلك التفاصيل الجزئية التي تأتي ضمن سياق السرد الوصفي وهو المفهوم الذي أكده بارت Barthe . ولأن المثقف يعيش الحاضر مفكراً للمستقبل، إذن لا يمكن أن يحل الانسجام بينه وبين الواقع المنغلق ، وبالتالي سيكون عليه العيش ضمن واقع بديل يخلقه لنفسه، وقد تنتج عن هذه القطيعة بين المثقف والمجتمع المنغلق حالة فصام وهناك شواهد كثيرة على مثقفين مرضى أو أنصاف مرضى بسبب عدم الانسجام مع مجتمعاتهم.

 

س3: ميادة أبو شنب: "أحسست بحسيس النار وهو يلفح اذني بزفيره: (لو حلقت شاربك وأستبدلت ببدلتك الدشداشة وتخلصت من حذائك وربطة عنقك، فأقسم أن لاأحد يستطيع أن يميز بينكما)"

لِمَ لمْ يكتف الراوي بممارسة "إستفراغ الخيال المجنون" لتخفيف عبء عن كاهله؟ لماذا اعتبر الفكرة الساذجة لصاحب المقهى الأمّي دعوة إلى الحرية؟

 

ج3: حامد فاضل: الحرية بالنسبة لصاحب المقهى وهو الانسان البسيط حالة فطرية، بينما تسمو الحرية على اكتسابها الفطري بالنسبة للإنسان المثقف.. صاحب المقهى يعرف جيدا ولع الراوي واستمتاعه بمتابعة المجنون (أبو اللوز) ولقد عبر عن ذلك ضمن مساحة تفكيره وهو يشير الى الشبه بين الراوي والمجنون. بينما نظر الراوي المثقف الى ذلك كنعمة أنعمها الخالق عليه كي يتخلص من المساءلة باكتسابه صفة الجنون.. في إحدى قصائده يقول الشاعر شاكر السماوي وهو يحسد المجنون لتخلصه من الخوف والخجل:

(هنيالك ابهذا العمر تكضي حياتك مجنون

لا عرفت طعم المستحه ولا علكت سبع عيون)

الجنون إذن مبرر لقول ما لا يمكن أن يقال جهراً في ظل نظام تعسفي يقمع الحريات كافة، وهو المَرْكَبْ الذي خيل للشخصية الإبحار فيه بمأمن من العاصفة، لكن الواقع كان له منطق آخر كما تبين لنا في نصاعة نهاية القصة

 

س4: ميادة ابو شنب: "وفي الخربة سلمته علبة السجائر وبضع أوراق من النقود الزرق والخضر، ثم أخبرته بفكرتي الرعناء .. فسخر منها"

هنا تبرق فكرة بسيطة للفوز بحريّة الاختيار في إعتناق أو تبنّي أفكار لا يتقبّلها الآخرون. وربما ندفع مقابلها ثمناً معنوياً باهظاً.

هل تعتقد ان "أبو اللوز" فهم فكرة الراوي وسخر منها؟

أم أنه أدرك أن المقايضة ليست عادلة؟ فهل من المنطق ان يعطيه علبة سجائر وبضع أوراق مقابل حصوله على حرية بلا حدود؟

 

ج4: حامد فاضل: نهاية القصة، تجيب على هذا المقتطف من المنولوج السردي الخاص بالراوي، وسؤالك هذا يحتم عليَّ ذكر الحكاية التي استند السرد المنولوجي على خطابها الحكائي Diegetic Discourse حيث ينقل الراوي طبقاً لمفهوم جنيت Genette لهذا الخطاب أحداثا ضمن زمكانية معينة لعالم متخيل.. فهناك أولاً الحكاية التي استدعت التخيل والشخصية والراوي والحدث لإنتاج قصة فنية .. روى لي صديق: (أن حمالاً أعرجاً غريباً ظهر فجأة في سوق السماوة بعد الانتفاضة الشعبانية ضد النظام السابق. واعتاد أحد تجار الطحين أن يراه واقفاً بعربته ذات العجلتين أمام محله طوال النهار .. وحدث أن ذهب التاجر هذا لمراجعة مديرية المخابرات في بغداد لشأن يخصه، وبينما هو جالس في الاستعلامات فوجئ بدخول الحمال الأعرج الذي لم يكن أعرجاً في ذلك اليوم، بل كان يسير بخيلاء وهو يرتدي بدلة أنيقة ، وقد قفز موظف الاستعلامات للترحب به منادياً اياه (سيدي) وقبل أن يدلف الحمال الذي لم يكن حمالاً في الممر المؤدي الى داخل المديرية، التقت عيناه بعيني تاجر الطحين.. حين عاد التاجر الى السماوة وجد ذلك الحمال ما يزال يزاول عمله في السوق. ثم رأه يقبل نحوه وهو يعرج، حتى إذا صار قريباً منه همس في أذنه: لو تحدثت بكلمة واحدة عما رأيت فاقرأ على نفسك السلام) هذه هي الحكاية التي استند اليها الخطاب القصصي Narrative Discourse

 

س5: ميادة ابو شنب: "دروب البلدة المفروشة بالوحل، والبرك، والضفادع ..... / كان طفلا صغيرا يتغوط امام باب دارهم وقد التصقت بضع ذبابات بالمخاط السائل من أنفه ....... / غمست قدمي في مجرى الماء الأسن "

برزت في قصتك حالة البؤس والتخلّف في تلك البلدة.

فهل كان إختيارك للاسم عفو خاطر أم تعبيراً عن حالة التناقض بين إسم "أبو اللوز" ومشاهد البلدة المتخلّفة؟

 

ج5: حامد فاضل: نعم سيدتي، تأويلك لاسم "أبو اللوز" صحيح، وكذلك ما تفضلت به في سؤالك بما يخص حالة البؤس والتخلف في البلدة.

 

س6: ميادة ابو شنب: في مجتمعٍ مقموعٍ، بدا المجنون هو الوحيد القادر على الاحتجاج و تحدّي السلطة .. لكن الاحتجاج ينتهي في المشهد الأخير، حيثُ يتسمّر المثقّف المجنون، أو المتصنّع الجنون، أمام مأمور الشرطة، و هو لا يحار جواباً!

المشهد الأخير يوحي بأكثر منْ قراءة .. عبث الاحتجاج، و عبث الجنون في مجتمعٍ كهذا .. المجنونُ يجلسُ عاقلاً إلى مأمور الشرطة، والمثقّف يبدو ببابهِ مجنوناً لا يستطيعُ إكمال دورة الجنون ..

هل أردتَ القول باستحالة أيّ احتجاجٍ أو محاولة للتغيير في مجتمعٍ مضطهد, صادرت منه الانظمة حرية التعبير؟ لان السلطة تعمل على تدجين كلّ شيء حتّى الجنون؟

 

ج6: حامد فاضل: لقد اقتربت كثيراً من أفكاري في قراءتك للقصة، كأنك كنت معي حين فكرت بالنهاية، كيف يكون الاحتجاج ممكناً، وقد سَخَّرَ النظام حتى الجنون المزيف لخدمته، ولهذا سَخِرَ " أبو اللوز" في الخربة من فكرة الراوي الذي اعتقد أن قناع الجنون سيمنحه حق السخرية من أزلام السلطة.

 

س7: ميادة ابو شنب: نعود الى البداية وهي العنوان. حاول الراوي كشف حقيقة الاشخاص الذين احتك بهم وإزالة أقنعتهم. هل نجح في تحقيق هذا الهدف؟ وهل "أبو اللوز" واحد من أصحاب الأقنعة؟

 

ج7: حامد فاضل: "أبو اللوز" هو واحد من رجال السلطة رجل مخابرات متستر بقناع الجنون.

 

ميادة أبوشنب: شكراً لك مجدداً القاص حامد فاضل وشكراً للحوار الممتع، والآن نترك الباب مفتوحا لمداخلات السيدات والسادة لطرح المزيد من الاسئلة لاثراء الحوار أكثر.

 

خاص بالمثقف

ميادة أبوشنب

صحيفة المثقف / نص وحوار

5 – 9 – 2012

القناع / حامد فاضل

 

أهي لحظة نحس، أم غباء، أم لا مبالاة، تلك اللحظة التي أوصلتني إلى هذه الحال .

وأنا الرجل الذي تعرفه البلدة كواحد من أبنائها العقلاء .. أهي حالة فصام، أم خواء، أم فضول . تلك الحالة التي داهمتني مداهمة رياح خريفية . فصيرتني مثل قرد خلف القضبان . بلا غابة أو غصن حتى يخفي بين أوراقه لون مؤخرته المسلوخة. أكانت الفكرة من صنع القدر؟ أم مني؟ أم من صاحب المقهى الذي ألقى بذرتها في تربة رأسي الخصبة فاهتزت، وربت، وكان حصادها وبالا عليّ جعلني أغض الطرف خجلاً من نظرات الأهل والأصدقاء ..؟ أهي مشيئة الله، أم توارد في أفكار الطبيعة؟ أم هي تلك الجينات، والهرمونات التي تتحكم في تكوين خلقتنا وبناء أجسامنا؟ جعلت ذلك المجنون يشبهني تماما" كأننا نزلنا سوية من رحم واحد ..كم من المجانين في بلدتنا سواء من أبنائها الذين تلدهم كلما تناسلت النوائب، أو أولئك الذين تلفظهم في محطتها قطارات الليل والنهار الصاعدة شمالاً أو النازلة جنوباً، أو من الذين تنساهم في كراجاتها سيارات السفر الوافدة والمغادرة. ولا أدري أي قدر مجنون ذلك الذي شدني اليهم بحبل من مسد، جعلني أتابع حركاتهم، وأحفظ كل ما يتفوهون به من كلمات واختزن كل ذلك في قبو الذاكرة، حتى تكون عندي أحتياطي رهيب من الجنون .. أستطيع أن أكون بواسطته لو أستغللته استغلالاً حقيقياً، أعظم مجنون في البلدة. كنت أنقش أسماءهم وأرسم سيماءهم على جدران المخيلة، لذا فأنا أستطيع أستحضار أي منهم بعملية بسيطة أسميتها: أستفراغ الخيال المجنون، فلا يخلو مجلس أنس أحضره من أحد المجانين الذين أستحضرهم نزولاً عند رغبة الأصدقاء الذين أعترفوا في أكثر من مناسبة بالقابلية التي امتلكها في تقليد المجانين، وبموهبتي في تمثيل دور المجنون .. وقد لاحظت من خلال متابعتي الطويلة للمجانين، أن لكل مجنون حركاته الخاصة، وقاموسه الخاص، فقد يكتفي أحدهم بحركة واحدة، أوكلمة واحدة يظل يرددها طوال حفنة السنين التي تستهلكه في الحياة الدنيا، مثل (صبحي بامية)الذي يرافق الشمس منذ تمزيقها لشرنقة الغبش، يدور على الدكاكين والمقاهي، صارخاً: (بامية .. بامية) أو (عطوي سيجارة) الذي ما أن يرى سيجارة بين أصابع رجل من السابلة حتى يلاحقه كظله: (سيجارة عمي .. سيجارة) بينما يلجأ أخرون الى القاء خطب طويلة لايفهم منها شيء برغم أنهم يلقونها بالعربية الفصحى مثل الأستاذ (هاشم) أما (حميد الرطان) فأنه يتكلم بلغة لا شبيه لها في جميع لغات العالم الحية والميتة .. ولا يكف (صالح العاكف)عن النفخ في صفارته والأشارة بيده الى مكان حدوث الخطأ في ملعبه الوهمي .. غير أن (أبو اللوز)* المجنون الجديد الذي قذفت به العاصفة في ليلة من ليالي الثريا الهوجاء، حيث ظل الناس يستمعون طوال الليل إلى عزف (الحالوب)* الصاخب فوق سطوح المنازل، ويرون بعيون أتعبها بطء أنزلاق البلل فوق زجاج النوافذ، مسيل العرق الناضح من أجساد الغيوم السود وهي تؤدي رقصتها الجنونية مطلقة صرخاتها الهستيرية المصحوبة بزفيرها الناري كلما احتكت اجساد بعضها ببعض، حتى اذا نقر طائر الصباح ابواب البلدة وخرج كل ذي حياة لمطاردة رزقه . ابصر الناس رجلاً حافي القدمين، يركض في دروب البلدة المفروشة بالوحل، والبرك، والضفادع، رافعاً دشداشته إلى ما فوق سرته كاشفاً عما بين القصبتين اللتين تحملانه وهو يصرخ: (لوز) ثم يصمت للحظة، ويتوقف ليصرخ: (شلونه) ويعاود الركض والصراخ .. وما أن مر الأسبوع الأول على أسلوبه المتفرد بالجنون حتى استأثر بأهتمام الناس، وفاق بحركاته وعبارته التي أشتهرت جميع مجانيننا، وصار ظاهرة من ظواهر بلدتنا المستلقية على مشارف الصحراء. جذبت الينا الناس من البلدان المجاورة ليروا (أبو اللوز) وهو يدور في شوارع بلدتنا، وازقتها، وسوقها متبوعاً برهط أو أكثر من الأولاد، ويستمعون إلى عبارته الشهيرة التي ما أن يطلقها صارخاً: (لوز) حتى يجيبه الأولاد بصوت واحد: (شلونه) فتحرك السوق، وأزدهرت التجارة ودبت الحياة في أقتصاد بلدتنا المحتضر حتى أن تجارنا وكبار بلدتنا ووجهاءها ومختارها توسطوا عند مأمور المركز لأستثناء (أبو اللوز) عندما علموا أن في نيته جمع المجانين السائبين وايداعهم المستشفى . وقد استقبل اقتراحهم بكل رحابة صدر .. وكان من الطبيعي أن أهتم أنا ب(أبو اللوز) كي أضمه الى مجموعتي من المجانين الذين احتفظ بهم في متحف الذاكرة. ولكني برغم ملاحقتي المستمرة له فأنني لم أنتبه الى تلك السمة المشتركة فيما بيننا ولعل انشغالي في متابعة حركاته وتقليد صوته حال دون الأنتباه الى تلك السمة، واعني بها التشابه في الطول والجسم والملامح برغم أني أبدو أكبر منه، حتى ظهيرة ذلك اليوم الخريفي الكئيب الذي كنت فيه جالساً في زاوية اقدم مقهى في البلدة استمتع بمراقبة (أبو اللوز) الذي كان يقلب ملعقة الشاي بين أصابعه ربما للمرة الألف، حين احنى صاحب المقهى العجوز رأسه بأتجاهي: (أستاذ ألا ترى ان أبو اللوز يشبهك؟!) .. شرارة صغيرة أشعلت الهشيم المتكدس في رأسي، أحسست بحسيس النار وهو يلفح اذني بزفيره: (لو حلقت شاربك وأستبدلت ببدلتك الدشداشة وتخلصت من حذائك وربطة عنقك، فأقسم أن لاأحد يستطيع أن يميز بينكما) .. أرقت تلك الليلة. طنت في رأسي أجنحة تلك الفكرة المجنونة: (ماذا لو أصبحت أنا الأنسان العاقل مجنونا مع سبق الأصرار، وليوم واحد .. يوم واحد فقط أزيح فيه كل ما ترسب في صدري من غبار الأيام، وأنفضه في سماء البلدة، يوم واحد، يكفي لكسر قيد الوقار الذي كبلني به الأهل والعشيرة والقانون، طيلة أعوام عمري المندثرة .. يوم واحد لا غير، أسخر فيه من البلدة وأهلها، كل أهلها، صغارها وكبارها) .. هرعت في ذلك الليل المتخاصم مع القمر الى الخربة التي ينام فيها (أبو اللوز) الا أنني لم أجد هناك غير العتمة الجاثمة فوق الأزبال .. وخرجت يلاحقني صفير الصراصير المختبئة في ثقوب الحيطان، وعدت ثانية الى التقلب على فراشي حتى بان الخيطان . فخرجت مرة أخرى للبحث عن (أبو اللوز) .. ووجدته في كراج البلدة يقدم نمرته أمام الجنود والعمال اللاهثين وراء السيارات .. تقدمت منه وقبضت على ذراعه: (أبو اللوز .. تعال معي) جفل الرجل، ولأول مرة لمحت في عينيه نظرة لم أر مثلها منذ جاء الى بلدتنا .. ثم تخلص من ذهوله وعادت لعينيه نظرتهما السابقة وصرخ: (لوز) فأجابته مجموعة من العمال: (شلونة).. قلت بهدوء ولكن بحزم: (أبو اللوز لا تخف .. تعال معي، سأعطيك الكثير من النقود) نظر الى قبضتي المطوقة لمعصمه .. واصلت كلامي مضيفاً أنني سأمنحه علبة سجائر كاملة ودشداشة جديدة، وقدته مثل مروض الوحوش وهو يقتاد حيواناً مفترساً، فأنقاد لي وسار معي بخطوات هادئة مستمراً في صمته .. أدخلته سيارتي العتيقة محاذراً أن أستفزه، كنت كمن يحمل بضاعة من الزجاج الرقيق، ولم يسألني هو طوال الطريق عن ماهية العمل الذي أريده فيه وبدا لي يفكر بامر ما .. اوقفت سيارتي في ساحة قريبة، وفي الخربة سلمته علبة السجائر وبضع أوراق من النقود الزرق والخضر، ثم أخبرته بفكرتي الرعناء .. فسخر منها. لكني كنت مترعاً بها لا أفكر الا بما أنا مقدم عليه من تجربة فريدة. وبمقدار السخرية المتراكمة في داخلي لذا فقد أسرعت بخلع بدلتي وسلمتها له وأنا اؤكد عليه بعدم الخروج ثم تخلصت من ملابسي الداخلية وبعد أن أرتديت دشداشته أقفلت باب الخربة، وقذفت بنفسي إلى الزقاق بحركة مجنونة من الحركات التي أتقنها تماماً .. وما أن خطوت بضع خطوات حتى سمعت صوتا يناديني: (أبو اللوز) كان طفلا" صغيرا" يتغوط امام باب دارهم وقد التصقت بضع ذبابات بالمخاط السائل من أنفه .. صرخت: (لوز) فصرخ الطفل: (شلونه) قلت لنفسي: (أول الغيث) عند أنتصاف النهار حسدت (أبو اللوز) على جمهوره وأنا أرى الحشد الهائل من الأولاد الذين تبعوني .. كنت أسير وأنا أردد مثل المبرمج: (لوز) والحشد يصرخ من ورائي: (شلونه) أتجهت الى السوق وتوقفت أمام محل كبير التجار غمست قدمي في مجرى الماء الأسن، ثم بدات أرفس برجلي وأصرخ: (انا خلقناك من الطين .. من الطين) كانت شظايا الماء تتطاير من تحت قدمي فتلطخ زجاج واجهة المحل وملابس المتسوقين. اسرع واحد من عمال المحل وكتفني بذراعيه، فخرج كبير التجار وصرخ به: (أتركه، لاتؤذه، أبو اللوز وردة) قادني الى داخل المحل: (ها أبو اللوز .. اليوم طابكات؟) أجلسني بقربه وطلب لي شاياً وهو يضحك مسروراً بوجودي . . نظرت الى صورة قدمي التي طبعها الوحل فوق (الكاشي) وتساءلت: (كيف جمع هذا الرجل ثروته الضخمة وهو بهذه البلادة العظيمة؟ !) أنهيت الشاي بجرعة وعضضت الأستكان كما يفعل (ابو اللوز)، ثم خرجت ماضغا الملعقة التي أحسستها تتكسر مثل حصاة تحت أسناني .. مررت بمطعم للكباب ووقفت أنظر الى صاحبه، فسارع إلى أعطائي رغيفاً وثلاثة أسياخ من الكباب وهو يتملقني طالباً مني الانصراف وتركه على باب الله.. عدت الى زقاقنا عصراً وهو الوقت الذي تقتعد فيه النساء عتبات البيوت، رفعت دشداشتي الى ما فوق السرة، وسرت متبختراً صادماً أنظارهن بأدوات فحولتي .. واربت (العطرة) عاهرة البلدة عباءتها وصرخت ملء فيها: (عزا العزاك)   وهي تفتح عينيها على سعتهما ناظرة الى ما يتدلى بين ساقيّ !، ومدت (زكية) الشمطاء رقبتها فاتحةً فمها الخالي من الأسنان: (ولك أثتحي ثافل*) بينما صرخت مراهقات الزقاق: (يبوه) وهن يتقافزن من طريقي مثل صغار المها .. ما أن أنعطفت في زقاق أخر حتى كنت وجهاً لوجه أمام المختار فصرخت بوجهه: (لوز) وتعالى الصراخ من خلفي: (شلونه) وبدأت بالرقص .. فأهتز كرش المختار، أهتز كثيراً وأنا أشتمه وهو يضحك ولغده يتدلى مثل بجعة عجوز، وفجأة بتر ضحكته وصرخ بي: (كفى .. سأشكوك الى المأمور) كنت قد وصلت الى ذروة جنوني المصطنع أو الحقيقي فقد خيل لي أنني (أبو اللوز) حقاً .. أمسكت بزيق الدشداشة وشققتها من الطول الى الطول، وركضت بأتجاه المركز ساحباً خلفي كل أولاد البلدة وأنا أصرخ: (لوز) فيتعالى هتاف المتظاهرين خلفي: (شلونه). وأزدادت ثقتي بنفسي حين لم يمنعني الشرطي الحارس من دخول المركز .. فأتجهت مباشرة الى غرفة المأمور وقد وطنت نفسي على السخرية منه، ولكن ما أن تخطت قدماي عتبة الباب حتى سمرتني في مكاني صرخة أعرفها جيداً، انطلقت من داخل الغرفة فحولتني الى تمثال للسخرية وأنا أقف بدشداشتي الممزقة وعريي الفاضح وقد أقتحمت رأسي قهقهة المأمور .. وبرغم أن فمي ظلمفتوحاً فقد عجز لساني الذي تخشب عن النطق وأنا لا أصدق عيني المسمرتين على (أبو اللوز) الذي بدا أكثر وقاراً مني وهو يرتدي بدلتي وربطة عنقي وحذائي .

 

........................

أبقيت أسم (أبو اللوز) على حاله دون التأثر بالحالة الأعرابية

الحالوب: هو قطرات المطر المتجمدة

ولك اثتحي ثافل: المقصود بالعباره استح سافل

 

mayada aboshanab2mustafa almohajerالمثقف تستضيف، ضمن برنامج نص وحوار، الشاعر القدير مصطفى المهاجر لتحاوره حول نصه:

"ما ثمّ إلا الكلام"، فأهلاً ومرحباً به.

 

mayada aboshanab2hyam qabalan   المثقف تستضيف، ضمن برنامج نص وحوار، الناقدة والقاصة والشاعرة القديرة هيام مصطفى قبلان لتحاورها حول نصها:

"عرس الظل"، فأهلاً ومرحباً بها.

 

mayada aboshanab2  hamodi alkenaniالمثقف تستضيف، ضمن برنامج نص وحوار، الاديب القدير حمودي الكناني لتحاوره حول نصه "إستدراك.. قبل فوات أوان"، فأهلاً ومرحباً به.

mayada aboshanab2josee helwالمثقف تستضيف، ضمن برنامج نص وحوار، الشاعرة القديرة جوزيه حلو لتحاورها حول نصها:

" أتظن أنني كل النساء؟"، فأهلاً ومرحباً بها.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم