صحيفة المثقف

دراسات وبحوث

العنصر الثالث من عناصر العقيدة المسيحية هو صلب المسيح فداءً عن الخليقة. ويتساءل المرء كيف يمكن أن يكون المسيح إلهاً ويصلب؟ ولا شك أن جميع المصادر المسيحية ما عدا البروتستانت ترى في صلب المسيح مسألة من مسائل العقيدة المسيحية الأساسية.

وعند الرجوع للمصادر الأولى للمسيحية نرى أن بولس الرسول أتى بأمور لم يأت بها غيره. فقد جعل مسألة الإيمان ترتكز على صلب المسيح رباً وإلهاً فقال مثلا: «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ»[1]، حيث يعتبر الرسول بولس أن الصليب جوهر المسيحية فيركز عليه قائلاً: «لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا»[2] أي أن الأمر الوحيد الذي يريد معرفته هو الصليب[3].

«إن وفاة عيسى على الصليب هي عصب كل العقيدة المسيحية. إن كل النظريات المسيحية عن الله، وعن الخليقة، وعن الخطيئة، وعن الموت، تستمد محورها من المسيح المصلوب»[4].

وعليه فإن المسيحية التي تقول بصلب المسيح الإله، قد غالت كثيراً وخصوصاً أنها تصر أن الإله المسيح قد صلب. ولو أنها قالت بصلب المسيح النبي لكان أمرً مستساغا، باعتبار أن اليهود تاريخهم معروف بقتل الأنبياء والتنكيل بهم، فهذا أمر يتناقض مع إيمان المسيحية بقدرة المسيح الغير المحدودة؛ باعتباره أنه إله قوي وجبار. فالذي ترتكز عليه المسيحية هو الهدف من الصلب والغاية منه ألا وهو أمر مقدس في حد ذاته. ويمكن حصر هذا المعتقد المقدس لدى المسيحيين في كونه قد جاء ليصلب ويخلص البشرية من الخطيئة، أي ما يعرف باسم المخلص الذي يقدم نفسه فداءً ليحمي البشرية ويفديها ويمحو خطيئتها.

"إن الله من صفاته المحبة. ومحبة الله ظهرت في تدبيره طريق الخلاص للعالم؛ لأن العالم- من عهد سقوط آدم عليه السلام في الخطيئة وهبوطه هو وبنيه الدنيا – مبتعد عن الله بسبب تلك الخطيئة، ولكن الله من فرط محبته وفيض نعمته، رأى أن يقربه إليه بعد هذا الابتعاد، فأرسل لهذه الغاية ابنه الوحيد في العالم ليخلص العالم"[5].

وهكذا فإنهم يزعمون أن في صلب المسيح خلاص للعالم أجمع من خطيئة أبيهم آدم عليه السلام. "وصور لهم أن صلب المسيح كان فداءً للبشرية كافة وتكفيرا لخطاياهم، وأن هذا الصلب في نظره هو الهدف الحقيقي لرسالة المسيح (عليه السلام) التي جاء من أجلها إلى الأرض، فلم تخلو أي رسالة من رسائل بولس من ذكر هذه الحادثة المركزية وشرح تفاصيلها"[6] «وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيبًا يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ»[7]

وهنا سنعرج لنرصد خبث المكيدة المدبرة للنبي عيسى عليه السلام والتي أشادت بتكون عقيدة الصلب.3779 الصلب في المسيحية

نفث الشيطان في صدور بني إسرائيل، فملأها حقدا وغلا وكرها لعيسى ابن مريم -عليه السلام-فقرروا ضرورة التخلص منه؛ فكان من أمرهم أن اجتمع كهنة إسرائيل وشيوخها لتدبير مؤامرة دنيئة؛ انتهت بقرار قتله لأن تعاليمه هزت عرش سلطانهم المبني على الغش والفسق، والفساد والرياء، والمكر والظلم. فكان التدبير للمؤامرة بالصلب حتى القتل هو أسهل وأبلغ مسلك للقضاء نهائياً على رسالته؛ مستعينين بأعدائه وأعداء تعاليمه فقاموا بالبحث عنه ووشوا به مقابل دنانير.

وقد استطاع اليهود أن يأثروا على بيلاطس فأمر بالقبض على عيسى: »وأحس عيسى بذلك فاختفى مع حوارييه في حديقة جثيماني Gethmane ، ولكن يهوذا الإسخريوطي أحد الحواريين تقدم للكهنة وساومهم على تسليمه للرومان نظير ثلاثين قطعة من الفضة، وقاد يهوذا جند الرومان حيث قبضوا على عيسى، ودفع اليهود بيلاطس[8] فحكم عليه بالموت صلباً، ونكل به الجنود الرومان ثم صلب حتى مات ودفن، وبعد ثلاثة أيام أمضاها في القبر قام في الفصح ومكث أربعين يوماً مع تلاميذه خاصة، ثم ارتفع إلى السماء أمامهم بعد أن أوصاهم بالجد في نشر دعوته باسم الأب والابن والروح القدس«.[9]

نفس الطرح ذهب إليه الكاتب "يوحنا لورنس فان موسهيم" في كتابه تاريخ الكنيسة المسيحية بقوله: "فلا تهمة من هذه التهم كافية لتقنع قضاة مستقيمين عادلين بأن يحكموا عليه لكن صياح الشعب المهيج بالكهنة المنافقين أجبر بيلاطيس على أن يحكم عليه بالموت"[10]

«وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ».[11]

لكن إرادة الله وعنايته برسله كانت مع المسيح عليه السلام، فقد ألقى الله الشبه على أحد الخونة الواشين به وهو يهوذا الإسخريوطي، وهو من أحد تلاميذ المسيح إلى الحاكم فألقى الجنود القبض عليه وحوكم وصلب؛ أما النبي فرفع إلى الله جل شأنه.

والذي أراه بصدق أن العقيدة المسيحية التي تقول بأن المسيح عليه السلام صلب من أجل الخليقة، فنجد أن مسألة الصلب كانت بيد الحاكم بعد المكر والخداع الذي افتعله اليهود للإطاحة به وقتله، والقضاء بذلك على تعاليمه. فلو كان الأمر كذلك لما صلب المسيح بسبب تعاليمه المناقضة لبني إسرائيل، والأحق أن صلبه وقتله جاءاً رداً على خروجه عن دينهم وتعنتهم وضرباً في غيهم وكفرهم الذي نهجوه بعد موسى عليه السلام، وأن عقيدة الصلب جاء بها المسيحيين بعد موت عيسى عليه السلام حتى يضفوا طابع القداسة ويبرروا قضية الصلب الذي تعرض له نبيهم، معلقين عليه جميع ذنوبهم وأنهم بفضله نالوا العفو من الرب والخلاص. وجاء في التوراة ما يؤكد إلغاء عقيدة الصلب من أجل غفران خطايا الآخرين: «لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ».[12]

فعقيدة الصلب المسيحية عقيدة بشرية من صنع فكر بشري، وليست عقيدة ربانية منزلة.

"نفى القرآن –بحق وصدق-القتل عن سيدنا عيسى يقول تعالى: ﴿وما قتلوه﴾[13]، ونفى القرآن الكريم- بحق وصدق- الصلب عن سيدنا عيسى، فما الصلب إلا بيان لكيفية القتل، وإذ لم يمت المسيح على الصليب يصح قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وما صلبوه﴾[14]، ولا يجدى في محاولة تكذيب المكذبين للقرآن الكريم شهادة شهود العيان أو وجود تواتر.[15]

وهكذا كانت نهاية عيسى عليه السلام، أن تولى الله رفعه وسلمه من كيد أعدائه حين قال:

﴿وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيماَ﴾[16]

أما الرفع فكيف كان وبأية طريقة وقع، فلا فائدة للبحث فيه، لأن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، كما يدعي اليهود، فالأمر بيده تعالى، قادر على نجاته بأي شكل لا يعجزه ذلك، ولو وقع القتل والصلب لأخبر الحق بذلك، وقد ذكر أن بني إسرائيل قتلوا من قبله الرسل والأنبياء حين قال[17]:

﴿أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون﴾[18].

وخلاصة القول فإن القرآن الكريم جاء بالحق والقول السديد في قضية الصلب، فالمسيح عليه السلام رفع بأمر رباني إلى السماء ولم يقتل كما يردد أعداء الله من اليهود والنصارى، ويبين كذلك أن عيسى عليه السلام لم يصلب كما جاء في الإنجيل من أجل التكفير عن خطايا الآخرين } عقيدة الفداء}، بل رفع لأمر رباني فيه حكمة نحن البشر لا دخل لنا في الخوض فيها، بل نتقبلها كما جاء بها القرآن الكريم بدون تأويلات أو زيادات تُدخل العقل البشري المحدود في متاهة الشك والضلال والتحريف.

***

رجاء موليو

طالبة بسلك الدكتوراه/تخصص التاريخ والتراث/ جامعة ابن طفيل-المغرب

......................

[1] - رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية: 6/14.

[2] - رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس: 2/2.

[3] - العقيدة النصرانية بين القرآن والأناجيل، حسن الباش، دار قتيبة، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1421ه-2001م، ص: 151.

[4] - مسالة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء، أحمد ديدات، دار الفضيلة، ص: 10.

[5] - العقائد المشتركة بين اليهود والنصارى وموقف الإسلام منها، خالد الرحال محمد صلاح، دار العلوم العربية بيروت- لبنان، ص: 213. / العقائد المشتركة بين اليهود والنصارى وموقف الإسلام منها، خالد الرحال محمد صلاح، دار العلوم العربية بيروت- لبنان، ص: 213.

[6] - المسيحية دين الله الذي أنزله على المسيح أم هي ديانة بولس؟، نبيل نيقولا جورج بوخاروف، الطبعة الثانية 2007، ص: 63.

[7] - العبرانيين: 9/22.

[8] - بيلاطيس: كان يلقب بالبنطي وهو وال من قبل الحكومة الرومانية على اليهود سنة 29م، واستمر حكمه بعد انتهاء دور المسيح بضع سنين، واختلفوا في موته فقيل: انتحر نفسه، وقيل: أقيل من منصبه ونفي إلى فرنسا ومات هنا. من كتاب دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند لمحمد ضياء ص: 299.

[9] - المسيحية، أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة العاشرة 1998، ص: 105-106.

[10] - تاريخ الكنيسة المسيحية القديمة والحديثة في ست كتب، يوحنا لورنس فان موسهيم، ص: 15.

[11] - إنجيل لوقا: 23/33.

[12] - سفر التثنية: 24/16.

[13] - سورة النساء، الآية :157.

[14] - سورة النساء، الآية :157.

[15] - أخطر المناظرات هل مات المسيح على الصليب، مناظرة بين الدكتور أحمد ديدات والبروفيسور فلويدكلارك، ترجمة علي الجوهري، دار البشير القاهرة، ص: 166.

[16] - سورة النساء، الآية :156-157-158.

[17] - أصول المسيحية كما يصورها القرآن الكريم، داوود علي الفاضلي، مكتبة المعارف للنشر، ص: 107.

[18] - سورة البقرة، الآية: 87.

 

مقدمة: مذهب الرواقية الفلسفي الهلنستي أنشائه الفيلسوف اليوناني زينون السيشومي في أثينا ببدايات القرن الثالث قبل الميلاد التي تندرج الرواقية تحت فلسفة الأخلاقيات الشخصية التي تستمد من نظامها المنطقي وتأملاتها على الطبيعة وفقاً لتعاليمها، فإن الطريق إلى السعادة أو الراحة الدائمة يكون بتقبل الحاضر، وكبح النفس من الانقياد للذة أو الخوف من الألم، عبر مشورة العقل لفهم العالم وفعل ما تقتضيه الطبيعة. عرف الرواقيون لتعاليم مثل «الفضيلة هي الخير الوحيد»، وأن بقيةَ الأشياء الخارجية كالصحة، الثراء، واللذة ليست شراً أو خيراً في حد ذاتها، لكنها تحمل قيمة بصفتها «مادة يسع للفضيلة أن تستعملها» فلقد انقسم تاريخ الرواقية بذاته إلى فترتين: الفترة الأولى كان مركزها في اليونان، وجزء ضئيل في آسيا، والفترة الثانية في روما. فقد كانت ظروف الحياة في الرواقية الرومانية سبباً في أن تتخذ الرواقية شكلاً خاصاً فالرواقية الرومانية لها سماتها الخاصة فإن أعظم ثلاث رواقيين في الإمبراطورية الرومانية هم: سينيكا، وإبكتيتوس، وماركوس أوريليوس، بل ربما أعظم من المؤسسين لهذه المدرسة، وذلك لأن تعاليمهم صادفت تطور عام في الفكر ووصلت إلينا بشكل كامل، فأخذت المسيحية من الرواقية العديد من الأفكار الأساسية بحيث صبغت فلسفتها بألوان مبادئ رواقية حتى تكون ملائمة للحياة الاجتماعية وطبيعة هذه العقيدة

فكان الرواقيون الأوائل، وخاصة كريسيبيس، مغرمين بالمنطق، والفلسفة الطبيعية وكذلك بالأخلاقيات. وشدد الرواقيون المتأخرون ـ خاصة سنيكا وماركوس أُوريليوس وأبيكتيتوس ـ على الأخلاقيات.3774 سينيكا

* سيِنـيكا (4 ق.م. - 65 م)

عرف لوقيوس أنـّايوس سينيكا Lucius Annaeus Seneca أو سـينـيكا الأصغر (Seneca the Younger)؛ ويعرف عادةً بإسم "سـينـيكا"(Seneca) فكان فيلسوفاً رواقياً رومانياً ورجل دولة وكَاتب أبوه كان سنكا الأكبر، وشقيقه الأكبر كان لوقيوس يونيوس گاليو أنايانوس، وابن عمه الشاعر لوكان. وفي 41 م، نـُفي سينيكا إلى جزيرة كورسيكا في عهد الامبراطور كلاوديوس، ولكن سمح له بالعودة في 49م ليصبح مُعلماً لـ نيرون. وحين أصبح نيرون امبراطوراً في 54م، أصبح سنيكا مستشاره، ومع القائد الپريتوري سكستوس أفرانيوس بوروس، أدار حكومة فكفوءة لأول خمس سنوات من عهد نيرون.ثم تراجع تأثير سنيكا على نيرون مع مرور الوقت، وفي سنة 65 م أجبر نيرون سنيكا على قتل نفسه بتهمة التواطؤ في المؤامرة الپيسونية لاغتيال نيرون، وكان في الأغلب بريئاً منها. انتحاره المتأمل والهادئ أصبح موضوع العديد من اللوحات

اعتنق سينيكا مذهب وحدة الوجود لدى الرواقيين، فاعتبر العالم كلاً مادياً وعقلياً واحداً، وأوضح بصورة أساسية المشكلات الأخلاقية التي إذا ما عولجت على نحو سليم تمكن الإنسان من بلوغ السعادة والأمن والخير، لهذا كان سينيكا يدعو إلى الأخوة والمحبة بين الناس، فاشتهرت مقولته «كن محبوباً من الجميع حياً ومأسوفاً عليه ميتاً». وكان يحارب أيضاً الانفعالات ويدعو إلى لغة العقل المتزن، فالرجل الحكيم هو الذي يسمو على الغضب متجاوزاً تجارب الحياة القاسية. ولم يهتم سينيكا بالميتافيزيقا، وفصلها عن ميدان الأخلاق، فاتجه إلى الناحية العملية، أي الحكمة العملية للحياة، وانصرف نهائياً عن الأسس النظرية الأولى التي قامت عليها الأخلاق الرواقية، فاهتم بالحياة الشعبية، لأنه وجد فيها ما يلائم مزاجه وطبيعته الخاصة. ورأيه في الإلهيات لا يعدو الإرشاد الخلقي: «أتريد أن تكون عند الله محبوباً؟ كن صالحاً إذن، وإذا أردت التعبد له فشابهه، فليست العبادة في تقديم الأضاحي بل في الإرادة الورعة المستقيمة». وهذا الورع الرواقي الذي كان يسكن قلبه في حضرة إله بارٍ بخلائقه، الله الشاهد الداخلي على أفعالنا، قد صرفه تماماً عن دراسة طبيعته وصلته بالعالم. وحتى الأصل الإلهي للنفس البشرية، تلك الشذرة التي نزلت من السماء لتسكن في الجسم، هي عنده مادة للإرشاد الأخلاقي، لهذا لم يبحث في ماهية النفس، بل سعى إلى رسم تلك الصورة المتعددة الألوان والأشكال للرذائل أو الشرور الخلقية بغية معالجتها والقضاء عليها وتقويم السلوك الإنساني

لذلك كانت التأثيرات للرواقيين أن كل هذا تحدث من خلال التلاقي الجسدي؛ فكل صورة من صورة السببية تختزل إلى العلة الفعالة، والتي تتضمن إتصال الحركة من جسم أحدهم إلى الآخر. ما يوجد فقط هو الجسد، أدرك الرواقيون وجود أشياء غير مادية مثل المكان والزمان والفراغ، لكن على الرغم من حقيقتها، فإنها لا توجد ويقال ببقائها. كانت الرواقية مادية بشكل كامل؛ وتستكشف الإجابات على الميتافيزيقا من علم الطبيعة؛ وخصوصًا مشكلة علل الأشياء التي روجت لها نظرية المُثُل الأفلاطونية والصورة التأسيسية المشائية بوصفها حل من الحلول .

حيث كانت الرواقية فلسفة حلولية أو مرتبطة بوحدة الوجود. فيتميز الكون بأنه فعّال ومانح للحياة وعقلاني وابداعي فهو كيان يدعم نفسه بنفسه، ويحتوي بداخله على كل ما يحتاجه، وتعتمد كل الأجزاء على التبادل المشترك مع بعضها البعض، فكانت الفلسفة الرواقية لدى الرومان في مستوى أرقى من الإغريق، ولم تكن مجرد فلسفة بل غدت دينًا اعترف بإله واحد، روح إلهي، منه تصدر كل الأشياء، وإليه مصيرها.. وتؤمن الرواقية أن بكل إنسان شعاعة من الطبيعة الإلهية. ومهمة الإنسان أن يصون هذه الشعاعة، ويضرم نارها لتبقى مشتعلة منيرة.. وتؤمن أن أعظم هبه وهبها الإنسان هي العقل ومن ثم فإنه يحق للبشر أن يكونوا أبناء الله.. وقد ألهبت هذه الفكرة نفوس الرواقيين، وأمدتهم بعزاء وهدى في حياتهم اليومية.

وكانت الرواقية عقيدة الأقوياء وأصفياء النفوس، الذين مالوا بطبعهم إلى الخير، وإلى كل المعنويات الطيبة الجميلة، كما أكدت كثيرًا على ضبط النفس وترويضها وتنمية الحياة الداخلية، أو الحياة المتناسقة كما يدعوها فيلسوفهم الأول زينون.. ولعل نواحي السمو في فلسفتهم ترجع إلى أن الفكرة المحورية عندهم هي الحياة بمقتضى الطبيعة والطبيعة في اعتقادهم هي "اللوغس" أو العقل الكوني وفي رأيهم أن العقل الإنساني ليس سوى جزء من هذا العقل الكوني..

لقد جاء أولئك المفكرون بأفضل ما لديهم، لكن لم تخرج جهودهم عن نطاق التفكير النظري، ولم تقو نظرياتهم على مغالبة الحياة وعثراتها وثمة أمر هام يجب الإشارة إليه، وهو أن الفلسفة لم تكن يومًا لعامة الناس، الذين لم تقو مداركهم العقلية على تفهمها.. وهكذا فشلت نظريات أولئك الفلاسفة المفكرون عن امتلاك عامة الناس، ولم تمس إلا عقول المفكرين والمثقفين وحدهم. هكذا وجدت المسيحية تربة حقل العالم مستعدة، لتزرع فيها زرعها الجيد، فأتى بثمر كثير.

فالشعور بالإثم والبؤس كطابع مميز للصفات الإنسانية وهو الذي جعل بسنيكا يحلق في سماء المبالغة في تقدير القيمة ومن أهم المؤثرات الرواقية على المسيحية هي القول" بأن المعنوية لصفتي "الرقة والعطف وهما من الفضائل التي تتسم بها الفلسفة الرواقية كما اتخذت أبوة الله والأخوة الناس ومن معاني المحبة التي تحكم في الجنس البشري كله هي نفس المعاني تمثلت في تعاليم المسيحية كالرحمة والترفق، الخير وحسن الرواقية والأخلاق المسيحية"، فالمسيحية كذلك تدعو إلى المعاملة، وسعة الصدر، وحب الناس، ارتفعت هذه الفضائل إلى ضرورة التجرد من الغرائز وكبح جماح اللذة والرغبات، حتى تبلغ مكان الصدارة كما استنكرت الكراهية الغضب والعنف في معاملة التابعين أوأقل منزلة.

ولقد اقتبس الفلاسفة المسيحيون من الرواقية الكثير من القيم الروحية التي تنطوي عقيدة دينية كالتالي دعا إليها ماركوس أوريليوس بإطالة التأمل في الحياة الروحية فالجسد ليس إلا قيد للروح وظلماتها لذا يتعين على الروح أن تكافح عبء الجسد وكان هذا المفهوم في الحق هو طابع المجتمع الوثني الذي نشأت المسيحية .

حيث نجد النزعة الرواقية داخل الفلسفة المسيحية وحضور مختلف إشكاليات اليونان من المنطق والمعرفة والأخلاق ونظريات في السياسة داخل الفلسفة المسيحية رغم تباين آراء الفلاسفة بين مؤيد ومنقذ للفلسفة اليونانية، وهذا ما يعكس أن الإيمان المسيحي لم يتحرر من مختلف التأثيراث الهلينية للفلسفة اليونانية فكانت تأثيرات الثقافة الهلينية تدفع الإيمان في إتجاهين مختلفين، وهما إكتمال تحول المسيحية إلى فلسفة إلهامية وثانيها هو إزدهار الغنوصية (نَزعة فكرية ترمي إلى مزج الفلسفة بالدِين)، فإن فكرة سينيكا عن الحالة الطبيعية قد وجدت لنفسها وبين صدى عند رجال الديانة المسيحية، فيستدل على الإيمان في طهر الحياة البدائية من قصة الخطيئة الإنسانية وهبوط الإنسان الأول إلى الأرض لذلك فضت أحاديث المسيحيين عن الزهد وإقران الفقر بالعفة وقد اعتبر الفقر أكثر مكانة من الثروة من الناحية المعنوية وأن حياة الرهبة أفضل من الحياة الدنيوية" فكان القديس ألبرت يردد قول سنيكا: « لا من يقول بل ما يقول أعقل» ويعلن أن من العار إبداء رأي في الفلسفة دون دعمه بالدليل3775 البيرتوس ماغنوس

* القديس ألبرت الأكبر (١٢٠٦ – ١٢٨٠م)

ألبيرتوس ماغنوس باللاتينية: (Albertus Magnus) لاونغن، حوالي عام 1200 - كولونيا، 15 نوفمبر 1280)، معروف أيضا باسم القديس ألبيرت الكبير، وهو كاهن وراهب دومينيكي حقق الشهرة لمعرفته الشاملة ودعوته للتعايش السلمي بين العلم والدين. يعتبر أعظم لاهوتي وفيلسوف ألماني من العصور الوسطى. كان أول من بين دارسي القرون الوسطى الذي طبـّق فلسفة أرسطو في الفكر المسيحي. كرمته الكنيسة الكاثوليكية بصفة دكتور الكنيسة واحداً من 33 شخصاً فقط الذين نالوا هذا التكريم. من إنجازاته في الكيمياء اكتشاف عنصر الزرنيخ. كان ذلك عام 1250م.

ففي الوقت الذي ألفت فيه لجنة لتهذيب كتب أرسطو، ولم تؤد اللجنة مهمتها كان ألبرت يتطلع بتلك المهمة وحده وهو على بينة من غرضه وأهميته البالغة، فقد كان أول من عرف للأرسطوطالية مزاياها، وأول من عرضها للغربيين، وأول من ساهم في العلوم مساهمة أصيلة، ولد في بافاريا، ولما بلغ السادسة عشرة قصد إلى إيطاليا، حيث اختلف إلى جامعة بولونيا، فإلى جامعة بادوفا. وفي هذه المدينة دخل رهبنة الدومنيكيين، وعكف على العلم، وبعد خمس سنين أخذ في التعليم متنقلا بين الرهبنة وفي ١٢٤٠ أرسل إلى باريس، فحصل بها بعد خمس سنين على لقب أستاذ في اللاهوت، وشرع يعلم بجامعتها على أساس كتب أرسطو، وكانت ما تزال محرمة رسميًّا، فكان عمله جريئًا، ولكنه كان عملا ضروريًا لشدة الحاجة إليه حينذاك، فأصاب نجاحًا عظيمًا وفاز بشهرة أوروبية، ولما توفي كانت كتبه تقرأ وتشرح وتذكر صراحة في معرض الاستشهاد إلى جانب كتب أرسطو وابن سينا وابن رشد، بالرغم مما كان يقضي به العرف من عدم ذكر المعاصرين في الكتب العلمية، ولم يمض على وفاته ربع قرن حتى كان يلقب بالأكبر. تتوزع كتبه إلى طوائف ثلاث: لاهوتية وفلسفية وعلمية، أما الكتب اللاهوتية فأهمهما شرح على كتاب الأحكام شرح على كتب العهدين القديم والجديد، «مجموعة في المخلوقات» و«مجموعة لاهوتية»، شروح ديونيسيوس، وأما الكتب الفلسفية فهي شروح على أرسطو المنطق الطبيعيات ما بعد الطبيعة.

وقد عرض آراء أرسطو عرضًا أمينًا دقيقًا، وجاء عرضه عبارة عن تمثيل وتكميل على طريقة ابن سينا في كتاب الشفاء، لا شرحًا حرفيًّا على طريقة ابن رشد، وكان أوسع منها حرية بإزائه، وقد قال في مفتتح الطبيعيات: «من يعتقد أن أرسطو إله يعتقد بالضرورة أنه لم يخطئ، أما من يعتقد أنه إنسان فهو يعتقد من غير شك أنه قد يكون أخطأ مثلما نخطئ نحن»، ودل في نفس الموضوع على منهجه، قال: «غرضنا أن نرضي رهباننا بقدر استطاعتنا وهم يطلبون إلينا منذ سنوات أن نضع لهم كتابا في الطبيعة يجدون فيه دراسة وافية للعلوم الطبيعية ويعطيهم مفتاحا لفهم كتب أرسطو، أما طريقتنا فهي أننا سنتبع ترتيب كتب أرسطو وآراءه، ونقول كل ما يبدو لنا ضروريًا لتفسيرها والتدليل عليها، ولكن دون إيراد أقواله، ثم نستطرد لتوضيح الشكوك، وتفصيل ما أجمله الفيلسوف فأغمض فكره على كثيرين، وسنبين في عناوين الفصول إن كان الفصل وارداً في كتب أرسطو أو كان استطرادًا منا، ونحن إذ نتبع هذه الطريقة نصنف كتبًا بعدد كتب أرسطو وبنفس أسمائها، ونضيف أجزاء إلى الكتب التي تركها ناقصة، ونضيف كتبًا برأسها لم يدونها أو دونها ولم تصل إلينا»، هذه الطريقة تبين عن غرض أساسي هو الاستفادة من أرسطو مع رده إلى حكم العقل، وتكميله بمكتشفات العلم، فهي تدل على محاولة لوضع مذهب، لذا كان تلاميذه ومعاصروه يعتبرونه فيلسوفا أصيلا لا مجرد شارح.

فإن الفلسفة هي التى تلتزم بالتدقيق، فيضيق مجال التدليل العقلي في اللاهوت عما هو عند الأوغسطينيين، أما في سائر العلوم فالمرجع إلى العقل،، فالفيثاغوريون وحدهم اتبعوا رأي زعيمهم في كل شيء، أما الباقي فيقبلون الآراء من أي جهة جاءت بشرط أن تحمل معها أدلتها.» وإذا أردنا تلخيص آرائه في المسائل الرئيسية بدأنا بمسألة الله، فقلنا: إنه في مؤلفاته الأولى يشرح ويفسر وجود الله أكثر مما يبرهن عليه، تمشيا مع الأوغسطينية.

ففي شرحه على قول ديونيسيوس: إن الله مجهول نراه كأنه يسبق كانط إلى أن الحكم بوجود الله، أي ذات لا متناهية ابتداء من المعلومات المتناهية، خروج بمبدأ العلية إلى أبعد مما ينبغي إذ إن هذا المبدأ لا يتطلب سوى علة متناسبة مع المعلول، وليس بين الله والعالم تناسب، ولكنه بعد أن تحول إلى أرسطو، لم يعتبر وجود الله بينا بذاته كما يعتبره الأوغسطينيون، ولم ير إمكان استنباطه من فكرة الله كما يستنبطه أنسلم، وإنما قال بوجوب البرهنة عليه، وعاد إلى الإشكال المتقدم فحله على النحو التالي: إننا أولا نصل إلى علة أولى بناء على استحالة التسلسل إلى غير نهاية وبعد ذلك يلزم لدينا من كونها العلة الأولى أنها غير متناسبة مع العالم بالضرورة؛ لأنها إن كانت متناسبة معه كانت متناهية مثله، فلم تكن أولى بل افتقرت إلى علة، وعدنا إلى التسلسل وهو مستحيل مبدأ العليَّة، ويستعيض ألبرت عن وصف الله بأنه المحرك الأول، وهذه صفة تدل بموجب على الفعل فقط، بقوله إنه الموجود اللامتناهي، وهذه صفة دالة على الذات الإلهية

يوفق ألبرت المعرفة بين أوغسطين وأفلاطون وأرسطو فيقول: إن الكليات موجودة في الذات الإلهية، وتشع عنها فتوجد خالصة، وتتحقق في الأفراد، ويجردها العقل الإنساني، وهو يدعو كل معرفة تجريدًا، حتى المعرفة الحسية على اعتبار أن الحس يدرك موضوعه منفصلا أو مجردًا عن سائر كيفيات الشيء، وسنصادف هذا المعنى عند الحسيين المحدثين يحاولون أن يردوا إليه التجريد العقلي، على أن التجريد الأكمل عند ألبرت هو هذا التجريد العقلي الذي يستخلص الماهية من علائقها المادية، وهذا التجريد يستلزم عقلا فعالا، وجميع المعارف العقلية مستمدة من الإحساس، ما خلا المبادئ الأولية، كمبدأ عدم التناقض، فإنها وإن كانت حدودها مجردة من الإحساس، إلا أن معانيها غريزية في النفس أو مدركة في النور الإلهي كما يقول أوغسطين، ولكل نفس إنسانية عقلها الفعال، وعقلها المنفعل.

حيث جعل أرسطو الفضيلة أكبر شيء قيمة، ولكنه مع هذا جعل للمال والظروف والأشياء التي حولنا قيمة في الحياة، أما الرواقيون فقالوا: لا خير في الوجود إلا الفضيلة، ولا شر إلا الرذيلة، وما عداهما فشيء تافه لا قيمة له، فالفقر والمرض والألم والموت ليست شرورًا، والغنى والصحة واللذة والحياة ليست طيبات، فإذا انتحر الإنسان وأعدم حياته لم يعدم شيئًا ذا قيمة، واللذة ليست ذات قيمة، وعلى الإنسان ألا يبحث عن اللذة، فالسعادة الحقة في الفضيلة، والإنسان يجب أن يكون فاضلًا لا للذة ولكن لأنه الواجب، وليس هناك درجات للفضائل ولا للرذائل، فكل الفضائل خير ومتساوية في الخير، وكذلك الرذائل.

فإن التعامل مع الأفكار الرواقية، في سياق العقيدة الأرثوذكسية المسيحية، يتطلب الدقة. بينما تم الاتفاق، بين الجميع تقريبا، على أن الله ليس وجودا ماديا، فإن حالة النفس البشرية كانت موضوعا أكثر إثارة للجدل. وبشكل عام، تطورت الأرثوذكسية بعيداً عن الأنثروبولوجيا المادية، بالشكل الذي نجده في كتابات ترتليان، إلى المفهوم اللامادي للروح، التي يعتبرها المسيحيون المعاصرون أمراً مفروغاً منه لقد شعر مسيحيون القرون الوسطى بضرورة رفض ما أسموه القدرية الرواقية، أما مفاهيم مثل الضمير، والقانون الطبيعي، فكانت لها صلات واضحة بالفكر الرواقي. فأثرت الفكر الرواقي ـ مع منافاة مبادئها للعقائد المسيحية ـ على مفكري اللاهوت المسيحيين لما جاءت به من تفصيل القول في الفضائل والرذائل، وفي صفات الله، وفي العناية الإلهية، فلقد كان لهذه الأفكار صدى في الفكر المسيحي المتأخر خاصة حول الفضيلة والرذيلة والخطايا، والفضائل الكبرى، فالمعرفة بالنسبة للرواقين ومن بعدهم المسيحيين خير خالص والخير يمكن أن يكون أيضا جمالا وعدلا وشجاعة وحكمة أثر الرواقية على المسيحية ومن أهم المؤثرات الرواقية على المسيحية هي القول" بأن حياة الفضيلة هي حياة التأمل والتأني والانسجام مع النفس وتجنب اللذة في طريق كبح جماع الرغبات غير الطبيعية وغير الضرورية وعراقية الخطيئة فهذه المفاهيم في الجوهر والمنهج بين الأخلاق الرواقية فالمسيحية كذلك تدعو إلى ضرورة التجرد "والأخلاق المسيحية"، من الغرائز وكبح جماح اللذة والرغبات، حتى تبلغ السعادة او الفضيلة "كما تتطابق الرواقية والمسيحية من زاوية اجتماعية، ذلك أن تعاليم الرواقية تؤكد على ضرورة التعايش مع الآخر وأن الواجب الاجتماعي يعد أشرف وأهم الواجبات أو الوظائف الفردية، لأن الإنسان لا يحيا مستقلا عن الآخرين أو بمعزل عنهم فالأخلاق الفردية في الرواقية هي بطبيعة الحال اجتماعية،،إذ يكتفيان لبلوغ بالعيش وفقا للطبيعة والعقل" أي العيش وفقا للطبيعة (السعادة (يعني العيش في صداقة مع الإله أووفق لإرادة الإله عند المسيحي، كان للنزعة الإنسانية التي تميز الفلسفة الرواقية وخاصة المتأخرة تواجدا قويا في الفكر المسيحي وهذا بالسمو بالقيم الأخلاقية وخلق رابطة اجتماعية قوية توثق العلاقات بين الفئات الاجتماعية المختلفة بحيث استحوذت على المسيحية فكرة تأصيل الإثم في الطبيعة الإنسانية ولا مفر للإنسان إلا بالفضيلة لتحقيق الخلاص.

فإن الاهتمام الأكاديمي بالمذهب الرواقي، في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين، قابله الاهتمام بالجوانب العلاجية لطريقة الحياة الرواقية، من قبل غير المتخصصين في تاريخ الفلسفة.

إشكاليات الدراسة:

تتفرع عن هذا التساؤل عدة اسئلة فرعية منها:

- ما الهدف المشترك بين الرواقية والمسيحية؟

- هل لها أهمية في نظرية المعرفة بين سينيكا والقديس ألبرت ؟

- ما مدى تأثير الفكر الرواقي في المسيحية عند القديس ألبرت؟

- هل المعرفة تتأثر بالطبيعة عند كلا من الرواقية والقديسين؟

- ما علاقة الفكرة الالهية بالنفس الانساني وعلاقة الاخلاق الانسانية بالقيم الالهية؟

- هل الفكر الالهية مادية ام معنوية في الطبيعة عند سينيكا والقديس ألبرت؟

- ما أوجه الأختلاف في الفكر الفلسفي عند سينيكا والقديس ألبرت؟وما أوجه التشابهة بينهما؟

- ما العلاقة بين الوجود والمنطق والاخلاق عند سينيكا والقديس ألبرت ؟

أهداف الدراسة:

تستهدف الدراسة مجموعة من الأهداف على رأسها:

- عرض تصورات الفلسفة بين سينيكا والقديس ألبرت الكبير.

- رصد لأسس مبادئ الفكر عند الرواقية والفكر المسيحي.

- تناول علاقة الخير بالطبيعة .

- بيان فكرة الاخلاق والدين .

- شرح اثر الفلسفة عند سينيكا والقديس ألبرت في العصور المتأخرة .

- تأثير الفكرة الرواقية على الدين المسيحي.

مفهوم الدراسات السابقة:

هناك العديد من الدراسات الفلسفية التي تناولت دراسة الرواقية وشرح العصور الوسطى بالعرض والتفصيل كمعرفة يسعى إليها البشرية والتي سوف استفيد منها في اعداد رسالة الدكتوراه ولعل من أبرز هذه الدراسات:

1. لوكيوسانايوس سينيكا: في محاورات السعادة والشقاء(2019) ترجمة د|حمادة احمد علي، والتي كانت فكرة سينيكا (عن مشهد يستحق النظر إليه وهو يتفقد المخلوقات) فأصبحت موضوعاً في خطاب التشاؤم المسيحي وربما يكون تأثير سينيكا أكثر واقعية علي التأثير المسيحي فكان يفسر لنا العناصر الطبيعي(الماء والهواء والنار والتراب) بصورة مختلفة للرب.

2. أ.د. شرف الدين عبدالحميد (2015) مدارس الفلسفة اليونانية في العصر الهللينستي، والذي يفسر لنا أن الإنسان عند الفلاسفة الرواقية جزء من الكون وهو لذلك منوط بمهمة يؤديها فيه وكل فرد في هذه الدنيا أشبه بضيف في مأدبة، فيعلن الرواقيون ان هناك ثلاثة أنواع من الحياة هي: الحياة التأملية والحياة العملية، والحياة العقلانية .

3. ماركوس اوريليوس (2017)، التأملات: ترجمة عادل مصطفى، والذي عرض لنا مفهوم الفلسفة عند سينيكا: "الفلسفة تُشكِّل النفس وتُشيدها، وتنظم الحياة وتُرشد السلوك، وتبين ما يجب فعله وما يجب تركه، وتجلس على دفَّة القيادة وتهدي مسارنا ونحن نتأرجح وسط السكينة"

4. أ.د.عصمت نصار: (2008) فلسفة اللاهوت المسيحي، والتي هدفت إلي أوجه التشابة والمتبادلة بين سينكا والقديس بولس بالمفعمة بالإحترام المتبادل بينهما واتفاقهما على العديد من الفضائل الأخلاقية وعلى رأسهم التسامح مع كافة البشر وجعل المحبة دواء للبغض والعداوة.

5. يوسف كرم (2012) تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط: يوضح ألبرت في شرحه على كتاب العلل يقول: إن الله أوجد «العقل» أو المعلول الأول بفعل خالق (يسميه صدورًا وانبثاقًا، ولكنه يريد به غير ما يريد الأفلاطونيون وأتباعهم) وأن العقل عاون الله في إيجاد سائر العقول المفارقة والنفس العالية والجواهر الجسمية، وفي شرحه على طبيعيات أرسطو يقرر أن السموات صدرت عن الله رأسًا باختيار إرادته.

6. أ.د. عبد الرحمن بدوي (1984) كتاب موسوعة الفلسفة والذي يعرض لنا ألبرت الكبير الربط بين العلة الأولى (الله) و بين النفس الإنسانية إذ هي صورة له لان النفس الإنسانية ليست مجرد صورة لجسم بل هي جوهر روحي.

7. د. زينب الخضيري (2008)أثر ابن رشد في العصور الوسطى، أول من أراد استيعاب ارسطو في علم اللاهوت المسيحي هو القديس ألبرت وتأثر به، حيث نفى البرت تفسير ابن رشد وابن سينا. كما استقرت الباحثة في دراسة الفلسفة عند توما الأكويني فترى انه مكمل لألبرت الكبير.

أهمية الدراسة:

تكمن أهمية هذه الدراسة- في علم الباحثة - في أنه هناك العديد من الدراسات والكتب والأبحاث التي تناولت تصورات الفلاسفة الرواقية حول الطبيعة والمعرفة، والأخلاق والمنطق والتي لا يسعنا المجال هنا لنذكرها على سبيل، إلا أن هذه الدراسة تعد أول دراسة متخصصة تتناول بالتحليل والمقارنة والتعليق في نظريات اللاهوتية عند سينيكا والقديس ألبرت الكبير.

***

إعداد: سارة حسين كامل ابو النجا

..........................

قائمة المصادر والمراجع

أولا: المصادر

أ. المصادر المترجمة إلي العربية:-

- لوكيوس أنايوس سينيكا: مسائل طبيعية ترجمة د| حمادة أحمد علي، دار رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى القاهرة ۲۰۲۱م.

- ديوجينس اللائرتي:- حياة مشاهير الفلاسفة)المجلد الثالث)، ترجمة امام عبد الفتاح امام، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2014، م .

- لوكيوس أنايوس سينيكا: محاورات السعادة والشقاء ترجمة حمادة أحمد علي، دار آفاق للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى القاهرة ٢٠١٩م

- افلاطون(محاور افلاطون)، ترجمة: د . زكي نيجيب محمود، المؤسسة المصرية، القاهرة، 2001م

- اوغسطين: الاعترافات، ترجمة الخوري يوحن الحلو، دار المشرق، الطبعة الرابعة، بيروت، لبنان، 1991م

- اوغسطين:تعليم المبتدئيين اصول الدين المسيحي،ترجمة الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق،بيروت، لبنان، 2007م

- اوغسطين: خواطر في الحياة الروحية، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، الطبعة السابعة،بيروت، لبنان، 2004م

- ------:محاور الذات، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، الطبعة السابعة،بيروت، لبنان،2005م

- ------:مدينة الله، المجلد الأول، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، الطبعة السابعة،بيروت، لبنان،2006م

- -----: مدينة الله، المجلد الثاني، ط 2، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، الطبعة السابعة،بيروت، لبنان،2007م

ب - المصادر المترجمة للإنجليزية:

- Plato: Apology، English translation in " Great Books of the western world "، university of Chicago، 1988.

- --------: Meno، Eng.trns. by: Jowett، in " Great Books of the western world "، university of Chicago، 1988 .

- --------: Phaedrus، in " Great Books of the western world "، Eng.trans.by: B. Jowett، university of Chicago، 1988.

- ---------: Phaedo، English translation in " Great Books of the western world "، university of Chicago، 1988.

- ---------: Protagoras، Eng. trans. by: W.K.C. Guthrie، Penguin Books، New York، U.S.A، 1977.

- ---------: Theaeteus، trans.by: F.M. Cornford، in " Plat،s theory of knowledge "، Routledge α Kegan Paul Ltd.، London، 1973.

- ----------: The Symposium، Trans. with by: R. E.Allen، Volume 11، Yale University Press، New Haven and London، w.d

- Augustine: confessions،trans by، A.C،outler Harry planting a publisher، texas،ND

- --------:on Christian doctrine – in four books، trans by،Emmalon Davis، Christian classics Fthereal library، Grand Rapids، ND

- ----------: on nature and Grace، Trans by Peter Holmes in the anti – pelagian works of saint Augustine،vol، 1، Edinburgh، 1872.

- ----------: on the free choice of the will،on grace and free choice and other writings Trans by Peter King، combridge university press، New York، 2010.

- ----------: the Anti-pelagian works of saint Augustine، vol،1، trans by peter holmes، Murry and Gibb، London، 1872.

ثانيا: أ-المراجع العربية

1. إتين جلسون: روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط – ترجمة أ.د/ إمام عبد الفتاح إمام– نشر مكتبة مدبولي– ط3 - جامعة الكويت، القاهرة، 1996م

2. أ.د. شرف الدين عبد الحميد امين (الفلسفة اليونانية في العصر الذهبي) سقراط أفلاطون – ارسطو)جامعة سوهاج – 2012م

3. يوسف كرم (تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط)– مكتبة الأسرة 0 القاهرة – 2017م

4. ألفرد إدوارد تايلور:- أرسطو، ترجمة: عزت قرني، دار الطليعة، بيروت، 1992م.

5. =====: سقراط، ترجمة: محمد بكير خليل، مراجعة: ذكي نجيب محمود، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، 1962م.

6. إمام عبد الفتاح إمام:-الأخلاق..والسياسة (دراسة في فلسفة الحكم)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002م.

7. أميرة حلمى مطر:- الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها،دار قباء للطباعة والنـشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٨م.

8. =======:- الفلسفة عند اليونان، الجزء الأول، دار الثقافة للنشر والتوزيـع، القاهرة، ١٩٨٦.

9. إميل برهيبه: الفلسفة الهللينستية والرومانية، ترجمـة: جـورج طرابيـشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، د. ت.

10. =======:- تاريخ الفلسفة (الجزء الأول)، الفلسفة اليونانية، الطبعة الثانية، ترجمـة: جـورج طرابيـشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،1987م.

11. أنجلو شيكوني: (أفلاطون والفضيلة)،ترجمة منير سبغيني،دار الجيل، بيروت لبنان، 1986م .

12. أولف جيجن:المشكلات الكبرى فى الفلسفة اليونانية، ترجمه: عزت قرنى .مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، دون تاريخ.

13. برتراند راسل: تاريخ الفلسفة الغربية (الكتاب الثالث) الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1977م .

14. بيار بويانسي: أبيقورس،تعريب بشارة صارجي،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،1980م .

15. توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، نشأتها وتطورها، دار النهضة العربية، القاهرة، 1979.

16. ======: مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، الطبعة الاولى،القاهرة، 1953م.

17. جعفر آل ياسين:- فلاسفة يونانيون (العصر الأول)، مطبعـة الارشـاد، بغـداد، ١٩٧١م.

18. حسن حنفي حسین: نماذج من الفلسفة المسیحیة في العصر الو سیط (أوغسطین .أنسلم . توما الاكویني) المكتبة الأنجلو مصریة . ط2 .القاهرة 1978 م.

19. جاریث_ب_.ماثیوز: أوغسطین .تر: أیمن فؤاد زهري - المركز القومي للترجمة،ط1 القاهرة،مصر.2013م .

20. زینب محمود الخضیري: لاهوت التاریخ عند القدیس أوغسطین - دار قباء . القاهرة.1997م.

21. عبد الرحمن بدوي: فلسفة العصور الوسطى، وكالة المطبوعات، دار القلم . ط3،الكویت، بیروت، 1979م

22. جيمس فينكيان اليسوعي:- افلاطون (سيرته، آثاره، مذهبه الفلسفي)، دار الشرق، بيروت، 1991م.

23. جيهان نور الدين محمد المقدم: (الجانب الاخلاقي عند افلاطون)،العدد الثامن،دار الكتب المصرية،الجزء الثاني، 2018م .

24. علي زیغور:أوغسطینوس مع مقدمات في العقیدة المسیحیة والفلسفة الوسیطیة، دار إقرأ، ط1 . بیروت،1983م

25. علي عبود المحمداوي (وأخ)، فلسفة التاریخ (جدل البدایة والنهایة والعود الدائم) دار الروافد للنشر والتوزیع، ط1،بیروت،2012م.

26. كامل محمد محمد عویضة:.الفلسفة المسیحیة في العصور الوسطى .، دار الكتب العلمیة ط1،بیروت، لبنان،1993م.

27. حربي عباس عطيتو: المدارس الفلسفية المتاخرة (ابيقورية نموذجا)،دار المعرفة الجامعية،الاسكندرية،1999م .

28. ======: ملامح الفكر الفلسفي عند اليونان، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 1995م .

29. حسن حرب: الفكر اليوناني قبل افلاطون، دار الفكر اللبناني، بيروت،١٩٩٠م.

30. ديف روبنسون وجودي جروفز:- أقدم لك أفلاطون، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، 2001م.

31. زكريا إبراهيم: المشكلة الخلقية، مكتبة مصر، القاهرة، 1966.

32. =====: مشكلة الحياة، مكتبة مصر، القاهرة، 1972.

33. زكي نجيب محمود واحمد امين: (قصة الفلسفة اليونانية)، مؤسسة هنداوي سي اي سي،المملكة المتحدة،2017م .

34. سعد عبد العزيز حباتر: الأخلاق العقلية عند اليونان، رؤية جديدة، جامعة عين شمس، القاهرة، 1987 .

35. شرف الدين عبد الحميد: الفلسفة اليونانية في العصر الذهبي (سقراط- افلاطون – ارسطو)،جامعة سوهاج،كلية الاداب، سوهاج، 2014م .

36. =======: الفلسفة اليونانية في العصر الهلليني (قبل سقراط)،جامعة سوهاج، كلية الاداب،2013م .

37. ======: جدلية العلاقة بين الفلسفة والدين عند فلاسفة اليونان،دار الوراق للطباعة والنشر والتوزيع بالاردن، لبنان، 2014م .

38. عبد الرحمن بدوي: أفلاطون، وكالة المطبوعات، الكويت، 1979.

39. ======: الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1954م.

40. ======:- ربيع الفكر اليونـانى، مكتبـه النهـضة المـصرية، ط ٣، القاهرة، ١٩٤٢م

41. ======:- خريف الفكر اليوناني، مكتبة النهضة المصرية، ط ٤، القـاهرة ١٩٧٠م.

42. عبد الغفار مكاوي:-الحكماء السبعة، الهيئة المصرية العامـة للكتـاب، القـاهرة، ١٩٩٠م

43. عبد المعبود مصطفي سالم: المدارس الفلسفة اليونانية قبل ارسطو،مطبعة الامانة، الطبعة الاولى، القاهرة 1987م.

44. عزت قرني:الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، طبع ذات السلاسل،الكويت،١٩٩٣م

45. عزيز لزرق ومحمد الهلالي: السعادة، دار توبقال للنشر، دار توبقال، المغرب، 2013.

46. فريدريك كوبلستون: تاريخ الفلسفة، ترجمة: إمام عبدالفتاح إمام، المجلد الأول "اليونان وروما"، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومى للترجمة، ط 1، القاهرة، 2002م.

47. فواد سواف تاتاركيفتش: الفلسفة اليونانية، ترجمة: محمد عثمان مكى العجيل، كنوز للنشر والتوزيع، القاهرة، 2012م.

48. كورا ميسن: سقراط، الرجل الذي جرؤ علي السؤال، ترجمة محمود محمود، مؤسسة هنداوي سي اي سي، المملكة المتحدة،2017م .

49. ماجد فخرى: تاريخ الفلسفة اليونانية من طاليس ٥٨٥ ق . م " إلى افلـوطين ٢٧٠ م وبرقلس " ٤٨٥م "، دار العلم للملايين، بيروت، ١٩٩١م

50. مجدي كيلاني: الفلسفة اليونانية من منظور معاصر، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، ٢٠٠٥م.

51. محمد الجبر: الفكر الفلسفي الأخلاقي عند اليونان،(ارسطو نموذجا)، دار دمشق، 1994م.

52. محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي: دفاتر فلسفيه (نصوص مختاره)، دار توبقال للنشر، المغرب، 2005م

53. محمد عبد الرحمن مرحبا:- مع الفلسفة اليونانية، منـشورات عويـدات، ط ٣، بيروت – باريس، ١٩٨٨م

54. ======: تاريخ الفلسفة اليونانية من بدايتها حتى المرحلة الهلينستية، مؤسسة فخر الدين للطباعة والنشر، بيروت ١٩٩٣م

55. محمد على أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفى من طاليس إلى أفلاطون، ج 1، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004م.

56. محمود مراد: الحرية فى الفلسفة اليونانية، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع، إسكندرية، 1999م.

57. مصطفى النشار:- تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، الجزء الثاني (السفسطائيون، سقراط، افلاطون)، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، 2000م .

58. =======: فلسفة السعادة، مكتبة الدار العربية للدراسات، بيروت، 2018 م.

59. نصار عبدالله: دراسات في فلسفة الأخلاق والسياسة والقانون،دار الوفاء،الطبعة الاولى،الاسكندرية،1999م.

60. هنرى توماس: أعلام الفلاسفة كيف نفهمهم، ترجمة مترى أمين، مراجعة زكي نجيب محمود، دار النهضة العربية، القاهرة، 1964.

61. هنرى توماس ودنانالى نوماس: المفكرون من سقراط إلي سارتر، ترجمة / عثمان نويه، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1970.

62. و. ك. س. جثرى: الفلاسفة الإغريق من طاليس إلى أرسطو، ترجمة وتقديم: رأفت حليم سيف، مراجعة: إمام عبد الفتاح إمام، دار الطليعة، الكويت، 1985م.

63. ولتر ستيس: (تاريخ الفلسفة اليونانية) ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد،دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة،1984م.

64. يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2018م .

ب. المراجع الانجليزية:

1. GORCE (M.M.)، The rise of thought in the Middle Ages. Albert the Great and Thomas Aquinas، 1933

2. E. Taylor: Plato the man and his work، Methuen & McGraw. Hill، Inc، New York، 1902.

3. A .H .Armstrong ; An Introduction to Ancient Philosophy، Methuen &Co .LTD، London، 1981.

4. Alessandro S. Ch. Moore، Socrates and the Socratic Dialogue، for use by the Author only، Koninklijke Brill NV، 2018.

5. Alessandro Stavru: Aristoxenus on Socrates، Universita Bocconi، 2017.

6. A.S. Bogomolov ; History of Ancient Philosophy، Greece and Rome، trans by; V. Stankerich، progress publishers، Moscow، 1985.

7. C.J..DE. Vogel; Greek philosophy (A collection of text،vol II، Aristotle، The Early peripatetic School and The Early Academy، The Netherlands Organization، Leiden،1953.

8. Ritter: The Essence of Plato's Philosophy، Trans by: A، Alles،Lincoln Mac Veagh، The Dial Press، New York. 1933.

9. D .W .Hamlyn ; the Penguin History of Western philosophy، Penguin Books،London، 1990.

10. E.Hussey: the Pre-Socratics(Classical Life and Letters) Gerald Duckworth، London، 1972. .

11. E. zeller: A history of Greek philosophy،trans by; S. F. Allyer، Longmans .Green. and Co.،London، 1881.

12. =====: Outline Of The history Of Greek philosophy، Dover publication inc،1980

13. Fiona Hobden: Xenophon "Ethical Principles and Historical Enquiry، Koninklijke Brill، 2012.

14. F.M. Cornford: Before and after Socrates، Cambridge University press، 1990.

15. =====: From Religion to philosophy (A study in the origins of Western speculation)، Harper & Row Publishers، New York and Evanston، 1957.

16. G. C. Field: The Philosophy of Plato، Oxford University Press، London،1949.

17. George Rude Busch: Socrates، publication Wiley-Blackwell، first published، 2009.

18. Gregory A. McBrayer: Xenophon and Plato on Socrates and Alcibiades، antique، 2017.

19. =======: The philosophy of Socrates، Palgrave Macmillan، 1971.

20. Jacob Howland: Kierkegaard and Socrates، University Press، New York، 2006.

21. John Burnet ; Early Greek philosophy، 4 th ed، Adam & Charles-Black، London، 1975.

22. ======:Greek philosophy part 1 ;Thales to Plato،Macmillan and Co. London، 1924.

23. =======: Plato's Euthyphro، Apology of Socrates، and Crito Oxford: The Clarendon Press، 1979.

24. John Bussanich and Nicholas D. Smith: The Bloomsbury Companion to Socrates، London، first published 2013.

25. Leo Strauss: Xenophon's Socrates، Cornell University Press Ithaca and London، 1972.

26. Leo Strauss & Joseph Crapsey: History of political philosophy، The University of Chicago press، London، 1987.

27. N. Glley: The Philosophy of Socrates، Macmillan، London، 1968.

28. Peter Warnek: Descent of Socrates، University Press، 2005.

29. Rappe- and Rachana Kamtekar، A Companion to Socrates Sara Ahabel 2-Blackwall Publishing، 2006.

30. Robert Adamson: The development of Greek philosophy، William Black wood and sons London، 1908.

31. S.F Alleyne: A History of Greek philosophy (from the earliest period) to time of Socrates، transled from the German of D.E. zeller، Longmans oreen، and co.،London،1881.

32. . Theorder Gomperz ; The Greek Thinkers، Vol 1، trans by; Laurie Magnus، John Murray، Albemarle Street، London. 1964.

33. T. Irwin: Plato's Moral Theory، The Early and Middle Dialogues، Clarendon Press، Oxford، 1985.

34. W. Jeager:-The Theology of The Early Greek philosophers، At Clarendon press، Oxford، London، 1948

35. W .K .Guthrie; A history of Greek philosophy،vol 1 (The Earlier Pre- Socratic and the Pythagoreans)، Cambridge University Press، 1962.

36. ======: Socrates، Gambridge University Press،New York 1971.

37. ======:-The Greek philosophers، Routledge، London and New York، 1991.

38. W. Windelband:-History of Ancient philosophy، trans by H.E. Cushman، Dover.

39. Luscombe، D.E.،، Medieval Thought (History of Western Philosophy: Volume 2)، Oxford: Oxford University Press،1997

40. Pasnau، Robert، and Christina van Dyke (eds.)، The Cambridge History of Medieval Philosophy، Cambridge: Cambridge University Press،2010.

41. Dronke، Peter (ed.): A History of Western Philosophy in the Twelfth Century، Cambridge: Cambridge University Press، 1988

42. Gersh، Stephen، Middle Platonism and Neoplatonism: The Latin Tradition، 2 volumes (Publications in Medieval Studies: Volume 23)، Notre Dame، Ind.: University of Notre Dame Press،1986.

43. Inglis، John (ed.):Medieval Philosophy and the Classical Tradition: In Islam، Judaism، and Christianity، London-New York: Routledge،2002.

44. Luscombe، D.E.، Medieval Thought (History of Western Philosophy: Volume 2)، Oxford: Oxford University Press، 1997.

45. Marenbon، John، (Medieval Philosophy: An Historical and Philosophical Introduction) London،Routledge،2007.

ثالثا: المعاجم والقواميس:

- ابراهيم مدكور: المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشئون المطـابع الاميريـة، القـاهرة، ١٩٨٣م.

- اندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الثالث، تعريب خليـل احمـ د خليـل، منشورات عويدات، بيروت- باريس، ٢٠٠١م

- عبد المنعم الحنفي: المعجم الشامل المصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولى،٢٠٠٠م

- محمود جواد مغنيه: مذاهب فلسفيه وقاموس مصطلحات، دار ومكتبـة الهـلال، دار الجواد، بيروت – لبنان، بدون تاريخ

- جورج طرابيشي: معجم الفلاسفة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، 2006م.

- فولتير: قاموس فولتير الفلسفي، ترجمة: يوسف نبيل، مؤسسة هنداوي،2017م.

(كما أن لهذه الدنيا شمساً يستضاء بها ويـُعرف بها الليل من النهار والأوقات والأشخاص والأجرام فكذلك للنفس نور تميز به بين الخير والشر وهو أشد ضياءً من الشمس).. أفلاطون

***

مقدمة: هو أفلاطون (427- 347) عنوان الفلسفة المثالية وملهمها، وهو من أكثر عقول الإنسانية في العصر القديم نبوغاً وإبداعاً وإشراقاً وعبقرية، ولا ريب أن نظريته تشكل منعطفا تاريخيا في الفلسفة الإنسانية، ولا غضاضة إذ يشار إليه إجماعاً بأنه المؤسس الأول للخط المثالي في الفلسفة، وقد قدّر للمثالية أن ترتفع على يديه إلى مستوى المذهب الفلسفي الشامل، فطرحت نفسها اتجاها معارضا للفلسفة المادية الممثلة بخط ديمقريطس وطاليس وهيرقليطس. وقد عرفت مدرسته الفلسفية التي أطلق عليها "الأكاديمية" بأنها أهم جامعة تنويرية في العصور القديمة، وهي التي استمرت تومض وتشعّ بأنوارها فلسفة وعلماً وعطاءً فكرياً في أثينا مدة تسعة قرون، وما كانت لتبقى لو لم يصدر الإمبراطور جستنيان الروماني قرارا بإغلاقها وطرد فلاسفتها. وقد قيل في أفلاطون "إن الفلسفة نبتت على يديه واكتملت في حياته"([1]).

يتحدّر أفلاطون من أسرة أثينية عريقة في المجد، ولد في أثينا عام 427 ق. م وعاش حتى بلغ الثمانين من العمر، إذ توفي سنة 347 ([2]). كان أبوه يدعى أرستون وأمه فريقونية. ويقال بأن الاسم الأصلي لأفلاطون هو أرستوقلس، ولقب أفلاطون لسعة في جبهته واتساع في منكبيه، كان رجلاً وسيماً وشجاعاً فاز في حلقات السباق وفي حلبات والمصارعة. تتلمذ مدة ثماني سنوات على يد أستاذه سقراط، وكان يقول حباً فيه: "أحمد الله الذي خلقني يونانياً لا بربرياً، وحراً لا عبداً، ورجلاً لا امرأة، ولكن فوق ذلك كله أنني ولدت في عهد سقراط"([3]). وكان لعبقرية ذلك الرجل أن تتألق في كل العصور التاريخية، حتى قيل فيه "إن أفلاطون هو الفلسفة وإن الفلسفة أفلاطون".

كان أفلاطون واعظاً وكاهناً وفيلسوفاً، أسس "الأكاديمية" في 388 ق.م، وسميت هكذا لأنها أقيمت بالقرب من ضريح أكاديموس البطل الأسطوري اليوناني، وكتب على بوابتها "لا يدخل هذه الأكاديمية من لم يكن رياضيا".

كان عصر أفلاطون عصر حروب ومؤامرات ودسائس سياسية، الحرب بين الفرس والإغريق، الحرب بين أثينا وإسبرطة، المؤامرات بين الأحزاب والأرستقراطية والديمقراطية. وتحت تأثير تلك الظروف وعلى أثر مقتل سقراط قرر أفلاطون الترحّل في بلدان واسعة كإيطاليا ومصر وصقلية، وكات للأنظمة السياسية في تلك البلدان تأثير واضح على نمط تفكيره السياسي. وكان لإعدام أستاذه سقراط أثر كبير في توجهه نحو العمل السياسي في عصره، إذ كان حاقداً على الديمقراطية الأثينية التي أدت إلى مقتل العقل.

وقد نهل أفلاطون من ينابيع متعددة في الفكر والثقافة، وأهم مصادره الفكرية:

1 ـ السوفسطائيون ولاسيما مبدأهم: الإنسان مقياس الأشياء.

2 ـ نظرية هيرقليطس في التغير الدائم.

3 ـ الفلسفة الفيثاغورثية أو فلسفة العدد ومفهوم التناسخ.

4 ـ الفلسفات الشرقية المصرية والهندية: حيث قضى ردحاً من الزمن في مصر ينهل من معينها الفكري.

5 ـ أستاذه سقراط في منهجه وتهكمه وفضيلته([4]).

واستطاع عبر هذه المصادر أن يرسم واحدة من أعظم النظريات التربوية والفلسفية.

2- المحاورة الأفلاطونية:

ترك لنا أفلاطون تراثاً ثرّاً من الكتب والمصنفات التي سطرها على صورة محاورات مستلهماً المنهج السقراطي في الحوار والمناقشة. ويتميز أسلوب المحاورة الأفلاطونية بالرشاقة والجمال كما يتميز بالتكامل والانسجام.  وكان أسلوبه مزيجاً ساحراً من الفلسفة والشعر والأدب والفن. إن ما يتميز به أسلوبه من حب المداعبة والتهكم والخرافة والأسطورة يترك القارئ في حيرة دائمة من أمره. فالمحاورات الأفلاطونية- كما يقول ديورانت- ستبقى أحد الكنوز الثمينة في العالم، وأفضلها كتاب الجمهورية([5]).

ويقال إن أعمال أفلاطون في محاوراته تشهد على أنه من أبرز كتاب الأدب العالمي، حيث يعتمد أفلاطون المنهج الفلسفي النقدي وهو منهج جدلي تهكمي توليدي.  كما يستخدم في  كتابة محاوراته أساليب عديدة من الدراما والتهكم والسخرية والحوار. ويقال في ذلك إن المحاورات الأفلاطونية لا تعين منهجاً للبحث من أجل اهتمامها بل تجعل الفكر أكثر قدرة على التفكير في الموضوعات وحلها، وتجعله أكثر إبداعا، والمحاورة لا ترمي إلى تقديم معلومات بل إلى إعداد الفكر وتنمية العقل النقدي.

كانت المحاورات التي تركها أفلاطون مرآة لعصره، فالشخصيات التي تمثلها هي شخصيات سياسية معروفة في العصر وأبرزها: سقراط، بركليس، بارمنيدس، أقريطون أو في الواجب، لاخس، أو في الشجاعة، لوسيوس، أو في الصداقة، جورجياس، أو في الخطابة، مينون، أو في الفضيلة، المأدبة، أو في الحب، فيدون، أو في النفس([6])، السياسة أو في العدل، قريطياس، برمنيدس، قفيلابوس، فدرس، السياسي، أقريطون، يوتيفرون أو في التقوى، خرميدس، هيبياس، وبروتوغاروس([7]) وتصنف هذه المحاورات إلى:محاورات الشباب، ومحاورات الكهولة، ثم محاورات الشيخوخة. وقد ذكر أنه ألف 35 محاورة من أبرزها: السوفسطائي، فينون، الجمهورية، النواميس، وأهمها إطلاقاً محاورتا الجمهورية والنواميس، وهما أكثر كتبه نضجاً وتألقا.

3- المسألة الوجودية عند أفلاطون:

تتحدد المسألة الوجودية بطبيعة العلاقة بين الوعي والمادة أو بين الذات والعالم كما تتعلق بمسألة أسبقية الوجود: أيهما وجد أولاً المادة أم الروح؟ الوعي أم المادة؟

يميز أفلاطون في المستوى الوجودي بين عالمين: عالم المثل والعالم المادي، ويرى بأولوية الأول على الثاني، أي بأولوية عالم المثل على العالم المادي.

فعالم المثل بالنسبة لأفلاطون هو الوجود السرمدي الخالد الذي لا يعتريه تغير أو تبديل، هو الوجود المعنوي والروحي، و هو الوجود الأول. ويصور لنا أن عالم المثل هو عالم الحقيقة والخلود، وهو هرم من المثل يتربع على رأسها مثال الخير أرفع المثل الذي يتربع على عرش عالم الماهيات

أما العالم المادي: فهو عالمنا الذي يتصف بالتغير والتبدل والفناء، وهو انعكاس ظلالي شبحي للعالم الأول. الأشياء المحسوسة -كما يرى أفلاطون- هي في تغير أبدي دائم تنشأ وتفسد وتتلاشى، ولا تحتوي على أي شيء يقيني ثابت، والمثل هي علة المحسوسات، والمحسوسات حادثة توجد وتتلاشى، أما العالم الأول فهو عالم يتصف بالأزلية والخلود والأصل. فالمثل ليست من المحسوسات بل هي ماهيات منفصلة عن الأشياء. وبعبارة أخرى المثل هي صور في عقل الإنسان بل هي أفكار في عقل الله، لأنها ماهيات مفارقة للمادة.

ويحدد أفلاطون العلاقة بين العالمين بالعلاقة الانعكاسية، إذ يرى بأن العالم المادي انعكاس لعالم المثل أو عالم المعقولات، وكل شيء في عالم الحس يقابله ما يماثله في عالم المثل. فالمثال هو الشيء بعينه بذاته، أما الشيء فهو صورة وانعكاس للمثال. فهناك إذن وجود مزيف هو العادة، ووجود حقيقي هو المثال. ويبرهن على ذلك بفكرة أن الشيء الذي له بداية له نهاية. وعلى خلاف ذلك فإن الشيء الذي ليس له نهاية ليس له بداية. وما هو ذو نهاية محدث، أما الذي ما لانهاية له فهو قديم.

فالمادة زائلة متغيرة لا بد لها من علة لوجودها، وعلة وجودها هو المثال: التفاحة المزيفة لها أصل ومبدأ هو التفاح الحقيقي، العلاقة بين الجسم وظله، نسيب الظل هو الجسم. الروح في الإنسان تنتمي إلى عالم المثل، والجسد إلى عالم المادة. إن الماهية الخفية للأشياء تكمن في عالم المثل، وهو عالم غير محسوس ويدرك بالعقل فقط.3766 جدول افلاطون

4 - أسطورة الكهف:

يحاول أفلاطون عبر أسطورة الكهف أن يحدد طبيعة العلاقة بين عالم المثل وعالم المادة، ويحاول أيضاً أن يوضح نظرية المعرفة. يتحدث أفلاطون عن كهف مظلم فيه أسارى مصفدون بأغلالهم ينظرون إلى غور الكهف، حيث ترتسم ظلال وأشباح تلقيها نار مشبوبة، تنيرها تماثيل صغيرة، يحملها أناس لا يظهرون يمرون خلسة أمام باب الكهف.

وتبين القراءة الرمزية لهذه القصة الخيالية ما يلي:

1- هناك عالمان: الكهف المظلم وهو العالم المادي الذي نعيش فيه، أما العالم الخارجي فهو عالم المثل والحقائق.

2- الأسرى: هم الناس الذين يعيشون في العالم المحسوس.

3- الأغلال: تمثل الرغبات والميول التي تمنع الأسارى من المعرفة والنظر إلى الخلف.

4 - الظلال والأخيلة والأشباح هي الظنون والرؤى والأوهام للنار المشبوبة في الخارج التي هي شمسنا المنيرة.

حين يتاح لأحد الأسرى (وهو الفيلسوف) أن يخرج خلسة من الكهف ليرى الشمس، ويرى عجبا؛ لأنه للمرة الأولى يرى عالم الحقيقة، وتبهر عيناه في البداية، ثم يعتاد النظر إلى الحقيقة المشرقة، ثم يعود ليخبر من كان في الكهف ويساعدهم على الحرية من أجل الحقيقة. ولكن أفراد الكهف يستسلمون لما هم فيه ويرفضون الخروج من أجل الحقيقة. وهنا يريد أن يقول لنا إن الناس محكومون بأهوائهم وعاداتهم ورغباتهم التي تنسيهم جمال الحقيقة والنظر في ضوء الشمس.

5- نظرية المعرفة عند أفلاطون:

نعني بنظرية المعرفة العلاقة بين الذات والموضوع، بين الوجود الواعي والوجود المادي. ويمكن تعريفها عبر صيغ التساؤل عن مصادر المعرفة وأدواتها وكيفياتها. ونظرية المعرفة عنده تتصل بالمسألة الوجودية الأنطولوجية، التي تعطي عالم المثل أولوية الوجود، فهو يؤمن بوجودين، ويعطي للعقل مبدأ الأولوية في الوجود. وإذا كان العالم المادي متغيراً متبدلاً فاسداً تعتريه الصيرورة، فإن معرفته معرفة متبدلة ومتغيرة وفاسدة. وهناك معرفتان:

1- معرفة حسية: وتعبر عن العالم المحسوس، والوصول إليها يكون عن طريق الحواس.

2- معرفة عقلية: وتعبر عن العالم المعقول، والوصول إليها يكون عن طريق العقل والتأمل العقلي.

يبدأ ديالكتيك المعرفة من عند أفلاطون من منهج سقراط في التوليد والتهكم، وهو الأسلوب الذي استخدمه في الهجوم على السوفسطائيين، وديالكتيك المعرفة، عند أفلاطون يأخذ صورتين فهناك: الديالكتيك الصاعد وهناك الديالكتيك النازل. فالجدل الصاعد هو المنهج الذي يرتفع به العقل من المحسوس إلى المجرد دون أن يستخدم شيئاً حسياً بل بالانتقال من فكرة إلى أخرى. أما الجدل النازل فهو منهجية الفكر في الانتقال من المعقول إلى المحسوس. ويشير إلى أربعة مستويات لمنطق المعرفة هي:

1- الإحساس: وهو إدراك عوارض الأجسام.

2- الظن: وهو الحكم على المحسوسات بما هي.

3- الاستدلال: وهو علم الماهيات الرياضية المتحققة في المحسوسات.

4- التعقل: وهو إدراك الماهيات المجردة.

6- الآراء الاجتماعية عند أفلاطون

يودع أفلاطون أفكاره التربوية في كتابه الجمهورية. وفي هذا الكتاب يقدم أفلاطون تصوراً لمجتمع مثالي تحكمه العدالة والمساواة بين الناس وتسوده الفضيلة. يصف جان جاك روسو كتاب الجمهورية لأفلاطون بأنه أجمل رسالة وضعت عن التربية، ويقول "إذا أردتم أن تعرفوا ما التربية العامة عليكم أن تقرؤوا جمهورية أفلاطون، فهي ليست كتباً في السياسة على الإطلاق، بل هي أجمل رسالة وضعت في التربية"([8]).

في هذه المدينة يمنع على الفلاسفة والحكام التملك؛ لأن الملكية هي أصل الشرور والآثام. وعلى طبقة الحكام والحراس الانصراف إلى العمل الفكري والذهني. وفي هذه المدينة أيضاً لا يحق للحكام من الفلاسفة الزواج بالطريقة التقليدية. فالحكام يتزوجون في طقوس عامة، حيث يعقد لهم على حكيمات النساء. أما الأطفال فيؤخذون لتتم تربيتهم تحت إشراف الدولة، وهؤلاء الأطفال لا ينسبون لآبائهم بل إلى الدولة بشكل عام حيث تقوم مرضعات غير الأمهات بإرضاع هؤلاء الأطفال وتنشئتهم كما يقوم مربون بتربيتهم وفق المعايير التربوية للدولة.

لقد تطلع أفلاطون إلى تكوين مجتمع من الأحرار بكل ما يعنيه مفهوم الإنسان الحر من نبل وسمو وقدرة على التعبير والإبداع، لذلك فإنه وقف ضد مختلف أشكال القسر والتسلط والظلم الذي يقع على الإنسان، ورفض في نظريته التربوية الأساليب التربوية القائمة على القسر والإكراه، فهو يرفض أن تكون التربية طريقاً إلى العبودية، فالتربية يجب أن تكون من أجل بناء الإنسان الحر المتكامل جسداً وروحاً وعقلاً.

يبسط أفلاطون أفكاره الاجتماعية في كتابيه السياسة والجمهورية. ويمكن الإشارة إلى أهم الأفكار التي يطرحها في كتابيه:

1- شيوعية النساء: إذ يحظر أن يكون للحراس (هذه لطبقة الجند والحكام) أسر ويكون الزواج بالقرعة. فالجميع للجميع عبر طقوس واحتفالات دينية يجتمع فيها الحراس من الجنسين، ويكون الزواج بالقرعة تفادياً للحسد والتخاصم. ويعقد زواج رسمي لكنه مؤقت، والغرض منه التناسل لتحقيق حاجة الدولة من السكان. ثم يوضع الأطفال في مكان مشترك يعنى بهم متخصصون، وتأتي الأمهات لإرضاعهن دون أن يعرفن أطفالهن. وعندما يولد للحراس أطفال خارج هذه الطقوس يعدمون، كما يعدم الأطفال ناقصو التركيب.

2- تحسين النسل وتحديده: وهنا يستفيد أفلاطون من مسألة تحسين النسل عند الماشية. لا يكفي أن تعلم الطفل تعلماً حسناً دائما، بل يجب توليده توليداً حسناً عن أبوين قويين صحيحين، وبطلب من كل عريس وعروس تقديم شهادة تبين صحتهما، والرجال ينجبون بعد سن الثلاثين ودون سن الخمسين. ويجب إعدام الأطفال المشوهين، ويباح للرجل الاتصال الجنسي بعد المرحلة المحددة للزواج بشرط ألا يؤدي ذلك للإنجاب. لا ينسل رجل أو امرأة ما لم يكونا صحيحي الجسم والنفس.

3- زواج الأقارب: ينهي عن زواج الأقارب لأنه يضعف النسل، وبزواج أفضل النساء مع أفضل الرجال يمكن بناء المدينة. إذ يباح لأشجع شبابنا الاتصال بعدد أكبر من النساء لأن هؤلاء الآباء ينبغي أن ينجبوا عدداً أكبر من الأولاد.

4- المساواة بين الجنسين في التعليم وممارسة الوظائف والمهن.

7- الطبقة عند أفلاطون

لا تقوم الطبقة عند أفلاطون على معيار الثروة وإنما على مبدأ الاستعدادات والكفاءات العقلية. ويؤكد في رؤيته الطبقية هذه أهمية المساواة بين الرجل والمرأة. ويتحدث عن ثلاث طبقات أساسية:

1- طبقة الحكام الفلاسفة، وهي القوة العاقلة وفضيلتها الحكمة.

2- طبقة الحراس الجند، وتماثل القوة الغضبية وفضيلتها الشجاعة.

3- طبقة الصناع، ويقابلها القوة الشهوانية وفضيلتها العفة.

وكما أنه يماثل بين الطبقات والقوى الطبيعية في الجسد، فإنه أيضاً يقابل بين هذه الطبقات والمعادن، فطبقة الحكام الفلاسفة تقابل معدن الذهب، والطبقة العسكرية طبقة الجند يقابلها معدن الفضة، أما طبقة الصناع فيقابلها معدن النحاس. والعدالة تكون بتحقيق الانسجام وهيمنة الفلاسفة في المدينة. وهيمنة العقل على الجسد في سائر الأحوال.

8- الطبيعة الإنسانية:

أخذ أفلاطون تفسير حقيقة النفس من النظرية الأورفية التي كانت تنص على أن النفوس كانت توجد في مكان مقدس قبل أن تحل في الأجسام. و كانت في مكانها هذا تنعم بالسعادة الأبدية. ثم ارتكبت جريرة ما فعوقبت على ذلك وأهبطت إلى الأرض واتحدت بالجسد. وهذا يعني أن اتحادها مع الجسد يرمز إلى عقاب أنزله الله عليها. وهي - أي الروح - تعود إلى عالم المثل بعد الموت.

ومن هذا المنطلق يرى أفلاطون أن الروح هي نقطة الالتقاء بين عالم المثل وعالم الجسد. وأن النفس جوهر روحي وليس مادياً كما يعتقد الفلاسفة. ومن أجل أن تتحرر النفس من سجنها الأبدي لا بد أن تعمل على تطهير نفسها بالعمل الصالح الذي يختص بالمعرفة. ويرى أن عدد النفوس لا يقبل الزيادة ولا النقصان، وأن النفس تحل في أكثر من جسد حتى تكفر عن الذنوب التي ارتكبتها.

يجري السلوك عند أفلاطون من ثلاثة منابع: الجسد والعاطفة والعقل، وهو في رؤيته هذه يبدو متأثراً بفكرة العقيدة الإبراهيمية.

1- فالجسد والرغبة والشهوة والجسد والباعث أمر واحد.

2- والعاطفة والروح والطموح والشجاعة أمر واحد.

3- والعقل والمعرفة والفكر والذكاء شيء واحد.

وهناك ثلاث قوى محركة للطاقة الحيوية عند الإنسان وهي:

1- القوى الشهوانية: وتتمثل في الرغبة وفضيلتها العفة.

2- القوى الغضبية: تتمثل في الشجاعة وفضيلتها الشجاعة.

3- النفس العاقلة: تتمثل في الحكمة وفضيلتها المعرفة([9]).

9- النظرية التربوية:

يودع أفلاطون كتابه الجمهورية جلّ أفكاره التربوية، ويؤكد على الدور الاصلاحي للتربية كما يؤكد قدرتها على تحويل المجتمع إلى مجتمع عادل فاضل تسوده الحكمة والخير والفضيلة. ومن أجل هذه الغاية يطرح أفلاطون منظومة من الأفكار التربوي المهمة نوجزها بما يلي:

1- عزل الأطفال عن المجتمع: إذ لا يمكن بناء مدينة مثالية بأولاد صغار أفسدهم كبارهم، إذ يجب أن نخرج جميع الأطفال الذين بلغوا السابعة من العمر ونضعهم في معسكرات تشرف عليها الدولة لتربيتهم وتأهيلهم كمواطنين أحرار.

2- ديمقراطية التعليم: لا أحد يعرف من أين تتوهج نار العبقرية. ويجب أن نمنح كل طفل فرص تعليم متساوية، لا أحد يعرف من أين تتوهج نار العبقرية، ويجب أن نبحث عن هذا التوهج العبقري في كل مكان وفي كل نوع وجنس.

3- التربية الاصطفائية: حيث يجب اصطفاء الأفضل والأقوى لمتابعة التعليم والوصول إلى قمة الهرم المعرفي والسياسي: طبقة الحكام الفلاسفة.

4- المساواة بين الجنسين: في التعليم دون تمييز بين المرأة والرجل.

5- تحقيق التوازن التربوي: تربية الجسد والنفس والعقل.

10 - المنهج التربوي لدى أفلاطون:

يرى أفلاطون أن التربية يجب أن تتم وفق منهجية محددة، حيث يتم إعداد الجسد بالرياضة، والقلب بالموسيقى، والعقل بالرياضيات. ويجب تحقيق التكامل بين هذه الجوانب أي بين التربية الروحية والنفسية والعقلية من أجل بناء الإنسان الكامل عقلاً وجسداً وروحا. ومن أجل تحقيق هذه الغاية يقترح نظاماً تربوياً متكاملاً يستند إلى الخطوات التالية:

1- الرياضة: في السنوات العشر الأولى، يجب أن ينصب التعليم على التربية البدنية، لتكوين مواطنين أصحاء شجعان ومعافين. ولم تكن الرياضة من أجل بناء أجساد قوية خشنة فحسب بل كانت من أجل تحقيق الرشاقة والقوة والجمال في الجسد والنفس.

2 - الموسيقى: ولكن مجرد الرياضة البدنية لا تكفي إذ تجعل من الشخص عنيفاً شديد الخشونة، وهو لا يريد مجرد شعب من المصارعين وحملة الأثقال، بل أناساً أقوياء البنية أصحاء العقل والروح والجسد. لذا يؤكد على أهمية صقل الروح الإنسانية وتهذيبها بالفن والموسيقى، فالموسيقى تهذب الروح وتجد طريقها إلى خفايا النفس فتجعلها رشيقة لطيفة، وهي قادرة بطاقتها الكونية على تهدئة المنابع غير الواعية في العقل البشري. ومع الأهمية الكبيرة التي يوليها أفلاطون إلى الموسيقى فإنه يدعو إلى التعقل وعدم الإسراف، لأن الإفراط فيها خطير كالإفراط في الرياضة. وإذا كان الاقتصار على الرياضة يدفع الإنسان إلى التوحش، فإن الاقتصار على الموسيقى يضعف الإنسان ويجعله ضعيفاً رقيقا، لا بد إذا للإنسان من تهذيب الروح بالموسيقى وفي الوقت نفسه صقل الجسد بالرياضة.

3- الرياضيات: كتب أفلاطون على مدخل الأكاديمية عبارته المشهورة: "لا يدخل هذه الأكاديمية من لم يكن رياضيا"، وهذه إشارة كبيرة إلى أهمية الرياضيات في النظام التعليمي عند أفلاطون. فإذا كان الجسد ينمى ويصقل ويؤهل بالرياضة، وإذا كانت النفس تصقل بالفن والموسيقى فإن العقل يرتقي ويصل إلى غايته عن طريق الرياضيات. لأن الرياضيات هي رياضة العقل ووسيلته في بلوغ الكمال. وكان أفلاطون متأثراً بنظريات فيثاغورث في الرياضيات حيث كان فيثاغورث يرفع من شأن الرياضيات إلى مرتبة القدسية. وكان يرى أن الكون عدد ونغم ([10]).

11- مراحل التعليم عند أفلاطون:

1- في المرحلة الأولى يتم انتزاع الأطفال الذين بلغوا السادسة من العمر ليوضعوا في مدارس عامة تشرف عليها الدولة. ويحصل هؤلاء الأطفال على تعليم عام حتى الثامنة عشرة من العمر. ويبدأ التعليم بالتربية الجسدية، وتقترن هذه التربية بالموسيقى والأناشيد؛ لأن وجود الموسيقى إلى جانب التربية البدنية يخلق حالة من التوازن الإنساني عند الطفل. وفي نهاية هذه المرحلة يخضع الأطفال لامتحان شامل للنواحي النفسية والعقلية والجسدية، ومن يخفق يكن مآله إلى الطبقة العاملة، وهي أدنى طبقات المجتمع.

2- في المرحلة الثانية: من الثامنة عشرة حتى العشرين ينقطع الحراس عن الدرس ويزاولون الرياضة البدنية والتمرينات العسكرية.

3- في المرحلة الثالثة: من العشرين حتى الثلاثين ينصرفون لدراسة الحساب والفلك والموسيقى من أجل الوصول إلى مرتبة الحراس.

4- في المرحلة الرابعة: من الثلاثين حتى الخامسة والثلاثين: في الثلاثين يتم اختيار أهل الكفاية والجدارة الذين تتوفر فيهم محبة الحق وشرف الفلسفة وضعف الشهوة، وهم أقلية بطبيعة الحال. ويقضي هؤلاء الصفوة خمس سنوات أخرى في دراسة الفلسفة.

5- في المرحلة الخامسة: من الخامسة والثلاثين حتى الخمسين: يزج بهم في معترك الحياة السياسية والحربية حتى سن الخمسين، والذين يتميزون يصلون إلى مرتبة الحكام ويدعون الحراس الكاملين، ويتناوبون الحكم كل بدوره. وهذه الدورة تسمى الدورة الكبرى، دورة الحكام، حيث يصل الفرد إلى غاية التربية ومنتهاها إنساناً يتصف بالكمال ويمتلك القدرة على حماية العدالة في المدينة والسهر عليها.

فالهدف التربوي العام عند أفلاطون هو تكوين تناسق بين روح تحس الجمال وتعشق الأدب، وجسم رشيق قوي، وعقل يمور بالعطاء والحكمة والمعرفة.

12- خلاصة:

لا يمكن لأحد من المفكرين أن يتجاهل الطابع الطوباوي والخيالي للنظرية الأفلاطونية في التربية والسياسية. إذ غالباً ماً يوجه النقد الشديد لرؤى أفلاطون التي تتسم بالطابع الأيتوبي الخيالي الذي يحاول فيه أن يصلح مجتمعاً فاسداً عبر التربية وبأدواتها. ولكن يجب علينا أيضاً أن نأخذ بكثير من الأفكار المهمة التي طرحها أفلاطون في مشروعه التربوي والسياسي.

- استطاع أفلاطون أن يربط بعمق وأصالة منهجية بين التربية والحياة الاجتماعية والسياسية، وهو أول من نفذ ببصيرته إلى عمق العلاقة بين التربية والمجتمع، وأول من أدرك منهجياً إمكانية توظيف الفعل التربوي في إصلاح الحياة الاجتماعية والسياسية.

- يعد أفلاطون أول من نادى بديمقراطية التعليم بين المرأة والرجل وبين أفراد الطبقات الاجتماعية من جهة أخرى. لقد نادى بحق المرأة في التعليم وفي قيادة المجتمع على قدم المساواة دون تمييز بينها وبين الرجل. كما نادى بحق كل طالب علم بأن يتعلم وأن يصل إلى الغاية التي ينشدها إن استطاع إلى ذلك سبيلا, فالتربية يمكنها -وفقا لتلك الرؤية- أن تكون أداة للحراك الطبقي. ومصير الإنسان مرهون بقدرته على التعلم والسير في دروب المعرفة.

- استطاع أفلاطون أن يرسم المثل الأعلى للتربية وأن يصقل الغاية الأسمى للعملية التربوية في بناء الإنسان المتكامل جسداً وعقلاً ونفساً، واستطاع أن يحدد جدل العلاقة بين هذه الجوانب، وأن يبرز أهمية الرياضيات والرياضة والموسيقى في إيصال الإنسان إلى جوهر إنسانيته.

- تعد نظريته في مقدمة النظريات النقدية للتربية والمجتمع. وبهذا يكون أفلاطون مؤسساً للنزعة النقدية في الفلسفة والتربية والمجتمع. وقد جعل من النظرية الفلسفية أداة فعالة في النقد الاجتماعي والسياسي. ولم يكن ذلك مألوفاً في عصره أو فيما سبقه([11]).

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

..................

مراجع المقالة وهوامشها:

[1]- أحمد فؤاد الأهواني، أفلاطون، دار المعارف، القاهرة 1991، ص 7.

[2]- هناك خلاف كبير حول مولده، فبعض المؤرخين يشيرون إلى عام 427 وبعضهم إلى 428 وبعضهم الآخر يرجح 429.

[3]- ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله المشعشع، مكتبة العارف، بيروت، 1985.ص 19.

[4]- عبد الله عبد الرحمن، تطور الفكر الاجتماعي، دار المعرفة الجامعة، الإسكندرية، 1999، ص 16.

[5]- انظر: أفلاطون، جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، دار القلم، بيروت، 1980.

[6]- انظر: أفلاطون، فيدون (في خلود النفس) ترجمة عزت قرني، دار قباء، القاهرة، 2001.

[7]- انظر: أفلاطون، في السوفسطائيين والتربية، محاورة بروتاغوراس، ترجمة عزت قرني، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، 2001.

[8]- جان جاك روسو، إميل، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956، ص34.

[9]- فؤاد بسيوني، من أعلام الفكر التربوي، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية، 2000، ص 34.

[10]- فاطمة جيوشي، فلسفة التربية، مطبعة خالد بن الوليد، جامعة دمشق، دمشق، 1982، ص 17.

[11]- محمود عبد الرزاق شفشق، الأصول الفلسفية للتربية، دار البحوث العلمية، الكويت، 1980.  ص 48.

 

ترجمة د. زهير الخويلدي

كانط هو أبو الفلسفة الألمانية: فهو المؤلف، أو بالأحرى أداة، لأعظم ثورة فلسفية حدثت في أوروبا الحديثة منذ ديكارت. لكن أي ثورة تستحق هذا الاسم هي ابنة الزمن وليست ابنة انسان. العالم يتحرك، لكن لا أحد يحركه، كما لا يستطيع أحد أن يوقفه. أرى سابقتين عظيمتين في فلسفة كانط: الروح العامة، والحركة العالمية لأوروبا، ثم الروح الخاصة لألمانيا. إن الروح العامة لأوروبا في نهاية القرن الثامن عشر معروفة جيداً: في ذلك الوقت، كان هناك تخمير صامت، نذير أزمة قادمة. لقد تم استبدال سذاجة القرون السابقة بميل عاطفي للفحص والتحقيق، وهو ما يساعد على اكتشاف الحقيقة. لقد كشف التفكير المطبق في البحث عن حقوق الإنسان وواجباته عن فراغ المؤسسات القائمة؛ لقد شعرنا بشدة بالحاجة إلى تجديد كامل للجسم الاجتماعي. يجب أن أصر أكثر على حالة ألمانيا الخاصة قبل كانط. لكن تاريخ الأمة هو في الأساس تاريخ واحد، وبالمعنى الدقيق للكلمة، يكاد يكون من المستحيل أن نفهم بشكل كامل الوضع الأخلاقي لألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر، ما لم يعرف المرء إلى حد ما العصور التي سبقت وأعدت ذلك العصر. نحن ندرس؛ لذا يبدو لي من الضروري أن أقدم هنا رسمًا سريعًا لتاريخ الحضارة الجرمانية منذ بداياتها الأضعف حتى وقت ظهور كانط، وذلك لكي أفهم بوضوح الروح الأساسية والدائمة للأمة العظيمة التي ينتمي إليها فيلسوفنا. ، ومن هو ممثله. إنني على قناعة تامة بأن النوع البشري هو نفسه في كل مكان، مهما كانت خطوط العرض المختلفة التي تتوزع عليها الأجناس البشرية. لا يوجد سباق متميز من أجل الحقيقة، من أجل الجمال، من أجل الخير. لقد تم التغلب على تأثير الظروف الخارجية وهزيمته في كثير من الأحيان، هنا بإرادة بعض النخبة من الأفراد بقدر ما كانوا يعنيهم الأمر، وهناك، من أجل الجماهير، من قبل الحكومات والمؤسسات. ويقلب التاريخ النظريات المطلقة التي تنسب الحرية أو العبودية إلى هذه المنطقة أو تلك. أعتقد باختصار أن الحضارة المشتركة هي ملك للجنس البشري بأكمله في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، إذا كانت البشرية واحدة، فليس أقل صحة أن الحضارة تتخذ أشكالًا مختلفة تمامًا، اعتمادًا على الظروف والأزمنة والأماكن. وأبرز تمييز هو الفرق بين الحضارات الجنوبية والحضارات الشمالية. شعب الشمال يرى نفس الحقائق التي يراها شعب الجنوب، لكنهم يرونها بشكل مختلف. ويلاحظ هذا الاختلاف في الشعر وفي الدين وفي المؤسسات السياسية. وتتبع الفلسفة نفس الحظ، لأن الفلسفة ليست في بعض الأحيان سوى القاعدة السرية، وأحيانًا قمة هذه التطورات الثلاثة العظيمة للروح، وأنقى وأسمى تعبير عنها. لقد تتبع السيد دي سيسموندي، في عمله الجميل عن آداب الجنوب، طابع الشعر في إيطاليا وإسبانيا في علاقته بالدين والحالة السياسية في هذين البلدين. ويمكننا، على غرار مثاله، أن نشير أيضًا إلى الخصائص الأدبية والسياسية والدينية الخاصة حصريًا بدول الشمال. النتيجة الأكثر تأكيدًا لجميع الملاحظات التي تم تقديمها بالفعل هي أن إنسان الجنوب، على الرغم من أنه نفس إنسان الشمال بشكل أساسي، إلا أنه أكثر اتساعًا، وأن إنسان الشمال، على العكس من ذلك، من خلال إن تأثير الانطباعات التي تنتجها الظروف الخارجية عليه يسهل نقله نحو نفسه ويعيش حياة أكثر حميمية. ألمانيا هي هذا السهل الشمالي الكبير، الذي تقطعه عدة أنهار كبيرة، وتفصلها عن بقية العالم حواجز طبيعية نادراً ما يتم عبورها، عن طريق المحيط وبحر البلطيق، وجبال كراباكس، ونهر تيرول والراين. ضمن هذه الحدود، تعيش وتتحدث نفس اللغة أمة أصيلة بعمق، ولا يخضع وجودها إلا لقليل من تأثير الشعوب المجاورة. إن الروح المشتركة التي توحد هذه المجموعات العديدة هي حب الحياة الداخلية، حياة الخيال أو الشعور أو الفكر الانفرادي مثل حياة الأسرة، وتفضيل أحلام اليقظة أو مزجها مع العمل، والاستعارة من الروح، من شيء مثالي وغير مرئي، اتجاه الحياة الخارجية، حكومة الواقع.

يبدو لي أن تاريخ هذه الأمة ينقسم إلى ثلاثة عصور رئيسية.

العصر الأول، الذي ضاع أصله في ضباب الزمن، لا ينتهي إلا مع شارلمان. تُظهر لنا الآثار القديمة، التي يلخصها تاسيتوس، القبائل الجرمانية المختلفة المنتشرة على سطح منطقة شاسعة احتلوها بدلاً من تخصيبها. لقد اعتادوا على حياة الترحال، وحاربهم الرومان دائمًا، ولم يُهزموا أبدًا، نراهم ينتظرون في غاباتهم حتى يحين الوقت لإرجاع الغزاة إلى ديارهم ومهاجمة المعتدين. حتى اللحظة التي أصبحت فيها شعوب الشمال غزاة بدورها، ولفترة من الوقت حتى بعد الغزو، كانت لديهم حضارة، وشكل من أشكال الحكم، ودين، وشعر خاص بهم. تتمثل روحهم السياسية بشكل عام في الاعتراف فقط بالقادة المنتخبين من قبلهم، وفي ترك السلطة شبه التعسفية للتفوق الجسدي أو المعنوي، حتى أننا نرى أحيانًا فوضى الضعف، عندما لا يكون لدى القائد سوى القليل من القوة. محارب سعيد. افتح إيدا ونيبيلونجن؛ إن القراءة الأكثر سطحية تكتشف طعم الأحلام والمشاعر العميقة المظلمة أو السامية التي تذكرنا باستمرار بأن أبطال وشعراء هذه القصائد القديمة لم يروا سماء إيطاليا أو سماء إيطاليا أو إسبانيا. ومهما تحركوا في العالم الخارجي، فإنهم يتخذون دائمًا أشكالًا مستعارة من الحياة الحميمة. كما أن لهذا العصر فلسفته، فلسفة على طريقة البرابرة، غامضة وغير محددة، لأنها ليست سوى تطور غريزي، ثمرة العفوية وليس التفكير، هي وحدها التي تشكل الفلسفة الحقيقية. هذه الفلسفة الأولية هي الدين. في أساطير إيدا ونيبيلونجن، يتم التعبير عن تفوق الإنسان على الطبيعة في كل مكان، وهناك بالفعل نوع من النظرية الفلسفية. سيجورد، سيجيفريد، أتيلا، أبطال الشمال، يلعبون بالحوادث الطبيعية؛ إنهم يستمتعون وسط عواصف المحيط، ويتنهدون بعد المعارك كما بعد المهرجانات، ويبتسمون للموت كما لو كانوا يبتسمون لصديق، وينضمون إلى الازدراء العميق للحياة، والشعور النشط بالواجب، والذوق للحب الذي لا حدود له من النقاء. أن شعوب الجنوب. وهذه هي، في مهد ألمانيا، البذور الخصبة لفلسفة المستقبل. خلال هذه الحقبة الأولى، كان الشمال وثنيًا، حربيًا، حرًا وشاعريًا.

العصر الثاني بعد الغزو

يبدأ هذا الشكل الأول من الحضارة الجرمانية بالتغير مع الغزو. وعندما عبرت شعوب الشمال الحواجز التي تفصلها عن بلاد الغال وإيطاليا، بينما دمرت الشكل الروماني، اضطرت إلى الاحتفاظ بشيء منه. وقد أعاد العديد من هؤلاء الغزاة إلى وطنهم عادات الغزو؛ لقد تبع الاستبداد العسكري القادة المنتصرين وتأسس بفضل خدماتهم ومجدهم. وهكذا فإن الغزو يولد دائمًا الاستبداد، ليس فقط بالنسبة للمهزومين، بل أيضًا بالنسبة للمنتصرين. وسرعان ما استسلم دين الفاتحين لدين الشعوب المهزومة. لقد فازت المسيحية، بعبادتها وممارساتها في التضحية والحب، بهذه القلوب البربرية العظيمة، وتخطت على التوالي جميع الحواجز التي عبرها المنتصرون أنفسهم، وتغلغلت في قلب ألمانيا. الشرك الإسكندنافي والجرماني، الذي تعرض لهجوم بالسيف والعلم وبطولة المحبة غير المعروفة حتى الآن، لم يستطع المقاومة وهُزم؛ ومع الوثنية هلك الشعر الذي ولد من هذه الحالة السياسية والدينية. شارلمان، وهو أكثر فرنسية من الغاليين، بتسليمه للكنيسة بشكل نهائي مهمة إنشاء وتنظيم المجتمع البربري، أنهى هذه الحقبة الأولى وبدأ الثانية. إن طابع هذه الفترة الجديدة من التاريخ الألماني هو أن تكون مسيحية بعمق وفي نفس الوقت ملكية وحرة. يختار الناخبون وأمراء الإمبراطورية زعيمهم أحيانًا من منزل، وأحيانًا من منزل آخر؛ ويعترف القائد، الإمبراطور المنتخب على هذا النحو، بحدود سلطته في القوانين الفظة، ولكن يتم الالتزام بها دينيًا، وخاصة في الروح الاختيارية التي لم تكن في ذلك الوقت مجرد صورة زائفة. كان للشعب نفسه حقوق يدافع عنها الأمراء ضد اغتصاب السلطة الإمبراطورية، وتضمنها ضد الأمراء أنفسهم مؤسسات لم يتم تدميرها بالكامل أبدًا: إنها حضارة لا تزال قاسية، لكنها مليئة بالقوة؛ الحرية الجرمانية، المبنية على وحدة دينية وجدت الإيمان المطلق في كل القلوب والعقول، جعلت من ألمانيا أمة عظيمة حقًا، تحترمها وتخشاها أوروبا بأكملها. تم العثور على شعر هذه الأوقات في أغاني المينيسنجر التي تشبه إلى حد كبير أغانينا الشعراء الغنائيين في بروفانس، والتي ربما أخذت أصلها منهم. يشير اسم مايستر بالفعل إلى أنهم شكلوا مدرسة؛ يبدو هذا الشعر في البداية، لهذا السبب بالذات، أقل أصالة وأقل شعبية من شعر الفترة الأولى. ومع ذلك، فإنها لا تزال تحظى بشعبية بمعنى أنها تتناغم مع الروح العامة للعصر؛ في الواقع، يتم الترحيب بها والاحتفال بها، خاصة في القلاع. طيب ! وحتى في هذا الشعر الأكثر اصطناعاً نجد سحر الأحلام الكئيبة التي لم تعرفها أسبانيا وإيطاليا، وهذا العطر من التصوف في الدين والحب الذي يذكرنا بألمانيا القديمة. كانت فلسفة هذه الفترة هي المدرسانية، التي استحقت آنذاك قدرًا كبيرًا من الاحترام كما اجتذبت الازدراء لاحقًا، عندما أرادت الحفاظ على إمبراطورية سلبتها منها القرون، باعتبارها السيادة الشرعية، كانت طاغية واضطهادية. لم تكن المدرسانية سوى مجموعة من الصيغ العلمية إلى حد ما، حيث قام التفكير الناشئ، استنادًا إلى كتاب أرسطو، بترتيب المذاهب المسيحية لاستخدام التدريس. اللاهوتيون هم فلاسفة العصر، ويتصفون بالسذاجة والجدية، وعمق المشاعر وارتفاع الأفكار، مما يجعلهم في مرتبة عالية جدًا في تاريخ الفلسفة. قبل الجامعات، ازدهرت المدارس الكبيرة في جميع أنحاء ألمانيا، في فولده وماينز وريغنسبورغ، وخاصة في كولونيا. ولا شك أن المدرسانية الألمانية أقل أصالة وأقل إثمارًا من المدرسانية الفرنسية التي ليس لها مثيل ولا منافس؛ ومع ذلك، فإنه يضم بعض الأسماء الكبيرة، وأكبرها هو ألبرت. فلا تستهينوا بهذه الفلسفة، رغم شكلها الهمجي بعض الشيء؛ لأن إيمان المعلمين والتلاميذ ساهم في تسريعه. ومن ناحية أخرى، الإيمان الحقيقي بالشعب، وبالتالي الحرية، حيث آمن الشعب بإيمان حر مثل الحب الذي كان مبدأه؛ ومن ناحية أخرى، السلطة الحازمة في الحكومة، لأن هذه السلطة كانت مبنية على موافقة الشعب الحرة، وعلى المعتقدات النبيلة. هكذا كانت الحالة الفلسفية والدينية والأدبية والسياسية في هذا العصر الثاني. كانت هذه الأيام الذهبية للإمبراطورية الجرمانية، التي لا يزال الكتاب العظماء يستحضرون ذكراها بحماس.

العصر الثالث

 لقد مر هذا النموذج مثل الآخر، كما تمر جميع الأشكال. وما ساهم في إثارة غضبها أولاً ومن ثم إهانتها هو التأثير المفرط للهيمنة الأجنبية على السياسة والدين. شيئًا فشيئًا، لعب الأجانب دورًا أكبر في ألمانيا من دور السكان المحليين. انتهت إحدى المدن الإيطالية إلى فرض المعتقدات والعادات وأصغر الممارسات التي يجب مراعاتها في أعماق تورينجيا. حدث ذات يوم أن وُجد على عرش ألمانيا أمير لم تعد سيطرته، التي امتدت أيضًا إلى هولندا وإسبانيا وأكثر من نصف إيطاليا، تمثل حكومة وطنية للشعب. لقد وصل شارل الخامس، البلجيكي والإسباني، أكثر بكثير من الألماني، إلى ذروة القوة التي كان من المحتم أن تتراجع إذا لم تتمكن من الزيادة. يمكن لألمانيا أن تخضع للنظام الخارجي والسياسي، لكنها لا تستطيع إلا أن تخضع لعبقريتها في النظام الفكري والأخلاقي؛ لقد طالبت ببعض الحرية في التفاصيل بشأن نقطة ذات أهمية بسيطة: لم يتم الاستماع إليها؛ ولذلك قاومت، وطاقة المقاومة الداعية إلى عنف القمع، ومضاعفة الأخير للعنف، اندلعت ونشرت هذا الإصلاح الديني والسياسي الذي كسر وحدة أوروبا ومزق الصولجان من ألمانيا إلى ألمانيا. بيت النمسا وإلى محكمة روما. بدأ هذه الثورة شخصان ألمانيان، وشخصان من الشمال، احتج أحدهما ببلاغة عاطفية على الاستبداد الديني، والآخر دعم هذا الاحتجاج بسيفه: أنا أتحدث عن لوثر وغوستافوس أدولف. قوضت خطب لوثر الكاثوليكية. وسقط سيف جوستافوس بيت النمسا وحرر ألمانيا. ولكن يجب أن أقول إن هذين الرجلين العظيمين، بتدميرهما لشكل لم يعد يناسب الروح العامة، لم يستبدلاه بأي شكل جديد ثابت ودائم. ومن هنا جاءت الفوضى التي استمرت لفترة طويلة وما زالت مستمرة. عندما انهارت وحدة الإمبراطورية المقدسة، وأصبح لقب الإمبراطور لقبًا عبثيًا لم يكن في الواقع أكثر من لقب إمبراطور النمسا، واستعاد الناخبون والأمراء الاستقلال، وأصبحوا تدريجيًا ملوكًا مطلقين، والنظاميون لقد خلف استبداد رجل واحد مجموعة من المستبدين المعينين. وبالمثل، عندما دمر لوثر نفوذ روما في جزء كبير من ألمانيا، لم تعد العقول، بعد أن تركت السلطة القديمة، تعرف كيف تتعرف على أي منها؛ كان للوثرية أيضًا انشقاقاتها، والكالفينية محارقها، وما تبقى من الإيمان لم يعد يعرف الشكل الذي يجب أن يتخذه وأين يستقر. الشعر المكرس لغناء المعتقدات والمشاعر والأحداث المولودة من شكل ديني وسياسي لم يعد شعبياً، لم يعد يحظى بشعبية؛ وبما أن الثورة ليست حالة، وبما أن الشعر يعيش على أشكال محددة، فإن غياب الأشكال هذا لم يولد شعراء، وكانت تلك نهاية الشعر الألماني. اتبعت فلسفة البروتستانتية ثروته. لقد رأينا في ألمانيا ظهور مجموعة لا حصر لها من المدارس حيث خضعت المدرسة القديمة لتحسينات، أي تغييرات مستمرة؛ ولكن في خضم هذا الارتباك لا نجد شيئًا عظيمًا، ولا شيئًا أصليًا، ولا شيئًا يستحق دراسة تاريخية جادة. إلا أن شخصاً عبقرياً في فرنسا دمر المدرسة إلى الأبد، وأقام على أنقاضها نظاماً جديداً كلياً في منهجه وفي اتجاهاته العامة. وقد انتشر هذا النظام، أو روحه على الأقل، بين خيرة العباقرة في قرن لويس الرابع عشر. بوسويت نفسه، على الرغم من أنه لم يعترف بذلك، كان فينيلون ومالبرانش والسادة البورت رويال ديكارتيين. في هولندا، لم يفعل سبينوزا شيئًا سوى استخلاص نتائج صارمة من مبادئ ديكارت. وصلت الفلسفة الجديدة أيضًا إلى ألمانيا، وقام بتدريسها وتقليدها الأطباء الألمان، تمامًا كما كان للشعر البروفنسالي من قبل مقلدون على ضفاف نهر الراين. لايبنيتز، الذي لا يمكن المبالغة في الإعجاب بعبقريته، لايبنيتز نفسه هو تلميذ لديكارت، تلميذ، صحيح، تجاوز معلمه، لكنه للأسف جرفه الفضول العالمي، والشغف بكل أمجاد وانحرافات العالم. فالحياة السياسية لم تقدم إلا آراء جديرة بالإعجاب، دون أن تؤسس لنظام واضح ودقيق. حاول وولف جلب المناظر المتناثرة لجهاز كشف الكذب الكبير إلى مركز مشترك وتقليصها إلى نظام منتظم؛ ولكن فولف أعاد إنتاج أشكال فلسفة ليبنتز وليس روحها. لقد واصل من جاء بعده هذه المدرسة الجديدة، ومن الحقائق التي لا جدال فيها أننا في منتصف القرن الثامن عشر وقرب نهايته لم نجد في ألمانيا أي نظام سيطر على العقول بدرجة كافية لتظهر فلسفة ألمانية حقيقية. كانت الأمور على هذا النحو عندما دخلت ألمانيا في علاقة أكثر حميمية مع أوروبا الفلسفية التي لم تعد ديكارتية. وكانت إنجلترا قد وقعت تحت نير نظام لوك، واستبدلت فرنسا ديكارتية مالبرانش المبالغ فيها ولكن السامية بتقليد سطحي للفلسفة الإنجليزية. لقد أدت هذه السياسة، التي لست مدعواً إلى التراجع عنها، إلى انهيار الشجاعة. لقد أصبحت الشهوانية الشكل الفلسفي لإنجلترا وفرنسا. وسرعان ما انتقل إلى ألمانيا بكل ما أحضره معه، ذوق الصغير والمتوسط في كل شيء، ومن بين أشياء أخرى ذوق الشعر الصغير الذي يقتل الكبير. وملك فردريك بعد ذلك في برلين، أما هؤلاء المثقفون الفرنسيون الذين لم يشعروا بأنهم قادرون على التألق في فرنسا إلى جانب نجم فولتير المبهر، فقد ذهبوا إلى برلين ليقوموا بموجب أوامر بتسلية البلاط والسيد. لقد هاجموا ما تبقى من المسيحية واللاهوت في ألمانيا. وقد استمتع فردريك بصراع اللاهوتيين القدامى مع الفلاسفة الجدد. لقد دفع الأول، ولكنه أخضعهم لسخرية لاميتري والمركيز دارجن؛ وتراجع اللاهوت القديم أمام روح الفلسفة الجديدة. فلا قانون ولا حرية ولا شعر وطني. والحكومات الاستبدادية ترشي السفسطائيين الأجانب من أجل تدمير الروح الجرمانية القديمة؛ لاهوت ينحني تحت الكفر والسخرية، ولم يعد حتى يدافع عن نفسه؛ وبالنسبة للفلسفة كلها، نوع من الرعونة العقائدية التي تملي فقط القصائد القصيرة والكتيبات المكونة من بضع صفحات بدلاً من الأوراق، وهي شهادات محترمة عن العلم اللاهوتي القديم؛ هذه هي الحالة التي وجد فيها كانط ألمانيا. كنت مخطئا ؛ لقد سبق كانط شخصًا، ويجب أن ننسب إليه أيضًا شرف كوننا أول من نهض بشجاعة ضد الحماقات الذليلة والاستبدادية لبلاط برلين. كلوبستوك، رجل ريفي بسيط وجاد، مسيحي وألماني في القرن الثامن عشر، وجد في روحه أغانٍ ملهمة تم الترحيب بها، من أقصى ألمانيا إلى الطرف الآخر، باعتبارها فجر وطني شعري حقيقي. فقط محكمة برلين لم يتم نقلها. وعبثاً قدم كلوبستوك إلى فردريك، في أبيات شعرية سامية، اعتذاراً للملهمة الجرمانية: إن الملك العظيم لم يفهم الوطني المخلص؛ لكن ألمانيا سمعت ذلك. لقد اتبع الأدب ككل الطريق الذي فتحته له عبقرية كلوبستوك، وحتى قبل وفاة فريدريك، ظهر عدد معين من القصائد الوطنية التي حفظها الجميع عن ظهر قلب. والآن، ما هي طبيعة هذا الشعر الجديد؟ مع الشعور الوطني، عادت الروح الدينية إلى الظهور، والعبقرية الحالمة والكئيبة لألمانيا القديمة والخالدة، وتلك المشاعر العذبة النقية التي، في كلوبستوك وفي برجر، تتناقض بشكل نبيل مع التفاهة أو الفجاجة التي اتسمت بها صالونات الشعر التي عفا عليها الزمن في القرن الثامن عشر. والساحات.

ظهور كانط

في خضم هذه الحركة العظيمة، نشر شخص، ولد في كوينيسبرج، والذي، مثل سقراط، بالكاد يغادر أسوار مدينته الأصلية، عملاً فلسفيًا، لم يُقرأ في البداية إلا قليلاً ولم يلاحظه أحد تقريبًا، ثم تغلغل تدريجيًا قليلاً في الفلسفة. وكان لقلة من نخبة العقول، بعد ثماني أو عشر سنين، أثر عظيم في ألمانيا، وانتهى بهم الأمر إلى تجديد الفلسفة، كما جدد "المسيح" الشعر. درس كانط أولاً اللاهوت وتعلم اللغات؛ كان لديه عبقرية غير عادية في الرياضيات. حتى أنه قام باكتشافات في علم الفلك. لكن الفلسفة هيمنت على كل أعماله واستوعبت في نهاية المطاف جميع أذواقه: وأصبحت دعوته الحقيقية ومجده الرئيسي. كان طابعها المميز هو الشعور الحي بالضمير الصادق والمستقيم والثابت الذي كان يشمئز من العواقب المخزية للفلسفة العصرية. من ناحية أخرى، كان كانط في قرنه، وكان يخشى، بقدر ما كان يخشى الشهوانية، من استنتاجات الميتافيزيقا المدرسانية، التي يعتبرها محفوفة بالمخاطر. يمكننا القول أن هيوم هو الشبح الدائم لكانط: فبمجرد أن يميل الفيلسوف الألماني إلى التراجع عن الطريق القديم، يظهر له هيوم ويصرفه، وكل جهد كانط ينصب على وضع الفلسفة بين القديم والحديث. الدوغمائية والشهوانية عند لوك وكوندياك، محمية من هجمات ريبية هيوم. لكن في الفلسفة الأخلاقية بشكل خاص، حارب كانط شهوانية القرن الثامن عشر، دون العودة إلى صوفية العصور الوسطى. عندما كان في كل مكان في فرنسا، في إنجلترا، في إيطاليا، لم يكن هناك سوى حديث عن اللذة والاهتمام والسعادة، ارتفع صوت من كونيجسبيرج ليعيد الروح الإنسانية إلى الشعور بكرامتها، ويعلم الأفراد والأمم أن فوق عوامل الجذب من اللذة وحسابات المصلحة، لا يزال هناك شيء، قاعدة، قانون، قانون ثابت، إلزامي في كل زمان وفي كل مكان وفي جميع الظروف الاجتماعية أو الخاصة: قانون الواجب. إن فكرة الواجب هي محور أخلاق كانط، وأخلاقه هي محور فلسفته. إن الأخلاق تحل الشكوك التي قد تتركها الميتافيزيقا الشديدة، وينير نورها الدين والسياسة. إذا كانت في الإنسان فكرة قانون يعلو على العاطفة والمصلحة، فإما أن وجود الإنسان تناقض ومشكلة غير قابلة للحل، وإما أن الإنسان لا بد أن يتمكن من الوفاء بالقانون المفروض عليه؛ وإذا كان يجب على الإنسان أن يكون قادرًا، والواجب يعني الحرية. ومن ناحية أخرى، إذا كان الواجب متفوقًا على السعادة، فمن الضروري في بعض الحالات القصوى التضحية بالسعادة من أجل الواجب، ومع ذلك هناك انسجام أبدي بينهما، قد يضطرب مؤقتًا، ولكن ما الذي ينشئه العقل وما يفرضه. إذا جاز التعبير، عن الوجود وعن مؤلفه؛ لذلك يجب أن يكون هناك إله، متفوق على كل الأسباب الثانوية، ليجعل الانسجام بين الفضيلة والسعادة يسود في مكان ما. ومن هناك الله وحياة أخرى. وأخيرًا، لا تزال فكرة الواجب تتضمن فكرة الحق: واجبي تجاهك هو حقك علي، كما أن واجباتك تجاهي هي حقوقي عليك؛ ومن ثم فإن الأخلاق الاجتماعية، والقانون الطبيعي، والفلسفة السياسية، تختلف اختلافًا كبيرًا عن سياسة العاطفة الجامحة وسياسة المصلحة المتعرجة. هذه، في كلمات قليلة، الملامح العامة للنظام الجديد الذي أعطاه كانط لألمانيا وألمانيا لأوروبا. لا شك أن الفلسفة الاسكتلندية حاولت شيئًا مماثلاً، وكان لدى ريد الحكيم، في إدنبرة، نفس أفكار الفيلسوف العظيم كونيجسبيرج تقريبًا؛ ولكن ما كان مجرد مخطط غير حاسم في اسكتلندا أصبح تصميمًا محددًا ومحددًا تمامًا تحت يد كانط القوية. هذه هي الدرجة الأخيرة، أعلى تطور للروحانية في القرن الثامن عشر، والتي تعتبر المدرسة الاسكتلندية درجتها الأولى ونقطة البداية.

فلسفة كانط النظرية

كانط يتوج ويغلق القرن الثامن عشر. ولا أتردد في القول إن هذا القرن، في الفلسفة، هو نفس ما تمثله الثورة الفرنسية في هذا القرن نفسه في النظام الاجتماعي والسياسي. كانط، المولود عام 1724، نشر نقد العقل التأملي الخالص عام 1781، ونقد العقل العملي الخالص عام 1788، والدين وفقًا للعقل عام 1793، والمبادئ الميتافيزيقية للحق عام 1799، وبعد أعمال أخرى، توفي عام 1799 في كونيغسبيرغ عام 1804. إنه ينتمي إلى القرن الثامن عشر، وفي الوقت نفسه يفتتح قرنًا آخر، مدعوًا إلى مصير مختلف تمامًا في الفلسفة كما في السياسة. إنها هذه الفلسفة، التي ولدت في نهاية القرن الثامن عشر، ولكنها تملأ فلسفتنا بالفعل بشهرتها، وتطوراتها ونضالاتها التي لم تكتمل بعد، إنها هذه الفلسفة العظيمة، التي تم النظر فيها بشكل خاص في جانبها الأخلاقي، التي أعتزم صنعها. ومن المعروف إلى حد ما. وسوف أتابعه بالتفصيل، وإذا جاز التعبير، خطوة بخطوة، في المعالم الرئيسية التي تحتوي عليه؛ ولكنني أردت أولا أن أشير إلى طابعها الأعم وعلاقتها بروح الحضارة التي تنبثق منها.

أولا. لست هنا لأقدم ملخصًا لفلسفة كانط، المأخوذة من أعماله المختلفة المستخدمة والمعاد تشكيلها لتكون بمثابة معرض جديد؛ أريد أن أجعل هذه الفلسفة معروفة بشكل أكثر صدقًا وعمقًا. قدر الإمكان، سأدع كانط يشرح نفسه؛ سأحلل تباعًا مختلف الآثار الشهيرة التي تحتوي على نظامه بأكمله: أولًا نقد العقل الخالص، الذي يحتوي على ميتافيزيقاه، ثم نقد العقل العملي الخالص، الذي يحتوي على أخلاقه؛ وأخيرًا، هناك كتابان أو ثلاثة كتابات أخرى تطور نقد العقل العملي الخالص، وتنقل المبادئ العامة للأخلاق الكانطية إلى الأخلاق الخاصة، وإلى الأخلاق الاجتماعية، وإلى القانون العام.

لنبدأ بنقد العقل الخالص. ظهر هذا العمل عام 1781. لقد كان مجلدًا كبيرًا جدًا، تم تأليفه على طريقة مدرسة وولف، بانتظام كبير، ولكن مع مثل هذا الترف من التقسيمات والأقسام الفرعية لدرجة أن الفكر الأساسي ضاع في دائرة تطوراته الطويلة. كما كان من سوء حظها أنها مكتوبة بشكل سيء. وهذا لا يعني أنه لم يكن هناك في كثير من الأحيان ذكاء لا نهاية له في التفاصيل، وحتى من وقت لآخر قطع رائعة؛ ولكن، كما يعترف المؤلف نفسه بصراحة في مقدمة طبعة 1781، إذا كان هناك وضوح منطقي كبير في كل مكان، فإن هناك القليل جدًا من هذا الوضوح الآخر الذي يسميه الجمالي، والذي ينشأ من فن أخذ القارئ من المعرفة المعروفة إلى المجهول، من السهل إلى الصعب، وهو فن نادر جدًا، خاصة في ألمانيا، والذي افتقر إليه فيلسوف كونيجسبيرج تمامًا.

خذ جدول محتويات كتاب نقد العقل الخالص؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك سوى مسألة الترتيب المنطقي، وتسلسل جميع أجزاء العمل، لا شيء أكثر سطوعًا، ولا شيء أكثر دقة. لكن خذ كل فصل في حد ذاته، هنا يتغير كل شيء: هذا الترتيب الصغير الذي يجب أن يحتوي عليه الفصل ليس موجودًا؛ يتم دائمًا التعبير عن كل فكرة بأقصى قدر من الدقة، ولكنها ليست دائمًا في المكان الذي يجب أن تدخل فيه بسهولة إلى ذهن القارئ. أضف إلى هذا العيب أن اللغة الألمانية في هذه الفترة قد وصلت إلى ذروتها، وأعني هذا الطابع التركيبي غير المتناسب للجملة الألمانية والذي يشكل تناقضًا صارخًا مع الطابع التحليلي للجملة الفرنسية. هذا ليس كل شيء: بشكل مستقل عن هذه اللغة، التي لا تزال قاسية وسيئة التدريب على تحليل الفكر، لدى كانط لغة أخرى خاصة به، وهي مصطلحات، بمجرد فهمها بشكل صحيح، تصبح واضحة تمامًا وحتى ذات استخدام مناسب، ولكنها فجأة إن تقديمه دون مقدمات ضرورية، يسيء إلى كل شيء، ويعطي كل شيء مظهرًا غامضًا وغريبًا. كما أن نقد العقل الخالص لم يترك في البداية انطباعًا كبيرًا؛ استغرق الأمر منه عدة سنوات ليشق طريقه؛ وكان من الضروري لبعض المفكرين المجتهدين والمستقلين، بعد دراسة المذهب الجديد، أن يلفتوا الانتباه إليه بشرحه بطريقتهم الخاصة. نشر كانط طبعة ثانية عام 1787، مصححة في عدة نقاط؛ هذه الطبعة الثانية هي الكلمة الأخيرة للمؤلف، وعليها تمت كتابة جميع الطبعات اللاحقة. يسبق كتاب نقد العقل الخالص  مقدمتان، إحداهما من طبعة 1781، والأخرى من طبعة 1787، بالإضافة إلى مقدمة طويلة. هذه القطع الثلاث ذات أهمية قصوى؛ إنها تحتوي على ما قد يكون الأكثر أهمية والأكثر ديمومة في نقد العقل الخالص، أي طريقة المؤلف. الآن، في كل مخترع، في كل مفكر أصيل، هذه الطريقة هي التي يجب البحث عنها قبل كل شيء، لأن هذه الطريقة هي بذرة كل شيء آخر؛ غالبًا ما ينجو من عيوب تطبيقاته.

إن المقدمتين ومقدمة نقد العقل الخالص هما بالنسبة لفلسفة كانط ما يمثله الخطاب حول المنهج بالنسبة لفلسفة ديكارت.

 ولذلك سأحاول أن أجعل هذه الكتابات الثلاث معروفة جيدًا. كان كانط على علم بالثورة التي كان يقوم بها؛ لقد حكم على وقته وفهم احتياجاته. لقد ولدت الدوغمائية العظيمة غير النقدية في القرن السابع عشر ريبية هيوم، وكانت اللامبالاة في الميتافيزيقا كاملة في جميع أنحاء أوروبا. هذه اللامبالاة لم تأت من الرعونة، بل من الإحباط؛ بل كان أكثر وضوحًا منه حقيقيًا، وكان يعني شيئًا واحدًا فقط، وهو أن الميتافيزيقا القديمة ماتت وأن هناك حاجة إلى ميتافيزيقا جديدة. يقول كانط: لقد مر وقت كانت فيه الميتافيزيقا تعتبر ملكة العلوم كلها؛ اليوم مهجورة ومنبوذة،

لقد كانت حكومة الفلسفة في المقام الأول حكمًا استبداديًا، أي حكم الدوغمائيين؛ وبعد الاستبداد جاءت الفوضى، وظهرت روح التمرد تلك التي تسمى الريبية.

في الآونة الأخيرة، يبدو أن بعض الفسيولوجيا الفكرية التي قدمها لوك قد هدأت كل شيء وأعادت كل شيء إلى سلطة واحدة، وهي التجربة؛ لكننا أدركنا أن هذه التجربة المزعومة كانت في حد ذاتها مليئة بالفرضيات، وأن السلطة الجديدة لم تكن أقل من دوغمائية طاغية مثل تلك التي سعى العلم إلى التحرر منها. لذلك، بدا أن جميع السلطات قد تعرضت لإغراءات لا طائل منها، وتبع ذلك آخر أشكال السيطرة وأكثرها حزنًا، وهي اللامبالاة، أم الليل والفوضى. لكن هذه الفوضى، إذا بقيت الطبيعة البشرية بغرائزها وقواها، ما هي إلا مقدمة لتحول قادم وفجر نور جديد. هذه اللامبالاة، التي تسبب اليأس للوهلة الأولى، تستحق التأمل العميق  بين المدارس التي تتصارع منذ قرون في ساحة الخلافات التي لا نهاية لها والتي نسميها الميتافيزيقا، وجمهور عصرنا الذي يعترف بأنه لا يسمع شيئاً عن هذه المناظرات ولا يستطيع الاهتمام بها، وهذا خطأ وغلط. من على حق ؟ ولا نرى أن الجمهور يشمئز من الرياضيات والفيزياء؛ لماذا سيكون أكثر اشمئزازًا من الميتافيزيقا، إذا كانت الميتافيزيقا علمًا قويًا وثابتًا مثل العلمين الآخرين؟ "إن عصرنا هو عصر النقد، الذي لا يفلت منه شيء، لا الدين رغم قدسيته، ولا القانون والدولة رغم جلالتهما".

فلماذا لا نطبق النقد أيضًا على الميتافيزيقا؟

وبهذا لا ينبغي لنا أن نفهم انتقاد هذا النظام أو ذاك. لا ؛ إنها مسألة نقد أعمق، وينطبق على أداة أي نظام، على كل الميتافيزيقا، على ملكة المعرفة، على العقل، الذي يحدد تكوينه الداخلي، ومداه وحدوده أيضًا:

إذا أزلنا هذا النقد، فإن الفلسفة ليست أكثر من نوع من السحر الذي يعلن كانط أنه غريب عنه تمامًا.

تم شجب كل اليقينيات القديمة. لكن هذا لا يعني أن العقل البشري يتخلى عن اليقين. وما زال يطمح إليها؛ لكنه يبحث عنها في طريق آخر. إنه غير مبال بفلسفة المدارس؛ وربما لا يكون ذلك لفلسفة جديدة تقوم على أساس النقد.

ولإقامة هذه الفلسفة الجديدة، وللتوصل إلى هذا اليقين الجديد، يستعرض كانط العلوم الأكثر تقدما، ويبحث عن مبدأ تقدمها، ليعرف مبدأ عدم اليقين الذي لا يزال يسود في الميتافيزيقا.

في الواقع، هناك الكثير من النقاش في الميتافيزيقا؛ نادرًا ما نتجادل في المنطق والرياضيات والفيزياء، أو على الأقل، إذا تجادلنا، ينتهي بنا الأمر إلى الاتفاق. لماذا الرياضيات والمنطق وعلوم الفيزياء تتقدم وتتحسن باستمرار؟

منذ أرسطو، لم يتراجع المنطق؛ لا يوجد في أعماله أي قاعدة للقياس المنطقي، ولا توجد بديهية منطقية ليست غير قابلة للجدل في أعيننا اليوم كما كانت في أعين اليونانيين آنذاك. دعنا نقول كل شيء: لم يقتصر الأمر على أن المنطق لم يتراجع إلى الوراء، بل إنه لم يتحرك حتى إلى الأمام. لقد تمكنا من إضافة أجزاء مختلفة إليه، استطرادًا عن قوى الروح، وأخرى عن أسباب أخطائنا وعلاجاتها؛ ولكنه لا يتزايد، بل هو تشويه للعلوم لتجاهل حدودها والتشويش عليها. إن المنطق السليم لم يخطو خطوة منذ أرسطو، لا إلى الأمام ولا إلى الخلف. لماذا هذا ؟ وذلك لأن المنطق يتعلق بقواعد يمكن اختزالها في قضايا معينة بديهية ومستقلة عن أي تطبيق. وهذه القضايا، إذا اختزلت إلى مبادئها، هي قوانين العقل البشري، قوانين يخضع لها في كل مرة يفكر فيها. إن طبيعة العقل البشري لا تختلف، ولا يمكن أن تختلف قوانينه. ولذلك فهو يطيعها دائمًا وفي كل مكان؛ فهي بالنسبة له أساس لا يتزعزع من اليقين؛ فالخطأ لا يمكن أن يأتي من هناك، بل يجب أن يأتي من مكان آخر. لذلك، عندما نتساءل لماذا يعتبر المنطق علمًا معينًا، يجب أن نجيب: لأنه لا يهتم بأي شيء خاص ومحدد؛ بل هو أنها مستقلة عن تطبيقاتها، وأن فضيلتها تكمن في قوانين العقل ذاتها، التي تعتبر في حد ذاتها ونقية من أي عنصر أجنبي. وهذا أيضًا هو مبدأ اليقين في الرياضيات. وطالما توقفت الرياضيات عند الجزء المتغير من الأشياء القابلة للقياس، فمن المحتمل أنها مرت بعصر من عدم اليقين والتلمس. ولكن بمجرد أن أظهر طاليس، أو أي شخص آخر، بإهمال الجزء المتغير والتعامل فقط مع الجزء الثابت من المثلثات متساوية الأضلاع، الخاصية الأساسية للمثلث متساوي الأضلاع، بدأت هذه الخطوة الأولى في مسيرته. أدت صيغة طاليس إلى اكتشاف آخرين، وشيئًا فشيئًا تشكل علم الرياضيات. مما تتكون؟ في دراسة الخصائص الثابتة، التي لا وجود لها في الطبيعة، والتي هي تصورات للعقل، للعقل، الذي يتصرف وفقا لقوانينه الخاصة على البيانات التي توفرها الطبيعة، وبغض النظر عما هو متغير وغير مؤكد حول هذه البيانات. لقد كان الأمر نفسه مع الفيزياء قبل جاليليو كما كان الحال مع الرياضيات قبل طاليس. كانت الفيزياء القديمة مجرد كومة من الفرضيات. لقد تخلى الفيزيائيون المعاصرون قبل غاليليو عن الفرضيات، ووضعوا أنفسهم في حضور الطبيعة، ولاحظوا وجمعوا الظواهر التي قدمتها لهم. لقد كان شيئًا بالفعل؛ لكن هذا ليس المكان الذي ترجع إليه الفيزياء الحقيقية بعد، فقد بدأت فقط مع غاليليو. وقد تصور جاليليو وآخرون فكرة عدم الاعتماد بعد الآن على الملاحظة البسيطة والتصنيفات السطحية والقوانين التجريبية الناتجة عنها. لقد أدركوا أن الأمر متروك للإنسان ليكون هو الحكم وليس التلميذ السلبي للطبيعة: لقد طرحوا مشاكل جسدية بداهة، ولحل هذه المشاكل، أجروا تجارب وجهوها وفقًا للمبادئ التي اقترحها عليهم العقل. وكان هذا هو السبب وراء اتباعهم، حتى عند العمل في الطبيعة؛ لقد كانت مبادئ هذا العقل هي التي بحثوا عنها في الطبيعة، وعندما أصبحت الفيزياء عقلانية أصبحت علمًا. لكن بدلًا من تفسير كانط، من الأفضل أن نتركه يتحدث عن نفسه هنا.

«بما أن جاليلي قد جعل الكرات تتدحرج على مستوى مائل، وهو الوزن الذي اختاره بنفسه، أو منذ أن جعل توريتشيلي الهواء يحمل وزنًا كان يعلم أنه يساوي عمودًا من الماء كان يعرفه، أو منذ ذلك الحين قام ستال بتحويل المعادن إلى جير، وهذا إلى معادن عن طريق إزالة أجزاء معينة وإضافتها، ومنذ ذلك الوقت تم تسليم الشعلة لعلماء الطبيعة. لقد أدركوا أن العقل لا يصمم إلا ما ينتجه بنفسه وفقًا لمخططه الخاصة، وأنه يجب أن يأخذ زمام المبادرة بمبادئه الخاصة، ويجبر الطبيعة على الإجابة على أسئلتها، بدلاً من أن تترك نفسك تقودها كما لو كنت على الحافة. وإلا فإن الملاحظات العرضية التي تتم دون أي خطة محددة مسبقاً لا يمكن أن تتفق مع بعضها البعض لعدم ارتباطها بقانون ضروري؛ ومع ذلك فإن هذا هو ما يسعى إليه العقل، وما يحتاج إليه. يجب على العقل أن يقدم نفسه إلى الطبيعة، ممسكًا بيد بمبادئها، التي هي وحدها القادرة على منح مجمل الظواهر وانسجامها سلطة القوانين، وبالتجارب التي أسسها وفقًا لهذه المبادئ نفسها، من ناحية أخرى. العقل يطلب من الطبيعة أن تعلمه، ليس مثل تلميذ يسمح لنفسه أن يقال له ما يرضي سيده، ولكن مثل القاضي الشرعي الذي يجبر الشهود على الإجابة على الأسئلة التي يوجهها إليهم. تدين الفيزياء بالتغيير السعيد في منهجها إلى هذه الفكرة: إن العقل يبحث، ولا أقول يتخيل، في الطبيعة، وفقًا لمبادئه الخاصة، عما يجب أن يتعلمه من الطبيعة، وما لا يعرفه لا يمكنه أن يعرف شيئًا بنفسه. هكذا أسست الفيزياء على أرض صلبة من العلم، بعد أن تجولت وتلمست طريقها لقرون عديدة. »

لكن لماذا لا تكون الميتافيزيقا متقدمة مثل الفيزياء العليا والمنطق والرياضيات؟

دعونا نلاحظ أولًا أن الميتافيزيقا ليست دراسة اعتباطية، ولدت من نزوة الكبرياء، ولدينا الحرية في نبذها. إن الله والعالم والنفس والوجود المستقبلي، هي أشياء تثير فضول العقل البشري باستمرار، ويعود إليها باستمرار، لأن طبيعتنا تشعر بالتدهور عندما تهملها. ربما أراد العقل البشري إدانة نفسه والاستسلام، ليس فقط للجهل، بل أيضًا لللامبالاة في الميتافيزيقا؛ واضطر إلى إلغاء الأحكام التي أصدرها ضد نفسه. يجب أن نوافق على حالتنا، وبما أن حالتنا هي أن نكون رجالًا، فيجب علينا إثارة المشاكل الإنسانية. ولكن لماذا يوجد الكثير من الحلول لهذه المشاكل، وكل هذا التنوع في هذه الحلول؟ إذا أُعطيت للطبيعة البشرية أن تجد الحقيقة في الميتافيزيقا، فكيف لم ينجح هذا العدد الكبير من الاشخاص العظماء، والعديد من العباقرة الرفيعين، الذين جعلوا من هذه الدراسة دراستهم؟ باختصار، لماذا كل هذا اليقين في العلوم الأخرى، وكل هذا القدر من عدم اليقين في الميتافيزيقا؟

وإذا أردنا أن نتذكر تقدم العلوم ونختزل مبدأ تقدمها في أبسط صوره، فإننا نجدها تتقدم بشرط إهمال الجزء الخارجي والمتغير من الأشياء التي تعمل بها، والاكتفاء بالاعتبار الجزء الثابت والثابت، أي الجزء الذي يضعه العقل البشري في كل معارفه. إن القوانين التي هي أساس المنطق والميتافيزيقا والرياضيات، والتي تثبت يقين هذه العلوم، ليست سوى قوانين العقل البشري نفسه؛ لذلك، بالمعنى الدقيق للكلمة، في طبيعة العقل البشري، بغض النظر عن أي تطبيق وأي موضوع خارجي، يتم حل اليقين في كل المعرفة الإنسانية. والآن، إذا فحصنا وجهة النظر التي تم النظر من خلالها إلى الميتافيزيقا حتى الآن، فسنرى أننا أهملنا على وجه التحديد ما يمكن وحده أن يجد يقينه، وهو طبيعة العقل البشري وقوانينه التي يتم النظر فيها بشكل مستقل. من الكائنات التي تنطبق عليها. لقد اهتممنا بموضوعات معرفتنا وليس بالعقل الذي يعرف؛ سألنا ما هو الله، هل هو موجود أم لا؟ أنشأنا أنظمة على العالم؛ قارنا الكائنات المختلفة مع بعضها البعض؛ تم ضبط التقارير. لقد استخلصنا النتائج دائمًا من خلال العمل على الأشياء، أي على الوجود الافتراضي. هناك عدد قليل من الفلاسفة الذين اعتبروا المعرفة في علاقتها بالعقل البشري. غير أن هذه كانت الطريقة الوحيدة للوصول إلى شيء مؤكد، والارتقاء بالميتافيزيقا إلى مستوى يقين الفيزياء والرياضيات والمنطق. بعد أن أذهلته هذه الفكرة، تعهد كانط بإدخال موضوع البحث المعرفي الذي كان حتى ذلك الحين يطبق فقط على موضوعاته: فقد قام في الميتافيزيقا بنفس الثورة التي قام بها كوبرنيكوس في علم الفلك. ولما رأى كوبرنيكوس أنه من المستحيل تفسير حركات الأجرام السماوية، إذا افترضنا أن هذه الأجرام تدور حول الأرض الساكنة، جعل الأرض تدور معها حول الشمس؛ وبنفس الطريقة، فبدلاً من جعل الإنسان يدور حول الأشياء، جعل الأشياء تدور حول الإنسان. خذوا روح الإنسان ودستوره الضروري، فكل ما يتبقى لكم من الأشياء هو مفاهيم لا أساس لها من الصحة؛ ستطرح نظرية افتراضية ستطيح بها نظرية افتراضية أخرى لتنقلب بدورها؛ ستتبع الأنظمة والمدارس بعضها البعض دون أن يتقدم العلم، وستسعى الميتافيزيقا، الخاضعة للثورات المستمرة، عبثًا إلى اليقين الذي يراوغها دائمًا. وعلى العكس من ذلك، إذا أخذنا العقل البشري كنقطة انطلاق، وسعينا إلى تحديد طبيعته بدقة ووصف قوانينه ونطاقها الشرعي بدقة، فإننا نعطي الميتافيزيقا أساسًا متينًا. مثل هذا البحث ليس علمًا، بل هو الشرط. يقول كانط: «إن إنكار فائدتها يعني الرغبة في إنكار فائدة الشرطة، لأن الوظيفة الوحيدة للشرطة هي منع العنف الذي يمكن ارتكابه بدونها، والتأكد من أن الجميع يمارسون أعمالهم الخاصة». بأمان. » يعترف كانط أن مثل هذا الأسلوب يمكن أن يطيح بكل الدوغمائية، التي، حسب رأيه، ليست سوى فرضيات للعقل الذي يتصرف بشكل عشوائي ودون انتقاد مسبق لنفسه. نعم، يقول إن النقد سيدمر العديد من الحجج الشهيرة؛ لكنها ستحل محل حجج أخرى لا تتزعزع، لأنها سوف تستند إلى قوانين العقل ذاتها. ويشير إلى الحجج المؤيدة لوجود الله، والحرية، والخلود التي قدمتها الميتافيزيقا القديمة، وتلك التي ستضعها الجديدة في مكانها؛ ويؤكد أن النقد يمكن أن يضر باحتكار المدرسة، ولكن ليس بمصلحة البشرية، لأنه بحد ذاته يصلح الخراب الذي يسببه. وهنا، لن نعترض على كانط بأي شيء مقدمًا، لكننا لن نمنحه شيئًا، ونبدي كل تحفظاتنا، ليس لصالح احتكار المدارس، بل لصالح الحجج التي استخدمتها منذ ألفي عام، والتي ربما ليست عبثية كما يفترض كانط. ومن المناسب تأجيل هذه المناقشة حتى نهاية النقد، وقد أشرنا فقط إلى ادعاءات كانط في هذا الصدد لإظهار مدى وجرأة تصميمه. تشير المقدمتان اللتان قمنا بتحليلهما للتو إلى هذا التصميم بالطريقة الأكثر عمومية؛ ستجعلها المقدمة معروفة بمستوى مختلف تمامًا من العمق والدقة.

ثانيا. يجب أن يقال: هنا تبدأ الصعوبات التي يواجهها العرض الأمين والواضح لأفكار كانط. المقدمة مليئة بالفعل بمجموعة من الفروق، الجميلة والحقيقية، ولكن على ما يبدو دقيقة، معبر عنها بإيجاز غامض في بعض الأحيان وبلغة غالبًا ما تذكرنا بالمدرسة، بسبب شدتها وغرابتها. هذا هو التمييز الأول الذي، على الرغم من أنه لم يتم تحديده والتعبير عنه بوضوح في المقدمة، فإنه يهيمن عليه ويعمل كأساس لنقد العقل الخالص. في كل المعرفة الحقيقية، هناك وجهتا نظر لا يمكن الخلط بينهما. على سبيل المثال، لنأخذ هذا الافتراض: جريمة القتل هذه التي حدثت للتو تفترض وجود قاتل؛ وما هي العناصر التي يتكون منها هذا الاقتراح البديهي؟ هناك في المقام الأول فكرة محددة عن جريمة قتل معينة تُرتكب في ظروف معينة، باستخدام هذه الأداة المحددة أو تلك؛ هناك أيضًا فكرة ليس عن القاتل بشكل عام، بل عن هذا القاتل أو ذاك الذي يجب اكتشافه. هذه عناصر لا جدال فيها، ولكنها يمكن أن تختلف إلى ما لا نهاية، لأن هناك عددًا كبيرًا من الاغتيالات التي تتميز جميعها عن بعضها البعض بآلاف الظروف المختلفة. لكن ألا يوجد شيء آخر في هذه الفرضية: أن هذا القتل يفترض وجود قاتل؟ وليس من الصعب أن نتبين هنا مرة أخرى هذا المبدأ العام الذي تغطيه العناصر الخاصة، ولكنها لا تتضمنها، أي أن كل جريمة قتل تفترض وجود قاتل، وهو مبدأ يرتبط في حد ذاته بهذا المبدأ الأكثر عمومية، والذي يتجاوزه. لم يعد من الممكن العودة إلى الوراء: كل حادث يفترض سببا لهذا الحادث. وهذا هو جوهر الاقتراح المطروح. إنكر هذا المبدأ، ويمكنك الاتفاق على عدم البحث عن قاتل عند وقوع جريمة قتل. ولكن هذا غير ممكن. إن طبيعة هذا العنصر الجديد لا تتغير مع حشد الظروف التي تجعل العناصر الأخرى تتغير باستمرار؛ هذا واحد ثابت ودائما هو نفسه. هذا التمييز حقيقي. كانط، في شغفه بالدقة والدقة في التعبير وكذلك الأفكار، ميزها بكلمتين غريبتين ولكن حيويتين، متجددتين من التجوال والمدرسية. وفي القضية المعنية، وفي أي قضية مشابهة، يطلق على العناصر الخاصة المتغيرة والعرضية، مادة المعرفة، ويطلق اسم الشكل (الصورة) على العنصر العام المنطقي. وهكذا فإن في المعرفة عنصرًا مستعارًا من الظروف، وعنصرًا آخر لا يُقترض منها، بل يُضاف إليها، لتأسيس المعرفة. يتم توفير مادة المعرفة لنا من الخارج ومن خلال أشياء خارجية؛ فالشكل يأتي من الداخل، من الذات القادرة على المعرفة. ويترتب على ذلك أن المعرفة، التي تتميز في المادة والشكل، يمكن أيضًا تمييزها من حيث الذاتية (ذات، ذاتية، ذاتية)، وموضوعية (موضوعية، موضوعية، موضوعية)؛ المعرفة الذاتية، أي التي تأتي من الذات والشكل الذي يعطيه للمعرفة، بمجرد تدخله في المعرفة، والمعرفة الموضوعية، أي التي تولد من الخارج، من الظروف والظروف. من علاقة الموضوع بأشياءه. وفي هذه الفرضية: لا بد من وجود سبب للكون؛ – يجب أن يكون هناك سبب، هذا هو الجزء الذاتي، شكل المعرفة؛ - الكون، هذا هو الجزء الموضوعي، مسألة المعرفة. إن نتيجة هذا التمييز لها أهمية قصوى. وكما أن مادة المعرفة لا تدخل إلى المعرفة الحقيقية إلا من خلال الشكل، فإن الهدف لا يُعرف لنا إلا في الذاتي ومن خلاله: فنحن لا نثبت المبدأ من خلال الموضوع الذي ينطبق عليه؛ فنحن لا ننطلق من الله مثلاً لنصل إلى مبدأ السببية؛ على العكس من ذلك، فإن مبدأ السببية هو الذي يوصلنا إلى فكرة علة العالم؛ ويترتب على ذلك أنه لكي نتقدم بشكل منطقي، يجب على المرء أن يبدأ من الفكر، من الشكل، من الذاتي، وليس من الموضوع ومن الكينونة. وهذا يغير وجه الميتافيزيقا، وتتلقى مدرستان متنافستان نفس الضربة وتقتنعان بعملية شريرة بنفس القدر، وبنقطة بداية افتراضية بنفس القدر. فعندما نقول إنه يجب علينا أن نبدأ من العالم الخارجي لنصل إلى الإنسان، ومن الحواس لنصل إلى الذكاء، أو عندما نفترض أولًا وجود الله ونستنتج منه الإنسان والعالم، فإن كلا الجانبين متساويان في الخطأ. لا يمكن لأطروحة الحسية ولا أطروحة اللاهوت أن تدعم بعضها البعض، لأن كلاهما ينتقل من المادة إلى الشكل، من الموضوع إلى الذات، من الوجود إلى الفكر، من الأنطولوجيا إلى علم النفس، في حين أن العملية المعاكسة هي العملية الوحيدة المشروعة. وإننا نعلن بصوت عالٍ تمسكنا الكامل بهذه الآراء البسيطة والمثمرة المستمدة من أسلوب المراقبة المفهوم جيداً. ونحن نملق أنفسنا بأنهم اليوم راسخون بيننا، ودون الخوض في مزيد من التفاصيل، نعود إلى تحليل المقدمة. لا يمكننا فقط تمييز المعرفة إلى مادية وشكلية، وموضوعية وذاتية؛ ولكن يمكننا أيضًا أن ننظر إليها فيما يتعلق بأصلها، ونتحقق مما إذا كانت كل معرفتنا تأتي أم لا من الخبرة.على هذا السؤال، يجيب كانط بروح قرنه بأكمله على أن كل معرفتنا تفترض الخبرة. لا يمكننا أن نقول بشكل أكثر وضوحا. وقال: «ليس هناك شك في أن كل معرفتنا تبدأ بالتجربة؛ لأنه بأي وسيلة يمكن أن يُطلب من ملكة المعرفة أن تمارس نفسها، إن لم يكن من خلال الأشياء التي تضرب حواسنا، والتي من ناحية تنتج فينا تمثيلات لأنفسها وللآخرين، وتحرك نشاطنا الفكري وتثيرنا. هل يجب مقارنة هذه الأشياء، أو توحيدها أو فصلها، وتنفيذ المادة الإجمالية للانطباعات الحساسة لتكوين هذه المعرفة بالأشياء التي نسميها الخبرة؟ لا معرفة تسبق الخبرة؛ كل شيء يبدأ معها.  لكن كانط يميز بين البداية بالتجربة والقادمة من التجربة. كل معرفتنا تفترض الخبرة؛ لكن الخبرة وحدها لا تكفي لتفسيرها كلها. لنأخذ المثال الذي سبق أن استخدمناه: القتل يفترض وجود قاتل. لو أن التجربة لم تثبت القتل قط، لما خطرت في بال العقل فكرة القاتل؛ ومن ثم فإن الخبرة والتجربة وحدها هي التي يمكن أن توفر هنا المادة اللازمة للمعرفة. ولكن في الوقت نفسه الجزء الشكلي والذاتي الذي يتم التعبير عنه على النحو التالي: كل تغيير يفترض سببًا لهذا التغيير، وهذا الجزء الشكلي، الذي يفترض تجربة هذا التغيير أو ذاك، يتجاوز هذه التجربة. ولا يمكن أن تبدأ بدونها، لكنها لا تشتق منها، لأنه ثبت أن تجربة أي حقيقة لا يمكن أن تعطي العقل البشري فكرة السبب. إن العقل البشري يبحث عن الأسباب، لأن هذه هي طبيعته، ويبحث عنها بمناسبة هذا الظرف أو ذاك. ويترتب على ذلك أن القضية: القتل يفترض وجود قاتل، وهذا الذي يحتوي عليه، كل تغيير يفترض سببا، يحتوي في نفس الوقت على شيء تجريبي وشيء لا يأتي من التجربة. يسمي كانط المعرفة التجريبية أو البعدية ( a posteriori) تلك التي لا تفترض الخبرة فحسب، بل تستمد منها، ويسمي المعرفة القبلية (a priori) تلك التي، على الرغم من أنها لا يمكن أن تنشأ بدون خبرة ، لا تستمد منه وتعطى لنا بقوة العقل وحده. ويجب ألا يكون هناك أي غموض هنا. يقول كانط، إنني أحكم، دون أن أختبر ذلك، أننا إذا أزلنا أساسات هذا البيت فسوف يسقط. صحيح أن هذا الحكم يبدو وكأنه يستبق التجربة، لكنه في الواقع يتبعها؛ لأن كل قوتها تعتمد في النهاية على ملاحظة سقوط الأجسام غير المدعومة. لكن عندما أقوم بهذا الحكم الآخر، مهما كان التغيير الذي قد يحدث، فإن هذا التغيير له سبب بالضرورة؛ لا يتوقع هذا الحكم تجربة المستقبل فحسب، بل إنه لا يرتكز على أي تجربة سابقة، لأن التجربة يمكن أن تظهر أن مثل هذا التغيير له سبب كذا وكذا، ولكن لا يمكن لأي تجربة أن تعلم أن الأمر كذلك بالضرورة. ويشير كانط بحق إلى أنه من المستحيل اختزال فكرة الضرورة هذه إلى عادة، وليدة اتصال دائم: وهذا لتدمير وليس لتفسير مبدأ السببية، الذي، من أجل التصرف، لا ينتظر العادة ويتدخل. في التغيير الأول كما في المائة ليجعلنا نؤكد أنه لا يمكن أن يكون له علة. إن فكرة الضرورة لا تتشكل بشكل مجزأ وبالتفصيل، بل يتم إدخالها بالكامل إلى الذكاء. ألف وألف تعميم متتابع لا تولد ضرورة، فهي تختلف باختلاف مطلق. وبالتالي فإن الحكم بأن كل تغيير له سبب بالضرورة هو حكم لا يستند إلى الخبرة، بل هو حكم مسبق حقيقي.  طيب ! حتى في المعرفة القبلية، التي تحررت من كل الآخرين، لا يزال يتعين علينا التمييز. بادئ ذي بدء، هناك مبادئ يمكن تسميتها بحق بداهة، لأنها لا تقوم على الملاحظة، ولكنها تحتوي مع ذلك على عنصر قدمته الملاحظة؛ هذا هو هذا المبدأ: كل تغيير له بالضرورة سبب. إنه لا يدين بأي شيء للتجربة، بقدر ما يتعلق الأمر بيقينه، ولكنه يحتوي على فكرة التغيير، التي يتصور العقل من خلالها فكرة السبب، ومن الواضح أن فكرة التغيير هذه مستعارة من التجربة. وعلى الرغم من أن مبدأ السببية مبدأ قبلي، إلا أنه يحتوي على عنصر تجريبي. ولكن هناك على الاطلاق مبادئ قبلية مستقلة عن كل تجربة، ولهذا السبب يسميها كانط ملكة خالصة، هذه هي المبادئ الرياضية. والآن، إذا كان صحيحًا أن هناك معرفة مسبقة خالصة في الذكاء، فمن المهم قبل كل شيء البحث في خصائص هذه المعرفة. كانط يختزلهما إلى اثنين، الضرورة والعالمية. لقد أشار إليهم بالفعل، وهنا يحددهم بدقة أكبر. تخبرنا التجربة ما هي الأشياء، ولكن ليس ما لا يمكن ألا تكون عليه؛ فهو يخبرنا ما هي الأشياء في لحظة الملاحظة وفي المكان الذي نحن فيه، ولكن ليس ما هي عليه في كل الأزمنة وفي كل الأماكن. وبالتالي فإن العالمية والضرورة هي الخصائص المحددة للمعرفة القبلية المحضة. وحيثما تكون هذه الخصائص مفقودة، فمن السهل التعرف على المعرفة بعديا. كل المعرفة المبنية منطقيًا على الخبرة مشروطة؛ يمكن أن يكون لها عمومية المقارنة والاستقراء، ولكن ليس مطلقة مطلقة. من خلال ذكر قانون تجريبي، فإنك تقتصر على التأكيد على أنه لم تتم ملاحظة أي استثناء حتى الآن؛ لكن لا يمكنك القول إنها لم تعاني أبدًا ولن تعاني أبدًا من الاستثناء، ناهيك عن أنها لا تستطيع أن تعاني منه. إن القوة فينا التي ترتبط بها المبادئ المميزة بخصائص العالمية والضرورة، المبادئ القبلية المحضة، هي العقل (فيرنونفت)، والعقل الخالص.

 إن الدراسة المتعمقة لهذه الملكة هي نقد العقل الخالص. نحن الآن نفهم معنى ونطاق عنوان عمل كانط.

عندما نرى فيلسوفنا ينخرط في انتقاد العقل الخالص، والمبادئ المرتبطة به والتي لا تدين بأي شيء للتجربة، فإننا نميل إلى الخوف من أنه سوف يضيع في عمق تحليله. عالم المفاهيم المسبقة النقية لا يسمح لنفسه بأن ينقاد إلى الوهم. لكن هذا الخوف لا أساس له من الصحة. وبعيدًا عن منح العقل الكثير، سنرى أن كانط لا يمنحه ما يكفي. من المقدمة، بالكاد لاحظ فينا ملكة معرفة قادرة على إنتاج المعرفة التي ذكرناها للتو، من هذه الخطوة الأولى يسارع إلى تحذيرنا من أن كل هذا يحدث في العقل، في العقل، في الموضوع، أن ويجب أن نكون حريصين على عدم رؤية واقع موضوعي هناك؛ إنه يحتج مقدمًا على ادعاء المثالية بنقل الأفكار خارج سياج العقل الذي يتصورها، ويريد أنه بمجرد التعرف على مفاهيم العقل الخالص، فإننا نكرس أنفسنا للبحث عن الشرعية، وإلى أي مدى، وإلى أي نطاق يجب أن ننسبها. لهم. "العقل"، كما يقول، "لأنه قادر على حمل مثل هذه المبادئ، وقد أسيء استخدامه بمثل هذا الدليل على قوته، لم يعد يرى حدودًا لشغفه بالمعرفة. الحمامة الخفيفة، عندما تطير بحرية في الهواء الذي تشعر بمقاومته، يمكن أن تعتقد أنها ستطير بشكل أفضل في الفراغ؛ وهكذا ينسى أفلاطون العالم المعقول، لأن هذا العالم يفرض حدوداً ضيقة على العقل، ويغامر بتجاوزه، على أجنحة الأفكار، إلى الفضاء الفارغ للفهم الخالص. ولم ينتبه إلى أنه لا يتقدم رغم جهوده، لأنه لا يوجد لديه أي نقطة يسند بها نفسه وينقل الفهم من مكانه الطبيعي. هذا هو المصير الطبيعي للعقل البشري في التأمل: فهو يكمل أولاً صرحه بأسرع ما يمكن، وبعد ذلك بكثير يهتم بمعرفة ما إذا كان أساسه متينًا أم لا. " لذلك نحن بحاجة إلى علم يبحث ويلاحظ، من ناحية، القوى الطبيعية للعقل، ويقيس ويحدد نطاقها الشرعي، من ناحية أخرى. مرة أخرى، هذا العلم هو نقد العقل المحض. يحدد كانط، في الجزء الذي لا يزال يتعين علينا أن نعرفه من المقدمة، الأسس التي يقوم عليها هذا النقد من خلال تحليل متعمق للحكم. يميز كانط بين نوعين من الأحكام. في بعض الأحيان تربط العلاقة السمة بالموضوع باعتبارها متأصلة في الموضوع نفسه، كما تتضمنها طبيعة الموضوع منطقيا وضروريا، بحيث أنك بالتعبير عن هذه العلاقة لا تعبر عن قطعتين مختلفتين من المعرفة، ولكنك تعرض نقطتين وجهة نظر أو شكلين من نفس المعرفة. عندما تقول: كل الأجسام ممتدة، لأنه من المستحيل تصور مفهوم الجسم دون مفهوم الامتداد، ولا مفهوم الامتداد دون مفهوم الجسم، فإنك لا تقول معرفة جديدة، بل تقوم فقط بتطوير المعرفة التي كانت لديك بالفعل. وفي هذه الأحكام تستمد الجزء من الكل، وتثبت الشيء من الشيء، على مبدأ التناقض. ولكن هناك نوع آخر من الأحكام، أحكام نربط فيها بالموضوع صفة لم تكن واردة فيه بالضرورة ومنطقيا، بحيث لا نعود نعبر عن وجهتي نظر لنفس المعرفة أو نفس المعرفة في شكلين مختلفين، ولكننا نعبر عن معرفة جديدة، ونضيف إلى مفهوم الموضوع مفهوما لم يتضمنه. وبقولي: كل الأجسام ثقيلة، فأنا أؤكد لجسم الموضوع صفة لا يحتويها منطقيا. ولم يعد يكفي هنا تحليل الذات لاستخلاص الصفة؛ لأنني حتى لو حللت مفهوم الجسم، فإن مفهوم الجاذبية لن يظهر كجزء لا يتجزأ منه. ولذلك فإن هذه العلاقة ليست علاقة هوية، مثل الأولى، لأنه يتم إعطاء أحد المصطلحين، وليس بالضرورة افتراض الآخر. لم تعد العلاقة هي نفسها، وبالتالي فإن الحكم الذي يعبر عنها لم يعد من نفس النوع الذي تحدثنا عنه سابقًا. يعبر كانط عن هذا التمييز بتسمية الأحكام التي تؤكد نفس الشيء تحليلية، لأنه في الواقع يكفي تحليل أحد مصطلحات العلاقة التي تعبر عنها، لاشتقاق المصطلح الآخر، وبالتالي الحصول على التقرير والتقرير. الحكم، التعبير عن التقرير؛ وهو يسمي الأحكام التركيبية التي تؤكد موضوعًا ما سمة غير واردة هناك منطقيًا، لأنه للعثور على العلاقة، لم يعد الأمر يتعلق بتحليل أحد المصطلحات، ولكن يجب على المرء أن يجمع بين مصطلحين مستقلين منطقيًا، وبالتالي إنشاء تجميع، وهو عبارة عن توليفة من فكرتين معزولتين سابقًا. ولتحديد الفرق بين هذين الحكمين بشكل أقوى والخصائص التي يمكننا من خلالها التعرف على كل منهما، يفرض كانط أيضًا أسماء أخرى ذات أهمية متساوية عليهما. وبما أن الأحكام التحليلية تعمل فقط على تطوير وشرح وتوضيح المعرفة التي لدينا بالفعل، دون إضافة أي شيء إليها، فإنه يسميها أحكامًا تفسيرية. وبما أنه، على العكس من ذلك، فإن الأحكام التركيبية لا تفسر ولا تطور المعرفة المكتسبة بالفعل، ولكنها تضيف إلى هذه المعرفة معرفة جديدة، يطلق كانط على الأحكام التركيبية أحكامًا واسعة النطاق، لأنها في الواقع توسع معرفتنا. يجب علينا الآن أن نميز بين فئتين من الأحكام التركيبية. والقاسم المشترك للأحكام من هذا النوع هو أنها تتعلق بالموضوع صفة لم تكن متضمنة فيه منطقيا. والآن، فإن هذه العلاقة التي نؤكدها بين الذات والصفة، يمكن أن تكون قد أعطيت لنا بطريقتين: إما أن تكون التجربة هي التي كشفت لنا عنها، وإما أن نثبتها تجربة قبلية مستقلة. الأجساد ثقيلة، كل تغير يقتضي علة، هما حكمان تركيبيان، لأنه لم يدخل مفهوم الجاذبية في حكم الجسم، ولا مفهوم السبب في حكم التغيير؛ لكن هذين الحكمين يختلفان في أنه، في الأول، التجربة هي التي شهدت لنا حقيقة العلاقة بين فكرة الجاذبية وفكرة الجسم، بينما في الثاني، ليست التجربة التي استطاع أن يجعلنا نرى حقيقة الارتباط بين فكرة السبب وفكرة التغيير. وفي الواقع، فإن التجربة لا تعطي إلا سلسلة من الحقائق، ولا تعطي أبدًا علاقة مثل علاقة السببية. ولذلك فإن الأحكام الاصطناعية هي من نوعين. فحقيقة البعض تعتمد على الخبرة، ويسميها كانط الأحكام الاصطناعية بأنها أحكام لاحقة؛ فحقيقة الآخرين لا تعتمد على الخبرة، بل على العقل وحده، ويسميها كانط أحكامًا قبلية تركيبية. نفسه. وهكذا، ما لم نحل مبدأ التناقض في التجربة، يجب علينا أن نعترف بأن جميع الأحكام التحليلية هي أيضًا غير تجريبية بداهة. إذا تم تأسيس كل هذه الفروق عند كانط، فنحن الآن في وضع يسمح لنا بتقدير تأكيدين مشهورين، وهما: أن المعرفة الإنسانية كلها مستمدة من الخبرة المحسوسة؛ 2o أن جميع الأحكام الإنسانية تخضع لقانون الهوية. ومن الخطأ أن كل المعرفة الإنسانية تنبع من التجربة الحسية، لأن كل المعرفة تتحول إلى قضية، وكل قضية إلى حكم تحليلي أو تركيبي، قبلي أو لاحق. الآن، أولاً، الأحكام التحليلية مبنية على مبدأ التناقض، وهو ليس مبدأ تجريبياً؛ ثانياً، لا يمكن استخلاص الأحكام المسبقة الاصطناعية من التجربة. وما تبقى هو الأحكام الاصطناعية التي يأتي يقينها من التجربة. لا يزال بإمكاننا الاعتراض عليه عندما تكون هذه الأحكام عامة، أي عندما تنتهي بالاستقراء من الحالات المرصودة إلى الحالات التي يمكن ملاحظتها، لأن هذا الاستقراء يعتمد على مبدأ استقرار قوانين الطبيعة الذي لا تحدده التجربة. إذا لم يكن صحيحًا أن كل معرفتنا مستمدة من التجربة، فليس أقل خطأً أن جميع أحكامنا تخضع لقانون الهوية؛ لأنه، لهذا، سيكون من الضروري، في الأحكام التركيبية القبلية أو اللاحقة، أن يكون حدا العلاقة متطابقين، أي أنه، إذا تم إعطاء أحدهما، تم إعطاء الآخر منطقيًا. والآن، كيف يمكن أن نثبت أنه لا يمكن أن يكون لدينا مفهوم الجسم دون أن يكون لدينا مفهوم الجاذبية؟ كيف يمكننا أن نثبت أن فكرة التغيير تشمل منطقيا فكرة السبب؟ لا الأحكام الاصطناعية القبلية ولا الأحكام اللاحقة الاصطناعية تعبر عن علاقة هوية. وبعيدًا عن أن تكون جميع أحكامنا خاضعة لقانون الهوية، فلا يمكننا أن نعيد إلى هذا القانون إلا أحد أوامر أحكامنا الثلاثة، الأحكام التحليلية. والشيء الفريد هو أن الفلسفة الحسية، التي تعترف بأن كل معرفتنا مستمدة من التجربة، تعترف في نفس الوقت بأن جميع أحكامنا تخضع لقانون الهوية. إنه يأخذ كنقطة انطلاق فريدة في علم النفس الأحكام الاصطناعية والأحكام اللاحقة، وأحكام التجربة، وعندما يتعلق الأمر بالمنطق، فإنه يعطي كأساس لهذا المنطق، مبدأ الهوية أو التناقض. ولكن أحد أمرين: إما أن مبدأ التناقض مستمد من التجربة، أو أننا مضطرون إلى إعطائه أساساً آخر. فإذا كانت مستمدة من التجربة، أصابها طابع العرضية والتقلب، وحينئذ لم يعد منطق الحسية قائما على الضرورة، بل هو متغير مثل الإحساس نفسه، أي لم يعد منطقا. وإذا أكدنا على العكس من ذلك أن مبدأ الهوية ليس مشروطا، بل ضروريا، لكي يكون قادرا على العمل كأساس للمنطق، فإن الحسية غير قادرة على التوفيق بين هذا المبدأ وعلم النفس، ولا يمكنها استخلاص ما هو ضروري من الوجود. فهو مجبر على الاعتراف في تطوراته بعناصر يرفضها عند نقطة البداية. لذلك دمرت فلسفة كانط تمامًا كلاً من علم النفس ومنطق الحسية. بعد أن قسم وصنف كل المعرفة الإنسانية، أي كل أحكامنا، إلى أحكام تحليلية قبلية وأحكام تركيبية، بعضها قبلية، والبعض الآخر بعدية، يدرس كانط نوع الأحكام التي تقوم عليها العلوم المختلفة، ويميز بين وهي نوعان: تلك التي تقوم على الأحكام التركيبية البعدية، أو العلوم التجريبية، وتلك التي تقوم على الأحكام القبلية التركيبية، والتي يسميها العلوم النظرية.

الأول: علوم الملاحظة الصرفة: الملاحظة، والتصنيف، والتعميم، وهو كل جزء من العقل في تكوينها. التاريخ الطبيعي للحيوانات والنباتات والمعادن، وهو جزء من الفيزياء، وما إلى ذلك، يقع ضمن هذا القسم. أما العلوم النظرية فهي الحساب والهندسة والفيزياء العليا والميكانيكا والميتافيزيقا. يثبت كانط أن هذا النوع الأخير من العلوم يعتمد على أحكام مسبقة تركيبية. عندما ندرس عمليات الرياضيات، نذهل عندما نجد نفس العملية تستخدم باستمرار في كل مكان. إنهم يعتمدون دائمًا على مبدأ التناقض؛ ولكن من حقيقة أن هذا المبدأ ملازم لتقدم العلم، استنتجنا أنه أساسه. هذه النتيجة لا قيمة لها. إن مبدأ الهوية لا يولد برهانًا رياضيًا، بل هو الشرط الضروري فقط؛ وبدونها لا تستطيع الرياضيات أن تخطو خطوة، ولكنها لا تتقدم من خلالها. ولو كان هذا هو مبدأ كل الحقائق الرياضية، لكانت هذه الحقائق بمثابة افتراضات تحليلية بحتة؛ لكن كانط يثبت بأمثلة مأخوذة من الحساب والهندسة أن الأمر ليس كذلك.لمعرفة ما إذا كانت هذه القضية: سبعة زائد خمسة يساوي اثني عشر، تحليلية أو تركيبية، يجب علينا فحص ما إذا كان لا يمكننا الحصول على فكرة سبعة زائد خمسة دون أن يكون لدينا فكرة اثني عشر، وفكرة الموضوع دون فكرة الحد الآخر والمعنى. علاقة المساواة التي توحدهم. والآن، بعد أن أضفت سبعة إلى خمسة، أصبحت لديك فكرة اتحاد رقمين في رقم واحد؛ ولكن ما هو هذا العدد الجديد الذي يحتوي على الرقمين الآخرين؟ أنت تعلم أن سبعة وخمسة يشكلان مجموعًا؛ ولكن ما هو هذا المبلغ؟ أنت تتجاهل ذلك. يصبح هذا الجهل أكثر وضوحًا إذا جربنا أعدادًا أكبر. عندما نعمل على كميات صغيرة، فإن عادة الانتقال من الأجزاء المختلفة إلى المجموع، والسرعة التي ندرك بها تساويها، تعطينا وهمًا حول العملية الحقيقية للعقل؛ ولكن عندما نريد دمج عدة أعداد كبيرة في رقم واحد، فإن الصعوبة التي نواجهها في الوصول إلى العدد الإجمالي الذي يحتوي عليها تثبت لنا أننا لا ننتقل من نفس إلى نفس، وأن الأمر بالنسبة لنا بالفعل هو مسألة اكتساب معرفة جديدة. لماذا إذن اعتبرت القضايا الحسابية قضايا تحليلية؟ وذلك لأننا نظرنا إلى عمليات العقل في تكوين معرفته أقل من اهتمامنا بهذه المعرفة في حد ذاتها، بالنسبة إلى موضوعاتها وبشكل مستقل عن العقل. وبما أن سبعة زائد خمسة واثني عشر هي في الواقع أرقام متطابقة، فقد كان يعتقد أن القول: سبعة زائد خمسة يساوي اثني عشر هو انتقال من نفس المعرفة إلى نفس المعرفة. أما إذا كانت فكرة المصطلح الثاني موجودة ضمنا في الأول، فهي غير موجودة صراحة ونفسيا؛ والسؤال هنا هو ما إذا كان لدينا أيضًا فكرة إجمالي الوحدة اثني عشر التي تمثلهما، نظرًا لأن لدينا فكرة الوحدتين سبعة وخمسة. كما أن الحقائق الهندسية ليست حقائق متطابقة. إذا كانت هذه الفرضية: الخط المستقيم هو أقصر خط من نقطة إلى أخرى، تحليلية، فمن الضروري إثبات أن فكرة الخط الأقصر منطقيا واردة في فكرة الخط المستقيم. "لكن فكرة القانون" كما يقول كانط "لا تحتوي على أي فكرة عن الكم، بل عن الكيفية فقط. " وبالتالي فإن حقائق الهندسة هي من الترتيب الاصطناعي. ومع ذلك، يجب علينا التمييز بين نوعين من الحقائق الهندسية، التي كثيرًا ما يتم الخلط بينها، بعضها تحليلي بحت، والبعض الآخر له طابع تركيبي. الأول هو بديهيات الهندسة، والثاني هو مبادئها الحقيقية. البديهيات مثل هذه: - يساوي أ؛ الكل يساوي نفسه. الكل أعظم من الجزء؛ - هذه البديهيات، التي ربما تكون مجرد وجوه مختلفة لمبدأ التناقض، ضرورية للعلم. هل هناك في الواقع نظرية واحدة لا تفترضها؟ هل من الممكن أن نخطو خطوة واحدة في الهندسة إذا اعترفنا فقط بأن الشيء هو نفسه، وأن الكل أكبر من الجزء؟ ولكن، من ناحية أخرى، دعونا نظهر لنا بعض الحقيقة الهندسية التي تأتي مباشرة من هذه البديهيات كما من مبدأها. وبالتالي فإن البديهيات ضرورية وغير منتجة. على العكس من ذلك، خذ الحقيقة الأخيرة في الهندسة، وابحث عن مصدرها؛ إنها تأتي من الحقيقة السابقة، والتي بدورها تأتي من حقيقة سابقة، وكل واحدة منها تظهر لك بدورها مبدأ ونتيجة، سيتعين عليك العودة من نظرية إلى نظرية حتى الحقائق الأولى التي لها سببها وهي في ذاتها مبادئ، دون أن تكون نتائج، أي حتى تعريف المثلث، الزاوية، الدائرة، الخط المستقيم. التعاريف وحدها مثمرة. بدون البديهيات، العلم مستحيل، لكنها لا تصنع العلم؛ وبدونها لا يجوز إقامة مبدأ، واستنباط نتيجة، ولكنها ليست هذه المبادئ ولا هذه النتائج. ولذلك فإن هناك حقائق هندسية تقوم على مبدأ التناقض، أما المبادئ الهندسية الحقيقية فهي تعريفات، أي أحكام تركيبية قبلية. مبادئ الفيزياء العليا لها نفس الطبيعة. وأخذ المثالين اللذين قدمهما كانط: - في أي تغيير في العالم المادي، يجب أن تظل كمية المادة كما هي؛ في أي اتصال للحركة، يجب أن يكون الفعل ورد الفعل متساويين. — من الواضح أن هذه أحكام تركيبية، لأن فكرة المادة لا تعني على الإطلاق أن كمية المادة هي نفسها في جميع التغيرات؛ وبنفس الطريقة يمكننا أن نحصل على فكرة الحركة دون أن نستنتج أن الفعل ورد الفعل متساويان دائمًا. أضيف من جهة إلى فكرة المادة، ومن جهة أخرى إلى فكرة الحركة، مفاهيم لم تكن واردة هناك، وأصدر حكمًا تركيبيًا. علاوة على ذلك، فإن هذا الحكم له طابع العالمية، والضرورة، وبالتالي فهو ليس نتيجة للتجربة؛ ولذلك فهو اصطناعي بداهة. ليس من الصعب أن نقنع أنفسنا بأن الميتافيزيقا تعتمد أيضًا على أحكام مسبقة تركيبية. هناك، وفقًا لكانط، ميتافيزيقا طبيعية كانت دائمًا، وستظل كذلك دائمًا، وهي الفضول المتحمس لرؤية الأسئلة التي يطرحها الذكاء البشري إلى الأبد بوضوح؛ هذه الأسئلة هي الله، والنفس، والعالم، وأبديته أو بدايته، الخ. هذه هي موضوعات الميتافيزيقا. ومبادئه هي نفس المبادئ التي يحاول الذكاء البشري بمساعدتها حل الأسئلة التي لا يمكنه الهروب منها؛ ويكفي أن نذكر بعضها: كل ما يحدث له سبب؛ كل ظاهرة، كل نوعية تفترض موضوعا؛ كل حدث يتطلب وقتا؛ أي جسم أو مساحة أو ما إلى ذلك. والآن تمعن في هذه المبادئ، تجد أنها ليست أقل من أحكام قبلية تركيبية، لأن الحد الثاني من العلاقة الذي تعبر عنه هذه الأحكام لا يدخل في الأول بأي حال من الأحوال؛ فلا الزمن ينحصر في الحدث، ولا المكان في الجسد، ولا الذات في الصفة، ولا العلة في الواقع الذي يبدأ بالظهور؛ وبالتالي فإن هذه الأحكام ليست تحليلية؛ وليست التجربة هي التي تُدخل إلى الذكاء مفاهيم السبب، والمادة، والزمان، والمكان، وما إلى ذلك. ; هذه مفاهيم مسبقة؛ وبالتالي فإن الأحكام التي تحتوي عليها هي أحكام مسبقة تركيبية. يجب أن يكون واضحًا تمامًا الآن أن جميع العلوم التي تستحق اسم العلوم النظرية مبنية على أحكام مسبقة تركيبية؛ ويبقى أن نرى كيف تكون مثل هذه الأحكام ممكنة، وبعبارة أخرى، كيف توجد أحكام تحتوي على عنصر مستقل عن كل تجربة، وما هي القيمة التي يمكن أن تكون عليها هذه الأحكام. وهذا السؤال ليس أقل من قيمة العقل الخالص، صاحب هذه الأحكام. هيوم هو واحد من كل الفلاسفة الذين تجرأوا على تناول هذه المسألة بأكبر قدر من الحزم، ولكن تحت جانب واحد فقط من جوانبها، وهو مبدأ السببية الشهير، ونحن نعرف كيف حلها. رأيه. في الواقع، إذا كان هيوم يرفض فكرة الضرورة المتضمنة في مبدأ السببية، كان عليه أيضًا أن يرفضها من المبادئ الأخرى التي تتضمنها أيضًا، كان يجب عليه أن يرفض أي حكم تركيبي قبلي، أي الرياضيات البحتة والفيزياء العالية. وهي نتيجة متطرفة ربما كانت ستبقي هذا العقل الممتاز على منحدر الشك. ولما كانت الأحكام التركيبية موجودة، فهي إذن ممكنة، وكذلك الأمر بالنسبة لعدد معين من العلوم النظرية التي تقوم على هذه الأحكام. يجب أن تكون الرياضيات البحتة والفيزياء البحتة ممكنة، لأنهما موجودتان، لكننا لا نستطيع أن نعطي نفس الإجابة على الميتافيزيقا؛ لقد حققت حتى الآن الهدف الذي حددته لنفسها قليلاً جدًا بحيث لا يمكن حرمان أحد من حقه في إثارة هذا السؤال: كيف تكون الميتافيزيقا ممكنة؟

إذا كنا نعني بالميتافيزيقا الاستعداد الطبيعي للعقل البشري لطرح وحل عدد معين من المشاكل، فيجب علينا بالتأكيد أن نجيب على أن الميتافيزيقا ممكنة، لأنها كذلك؛ ولكن، وفقًا لكانط، فإن جميع الأنظمة المولودة من هذا التصرف الطبيعي معيبة جدًا وغير مرضية لدرجة أنه لا يجوز تسميتها باسم العلم؛ لذلك، إذا كنا لا نعني بالميتافيزيقا الاستعداد الطبيعي، بل العلم الحقيقي، فإننا مضطرون إلى الإجابة على أن الميتافيزيقا غير موجودة. ولكن في الوقت نفسه، لا يتردد كانط في إعلان أن ذلك ممكن؛ إنه يخاطب الحاجة الأبدية للطبيعة البشرية؛ إنه يقارن الميتافيزيقا بالنبات الذي يمكننا أن نقطع منه جميع البراعم التي نمت حتى الآن، ولكن لا يمكننا اقتلاع الجذور منها. فهو إذن لا ييأس من اعتبار الميتافيزيقا علما، بل يؤجلها إلى المستقبل، ولا يريد إلا أن يضع أسسها ويتحقق أداتها. هذه الأداة هي العقل الخالص، مع القوى الموجودة فيه؛ هذه الأسس هي أحكام مسبقة اصطناعية يتطورها العقل الخالص مع تطور نفسه. وبقدر ما تبلغ قيمة هذه الأداة وهذه الأسس، فإن الصرح بأكمله سيكون له قيمة فيما بعد. ولذلك فإن نقد العقل الخالص ليس في الحقيقة سوى مقدمة للعلم. ومهمتها واسعة جدًا ومحدودة جدًا في نفس الوقت: محدودة جدًا، لأن الأمر لا يتعلق هنا بموضوعات العقل اللامحدودة، بل يتعلق بالعقل وحده؛ واسعة جدًا، لأننا يجب أن نتبع هذا العقل في كل تطوراته، بشرط ألا تكون هذه التطورات لها علاقة بالتجربة والحواس، وأن تحافظ على طابع النقاء هذا الذي يشكل أحكامًا قبلية تركيبية. الآن، كما يحلو لكانط، في اللغة التي ابتكرها، أن يطلق على الفلسفة المتعالية ما يحمل الطابع المزدوج المتمثل في كونه مستقلاً عن الخبرة وعدم تطبيقه على الأشياء الخارجية، فهو يسمي الفلسفة المتعالية النظام المثالي للبحث الذي يرتبط بالأشياء الخارجية. معرفة مسبقة. ما يقوم به هو مقال بسيط، رسم تخطيطي لمثل هذه الفلسفة. - قال إنه لا يزال يتعين صنع عضو جديد لا يكون مثل أرسطو ولا بيكون، والذي سيكون عضوًا للعقل الخالص. هذا النقد هو شريعة هذا العضو الجديد. علاوة على ذلك، لا يتردد كانط في الاعتراف بذلك: يجب أن يكون النقد إصلاحًا كاملاً وجذريًا للفلسفة، وبالتالي لتاريخ الفلسفة نفسها، لأن النقد وحده يمكنه أن يزود التاريخ بمحك حجري معصوم من الخطأ لتقدير قيمة الأنظمة. وبدونها، ماذا يستطيع المؤرخ أن يفعل سوى إعلان كذب ادعاءات الآخرين، باسم ادعاءاته التي ليس لها أساس آخر؟

توضح المقدمة بوضوح السمات الرئيسية لهذه الشركة العظيمة. وما يلفت النظر هناك، للوهلة الأولى، كما في الخطاب حول المنهج، هو جرأة الفكر وطاقته. يقدم كانط نفسه علانية باعتباره ثوريا حقيقيا. فهو، مثل ديكارت، يحتقر كل الأنساق قبل نقده؛ إنه يعبر عن ماضي الفلسفة باللهجة الحادة والرائعة لفلاسفة القرن الثامن عشر. وفي حديثه بهذا الازدراء لكل الأنساق التي سبقته، وتقديمها ككتلة من الفرضيات الاعتباطية، التي لا تكاد تحتوي على بعض الحقائق كما لو كانت صدفة، لا يخطر بباله مرة واحدة أن واضعي هذه الأنساق، إنهم اشخاص أو أقرانهم أو رؤسائهم، أفلاطون، أرسطو، ديكارت، لايبنتز. لكن لماذا يحترم العبقرية؟ ولا يتعلق الأمر حتى بالطبيعة البشرية. إنه يمنحه نزعة فطرية تجاه الميتافيزيقا، لكنها نزعة مؤسفة، والتي لم تنتج حتى الآن سوى الوهم، وهو يتملق نفسه، في نهاية القرن الثامن عشر، لأنه بدأ لأول مرة الميتافيزيقا الحقيقية، بعد ثلاث سنوات. ألف سنة من الجهود غير المجدية. قد يميل المرء إلى الافتراض، في مثل هذا التصميم، وراء مثل هذه الكلمات، فخرًا هائلًا. مُطْلَقاً. وكان كانط أكثر الرجال تواضعاً وحذراً؛ ولكن روح عصره كانت فيه. وبعد ذلك لا نقوم بالثورات بادعاءات صغيرة، وكانط يريد أن يحدث ثورة في الميتافيزيقا. مثل أي ثورة، كان على هذه الثورة أن تعلن عبثية كل ما سبقها، وإلا فما كان علينا إلا أن نفكر في تحسينها، وليس تدمير كل شيء من أجل تجديد كل شيء. كانط، مثل ديكارت، الذي يجب مقارنته به باستمرار، مشغول بأسلوبه، لا يرى إلا في كل مكان. ليس من عبقريته أن يكون لديه رأي عظيم، بل من عبقريته. وهنا يرتقي، وهنا ينتصر. قال ديكارت في مكان ما إنه بمقارنة نفسه بالناس الآخرين، وجد نفسه متفوقًا على عدد قليل جدًا وأدنى من الكثيرين، وأنه يدين بكل شيء لطريقته. كما أن سقراط، قبل كانط وديكارت بألفي سنة، ربط كل شيء بأسلوبه الذي كان في الأساس نفس أسلوب الفيلسوف الفرنسي والفيلسوف الألماني.  هذا الأسلوب هو الصحيح، وهو الأسلوب النفسي الذي يتكون من البدء بالإنسان، بالذات التي تعرف، بدراسة قوة المعرفة وقوانينها ونطاقها وحدودها. لقد وُلِد مع سقراط، وتطور مع ديكارت، واكتمل مع كانط، ومع الثلاثة ينتج في كل مرة ثورة قوية. لكن ليس من حق الرجل نفسه أن يبدأ ثورة وأن ينهيها. لم يكن سقراط أفلاطون ولا أرسطو، بل كان أبًا لكليهما. وديكارت بدوره ليس لايبنتز، وكانط، الذي بدأ الفلسفة الألمانية، لم يحكمها ولم يكملها. ولا تزال هذه الفلسفة تعمل، ولا يبدو أنها وصلت إلى تطورها النهائي. والأسعد من ذلك، أن الثورة الفرنسية، التي ولدت في نفس الوقت الذي ولدت فيه الثورة الفلسفية في ألمانيا، انطلقت من نفس النقطة تقريبًا، من إعلان الحقوق البدائية والأبدية للإنسان بشكل مستقل عن كل المجتمع، وعن كل التاريخ، كما هو الحال مع الآخر. قوانين العقل البشري الخالصة، بشكل مستقل عن كل التجارب، والتي تعلن على حد سواء ازدراء الماضي والآمال الأكثر فخرًا، مرت خلال سنوات قليلة بتقلباتها الضرورية، ونحن نراها اليوم قد وصلت إلى ديمومتها، مخففة ومنظمّة في الميثاق الذي يحكمنا. ميثاق فلسفة القرن التاسع عشر لم يُكتب بعد. لم يتم استدعاء كانط لهذا العمل؛ كان موقفه مختلفًا تمامًا: كان عليه أن يقوم بثورة ضد كل الدوغمائيات الكاذبة، وضد الفرضيات العظيمة لمثالية القرن السابع عشر، وضد الفرضيات التافهة والتعسفية أيضًا للحسية في عصره؛ وقد أنجز هذا المشروع بفضل هذا الأسلوب الذي عرفت شخصيته للتو من المقدمتين ومقدمة نقد العقل الخالص. ربما سنحاول مرة أخرى تناول هذا النقد نفسه، وتعريف قراء المجلة بالجزء الداخلي من هذا النصب التذكاري العظيم."

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.....................

المصدر

Victor Cousin, Kant et sa philosophie, « Revue des Deux Mondes », no 21, 1840

تكالبت الأحزاب مجتمعة على المسلمين في غزوة الخندق في جيش كبير تعداده عشرة الآلاف مقاتل بالمقارنة مع جيش المسلمين الذي لا يتعدى حينها ثلاثة الآلاف، تأمر كبير وحقد مستشري في نفوس من تأمروا على الإسلام والمسلمين في المدينة المنورة من قبائل العرب ويهود بني النضير فقد تجاوزوا المواثيق ونقضوا العهود التي أبرموها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، عانى المسلمين أوضاع قاسية وبرد شديد وجوع، " فلما تجمع أصحاب الأحزاب لقتال المسلمين بالمدينة، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ليستشيرهم في كيفية الدفاع عن المدينة وصد الأعداء، فأشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، حيث قال: يا رسول الله: إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام على هذه الخطة الحكيمة التي لم تكن معروفة لدى العرب، فكانت بحمد الله تعالى من أسباب صد الأحزاب وفشلهم في تلك الغزوة. .[1]

فكان هذا الرأي السديد في المشورة وأعطى الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر والتعليمات  للعمل لأصحابه وجنوده بحفر الخندق وخطط له في توزيع المهام بحيث يحفر كل عشرة أشخاص أربعين ذراعاً (والذراع يساوي 45.72 سم)، أي كل عشرة يحفرون ما مقداره (18 متراً)، وكان صلى الله عليه خير قدوة وجندي في الميدان يحفر ويحمل التراب على ظهره حتى أن كشف عن صدره عليه السلام و ظهر منه شعر صدره وكان كثيفاً. أما غزوة الخندق (تسمى كذلك غزوة الأحزاب) وقعت في شهر شوال من العام الخامس من الهجرة (الموافق مارس 627م) بين المسلمين بقيادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والأحزاب الذين هم مجموعة من القبائل العربية التي اجتمعت لغزو المدينة المنورة والقضاء على المسلمين والدولة الإسلامية. سميت هذه الغزوة بهذا الاسم لأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم.[2]. فسارعوا إلى عمله حتى فرغوا منه، وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار كانت عشرين يوماً، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل والحجارة ، وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم فكان سبب موته. وأن هزيمتهم أن نعيم بن مسعود الأشجعي ألقى بينهم الفتنة فاختلفوا، وذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك . ثم أرسل الله عليهم الريح فتفرقوا، وكفى الله المؤمنين القتال .[3]. وأن طول الخندق كان خمسة آلاف وخمس مائة وأربعة وأربعين متراً ـ5544ـ ومتوسط عرضه أربعة أمتار فاصلة اثنين وستين ـ 4.62 ـ  ومتوسط عمقه ثلاثة أمتار فاصلة ثلاثة وعشرين ـ3.23.[4]

فقد تصدى عليه الصلاة والسلام والمسلمون للأحزاب المتحالفة ضدهم، وذلك عن طريق حفر خندق شمال المدينة المنورة لمنع الأحزاب من دخولها، ولمَّا وصلت الأحزابُ حدود المدينة المنورة عجزوا عن دخولها، فضربوا حصاراً عليها دام ثلاثة أسابيع، وأدى هذا الحصار إلى تعرِّض المسلمين للأذى والمشقة والجوع. وانتهت الغزوة بانسحاب الأحزاب وذلك بسبب تعرضهم للريح الباردة الشديدة، ويؤمن المسلمون أن انتصارهم في غزوة الخندق أن الله تعالى زلزل أبدانَ الأحزاب وقلوبَهم، وشتت جمعَهم بالخلاف، وألقى الرعبَ في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده.[5]

رؤية القيادة لبيئة العمل وتوزيع أدواره:

نجح مشروع حفر الخندق تمامًا وكان عملًا جماعيًا ضخمًا، وهناك ضوابط جعلته ينجح، فقد أدار الرسول عليه الصلاة والسلام المشروع بكفاءة غير عادية، فقد وضع قواعد ناجحة في إدارة الأعمال الناجحة والمتميزة من خلال مشاركة القائد في العمل جبناً إلى جنب مع أتباعة وجنوده، وقام بتوزيع المهام بدقة متناهية على الجميع والإحاطة بأسلوب الجدة في العمل رغم الظروف الصعبة والأجواء المناخية الباردة وشديدة الرياح العاتية واللين والرفق والدنو والحنو عليهم، بالإضافة لرفع الهمة وبناء الأمل في النفوس.[6]، حيث أشار أحد الصحابة الكرام " رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الخَنْدَقِ وهو يَنْقُلُ التُّرَابَ حتَّى وارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وكانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ، وهو يَرْتَجِزُ برَجَزِ عبدِ اللَّهِ اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ ما اهْتَدَيْنَا... ولَا تَصَدَّقْنَا ولَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا... وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا إنَّ الأعْدَاءَ قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا... إذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبيْنَا يَرْفَعُ بهَا صَوْتَهُ".[7]

ومن شدة الجوع وقلة الطعام قد ربطوا على بطونهم الحجارة، ناهيك عن تثبيط المنافقون في أدوارهم الواهية والشائنة ، فكانوا يتأخرون في العمل وينشرون الإحباط والتثبيط في نفوس المسلمين وإضعاف عزائمهم ومعنوياتهم، ويتسللون هاربين بدون إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم ، يذهبون إلى أسرهم وأهليهم، وفي خضم حفز الخندق وما لاقاه المسلمين من نصب وتعب وجوع  حدثت مواقف ومعجزات عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فمنها ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نحفر الخندق، فعرضت لنا كدية؛ أي حجر كبير، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عجزوا عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب الحجر على ضخامته، فما كان من الحجر إلا أن كان كثيبًا؛ أي رملًا لينًا، فحفروه، فسبحان من قدرته عمَّت كل شيء.[8]

القائد النموذج بين أتباعه وجنوده:

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول ثم قال: بسم الله، فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا.[9]

إن الظروف التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من تأمر وتكالب وظروف شديدة القصوة استمرت لستة ايام في حفر الخندق لكي يحميهم ويصد عدوهم من النيل منهم والأنتصار عليهم ، ورغم ما عانوه من كافة الظروف والمعطيات المحيطة بهم ، صبروا وتحملوا في أجواء محفزة و طاقات إيجابية عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم النموذج والأسوة الحسنة، حيث أن القائد أو من يتحمل مسؤولية العمل ويشارك أتباعه الهموم والتعب والجهد بنفس راضية وصبر جميل، كان يبث فيهم أشعاراً محفزة وكلمات ينبعث منها الأمل وتحريك الطاقات.

استلهام بث الأمل ونشر التحفيز بين الأفراد والجماعات:

فقد شرع المسلمون في حفر الخندق في أجواء باردة، ورسول الله معهم يحفر ويحمل التراب بنفسه، وقد جعل لكل عشرة منهم أربعين ذراعًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما بهم من النصب والتعب حفزهم وأدخل في نفوسهم النشاط والحماس بمثل قوله: اللهمّ إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة، فيجيبون قائلين:  نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الجهاد ما بقينا أبدًا.  وهكذا تجاوبت المشاعر المليئة بالإيمان والنفوس العظيمة بالعزيمة والإصرار والتحمل والجلد. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته يحمل من تراب الخندق حتى وارى عنه التراب جلدة بطنه وكان كثير الشّعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة وهو ينقل التراب يقول:

اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا

ثم يمد صوته باخرها، يعني بقول: أبينا. أبينا .

ولا تسل عما كانت تصنعه هذه الكلمات المؤمنة العذاب في نفوسهم من مضاعفة الجهد، والاستهانة بالنصب والتعب، وبهذا العمل الدائب أتموا حفر الخندق في ستة أيام، وقد استعانوا بالأحجار الصلبة فاتخذوا منها متاريس يتحصنون بها.[10]

تأمل معي الاستراتيجية التحفيزية التي قام النبي على أصحابه بتخفيف وطأة المشقة والجوع بترديد الشعر[11]: " لقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم تعبٌ وجوعٌ وبرد ، لأنه كان في زمن عسرةٍ وعام مجاعة، ولما رأى صلى الله عليه وسلَّم ما بأصحابه من النصبِ والجوع، قال متمثِّلاً بقول عبد الله بن رواحة ـ أحد أصحابه وكان شاعراً ـ كان عليه الصلاة والسلام في أثناء الحفر يقول:   اللهم لا عيْشَإِلا عَيْشُ الآخِرَةِ     فَأَصْلِحِ الأَنْـصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ

[من صحيح البخاري عن أنس بن مالك]

اللهمَّ لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة    فارحم الأنصار والمهاجــرة

اللهمَّ لا خيرَ إلا خيرُ الآخـرة    فبارك في الأنصار والمهاجرة

اللهمَّ إن الأجر  أجر الآخـرة    فارحم الأنصار والمهــاجرة

اللهمَّ لا  خيرَ إلا خيرُ الآخرة     فانصر الأنصار والمهـاجرة

***

فهذا الشعر الذي يبُثُّ الحماس في نفوس أصحابه، ويخفِّف عنهم متاعب الجوع والخوف والبرد والجهد الشاق ، فأجابوه رضي الله عنهم:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا    عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا

[ من صحيح البخاري: عن أنس بن مالك]

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم وهو ينقل التراب ، وقد وارى التراب جلد بطنه الشريف ، متمثلاً قولَ ابن رواحة :

وَ اللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا     وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَـا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَـــا     وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَـا

إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَـلَيْنَا      إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَــا

وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ:

أبَيْنَا أَبَيْنَا

[من صحيح البخاري عن أنس بن مالك]

وأعاد أبينا ثلاث مرَّات:

إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَــا

أبَيْنَا أَبَيْنَا

هكذا قال الله عزَّ وجل:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)﴾ .

(سورة الشورى)

ومع ذلك فرغوا بعد معاناة من الحفر والتعب والبرد والجوع من حفز خندق طوله خمسة الآف ذراع وعرضه تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع في ستة أيام في بيئة مجهدة لكنها محفزة وقريبة من النفوس العظيمة التي تدافع عن نفسها في ظل قيادة حكيمة تتسم بالتشاور وأخذ أراء الأتباع والأفراد والجماعات، وتعمل بكد وجهد مضني وبث روح البسمة والتحفيز في النفوس من خلال الأشعار والكلمات التي تحرك الجماد قبل الإنسان بالرغم من أنها تتعرض لأجواء باردة وبطون فارغة، وبث فيها روح الأمل عندما اعترضت صخرة كبيرة جاء القائد لزرع المستقبل المشرق في نفوس الأفراد والجماعات عندما خرجت شرارة قال كذا وكذا .

أي بيئة رائعة تلك التي يبث فيها روح وطاقات إيجابية ومستقبل أخاذ رغم المعاناة وتأمر المتآمرين وخذلانهم، فقمة النصر أن تتغلب على ذاتك وتخرج الطاقات الكامنة للعمل والإنجاز والتميز والتفوق والنصر في نهاية المشاور، انهزم الأحزاب وفروا من حيث أتوا هاربين تتسم نفوسهم بالضعف والهوان والهزيمة رغم كثرة العدد والعتاد. إنها معالم الصبر والجلد والإيمان الحقيقي بالقيادة و أفرادها وما تملكه من قدرات وطاقات خلاقه تحول الهزيمة إلى نصر وتمكين وغلبة.

فقد كانت القيادة التي تولاها الرسول صلى الله عليه نموذج فعال ومتميز من حيث إدارته للواقع الذي كانوا فيه، من مشورة وإعطاء مساحة للخبرات والآراء المتميزة في التعبير عن الموقف السديدة والرشيد لمصلحة عمل الجميع ونجاحه، تخطيط عالي المستوى في توزيع المهام وتنفيذ الأفكار المطروحة دون تأجيل أو تسويف، مشاركته عليه الصلاة و السلام في الحفر ومساندة جنوده وإتباعه فهو واحد منهم لا يفرق القادم إليهم أن هذا قائد وذاك جندي أثناء أداء المهام و العمل، إضفاء الروح المرحة والأناشيد والشعر الذي كان يردده أمام أتباعه فما هو إلا تحفيز وبناء للهمة والجلد وقضاء الساعات والأيام في مرح وتسلية ودعابة وأجواء احتفالية رغم البرد والتعب والجوع الشديد الذي نال من الجميع دون استثناء، ومع ذلك يستمر العطاء والجهد دون توقف، بل أكثر من ذلك كان القائد عليه الصلاة والسلام نموذجاً فريداً في تحدي الصعاب عندما كان يعجز أصحابه أداء بعض الأعمال، كان يتصدى له ويتعامل معه بحكمه وصبر وجلد، ورغم الواقع المرير خاطب أصحابه عن الآمال المستقبلية التي ذكرها لأصحابه في الفتوحات التي القادمة، عندما قال عليه الصلاة والسلام (الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)[12]، ناهيك عن تعامله بتحييد للمنافقين الذي كانوا يتسللون إلى بيوتهم دون استئذان منه صلى الله عليه وسلم ، وكان هؤلاء المتخاذلين من المنافقين عندما كان يبشر أصحابه بالفتوحات القادمة أردوا أن يبثوا روح الهزيمة في نفوس المؤمنين بقولهم " كنا لا نأمن على الذهاب للخلاء من شدة الرهب والخوف ويبشرنا بفتوحات للشام والفرس". على العكس من المؤمنين الطائعين الذي ما برحوا مكاناً إلا طلبوا أذنه عليه السلام من قوة إيمانهم وإخلاصهم وتفانيهم في دعوتهم ورسالتهم.

بيئة العمل الجاذبة في منظماتنا:

من حسن الطالع أن نسهم في الإجادة في توفير بيئة عمل جاذبة ومحفزة في منظماتنا عندما نعتبر غزوة الأحزاب وتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجاً راقياً للقائد الذي حرص في توفير بيئة ويعتبر نفسه جزءاً أساسياً وعضواً فاعلاً في العمل يقوم بتوزيع الأدوار ويعطي كل فرد مسؤوليته ويعمل بنفسه ويتعايش مع أفراده ويكون قريباً منهم يشد من أزهم ويدعم حضورهم وعملهم ويتعاطف مع همومهم وتعبهم وجهودهم ويتصدى لكل الصعوبات التي تعترض أصحابه والقريبين منه، يحمل هموم أتباعه وأعضاء مجتمعه من بث الإيجابية والأمل في نفوسهم رغم التعب والنصب والجوع، ويحفزهم بكلمات وأشعار لها أثراً كبيراً في الأعضاء العاملين معه، ويمنيهم بالمستقيل المشرق بفتوحات لليمن والشام وفارس بالرغم من أنهم محاصرون ومرهقون وجائعون، فالتحدث عن المستقبل ربما يبدد كل هم وضيق وقلق وتجعل العاملين والأعضاء لهم رؤية ثاقبة وهمة عالية للنجاح في العمل وإنجازه وامتلاك الروح القوية والمنعة في التصدي للغزاة والمنافسين والتحديات التي يفرضها واقع الحال، بالإضافة لمشورة الأعضاء وإعطائهم دوراً في الاستفادة من خبراتهم ومعارفهم واستخراج وتوظيف قدراتهم ومواهبهم عندما استجاب لرأي وفكرة سلمان الفارسي رضي الله عنه في حفر الخندق و دهاء نعيم بن مسعود في نشر الفتنة وتفريق الأعداء وإضعافهم، ناهيك عن استخدام عنصر التجاهل للمنافقين الذين يتسللون إلى بيوتهم دون إذن منه عليه السلام، وكأنه يعطينا درساً أن التركيز على الأشخاص الإيجابيين والمخلصين يبدد كل ضعف أو انهزامية عند البعض وقتل ممارساتهم وأفعالهم التي لا ترقى للفعل الحسن والسلوك القويم والسليم.

***

د. أكرم عثمان - مستشار ومدرب في التنمية البشرية

2024

................................

[1] https://www.islamweb.net/ar/fatwa/39817

[2] https://islamonline.net

[3] https://www.islamweb.net/ar/library/index.php?page=bookcontents&idfrom=2218

[4] https://www.islamweb.net/ar/fatwa/132835

[5] https://islamonline.net

[6] https://www.alshareyah.com

[7] رواه البخاري ومسلم

[8] https://www.alukah.net/sharia/0/158187/

[9] رواه أحمد

[10] https://www.alshareyah.com

[11] http://www.quran-radio.com/?page=details&newsID=1379&cat=184

[12] رواه أحمد

نفتتح القول بدرة من درر الفيلسوف الرازي طاب ثراه.  يقول:

"القول بترجيح النقل على العقل محال لأن العقل أصل النقل، فلو كذبنا العقل لكنا كذبنا أصل النقل، ومتى كذبنا أصل النقل فقد كذبنا النقل. فتصحيح النقل بتكذيب العقل يستلزم تكذيب النقل فعلمنا أنه لابد من ترجيح العقل.

(فخر الدين الرازي).

لنبدأ بمقولة محمد أراكون:

"لكي تتحرر من شيء ما ينبغي أن تكشف عن أصله أو جذره الأول-أي كيف تشكل وانبنى لأول مرة- ومن المعلوم إن الشيء يخفي أصله بكل الوسائل وذلك لكي يقدم نفسه بشكل طبيعي بدهي لا يقبل النقاش، ثم لكي يقدم نفسه وكأنه كان دائما موجودا هكذا، وسوف يظل موجودا إلى الأبد. بمعنى آخر فإنه يفعل كل شيء لكي يغطي على لحظة انبثاقه التاريخي، لكي يخفي تاريخيته. هذا ما تفعله كافة العقائد والتصورات الدوغمائية في جميع الأديان”1.

يعتبر الغلو أخطر شكل من أشكال الإعاقة المعرفية وهو الأساس الأول للتحارب الطائفي وعلى المستوى الثقافي هو صراع العقل مع اللامعقول في تجلياته الأسطورية ومنهجه الخرافي.

والغلو تعريفا هو: إلباس البشر ثوب الإله وجعله مقدسا بإشراكه في خصوصية التكوين الإلهي.

وبهذا يكون الغلو خيال وتوهم أسطوري بامتياز.

وهذه الأسطرة تثير الارتباك والاضطراب فهي خلل منهجي يجعل العقل عاجزا عن الربط المنطقي بين واقع الشخصية وبين حقيقتها المحجوبة بالأسطرة فيعزل العقل عن سياقه التطوري الطبيعي ونمط صيرورته المتجددة فيحوله إلى عقل مأزوم سيتمخض في نهاية المطاف عن هوامش تخيلية سخيفة مرتبكة لا رابط عقلاني لها تتشوه بنيتها الإدراكية عبر استلابات إيديولوجية تعادي كل معرفة عقلية.

والغلو بالأصل رد فعل لا عقلاني من مجتمع مهزوم خسر الزعامة والحكم.

هو واقعة اجتماعية مشفوعة بالأضطهاد السياسي لمواجهة الحاكم الظالم المنتصر لكنه رد فعل وهمي هدفه تعويض الهزيمة على أرض الواقع.

وسايكولوجيا يوفر استقرار نفسي كتعويض لخسارة لا يمكن تعويضها واقعيا.

ثم يخرج أصحاب المصلحة لإدامة هذا الواقع واستغلاله لصالحهم عندها تبدأ مسيرة استحمار الطائفة وأصحاب المصلحة هم رجال الدين المنتفعين ونسميهم تجار الدين وهؤلاء مصلحتهم تأجيج الحراب الطائفي ليبقوا سادة الناس من كل الطوائف.

التشيع المبكر ومسيرة التمايز:

استغرقت عملية تمايز العقيدة الشيعية عن جسد التيار الإسلامي العام مدة غير قصيرة من الزمن تعرض خلالها الشيعة عبر سلسلة من المحن لنوع من الانتخاب الطبيعي الذي تمخض في نهاية الأمر عن ثلاث فرق رئسية هي بترتيب حجمها الراهن:

1- الإمامية الأثنى عشرية.

2- الإسماعيلية.

3- الزيدية.

وعلى خلاف الخوارج الذين كان انسلاخهم منذ اللحظة الأولى مزامناً لتبلورهم المذهبي- بمعنى أن الزمن لم يضف كثيراً إلى أصول المذهب الخارجي- كانت المذاهب الشيعية تتبلور تدريجيا مع حركة التأريخ وتطور الحوادث السياسية في عملية جدل تاريخية مؤطرة بالدماء والفجيعة. وفي هذا دلالة واضحة على أن المبادىء النظرية للتشيع لم تطرح في نسقها النهائي المعروف قبل التداعيات اللاحقة لواقعة كربلاء الدامية. الحدث الأعظم في تاريخ الإسلام والمسلمين.

هذه المبادىء النظرية ليست أولية في نسيج النص الأول الخالص وإلا لكانت عبرت عن نفسها قبل هذا التاريخ وهو ما يعود بنا لإستحضار دور التشكل الأول للسلطة السياسية (الخلافة) على وجه الخصوص في صياغة الإسلام كما هو بين أيدي الناس اليوم.

في يوم وفاة النبي كان شيعة الإمام علي-أنصاره- أفرادًا معدودين أي "جماعة خاصة" ولم يكن لها أسس سياسية أو مذهبية خاصة تجعلها حزبا سياسيا أو عقيدة دينية أو نحلة خاصة تتميز عن باقي المسلمين. كان الجميع بمن فيهم الإمام علي منخرطا في مسار نظام الخلافة القائمة وظل نشاطهم داخل الدائرة الواسعة هي دائرة المسلمين. وهي الدائرة التي حرص الإمام علي على البقاء داخلها ورفض وجود ميزة سياسية أو دينية تميزه عن باقي الناس حيث كان محور نشاطه بعد خسارة الخلافة هو:

"لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين وإن يكن فيها جور علي خاصة"2.

وبعد مدة قصيرة بايع أبا بكر ثم عمر ثم عثمان إلى أن أصبح خليفة بعد مقتل عثمان.

مما لا ينكر أن سابقة الإمام علي في الإسلام  وقربه من الرسول ورصيده التاريخي في الجهاد ضد مشركي قريش أوجد مريدين له متأثرين بشخصيته لكن هذا التأثير لم يتطور ليتخذ شكل مذهب واضح المعالم والتكوين والخطاب أو يتخذ مفهوما إماميا بالمعنى العقائدي والديني الذي اصطبغ به في فترات تاريخية متأخرة.

ولو راجعنا أسماء الذين التفوا حول الإمام علي في فترة البيعة لوجدنا أنهم لم يكونوا شيعة بالمعنى العقائدي أي شيعة يؤمنون بإمامة إلهيه منصوبة معصومة منصوص عليها بل كان لكل واحد منهم حساباته وتقديراته الخاصة بحيث يمكن القول إن الجامع للبعض وخاصة فقراء الصحابة هو الموقف الطبقي من أرستقراطية قريش وللبعض الآخر الاعتبار العائلي والعشائري لا الموالاة القائمة على أساس المشروع السياسي.

ومن الذين التفوا حول الإمام علي واعتبروا من شيعته طلحة والزبير ثم خرجا عليه لاحقا مع عائشة وجرت بينه وبينهما معركة الجمل. فالزبير أنضم إلى الإمام علي حمية بحكم الإنتماء العائلي إذ عده من بني هاشم أما طلحة فله حساباته الشخصية ضد أبا بكر وعمر .

هذا الالتفاف حول الإمام سرعان ما تحول إلى صراع مرير ضد الإمام في وقت لاحق.

أما الأنصار فانضمامهم إلى الإمام علي لم يكن لدواع عقيدية فهم بالأمس بادروا إلى البيعة لسعد بن عبادة وبعدما أقصوا عنها أخذوا يطالبون بالإمام علي لا بصفته معصوما منصوصا عليه بل بصفته الخيار الأفضل أو الأقل ضررا بالنسبة إليهم .كما أن الأنصار لم يكونوا في الصراعات السياسية صفا واحدا فمنهم من حارب مع الإمام ومنهم من حارب مع معاوية في معركة صفين ولا يمكن اعتبارهم كتلة تضامنية واحدة بل أخذت صفة الأنصار تضمحل وتذوب وتقتصر قيمتها على رمزيتها لا على فعاليتها السياسية.

وشدة الخلاف في السقيفة لا تحتاج إلى ذكر وسنكتفي بخبر واحد رواه الطبري قال: "ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد- أي مبايعة أبي بكر  وبشير من الخزرج - وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن خضير -وكان أحد النقباء- والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لازالت لهم عليكم بها الفضيلة ولم يجعلوا لكم معهم فيها نصيبا فقوموا فبايعوا أبا بكر .

فقاموا إليه فبايعوه، فأكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ماكانوا أجمعو له من أمرهم"3.

وحتى فقراء الصحابة من المؤمنين الذين عرف عنهم تدينهم اللافت وانجذابهم إلى الإمام علي وتحلقهم حوله منذ زمن النبي وكانوا يشكلون ما يمكن تسميتهم "أنصار علي" من أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد. فهؤلاء أيضا اعترفوا بالسلطة القائمة رغم قولهم بأولوية الإمام علي في السلطة وانصاعوا لأوامرها وتسلم بعضهم مناصب عدة فيها مثل تولية عمار الكوفة في زمن عمر وتولية سلمان الفارسي المدائن أي خضعوا بالكامل لأمرة هذه السلطة وصاروا جزءا من تاريخها وتكوينها.

معنى كلمة شيعة؟

حدود التسمية:

أما كلمة شيعة فترد في خلافة عثمان إلى نهاية خلافة الإمام علي بمعناها القاموسي فيقال: 'الكوفة شيعة لعلي والبصرة شيعة لعثمان'. وفي كربلاء بعد عشرين سنة من الخلافة الأموية كان الإمام الحسين(ع) يخاطب جيش الكوفة:

"يا شيعة آل أبي سفيان" ويصعب تعيين الزمن الذي أستقر فيه الاسم علماً على الفرقة. وهناك تداخل تزميني بينه وبين ظهور اسم القدرية بحيث يصعب الجزم إن كانت هي أم الشيعة الفرقة الثانية بعد الخوارج إذ ترجع أوليات القدرية إلى زمن معاوية وكان مؤسسوها الأوائل من التابعين الذين اتصلوا بعصر الصحابة.

حين أشاع معاوية بذور العقيدة الجبرية في خطبته الشهيرة بصفين والتي قال فيها: "الحمد لله الذي دنا في علوه، وعلا في دنوه، وظهر وبطن، وارتفع فوق كل ذي منظر، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، يقضي فيفصل، ويقدر فيغفر، ويفعل ما يشاء، إذا أراد أمرًا أمضاه، وإذا عزم على شيء قضاه، لا يؤامر أحدًا فيما يملك، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا".

وقد كان فيما قضاه الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض، ولفت بيننا وبين أهل العراق، فنحن من الله بمنظر، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} انظروا يأهل الشأم، إنكم غدًا تلقون أهل العراق، فكونوا على إحدى ثلاث خصال: إما أن تكونوا طلبتم ماعند الله في قتال قوم بغوا عليكم، فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا في بيضتكم وإما أن تكونوا قومًا تطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم، وإما أن تكونوا قومًا تذبون عن نسائكم وأبنائكم، فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل، واسألوا الله لنا ولكم النصر، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الفاتحين".

"شرح ابن أبي الحديد ج11 ص497".

لقد أراد هو وأتباعه إشاعة أن ما يفعلونه لا ناقة لهم فيه ولا جمل وإنما بإرادة مسبقة من الله.

ولمواجهة هذا الخط ظهرت فئة من المتكلمين وعلى رأسهم غيلان الدمشقي الذي قال بقدرة الإنسان على خلقه أفعاله وكانت حجتهم قرآنية وعقلية في ذات الوقت فمن الناحية القرآنية يؤكد القرآن بأن الثواب والعقاب قانونه: (بما كنتم تعملون).

ومن الناحية العقلية (كيف يعذب الله عز وجل الإنسان على فعل لا قدرة له على خلقه) وإنما كتبه الله عليه؟

سميت هذه الفئة التي تدافع عن قدرة الإنسان على خلق أفعاله بالقدرية وهم أسلاف المعتزلة.

وتفيد وثيقة التحكيم في صفين اقتران اسم شيعة الإمام علي وشيعة معاوية: (هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتيهما فيما تراضيا عليه من الحكم).

الظاهر من جمع شيعة علي وشيعة معاوية في نص واحد والتسوية بينهما وجود تماثل في التكوين الداخلي لكل من الطرفين المتقابلين وتشابه في طبيعة الرابطة بين التابع والمتبوع أو الناصر والمنصور . فلم يكن التشيع مصحوبا بإيديولوجية خاصة تفرض عصبية متماسكة ولم يكن التشيع حينذاك بمثابة هوية أو فرقة ذات تكوين ورابط متميز. بل يمكن القول إن التشيع كان عبارة عن موالات سياسية مرنة تجعل الإنتقال من طرف إلى الطرف المضاد في غاية السهولة مثلما حصل مع زياد ابن أبيه.

يذكر الصفدي في "الوافي بالوفيات" إن زياد ابن أبيه كان (أولا من شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان عامله على فارس، ثم إنه بعد موت علي صالح معاوية، وادعاه وصار من شيعته، واشتد على شيعة علي، وهو الذي أشار على معاوية بقتل حجر بن عدي وأصحابه، وأغلظ للحسن بن علي رضي الله عنهما في كتاب كتبه له)4.

حيث يستنتج من النص أن تشيع زياد للإمام علي يماثل تشيعه لمعاوية لاحقا ما يعني أن التشيع للإمام كان عبارة عن شكل من أشكال الولاء السياسي لا أكثر.

كذلك الذي حصل في معسكر الإمام علي قبل التحكيم وبعده وانشقاق الخوارج يوحي بأن المشايعة والتشيع حينذاك كان مناصرة مرنة وهلامية تتمحور حول نصرة الإمام علي من دون أن تتحول إلى عقيدة أو مذهب.

إذن غياب المضمون العقائدي عن التشيع المبكر  يعني بكل وضوح غياب الفهم المخصوص لشخص الإمام علي بجعله صاحب مواصفات وقدرات خارقة وحالة ذهنية ودينية ذات ميزة إعجازية كما صار لاحقا.

ومن خلال هذا الفهم تكون العصمة-التي أضيفت للإمام علي وأولاده- فيما بعد فكرة غير واردة على الإطلاق وغير متداولة بالتأكيد يكشف عن هذا الجدل الدائم في صفوف أتباعه وفرض البعض رأيهم عليه وانقلاب البعض الآخر وتمردهم عليه عسكريا.

ولا أظن إن تفسير ذلك -كما يدعي الشيعة اليوم- بخبث النيات وسوء الأدب في التعامل مع مقام الإمامة كافي في الفهم والتحليل.

والصحيح والواقعي أن الناس تعاملوا مع شخصية الإمام علي بصيغة بشرية عادية لا تملك صفات استثنائية أكثر مما تحتمله أو تتوقعه العادة في شخص آخر .

وهذا دليل من كتاب الإمام علي إلى عامله: "ومن كتاب له عليه السلام إلى المنذر بن الجارود العبدي وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله أما بعد فإن صلاح أبيك (غرني) منك، و(ظننت) أنك تتبع هديه وتسلك سبيله فإذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك انقيادا، ولا تبقي لآخرتك عتادا تعمر دنياك بخراب آخرتك وتصل عشيرتك بقطيعة دينك. ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك. ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر أو ينفذ به أمر أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة)5.

تأمل كلمة (غرني) و(ظننت) فمثل هذه الكلمات لا ينطق بها معصوم قط.

وهذه هي الحقيقة فالغلو في الإمام علي وأبنائه تولد في سياقات سياسية أخرى وجاء استجابة ورد فعل لاحق على فهم غيبي جديد تحت ضغط واضطهاد السلطتان الأموية والعباسية.

هذا كله يبين أن الروايات مهما بلغ عددها التي تتحدث عن تشيع ذي خصائص عقائدية ومنظومة فهم ديني مكتمل العناصر والرؤى منذ زمن النبي هي روايات جاءت لتلبي ذهنية وحاجة زمن الراوي الذي جاء بعد زمن الإمام علي بفترة طويلة أي هي حاكية عن زمان الراوي لا زمن مضمون الخبر أو كما يسميه الشيخ ميثاق العسر "أدلة ما بعد الوقوع".

وإيصال مضمون هذه الروايات إلى النبي وأقواله هي ممارسة مألوفة ومعروفة لدى أكثر المذاهب الإسلامية التي تعمد بعد اكتمال منظومتها الفقهية إلى تسويغها بمفعول رجعي من أقوال النبي والأحداث التأسيسية الأولى في الإسلام لإكسابها شرعية مقدسة. وهكذا فعل الشيعة في رواياتهم وهي روايات عمدت إلى التغطية على معطى التشيع التاريخي وفضاء نشؤته وتطوره الخاص ليتم سلخه عن التاريخ وسلخ التاريخ عنه وإظهاره أمرا منجزا ومكتملا منذ بداية الدعوة الدينية الإسلامية.

في حين أن التشيع في تشكلاته اللاحقة ليس سوى منتج تاريخي اتخذ توصيفات ووضعيات مختلفة متفاوته وأنه لم يكن في زمن الإمام علي أكثر من ميل سياسي اتسم بهشاشة وتقلب لافتين داخل معسكره ولم يأخذ صورة موحدة في التاريخ بل كان محل صراع وتنافس بين تياراته المتعددة حتى زمن الإمام محمد الباقر الذي أرسى عقائد الإمامة في النص والعصمة والنسب وأسس أصولا وفقها وحديثا.

الأمر الذي ستكتمل بنيته المذهبية مع الإمام الصادق ويأخذ أسم المذهب الجعفري. أي مذهب الإمام جعفر الصادق.  

حين نصل إلى هذا الفهم العقلاني للتشيع نستطيع تفهم الآخر المختلف حينها فقط يبدأ حوار البحث عن مشتركات العقيدة وأسس الأتفاق لتجاوز الخلاف.

***

سليم جواج الفهد

........................

1- محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم. ترجمة: هاشم صالح. دار الطليعة.بيروت، 2009.ط4. ص280.

2- نهج البلاغة ،دار الذخائر ،قم،ج1،ص 116.

3- تاريخ الأمم والملوك بيروت، دار الكتب العلمية،1997،ج2، ص243.

4-الصفدي ،الوافي بالوفيات ،دار إحياء التراث /بيروت، ج 15، ص8.

5- خطب الإمام علي (ع) - ج3 - ص132.

أولا: بين الهوى والتسويل طريق طويل

إن النفس الإنسانية بمواصفاتها المتناقضة وظيفيا قد تجمع، كما نعتها القرآن الكريم، بين الأمر بالسوء من جهة وبين الجهل بذاتها وعواقب سلوكياتها، وبهذا فتبقى دائما هي المستحث للإنسان الواعي على أنماط من السلوك قد لا تكون في صالحها، في حين قد تتأرجح ما بين مفهوم الهوى والتسويل، إلا أن الهوى قد يكون دائما قبل التسويل، الذي يعني استحثاثا ذاتيا وملحا، لأن هذا الأخير من نتائج الأول ويمثل الامتداد التطبيقي للموقف الأهوائي.

ومن نموذجه ومعناه نجد في قول الله تعالى:"وجاءوا على قميصه بدم كذب، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا. فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون "[1]، "فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي"[2].

إذ الملاحظ في هاتين الآيتين أن "التسويل" قد يأتي مباشرة بعده تطبيق الموقف أو النية المبيتة، وكأنه –التسويل- فكرة متحركة ضاغطة. والتطبيق عمل متحرك، بينما السابق هو فكرة ساكنة، قد أخذت مكانها واستوطنت في أعماق الإنسان، سيحددها مستوى تأمر النفس وميلها إلى السوء، عبر عنها القرآن مرة بالهوى ومرة بالزيغ ومرة باتباع الظن، وهذه كلها صور للنفس الأمارة بالسوء والتي قد لا تستطيع أن تميز بين الفكرة وأبعادها ونتائجها، نظرا لتلبسها المادي وانطوائيتها الذاتية.

فنجد من بين هذه الأوصاف في قول الله تعالى: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأوليه " وقوله تعالى:"وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا، إن الله عليم بما يفعلون"[3]و"ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون "[4] و"فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا"[5].

وفي نفس السياق نجد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد لنا الميل النفسي في ميدان الشهوات والتي هي ذات عواقب مهلكات، غير أن المستسلمين للتأمر النفسي قد لا يدركون خطورتها سواء كانت الشهوة معنوية أو مادية.

فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره" [6].

وهذا من بديع جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشق عليها" [7].

وهذا الميل الشهوي الطاغي على النفس الإنسانية قد يحجبها عن الاستبصار بالعواقب المترتبة عن الاندفاع في تحقيقه، و يتم على مستوى تغير النظرة والتقييم الموضوعي للأشياء، لأن الذات قد تحتجب عن العواقب حين استغراقها في إشباع ذاتها من الجانب الشهوي، و لا يتم هذا بلغة الشهوة واندفاعاتها وإنما بواسطة العنصر الواعي في الإنسان، ولكن من حيث هو مراقب للوظيفة الجسدية أو النفسية الشهوية.

من هنا فقد تصير الأحكام لديه مناقضة لما يقتضيه وعيه من حيث الرؤية السليمة للوظيفة الجسدية والنفسية وأبعادها.

وقد دل على مثل هذا التحول النفسي في إصدار الأحكام قوله تعالى:" أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون "[8]، "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة "[9].

"والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما "[10].

ثانيا: النفس من عارض الشهوة إلى عارض الشبهة

إذ أن عارض الشهوة قد ورث عارض الشبهة، ومن ثم تخلى العنصر الواعي في الإنسان عن الموقف الصحيح وأصبح فيما بعد سجين الذات والملذات: "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد"[11].

وقد دل على هذا الاندفاع الشهوي المضاد للمصلحة الذاتية رغم وجود الوعي والإدراك ما ورد في الحديث: عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى، فقيل له ما يبكيك، قال شيء سمعته من رسول الله فأبكاني.سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية!. قلت يا رسول الله: أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا، ولكن يراؤون بأعمالهم" والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه "[12].

عند هذا الضعف النفسي المترتب عن الاندفاع الغريزي ستصبح التصرفات لدى الإنسان غير مضبوطة، سواء على المستوى العقدي أو الجسدي أو المالي وما إلى ذلك، بسبب الاحتجاب وضبابية الرؤية لدى الشخص الواعي، لغاية أنه قد يصبح الشخص البالغ سن الرشد في حكم الطفل الصغير الفاقد لكمال التمييز، وهذا ما يعرف بالسفه .

والسفه إما أن يكون ذاتيا وإما أن يكون مؤججه عاملا خارجيا متمثلا في تغرير شيطاني غير مرئي، لغته من جنس حديث النفس .

ففيما يخص السفه النفسي نجد عدة صور تحدده إما على المستوى العقدي وإما على المستوى السلوكي أو هما معا، كما أن السفه قد يأخذ طابعا مرضيا وآخر عرضيا يزول بزوال أعراضه. وأسوأ هذه الأنواع من السفه هي ذات الطابع العقدي المرضي.إذ أن الانصراف عن العقيدة الصحيحة والتخلي عن اتباعها مقابل اتباع أهواء ذاتية هو مرض نفسي بالدرجة الأولى، شأنه شأن الأمراض التي تطرأ على الإنسان في تصرفاته المالية والمادية بصفة عامة.

غير أن السفه العقدي أخطر وأسوأ، لأن العقيدة كنز ثمين وثروة تمثل عصب الحياة الباقية.ولهذا فلا ينبغي تبذيرها أو إهدارها بالاستغناء عنها والجري وراء السراب القاتل، ومن هنا سيستحق صاحب هذا الإجراء صفة السفه، لماله من دلالة على ضعف التمييز وخلل النفس الإنسانية في تفضيلها الأدنى على الأولى والأعلى.

وهذا المعنى يمكننا استلهامه من قول الله تعالى:"ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين"[13]، "سيقول السفهاء من الناس ما ولا هم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"[14].

فالسفه العقدي -كما قلنا- أسوأ من السفه المالي والسلوكي بصفة عامة، وذلك لأن الاعتماد العقدي أساس الانضباط المالي وتقنين التصرف فيه. إذ أن السفه المالي مستدرك أما السفه العقدي فهو صعب الاستدراك لأنه غير قابل للتناول أو الحجز والتحجير، ولهذا فحيثما وجد سفه عقدي إلا وكان تابعه سفه مالي واقتصادي وسلوكي عام كنتيجة حتمية.

لكنه قد يوجد سفه مالي وقضائي إجرائي ولا يوجد سفه عقدي، وعند وجود السفه المالي سيكون الاستدراك عمليا ممكنا، وذلك عن طريق الترشيد والاختبار والتربية والتعضيد، قد يصبح السفيه معه فيما بعد شخصا كامل الأهلية، يمكنه التصرف في ماله بكل حرية واختيار، ويمكنه أن يصبح قابلا للتقاضي والشهادة، وبهذا سيصبح السفه غير ذي أثر على توازن المجتمع واستقراره المالي والقضائي.

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

المملكة المغربية

....................

[1] سورة يوسف آية 18

[2] سورة آل عمران آية 7

[3] سورة يونس آية 36

[4] سورة الحجر آية 14-15

[5] سورة مريم آية 59

[6] رواه البخاري، باب حجبت النار بالشهوات

[7] العسقلاني:فتح الباري شرح صحيح البخاري ج10 ص 388

[8] سورة فاطر آية 8

[9] سورة القيامة آية 5-6

[10] سورة النساء آية 27

[11] سورة البقرة آية 204

[12] أخرجه أحمد وابن ماجه

[13] سورة البقرة آية 130

[14] سورة البقرة آية 142

 

(بعد أن كافح الإنسان في الماضي كي لا يتحوّل إلى عبد، عليه أن يناضل كي لا يتحوّل إلى آلة…)... إيريك فروم

1- مقدّمة: إذ كان التشيّؤ صنو الاغتراب، فإنّ البحث في التشيّؤ لا يكون إلّا منهجاً في استكشاف الاغتراب الإنسانيّ في أقصى حالاته واستجواب معانيه في أعلى مستوياته. وإذا كان الاغتراب يشكّل البعد الفلسفيّ للتشيّؤ، فإنّ التشيّؤ يشكّل البعد المادّيّ المشخّص للاغتراب. وقد يكون التشيّؤ المؤشّر الأوّل للاغتراب، ولكنّه في النهاية يشي بعمقه، ويشكّل تمامه وكماله، ونعني بذلك أنّ التشيّؤ الكامل هو الظاهرة الكلّيّة للاغتراب في أكثر مظاهرة شموليّة وانبثاقاً. فلا يكون اغتراباً من غير تشيّؤ، ومن الاستحالة بمكان أن يكون التشيّؤ من غير الدلالة على الاغتراب؛ لأنّه يشكّل شرط الاغتراب وتجسيداً له. ومن الأمور الّتي يجب ألّا تغيب عن البال بأنّ الاغتراب والتشيّؤ مفهومان متداخلان في المعنى متشابكان في الدلالة، ومع ذلك فإنّ من يتأمّل بعمق قد يأنس طيفاً من الاختلاف. ومع أنّ ماركس سيّد المفهومين قد جمع بينهما وصهرهما في بوتقة واحدة، إلّا أنّ نفراً من المفكّرين قد عكفوا على استخدام مفهم التشيّؤ بوصفه أكثر قدرة على تجسيد مفهوم الاغتراب وتوظيفه في فهم أعمق لوضعيّة الهزائم الحضاريّة في وضعيّة الإنسانيّة المعاصرة، وربّما قد وجدوا في مفهوم التشيّؤ قدرة على الاستبصار الواقعيّ تجنّباً للوقوع في المطبّات الغامضة والمسالك الصعبة للاغتراب. فالاغتراب يحمل طابعاً فلسفيّاً محضاً، ويأتي التشيّؤ ليعبّر عنه بطريقة أكثر حسّيّة وتجسيداً. ومهما يكن الأمر، فإنّنا في هذا المساق ننحو إلى الإضاءة على مفهوم التشيّؤ مقارنة بالاغتراب واستكمالاً لمعناه ودلالته. وهو مهما يكن، فإنّ التشيّؤ يشكّل صيغة لازمة من الاغتراب نراها في توجّهات بعض المفكّرين الّذين أبدعوا في تناوله وتحليله والكشف عن أبعاده بطريقة سوسيولوجيّة بارعة في القدرة على البحث والاستكشاف. ويشار في هذا الصدد إلى نخبة من المفكّرين الّذي وظّفوه واستخدموه أمثال ماركس وماركوز وفروم ولوكاش وهونيث وهم الّذين بحثوا في متاهاته، واستكشفوا في أبعاده، ووظّفوه توظيفاً سوسيولوجيّاً خلّاقاً في الكشف عن مآزق العصر الصناعيّ الرأسماليّ ومستويات تشيؤه واغترابه.

وإذا كان التشاكل في مفهوم التشيؤ يأخذ مداه ثقيلا فإننا سنعمل في هذه المقالة على رصد المفهوم واستجلاء معالمه وتحديد سماته وإبراز معانيه واستكشاف دلالته كشفاً عن حضوره تجلّياته في فضاءات الزمن الرأسماليّ الليبرالي الحديد الّذي ينحو إلى أن يكون زمناً مادّيّاً زومبيا تغيب فيه الروح، وتفيض فيه قيم والربح والشهوة والتسلّط. إنّه زمن اللامتناهيات في السقوط الأخلاقيّ والانحدار القيميّ؛ إذ تحوّلت فيه كلّ الكائنات الحيّة والمادّيّة إلى سلع، بل إلى تجارة، ومن ثمّ إلى مادّة للتصنيع والاستهلاك. إنّه الزمن الّذي تحاك فيه الأشياء في دورة التصنيع والإنتاج، وكلّ شيء يدور فيه حول قيم الريح والاستهلاك، وكلّ شيء فيه يخضع لدورة السوق وقوانين العرض والطبّ: جسد الإنسان وروحه، ولا يبقى هناك شيء بعد ذلك لا يخضع لدورة السلع والأشياء: كلّ شيء يباع، تجارة البشر، تجارة الأعضاء، تجارة الجنس، الحبّ تجارة، والصداقة صناعة، وفيه تجارة الأدب والفنّ والأخلاق، حتّى الدين أصبح تجارة ونخّاسة. وهذا هو الزمن الّذي تبشّر فيه الرأسماليّة بزوال الإنسان وتشكيل الإنسان الآليّ "الروبوت"، الإنسان الزومبيّ (Zombie) (الموتى الأحياء) (1)، الإنسان الجسد الّذي يتحرّك من غير روح، الإنسان البيونيّ الّذي تحوّل إلى كيان من الأسلاك والأجهزة والسيليكون ومثال ذلك المرأة السليكون. وفوق ذلك كلّه أصبحنا نتحدّث اليوم عن الإنسان السبورغ الإنسان الّذي تحوّل بجسده إلى كائن خارق، أو لنتحدّث عن الإنسان الآليّ. والمذهل في حركة الحضارة الصناعيّة والذكاء الاصطناعيّ أنّ الحضارة المادّيّة تسعى إلى إضفاء الطابع الإنسانيّ على الروبوتات بينما تجرّد الإنسان الحيّ من الروح والمعنى والدلالة، وتحوّل إلى كائن زومبي هشّ تستطيع أن تدمّره بعصاك لأنّه كائن بلا روح ولا معنى أو دلالة.3719 زومبي

2- مفهوم التشيّؤ:

يعدّ مصطلح "التشيؤ" ترجمة عربيّة للكلمة الإنكليزيّة (Reification) يقابلها في الألمانيّة كلمة (Verdinglichung) وفي الفرنسيّة كلمة (Réification)، وتشير هذه الكلمة إلى تحوّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء، وحـينما يتشيّأ الإنسـان، فإنّه سـينظر إلى مجتـمعه وتاريـخه باعتبارهما قوى غريبة عنه، تشبه قوى الطبيعة الفيزيائيّة الّتي تفرض عليه كقوّة خارجيّة تسيّره وتحدّد له أقداره ومصيره، وعلى هذه الصورة يأخذ الإنسان المتشيّيء صورة الإنسان المنفعل بقدر خارجيّ كقشّة في مهبّ الريح لا حول له ولا قوّة. ويتمثّل التشيّؤ في عمليّة تحوّل الإنسان إلى شيء جامد صلب يتحرّك بتأثير الجاذبيّة في الأشياء المحيطة به كالوزن والضغط والجاذبيّة والسقوط والانحدار، وهو في كلّ الأحوال يفقد معناه ودلالته الإنسانيّة، وتتسطّح أحلامه الّتي تدور في عالم الأشياء. والإنسان المتشيّئ حسب ماركوز هو الإنسان ذو البعد الواحد الّذي يستطيع التفاعل مع الأشياء بكفاءة عالية وفق خلال نماذج اختزاليّة بسيطة، ولكنّه بالمقابل يخفق في التعامل مع الناس والآخرين على نحو إنسانيّ.

والتشيّؤ عموماً في أبسط معانيه العمليّة الّتي يتحوّل فيها ما ليس بشيء ليصبح شيئاً، وهذا يعني أنّ الكائن الإنسانيّ الّذي يحمل في ذاته صفات إنسانيّة روحيّة حيّة قد يتحوّل في معادلة التشيّؤ إلى كائن متحجّر متصلّب يتّسم بذات السمات والصفات الّتي تنطبق على الأشياء والموجودات الفيزيائيّة الصلبة، وهذا التشيّؤ يؤدّي إلى إحداث تغيير عميق في جوهر الإنسان وفي طبيعته الإنسانيّة، وعلى هذه الصورة يفقد الإنسان المتشيّيء صورته الإنسانيّة، ويغدوا جماداً ينتمي إلى عالم الأشياء.

يمكن تعريف التشيّؤ (Reification) في أبسط مستويات التعريف بأنّ تحوّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء ومعاملة الناس باعتبارهم أشياء صلبة، وهذا يعني أنّ الإنسان يفقد جوهره الإنسانيّ، ويتحوّل إلى حالة من الجمود والتصلّب الفيزيائيّ جسد بلا روح أو قلب أو عواطف أو مشاعر. وعلى هذا المنوال يعني التشيّؤ تحوّل الناس إلى كائنات شبيهة بالأشياء، لا تتصرّف بطريقة إنسانيّة، بل وفقاً للقوانين الّتي تسود في عالم الفيزياء والأشياء. ويمكن وصف التشيّؤ بأنّه الحالة الّتي يتحوّل فيها الإنسان إلى شيء " ليس له أيّ دور في تأكيد ذاته الإنسانيّة بعد أن استلبت منه قدراته العقليّة وإرادته، وأصبح في حالة صنميّة أو سلعيّة، أو تحوّل إلى ذرة اجتماعيّة ليس لها لون أو طعم أو رائحة" (2). والتشيّؤ مصطلح صكّه الناقد المجريّ الماركسيّ جورج لوكاتش مستلهماً المفهوم الماركسيّ عن صنميّة السلعة، وهو يرمز إلى الحالة الّتي يجمّد فيها الناس أشياء، ويتصلّبون في وجودهم على أوهام العلاقات الصلبة الجامدة الّتي تقوم بين الأشياء.

ومن أبلغ ما يمكن أن يوصف به التشيّؤ الإنسانيّ هو الوصف الّذي يقدّمه ستيفن إريك برونر الّذي يعرف التشيّؤ الإنسانيّ بأنّه الوضعيّة الّتي " ترى فيها حرفيّين، لكنّك لا ترى أناساً حقيقيّين؛ ترى مفكّرين لكنّك لا ترى بشراً؛ قساوسة لكن ليسوا ببشر؛ أسياداً وعبيداً شباباً وأصحاب أملاك، لكن ليسوا ببشر. إنّه عالم أشبه بأرض المعركة الّتي تجد فيها أيادياً وأذرعاً وأطرافاً على صورة تكتّل تتناثر أجزاؤه بعضها إلى جانب بعض، بينما تسري الدماء المراقة منها في الرمال؟!". (3).

ومن أجل تحديد مفهوم التشيّؤ الإنسانيّ تحدّد الكاتبة الأمريكيّة مارثا نوسباوم (Martha Nussbaum) سبعة مؤشّرات يستدلّ فيها على أنّ الإنسان أصبح مشيّأ: (4)

1 - الأداتيّة: معاملة الشخص كأداة، وليس إنساناً له هويّته.

2- العبوديّة: الشخص هنا لا يتمتّع بسمة الاستقلال أو تقرير المصير.

3- الاستضعاف: معاملة الشخص على أنّه عاجز وضعيف وغير قادر على إنجاز مهمّاته.

4- القابليّة للاستبدال – معاملة الشخص على أنّه قابل للتبديل مع أشياء (أخرى).

5- الملكيّة: معاملة الشخص كما لو أنّه يمكن امتلاكه أو شراؤه أو بيعه أو تبديله.

6- القابليّة للانتهاك: معاملة الشخص على أنّه كائن مستباح قابل للانتهاك كشيء يجوز تفكيكه أو تحطيمه أو اقتحامه.

7- إنكار الذاتيّة: معاملة الشخص بوصفه شيئاً مجرّداً من العواطف والمشاعر والتجارب وإهمال ما يمتلك عليه من مشاعر وعواطف وحسّ إنسانيّ. وترى الكاتبة أنّ الإنسان قد يتعرّض للتشيّؤ إذ انطبقت عليه إحدى هذه المؤشّرات أو بعضها.

وأضافت أستاذة الفلسفة في جامعة كامبريدج راي هيلين لانجتون (Rae Helen Langton) في كتابها في كتابها "الأنانيّة الجنسيّة" (Sexual Solipsism) ثلاث ميزات أخرى لقائمة مارثا نوسباوم: (5)

1- الاختزال الجسديّ: ويعني معاملة الشخص كأنّه مجرّد جسد أو أجزاء من جسد، وهذا يمثّل أقصى درجة من درجات الاستلاب، إذ لا ينظر إلى الشخص على أنّه كيان متكامل، بل بوصفه كياناً متشظّياً إلى أجزاء وكيانات بيولوجيّة يمكن استبدالها.

2- الاختزال في المظهر: معاملة الشخص أساسيّاً وفق المظهر الخارجيّ، أي معاملة الشخص في المقام الأوّل من حيث مظهره وفقاً للصورة الحسّيّة الّتي يبدو عليها.

3- صنميّة الكلام: ويعني أنّه ينظر إلى الشخص وكأنّه عاجز عن الكلام وملزماً بالصمت، ولا يملك القدرة على الكلام والتعبير أو حقّ التعبير على التحدّث والكلام.

هذا ويرمز التشيّؤ إلى الوضعيّة الّتي تضع الإنسان في مواجهة عاتية مع القوّة الضاربة للمجتمع الصناعيّ الأداتيّ، وهو في دائرة هذه المواجهة الصعبة تتحطّم أحلامه الإنسانيّة ويفقد ذاته وقيمته الأخلاقيّة. فالمجتمع الرأسماليّ المعاصر يضع الإنسان في دائرة التشيّؤ والاستلاب، ويقوم بتدمير منظّم للجوانب الذاتيّة والروحيّة في الإنسان، وفي هذه الدورة الاستلابيّة يُقْضَى على مختلف تجلّيات الخيال والفكر والحلم والإبداع والإحساس الجماليّ والأخلاقيّ عند الإنسان وهو الأمر الّذي يحوّله إلى أداة مشيئة مستلبة مغتربة.

ويحدث هذا التشيّؤ في المستوى الاجتماعيّ الأعمّ بتشويه الفنون الإبداعيّة للإنسان الّتي تتمثّل في التاريخ والأدب والفنّ والفلسفة الّتي تمثّل مختلف مظاهر الحياة الفنّيّة والجماليّة في حياة الإنسان المعاصر. ويتمّ هذا التشويه بتحويل هذه الفنون والآداب عن غاياتها الّتي تتمثّل مبدئيّاً إيقاظ الروح الخلّاقة للإنسان؛ ومن ثمّ توظّف ضدّ الإنسان تحت عنوان والآداب المشيئة الّتي تتحوّل ضدّ الإنسان؛ إذ تحوّل إلى أداة استلاب واغتراب. وهو الأمر الّذي يؤكّده كلّ من أدورنو وهوركهايمر في كتابهما جدل التنوير إذ تحوّل الثقافة إلى أداة أيديولوجيّة تصبّ في خدمة النظام الرأسماليّ بدلاً من أن تكون أداة لإيقاظ الروح الإنسانيّة والارتقاء بالجوانب الذاتيّة والأخلاقيّة للإنسان. وعلى هذه الصورة وضمن هذه الوضعيّات الاجتماعيّة والثقافيّة يتحوّل الإنسان إلى عبد للآلة وأداة للربح ومادّة تطرح للاستهلاك في أسواق النخاسة الصناعيّة ضمن قانونيّات الربح والنشوة والإثارة والاستهلاك المرضيّ لمعطيات الإنتاج الصناعيّ السلعيّ.

وقد شكّلت هذه الوضعيّة الأساس الاغترابيّ الّذي جرّد الإنسان المعاصر من قيمته الإنسانيّة، ومعها تحوّلت الحياة إلى جحيم استلابي مفرغة من المعنى والجدوى، فاندفع إلى مهاوي الإدمان والهوس السوقيّ بالمخدّرات والجنس والجريمة، وهي المظاهر الّتي نشاهدها في أغلب المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة الّتي تنطوي على كتلة متراصّة من الفعاليّات والظواهر والممارسات الّتي تدفع الإنسان إلى وضعيّة التقوقع والعزلة والانطواء، فتدمّر فيه مكامن الإبداع والانطلاق والشعور بالهويّة الإنسانيّة، إذ يجد الإنسان نفسه، وقد أصبح غريباً عن ذاته وعن الوسط الّذي يعيش فيه، وقد يصاب بالشلل الروحيّ كنتيجة طبيعيّة للتدمير المنظّم الّذي ينال من قدراته الإبداعيّة وتشويه مصادر اليقظة الإبداعيّة في المجتمع الرأسماليّ تحت مطارق الهيمنة الإعلاميّة الرأسماليّة والنموّ الهائل للبيروقراطيّة الّتي تقنن سلوك الإنسان، وتفكّك قدراته الإبداعيّة تحت تأثير العقل الأداتيّ المتوحّش بامتداده الفسيح وسلطانه المدمّر على العقل والروح والمشاعر، وهذا كلّه ينتهي بالإنسان الفرد إلى وضعيّات الشعور بالاستلاب والتشيّؤ والاغتراب، وهي الوضعيّة الّتي تجعله عاجزاً أمام المصير والظروف الّتي تقهر وجوده، وتفكّك كيانه الإنسانيّ. وهذا يعني في النهاية إنّ التشيّؤ ظاهرة اجتماعيّة يتحوّل فيها البشر إلى كائنات مشيئة تحرّكهم نمطيّة اغترابيّة تحمل في طيّاتها تأثير جبّار للقوى التكنولوجيّة والاقتصاديّة والأيديولوجيّة الّتي تتفاعل معاً في عمليّة إخضاع الإنسان وترويضه على أن يكون موضوعاً يخضع لقوانين التشيّؤ في المجتمع الرأسماليّ الجديد.

فالإنسان يتحوّل تحت ضغط المجتمع الصناعيّ الضخم إلى ترس في آلة الإنتاج الصناعيّ الضخم. وتتمثّل هذه الحالة في نمط الإنتاج الصناعيّ القائم على ما يسمّى بخطّ الإنتاج، إذ يقوم كلّ عامل بحركة جزئيّة روتينيّة واحدة ضمن آلاف الحركات الأخرى الّتي يقوم بها عمّال آخرون. وكلّ منهم يقوم بعمل منفصل عن الآخرين، ولا يعرف مآلات هذا العمل أو صورته الكلّيّة. وهذا يعني أنّ العامل يصبح جزءاً متناهياً الصغر في جهاز الإنتاج الهائل "المكوّن من عدّة عناصر، وهو جهاز يصعب فهمه أو الإحاطة بشبكته المعقّدة أو القوى الّتي تمسك بخيوطه وتحرّكه (6).3721 زومبي

ويشكّل الإيقاع الآليّ المنظّم للحياة في المجتمعات الرأسماليّة الحديثة أحد أهمّ العوامل الّتي تعكس روح التشيّؤ عند الإنسان المعاصر. إنّ إيقاع الحياة الحديثة يتّخذ صورة نمطيّة آليّة تفرض نفسها على سلوك الأفراد، وتنمط حياتهم ووجودهم على صورة هذا النمط الآليّ الّذي يجتاح تفكير الفرد وأنماط حضوره الذهنيّ في الحياة. فعلى سبيل المثال: إيقاعات الحياة اليوميّة الّتي تتمثّل الاستيقاظ مبكّراً الذهاب إلى العمل الخضوع للمرؤوسين العودة في أوقات محدّدة تناول الطعام في ساعات معيّنة، تناوب ورديّات العمل، أيّام العطلة، مشاهدة التلفزيون، استخدام مصادر الذكاء الاصطناعيّ، كلّ هذه الأمور وعدد هائل منها يحكم حياة الإنسان اليوميّة، وهذا الأمر يجعل من عقل الفرد عقلاً آليّاً نمطيّاً مشيّأ إلى حدّ اغترابيّ كبير.

ويرتسم أحد أهمّ العوامل الفاعلة في عمليّة التشيّؤ في الرأسماليّ في ظاهرة التسليع الّتي تأخذ طابعاً شموليّاً عامّاً كلّيّاً. فالمجتمع الصناعيّ الرأسماليّ يتدفّق بالسلع والبضائع بالمنتجات، وفيه كلّ ما لذّ وطاب، وتتميّز هذه المنتجات بالطابع الإغرائيّ الّذي لا يقاوم المعزّز بالإمبراطوريّات، والفرد الّذي يعيش في هذا الجحيم الإنتاجيّ المسلّع يقع ضحيّة الإغراء وعشق الاستهلاك، وعلى هذه الصورة تتزايد شهوة الإنسان إلى التملّك والحيازة والاستهلاك، ويكدّ للحصول على كلّ ما يمكن أن يحصل عليه من هذه السلع ليشبع حاجاته الصنعيّة المرتدّة دون توقّف، وهذا الاستغراق الاستهلاكيّ يؤدّي إلى تدمير التكوين الأخلاقيّ والروحيّ للإنسان، إذ يتحوّل إلى وحش استهلاكيّ لا يشبع، وتلك هي أخطر حالات التشيّؤ الّتي يفقد فيها الإنسان روحه وعقله وكيانه الإنسانيّ.

وتشكّل النظم البيروقراطيّة أحد مصادر وعوامل التشيّؤ؛ لأنّ الأنظمة البيروقراطيّة تعلّب الإنسان في نماذج طاغية، إذ تضع الفرد تحت تأثير القوى المدمّرة الخفيّة والسافرة في المجتمع الصناعيّ المتقدّم، ويعمل هذا النظام البيروقراطيّ على انتزاع فرديّة الفرد وإحساسه بالمسؤوليّة، ويعمل على استلابه وتحويله إلى كيان مستلب ومغترب (7). وممّا لا شكّ فيه أنّ البيروقراطيّات الحديثة تمتلك في ذاتها قوى جبّارة في مجال القمع والإغواء وترويض الإنسان علّة وضعيّة التشيّؤ.

ويعدّ الإعلام الجبّار الضخّ أحد أهمّ سمات ومميّزات المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة، وتمتلك هذه الإمبراطوريّات الإعلاميّة القدرة الفائقة على طحن العقول وتشكيل الأذهان وترويض الإنسان على القبول الصاغر لكلّ معطيات المجتمع الصناعيّ. وهذه القوى الإعلاميّة استطاعت أن تكون أقوى أدوات صناعة اللذّة وتسويق الأحلام وتدمير المنطق والتلاعب بالعقول وتشكيل الإنسان على صورة السلعة وتحويله إلى وضعيّة التشيّؤ.

ويبنى على ما تقدّم بأنّ التشيّؤ هو الحالة الّتي يتحوّل فيها الإنسان إلى شيء إلى سلعة إلى بضاعة إلى مادّة في عالم الأشياء والإنسان المشيّأ كائن تتمركز أحلامه ورغباته وتطلّعاته وتدور في عالم حول الأشياء وهو في وضعيّة التشيّؤ هذه لا يستطيع أن يتخطّى عالم الأشياء والسلع. وعلى هذه الصورة يختزل عقله وروحه في القدرة على التعامل مع عالم الأشياء، وهذا ما يعبّر عنه ماركوز بقوله إنّ الإنسان المتشيّيء هو إنسان ذو بعد واحد وقد فقد أبعاده الروحيّة وتطلّعاته الروحيّة.

رأسماليّة التشيّؤ:

خاض مفكّرو النظريّة النقديّة في مسألة تشيّؤ الإنسان، وبحثوا في صلب العوامل والمتغيّرات الّتي أدّت إلى تشكّله كظاهرة اجتماعيّة تسود في العصور الحديثة. ويقرّ معظمهم ولاسيّما روّاد مدرسة فرانكفورت في التأكيد على عدّة عوامل أهمّها النزعة الأداتيّة للعقل الرأسماليّ وعلى عوامل تطوّر المجتمع الرأسماليّ القائم على الإنجازات الصناعيّة والتكنولوجيّة الكبرى في مجال الإنتاج الضخم المفتون بقيم الربح والهيمنة والسيطرة الّتي يفقد فيها الإنسان قيمته الإنسانيّة ودلالته الأخلاقيّة. فالعقل الأداتيّ الجامح اندفع بقوّة فاخترق القيم وانتهك المعاني وحطّم المشاعر الإنسانيّة، ودمّر العواطف وطحن الإنسان محوّلاً إيّاه إلى نخالة مادّيّة متناهية في الصغر يمكن تذويبها وتصنيعها بوصفها مادّة إنتاجيّة استهلاكيّة تباع وَتُشْتَرَى في الأسواق. بل قل بأنّ الرأسماليّة بأدواتها الجبّارة وهيمنتها المطلقة حوّلت الإنسان إلى وقود بشريّ يحترق في مواقد الجشع الرأسماليّ المأخوذ بقيم السيطرة والهيمنة وتكديس الأرباح كغاية تبرّر وسائلها المضادّة للإنسان وقيمه الإنسانيّة. وفي دورة هذا الجشع الرأسماليّ الرهيب تحوّل الإنسان إلى ترس في آلة جهنّميّة، بل إلى مادّة خام قابلة للتصنيع والاستهلاك والتدوير، وقد تمّ تشييؤه بوصفه مطلباً مادّيّاً من متطلّبات التصنيع والإنتاج والربح في الدورة الرهيبة للاقتصاد الرأسماليّ، وباختصار، أصبح الإنسان شيئاً من الأشياء، كياناً متشيّأً ممسوخاً يفتقر إلى جوهره الإنسانيّ وحسّه الأخلاقيّ وكيانه الروحيّ. وهو في هذه الوضعيّة يصحّ معها قول اللاهوتيّ الإنجيليّ ديتريش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer: "لقد صار سيّد الآلة عبداً لها، وأمست الآلة عدوّ الإنسان، وحرّيّة الجماهير انتهت إلى رعب المفصّلة، والتحرير المطلق للإنسان سيختم مساره بالدمار الذاتيّ " (8).

يرى منظرو فرانكفورت أنّ عمليّات التشيّؤ تحدث بقوّة في ظلّ النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ بما ينطوي عليه من علاقات الإنتاج والتسويق والتسليع. ويرون بأنّ الجشع الرأسماليّ أدّى إلى ما يسمّى بصنميّة السلعة الّتي وضعت الناس في محراب العبادة الرخيصة للسلعة، والميل الجارف إلى الاستهلاك وتلبية الاحتياجات المادّيّة المتزايدة، وهو الأمر الّذي حول العلاقة بين الناس إلى علاقات أشبه بالعلاقة الجامدة بين الأشياء، فجعلت من السلعة وثناً للعبادة، ومن الاستهلاك قاموساً للحياة، ومن التملّك منهجاً للوجود. وعلى هذا النحو تمحورت العلاقات بين الناس حول المنافع والمصالح على حساب العلاقات الإنسانيّة والقيم الأخلاقيّة والروحيّة، فأصبح الإنسان جسداً بلا روح ومادّة بلا معنى وكياناً جامداً من غير إحساس أو مشاعر إنسانيّة.

فالعقل الأداتيّ الصرف، والجشع الرأسماليّ المطلق، والصناعة المتوحّشة القائمة على تقسيم العمل، والاستغراق في مظاهر التشظّي والانشطار في التخصّصات المهنيّة، وهيمنة ما يسمّى بخطوط الإنتاج في المصانع، وتنامي الروح البيروقراطيّة المدمّرة، والهيمنة الفارطة لأمواج الدعاية الإعلام القائم على الذكاء الاصطناعيّ، وتعليب التعليم، والهيمنة الأيديولوجيّة، والموجات المتدفّقة الّتي تقوم على غسل الأدمغة، عوامل تشكّل في مجموعها القوّة الحضاريّة الّتي أدّت إلى اغتراب الإنسان المعاصر وتشيئه.

فالرأسماليّة تجرّد البشر من إنسانيّتهم، بل تمسخهم إلى ركام من الأشياء، وتحوّلهم إلى مادّة أوّليّة مفرغة من المعاني الروحيّة والإنسانيّة، مادّة قابلة للتصنيع والتدوير والتسليع والتسويق. ومن المفارقة بمكان أنّ الرأسماليّة الّتي تفقد الإنسان روحه وكيانه الإنسانيّ، وفي الوقت الّذي تحوّله إلى أداة تضفي بالمقابل فيه على الأشياء على السلع والمنتجات والموادّ الأوّليّة طابعاً غائيّاً ذاتيّاً. وهنا تتجلّى بصورة جليّة المعادلة الرأسماليّة الّتي يتحوّل فيها الإنسان إلى موضوع وأداة، ويقابل ذلك تحويل الموضوع (الشيء) إلى قيمة وذات. وهذا يرمز إلى صيغة من الانقلاب الجذريّ في الحضارة الإنسانيّة الّتي تنقلب على ذاتها، وتفقد روحها ومعانيها وغاياتها الأخلاقيّة السامية. إنّه عالم مقلوب ولا يمكن " أن يصبح قلب هذا «العالم المقلوب» ممكناً إلّا بإنهاء ما أطلق عليه ماركس مصطلح «صنميّة السلعة»، وهذا يعني أنّ نهاية الاغتراب لا يمكن أن تكون إلّا بالقضاء على ظاهرة التشيّؤ الإنسانيّ الّتي تفقد الإنسان معناه، وتجرّده من قيمته، وتستلبّ منه دلالته الروحيّة وقيمتها الغائيّة (9). فالرأسماليّة الليبراليّة الجديدة تجعل من تطوير الصناعة وسيلة للربح للسيطرة للقوّة للهيمنة، وهي تعمل حسب تعبير ماركس، "تأليل" الإنسان، (تحويله إلى آلة) بل إلى كيان متشيّء، بل إلى صنميّة إنسانيّة شديدة التوحّش والانحدار(10).

وعلى هذه الصورة استطاعت الرأسماليّة أنت تحوّل الإنسان إلى شيء من الأشياء المادّيّة، وإلى كيان مفرغ من الروح الّتي تنبض بالمشاعر الإنسانيّة الخلّاقة، فالرأسماليّة بأدواتها الجبّارة استلبت الإنسان وجرّدته من مشاعره وأحاسيسه وإنسانيّته ليصبح ترساً في آلتها الإنتاجيّة الجبّارة. وفي هذا المجتمع الرأسماليّ تقوم الطبقة الرأسماليّة بتجريد الفرد من محتواه الإنسانيّ، وتدمّر في أعماقه معظم القيم والمبادئ الأخلاقيّة، كما تدمّر صلاته الإنسانيّة بالعائلة والصداقة والدين والأخلاق والقيم الأخلاقيّة، فيزداد عمق ارتباطه بالوسط الصنعيّ للمجتمع الرأسماليّة، ويشتدّ عمق هذا الارتباط بتحوّله إلى ماكينة إنتاجيّة في خضمّ الإنتاج الضخم للرأسماليّة الليبراليّة المعاصرة الّذي تتحدّد فيه قيمة الإنسان بما يستهلك وبما ينتج وبمقدار ما يتحوّل إلى آلة تنتج وتستهلك في المجتمع الرأسماليّ المعاصر. وهذا التشيّؤ الصناعيّ جرّد الإنسان من قدرته على التحكّم بمصيره وحياته ووجوده الإنسانيّ. فالطبقة الرأسماليّة الّتي تسيطر وتهيمن على مصيره تحوّله إلى أداة للإنتاج، وإلى سلعة للربح، وإلى طاقة للاستهلاك تستثمر في تأكيد فائض القيمة وتحقيق أعلى درجة من الربح والعائدات الماليّة الاقتصاديّة الّتي تصبّ في مصالح الطبقة الرأسماليّة على صورة أرباح واستثمارات ومضاربات اقتصاديّة.

في المجتمع الرأسماليّ يحوّل الناس إلى مجرّد أشياء أرقام ومعادلات وبيانات حسابيّة وإحصائيّات، وفي هذا المجتمع يتحوّل الإنسان إلى كيان تغذّيه فكرة واحدة، ويستولي عليه هاجس واحد يتمثّل في الاستهلاك والتسوّق والتملّك والحصول على كلّ ما هو جديد في عالم السلع والأشياء، وهو في دائرة شبقه الاستهلاكيّ يقتني كلّ شيء، ويشتري كلّ شيء بقدر ما يستطيع، وهو في ذلك يتصرّف بقوّة هائلة لإشباع رغبات زائفة لا طائل منها، ففي عالم الأشياء تتحوّل الأشياء إلى قيمة تعطي لمن يمتلكها قيمة أكبر والإنسان في هذا العالم المتشيّيء لا يكون إنساناً إلّا بقدر ما يمتلك من أشياء إلّا بقدر ما يستهلك، وعلى هذا الأساس تكمن قيميّته في بعد واحد هو الاستهلاك كما يقول هربرت ماركوز الّذي يصف الإنسان المتشيّيء بالإنسان ذي البعد الواحد.

فالنظام الرأسماليّ يحوّل العلاقات القائمة بين الناس في مختلف ميادين الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة إلى أشياء جامدة تخضع لقوانين الفيزياء، وتقوم على أساس معادلة التسويق والتبادل التجاريّ وذلك بطريقة فظّة يتحوّل فيها البشر إلى سلع وبضائع وماكينات وأدوات وهم بذلك يخضعون لقوى خارجيّة غريبة عنهم تحدّد مصيرهم في سوق النخاسة البشريّ.

وفي النظام الرأسماليّ تشتدّ وتائر التشيّؤ والتسليع، ويرتفع منسوب الافتتان بالسلع عند الأفراد في المجتمع، وفي حمأة هذا التشيّؤ يرتبط سلوك الأفراد بالسلع في عالم تعرض فيه كلّ الموجودات بوصفها سلعاً الأدب والفنّ والمرأة والقيم والتعليم والإعلام والصحافة، وكلّ شيء معنويّ أو مادّيّ يخضع لقانونيّة السوق قانونيّة البيع والشراء. وهذا يعني أنّ علاقات السوق تتغلغل في سلوك الأفراد، وترسم حدود علاقاتهم الإنسانيّة وتفاعلاتهم الاجتماعيّة، وهذا الأمر يتخطّى الجوانب الاقتصاديّة والمادّيّة إلى الجوانب الإنسانيّة والروحيّة(11). وعلى هذه الصورة تتغلغل القيم السوقيّة إلى المجال الإنسانيّ، وتتحوّل الظواهر الإنسانيّة إلى قيم مشيئة، وتغرق الحياة الإنسانيّة في مستنقع التشيّؤ الّذي يشمل مختلف جوانب الحياة مثل: الفكر والطبّ والتعليم والفنون والسياسة وغيرها "ويصبح مقبولاً، على سبيل المثال فقط، دفع مقابل ماليّ لتجريب أدوية جديدة على من يدفع لهم، أو شراء أعضاء بشريّة، أو بيع المواطنة لمهاجرين يستطيعون دفع الثمن المطلوب فيها بأشكال مختلفة، أو شراء أصوات الناخبين في الانتخابات، أو كتابة أعمال «أدبيّة» لمصلحة شركات كبرى تستخدمها في الترويج لنفسها" (12).3720 زومبي

3- عولمة التشيّؤ:

يتمثّل جوهر العولمة ثقافيّاً في عمليّة اغتصاب ثقافيّ ينال من كرامة الإنسان ويستهدف إنسانيّته، وتتمثّل هذه الثقافة في أنساق متنوّعة من الفعاليّات المنظّمة الساعية إلى تشكيل الإنسان على منوال القيم والمعايير الّتي تحكم اتّجاهات الحياة ومطالب السوق الرأسماليّة الجديدة. إنّها تهدف إلى بناء الروح الاستهلاكيّة عند الإنسان وتنميطه في طرازات ذوقيّة قيميّة تحدّدها مطالب السوق الرأسماليّة الجديدة. ووفقاً لهذه المنهجيّة يمكن القول بأنّ ثقافة العولمة بأنّها "فعل اغتصاب ثقافيّ وعدوان رمزيّ على سائر الثقافات، تعبير عن انسحاق الإنسان أمام سطوة الآلة والتقدّم العلميّ وتمركز رأس المال وانعدام القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة وسيادة منطق الربح والفرديّة والبقاء للأقوى من خلال تجارة السوق والمعلوماتيّة والاستلاب الثقافيّ للشعوب والدول والقوميّات"(13).

ويميّز حنّا أرنت (Arendt Hannah)(1906- 1975) في كتابه شرط الإنسان الحداثيّ (La condition de l’homme moderne) (14) بين عالمين حيث يعرض ما بين الأعمال الفنّيّة الّتي تنتسب إلى عالم غير زمنيّ للثقافة وبين الاستهلاك في عالم ما بعد الحداثة. فعالم ما بعد الحداثة يمثّل نهاية الثقافة السامية وهيمنة الاستهلاك بوصفه ثقافة حيث تقاس الثقافة بمعيار الاستهلاك.

وفي عصرنا هذا أصبحت القيمة العليا هي القيمة الاقتصاديّة بامتياز، فقيمة الأشياء، وقيمة الأشخاص تحسب اليوم بمعايير الاستهلاك وبالقدرة على الاستهلاك. ومن ثمّ فإنّ لذّة الاستهلاك هي معيار سعادتنا المعاصرة. ونحن اليوم لا نزهو، كهؤلاء الرجال ما بعد الحرب، بعملنا وثقافتنا، ولسنا من هؤلاء الّذين تبهرهم الأيديولوجيّات السياسيّة، وتسحرهم العقائد الفكريّة، كما هو حال الأجيال المثقّفة في الستينيات، ولم نعد هؤلاء الّذين تسحرهم شعارات الثورة والتقدّم. نحن لا نريد تغيير العالم، بل نريد أن نحقّق الفوائد ونستفيد. لقد تحوّلنا إلى أطفال المتعة الصناعيّة، إنّنا نعيش في عصر الدعاية والإعلان، والإعلان هو اليوم آخر معاقلنا حيث نشكّل منذ نعومة أظفارنا تحت مطارقه وتأثيراته. وما تعلّمنا إيّاه الإعلانات هو أنّ الحياة تعني الاستفادة والربح وتأكيد الذات. فالحياة أصبحت كالحركة في داخل صالات التلفزيون وقاعاته الفاخرة، وفي الكليب فيديو حيث كلّ شيء يكون على ما يرام، أو حيث كلّ شيء يمضي سريعاً وخاطفاً، حيث تكون الصورة سريعة جميلة برّاقة خاطفة، وفي المكان الّذي يلهو فيه الناس ويستمتعون. لقد عمدنا في مياه النزعة إلى اللذّة وغمسنا في ماء الحياة القائمة على الربح والاستهلاك والإثارة. إنّ هاجس الحياة اليوم هو اللهو واللذّة والمتعة، وقد أصبحت هذه معايير نموذجيّة لنمط الحياة الثقافيّة المعاصرة. وعنّا يتساءل عبد الخالق عبد اللّه حول الهويّة الّتي تعدّ بها العولمة معلناً بأنّه إنّها هويّة استهلاكيّة مسطّحة لا عمق فيها ولا معنى. إنّها ثقافة السلعة والتسويق والربح، إنّها توحّد شباب العالم على قيم الاستهلاك واللذّة، إنّها ثقافة الأزياء، والمأكولات، و"البيتزا"، والمياه الغازيّة، والأفلام الإباحيّة، وأغاني "مادونا"، و"مايكل جاكسون"، وملابس الجينز، وماركات "كلفن كلاين"، و"بينيتون"، و"التيتانك"، وحرب النجوم" (15).

لقد "أصبح المشروع الثقافيّ الغربيّ رهين الإمبراطوريّات السمعيّة والبصريّة وسجين إرادتها؛ واستطاعت هذه الإمبراطوريّات بما تمتلك عليه من نفوذ وقوّة وسلطة، أن تأسر البشر وتسحرهم عبر " تكنولوجيا الإثارة والتشويق " وأن تعمل بصورة مستمرّة متواترة على وأد حاسّة النقد لدى المتلقّي الّذي يجد نفسه في نهاية المطاف مروّضاً على قبول جميع القيم الاستهلاكيّة لثقافة العولمة دون اعتراض عقليّ أو ممانعة نفسيّة "(16). هذا التأثير الترويضيّ على خطورته يتضاءل أمام المخاطر الّتي تتمثّل في قدرة هذه التكنولوجيا على محاصرة البشر في واقع افتراضيّ لا صلة له بالحياة أو مع الحياة. وبالتّالي فإنّ هذا الواقع الافتراضيّ يضعنا أمام كابوس إنسانيّ" يتحوّل فيه الإنسان إلى رأس تنمو منه مجموعة من الأطراف الضامرة، ويتغذّى ويتحرّك بواسطة الآلة، هذا إذا ما كان لا يزال بحاجة إلى الحركة، إذ من الممكن أن يكون الواقع كلّه قد آل إلى افتراضي، كما يتصوّر فيلم الخيال العلميّ ماتريكس (المصفوفة (17).

في العشرينات من القرن العشرين كانت ثقافة المتعة والاستهلاك ثقافة خاصّة بفئة من أبناء الطبقة الاجتماعيّة الثريّة في أمريكا، ولكنّها اليوم تحوّلت إلى طابع ثقافيّ عامّ في مختلف مستويات الحياة الثقافيّة الجارية في مختلف المجتمعات المعاصرة. فما بعد الحداثة يمثّل اليوم إمبراطوريّة القيم الأداتيّة، حيث تأخذ الأشياء قيمتها وفقاً لمعيار الاستهلاك وتحقيق اللذّة والمتعة. وهنا وفي دائرة هذه الثقافة الجديدة نجد معياراً واحداً قوامه أن تتمثّل قيمة كلّ الأشياء في قابليّتها للاستهلاك السريع وتوفير المتعة السريعة، وهذا المعيار ينسحب في جدواه على مختلف المظاهر بدءاً من الكتب والأفلام والموسيقى، مروراً بالعمل والإنتاج، وانتهاء بكلّ مظاهر الحياة الثقافيّة ومستلزماتها. فالأشياء ومن أجل أن تكتسب قيمتها يجب أن تكون وفقاً لمعايير الاستهلاك القائمة مثيرة ممتعة سريعة وافية وقتيّة وعابرة.

وعندما نركّز اهتمامنا حول ما يجري حولنا سنجد حضوراً صارخاً لنزعة لذويّة شبقيّة متقدّمة تلهبها دورة إعلاميّة مسعورة دافعة إلى قيم الاستهلاك والمتعة والسطوة. وفي دائرة هذا الجنون الاستهلاكيّ والنزعة الرغبويّة الشبقة يفقد كلّ نشاط أو فعل يعتمد على التأمّل والتعقّل والنظر والصبر والانتظار قيمته ودلالته ومعناه. وهذا يعني أنّ كلّ النشاطات الإنسانيّة الّتي لا ترتبط بالاستهلاك واللذّة والسرعة تصبح مدعاة للسخرية والازدراء والاحتقار. وهذا الانحسار القيميّ يشمل اليوم كلّ صيغ التربية التقليديّة وكلّ معاني الثقافة التقليديّة القائمة على معايير إنسانيّة سامية ومختلفة.

وفي هذا السياق يمكن القول بأنّ ثقافة العولمة بوصفها مرحلة ما بعد حداثيّة" تُفيلق الفرد وتنظّمه في طرازات ذوقيّة استهلاكيّة ترتفع فيها قيمة السلعة من قيمة استعماليّة إلى قيمة مادّيّة بحدّ ذاتها فتُقتنى لأجلها. وبكلام آخر فإنّها تكيّف الفرد وفق نمط واحد، وبعد واحد، وتتغلغل صنميّة السلعة إلى تلك المناطق من الخيال ولنفس الّتي اعتبرت دائماً منذ الفلسفة الكلاسيكيّة الألمانيّة معقلاً أخيراً يستحيل اختراقه على المنطق الأداتيّ لرأس المال" (18). وهذا وتعتمد ثقافة العولمة "إغراءات لا تقاوم تجعل البعض يتقبّل بسهولة ضغط العولمة، أو يطالب من تلقاء نفسه بإحدى منافعها الظاهرة" (19). ومثال ذلك إغراءات الحاسوب الّتي تتمثّل في برامج وألعاب ومعلومات مذهلة للعقل الإنسانيّ. وهناك تأثيرات الصوت والصورة والإنترنيت والأغاني والأفلام المدمجة الّتي تسحر العقل، وتستلبّ لبّ الإنسان بما تمتلك عليه من قدرة وسحر وشاعريّة وإبداع. وهناك التكنولوجيا المذهلة الّتي تخلب العقل، وتستلبّ الوعي بما فيها من غرائب وعجائب وهلوسة، وهذا عداك عن سحر الصورة التلفزيونيّة وقدرتها المدمّرة للعقل في استهواء النفوس والقلوب وتشكيل الأذواق.

4- مظاهر التشيّؤ:

يقول ماركس "إنّ الرأسماليّة ستجعل كلّ الأشياء سلعاً: الدين والفنّ والأدب وستسلبها قداستها. - كارل ماركس" وقد صدق تنبّؤ ماركس فالتشيّؤ يحيط بكلّ مظاهر الحياة والوجود في المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة، إذ يتمّ تسليع كلّ شيء وتحويله إلى منتج، ويشمل ذلك مختلف مظاهر الوجود: الطبيعيّة والإنسان الزواج والحبّ والأدب والشعر والعلاقات العائليّة، وقد اقتحم هذا التشيّؤ كلّ أشكال الإيمان مخترقاً أصعب مستوياته الّتي تتمثّل في العقائد الدنيّة الصلبة.

ومن الواضح أنّ الأمر الأوّل الّذي حوّل إلى أداة أو شيء هو العلم الّذي تحوّل إلى قوّة أداتيّة جبّارة وظّفت في استلاب الطبيعيّة والإنسان. وممّا لا ريب فيه أنّ العلم والمعرفة العلميّة والعلوم قد تحوّلت إلى طاقة جبّارة مفرغة من المعاني تهدف إلى السيطرة والضبط والقوّة.

واقتحم التشيّؤ عالم الرياضة، وقد تحوّل هذا العالم إلى سوق ضخمة جبّارة يباع فيها كلّ شيء يتعلّق بالجسد والقوّة واللعب. وفي هذه النخاسة الرياضيّة يتمّ بيع اللاعبين وتحديد أسعارهم بصورة مستمرّة ودائمة. ومن الواضح أنّ هذا القطاع قد أصبح جزءاً أصيلاً في عمليّة التشيّؤ الإنسانيّ؛ إذ يخضع اليوم بصورة كلّيّة لقوانين العرض والطلب والتسويق والتسليع، وقد فقد البعد الإنسان الكامن في تحقيق التفاعل الإنسانيّ والتكامل الأخلاق.

وقد أشرنا كثيراً إلى ظاهرة تشيؤ الفنّ والأدب وتحويلهما إلى قوّة استلابيّة تمارس دورها في الماكينات الاغترابيّة في المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة، ومن الكارثيّ اليوم أن يفقد الأدب والفنّ والشعر قيمته الإنسانيّة، وأن يتحوّل من قوّة تحرير للروح والقلب والعقل والضمير إلى قوّة استعباديّة تمارس فعاليّة القهر والإكراه في خدمة الأنظمة الاجتماعيّة الرأسماليّة السائدة.

ومن أخطر مظاهر التشيّؤ في المجتمعات المعاصرة يتمثّل فيما تتعرّض له المرأة اليوم من فعاليّات اغترابيّة استلابيّة مستمرّة تدفعها إلى مستنقع التشيّؤ والعدميّة. لقد وظّفت الرأسماليّة تشيؤ المرأة كأداة جبّارة في استلاب الوعي الجمعيّ في المجتمع. وقد أصبح جسد المرأة يعامل على أنّه شيء، وينظر إلى المرأة بوصفها طاقة جنسيّة محرّضة على الاستهلاك. ولا ريب أنّ معظم الدعايات الإعلانيّة ترتبط بجسد المرأة الّذي أصبح أخطر عنوان لاغتراب الإنسانيّة والإنسان. والأدهى من كلّه الأمر الّذي يتعلّق بتجارة الجنس وتجارة القاصرات الّتي انتشرت كالنار في الهشيم في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعيّة في المجتمعات الرأسماليّة المعاصرة. ويلاحظ في هذا السياق ظاهرة انتشار صالونات التجميل وعمليّاته بطريقة فائقة في هذه المجتمعات، ويتّضح أنّ المجتمع بدأ يتعامل مع جسد المرأة بطريقة يمكن تعديله وتطويره وتصنيعه كما يجري في عالم الأشياء. ويتّضح ذلك بوضوح في أحد الإعلانات الّتي تصوّر امرأتين ورجلاً يقرّر: "هل يدفع زوجته الحاليّة للذهاب إلى طبيب التجميل أم يستبدل بها امرأة ثانية؟". وعلى هذه الصورة تأخذ المرّة صورتها في المجتمعات الرأسماليّة على أنّها طاقة جنسيّة وجسد يلبّي احتياجات الرجل؛ وعلى هذا النحو فقدت المرأة قيمتها الإنسانيّة الأخلاقيّة بوصفها أمّاً وزوجة وإنسانة، وفقدت الدلالة العاطفيّة الّتي تتمثّل في أنّ المرأة هي مصدر أجمل العواطف وأبل المشاعر وأقدس الأمنيّات. ويمكن القول في هذا السياق: إن تشيؤ المرأة يعود إلى ممارسة الضغط الإعلاميّ الّذي يقدّمها سواء عن طريق التلفزيون أو الصحف أو الكتب أو وسائل التواصل الاجتماعيّ على أنّها قوّة مشيئة وسلعة قابلة للتطوير والاستهلاك. ومن المناسب هنا أنّ جسد المرأة شكل، وما زال يشكّل أهمّ عوامل التسليع والترويج للسلع في العالم المعاصر. فالمعلن عندما يضع إعلاناً لبيع أيّ شيء تقريباً يربطه بجسدها، وربّما بأكثر مناطق الجسد إثارة وتحريضاً وخصوصيّة.

ومن المدهش أنّ التشيّؤ قد توغّل وأحكم قبضته على أنظمة التعليم والتفكير، وقد تحوّلت المدارس والجامعات إلى أسواق رأسماليّة كبرى تباع فيها المعرفة وَتُشْرَى بوصفها سلعاً رأسماليّة. وما يجري في عالم التربية يتجانس إلى حدّ كبير مع فعاليّات السوق والماركة والعرض والطلب. والأموال تشتري الشهادات العلميّة، وتباع الشهادات والبحوث والدراسات في الأسواق الرأسماليّة التربويّة الرائجة. ومن اليقين أنّ معظم ما يجري في عالم المدرسة يجري وفق قوانين التسليع الرأسماليّ. ومن يتأمّل سيجد بأنّ التعليم في معظم البلدان بدأ يرتبط ببرامج البنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ وهي أخطر المؤسّسات الماليّة الرأسماليّة الّتي تعمل على توظيف التعليم رأسماليّاً في خدمة الإنتاج الرأسماليّ. ومن المؤكّد أنّ هذه المنظّمات الماليّة تعمل على توجيه التعليم رأسماليّاً وتحويل برامج ومناهج المدارس بما يخدم المجتمع الرأسماليّ ومتطلّباته الصناعيّة الإنتاجيّة والاستهلاكيّة.

ومن المهمّ في هذا المجال الإشارة إلى عمليّة التشيّؤ طغت لتشمل مختلف القيم الإنسانيّة، وقد تحوّلت القيم في معترك المجتمع الصناعيّ إلى قيم مشيئة ‘إذ فرغت من ومض دلالاتها الإنسانيّة الروحيّة والأخلاقيّة. وعلى هذه الصورة الاغترابيّة أصبحت القيم الإنسانيّة ترتبط بالمنافع، فكلّ ما ينفع هو حقيقيّ ذو قيمة، وكلّ ما لا ينفع ليس له قيمة في سوق النخاسة الرأسماليّ. وأصبح الإنسان بكلّيّته يقيم بما يملكه من سلع وبما ينتجه في عالم السلع. ونجد تأكيداً لهذا التصوّر فيما قاله ماركس يوماً: «إنّ سائر القيم تحوّلت إلى مجرّد قيمة تبادليّة نفعيّة» وها هو هابرماس بدوره يقرّ " بأنّ القيم الإنسانيّة في ظلّ الحداثة الغربيّة تحوّلت إلى سلعة تباع، وَتُشْرَى، وأصبحت السيادة لوسائل الإنتاج وعلاقاته؛ لذا أضحت القيم خالية من كلّ معنى" (20).

5- فنّ التشيؤ:

يصاغ مفهوم التسليع في صورته في اللغة الإنكليزيّة بكلمة (Commodification) ويعني تحويل الأشياء إلى بضاعة (merchandise) تباع وَتُشْرَى في السواق، والتسليع يقابل التشيّؤ مفهوم (Reification) وهذا يعني أنّ التسليع هو تحويل الأشياء إلى سلع أيّ إلى أشياء خاضعة لقوانين التسوّق الرأسماليّ ولاسيّما قانونيّ العرض والطلب والقيمة التبادليّة والقيمة الرمزيّة. والتسليع يؤدّي إلى تحييد العالم والنظر إليه بوصفه كياناً مادّيّاً استعماليّاً لا يرتبط بأيّ مشاعر أو غايات إنسانيّة. وعندما يتحوّل الإنسان إلى سلعة، فإنّه يتشيّأ أو لنقل أنّه عندما يتشيّأ يتحوّل إلى مجرّد سلعة تخضع لقانوينة النخاسة الرأسماليّ.

عملت الرأسماليّة الجديدة على تحويل العالم إلى أشياء، وقد شمل هذا التحويل الفكر والثقافة والإنسان والدين والأدب والأخلاق فجعلت منه عالماً مجرّداً من القيم والأخلاق والروح الإنسانيّة، ولم تبق في عالمنا إلّا قيم الربح والنفوذ والهيمنة والسيطرة. ولا ريب أنّ الرأسماليّة تشكّل بطبيعتها عالماً متشيّئاً، وهي تعمل بذاتها وبصورة عفويّة إلى تحويل كلّ مظاهر الوجود إلى أشياء. فالعالم وفق المنظور الرأسماليّ يجب تحويله إلى أشياء إلى سلع تباع وَتُشْرَى من أجل غاية واحدة هي تعظيم الأرباح المادّيّة وتمجيد قيمة التملّك والتسلّط والاستهلاك والإنتاج.

وفي دورة التشيّؤ هذه عملت الرأسماليّة على تشييء الوعي والفكر والثقافة وتحويل هذه الظواهر المعنويّة إلى سلع، أو إلى قوّة سلعيّة توظّف في خدمة التسليع الرأسماليّ الّذي لا يقف عند حدود. ويرى ليوتارد في كتابه المعروف “حالة ما بعد الحداثة” (1979) أنّ المعرفة لم تعد حاجة روحيّة كما كانت في العصور السابقة، بل أصبحت سلعة كباقي السلع تخضع لقوانين التسليع الرأسماليّ، أي أنّها تُشْتَرَى، وتباع في السواق شأنها شأن السلع المادّيّة الأخرى. ومن الواضح أنّ التكنولوجيّات الجديدة جعلت المعرفة في أرقى أشكالها مجرّد سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب في الأسواق الرأسماليّة. ويشير ليوتارد في هذا السياق إلى أنّ السلعة اكتسبت بعداً جديداً يتمثّل بالقيمة الدلاليّة مثل “الماركة” وغيرها. وهذه القيمة الجديدة هي الأهمّ، وعلى أساسها يعمل مجتمع الاستهلاك ما بعد الحداثيّ، وتتمحور حولها العلاقات الإنسانيّة والحياة العصريّة؛ وعلى هذا الأساس يتّضح لدينا أن لم يبق من سحر الحياة وجمالها إلّا صوت البارود والنار.

ولم تقف حركة التسليع عند حدود الثقافة والمعرفة، بل اتّجهت إلى اغتصاب الفنّ والأدب والشعر والموسيقى والآداب الّتي تحوّلت إلى مجرّد وسائل وأدوات وسلع تباع أيضاً في السوق الرأسماليّة، والأخطر من ذلك كلّه أنّ النظام الرأسماليّ المتوحّش حول الطاقة الروحيّة للأدب والفنّ من قوّة تحرير للإنسان إلى قوّة فتّاكة في تعظيم الروح السلعيّة للمجتمع الرأسماليّ. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى جهود كلّ من أدورنو وهوركهايمر في كتابهما "جدل التنوير" الذيّ يتضمّن تناولاً قيماً لوضعيّة تشيؤ الفنّ والإبداع والثقافيّة، وفيه يصفّان الكيفيّات الّتي انحطّ فيها العمل الفنّيّ في ظلّ المجتمع الصناعيّ، وتحوّل إلى سلعة، وفي الوقت نفسه إلى أداة لترسيخ نظام التشيّؤ في المجتمع الرأسماليّ، وفي ظلّ هذا النظام المدمّر فقد كلّ من الأدب والفنّ قيمته الإنسانيّة وقدرته على التأثير الخلّاق قلوب البشر، وفي عواطفهم وميولهم. لقد تحوّل الفنّ في دورة التوحّش الرأسماليّ إلى سلعة رخيصة شأنها شأن السلع المادّيّة الاستهلاكيّة تستهلك للتسلية وتسطيح الوعي وتدمير الأعماق الإنسانيّة، وعلى هذا النحو فقد الأدب وظيفته الأخلاقيّة، ودُمِّر الدور الروحيّ للفنّ الّذي يفترض به أن يوقظ الروح الإنسانيّة لا أن يشوّه معالمها (21). وعلى هذه الصورة أدّى تسليع الإنسان العمليّة الّتي أزاحت الإنسان عن مركزه في الكون، فانتقلت به من صورته الغائيّة إلى صورته الأداتيّة، وهذا يعني أنّ الإنسان أصبح شيئاً أو أداة أو وسيلة بعد أن كان غاية وروح وفكراً وعقلاً، وهذا التحوّل يمثّل جوهر التشيّؤ الإنسانيّ.

ولم يقف التسليع عند حدود التشيّؤ المادّيّ الخارجيّ للإنسان بوصفه قوّة عمل فحسب، بل تغوّل هذا التسليع ليستولي على العالم الداخليّ للإنسان، فنفذ إلى أعمق تكويناته الروحيّة والأخلاقيّة ليستولي على عقله وروحه ومشاعره الإنسانيّة الدفينة، فجعل من هذه السمات الروحيّة قوّة استهلاكيّة تسعى إلى تحقيق الإشباع اللذويّ الخالص الّذي يتعلّق بالجنس والمخدّرات والجريمة والمال والربح والسيطرة. وعلى هذا النحو تبدّدت أحلام الإنسان الأخلاقيّة، وتعطّلت معه نوازعه الروحيّة، وخبّت فيه المثل الإنسانيّة فتحوّل إلى وحش استهلاكيّ داجن مدجّن بالعنف مهووس بالرغبة مخبول بالجشع والاستهلاك مجبول على قيم الحيازة والسيطرة.

ومن مظاهر ذلك ودلالاته الّتي نعيشها اليوم: "ظاهرة التسليع الّتي شملت حتّى البشر - بيع وشراء لاعبي الكرة المحترفين مثالاً - ووقوع الناس تحت سيطرة الميول الاستهلاكيّة والشركات الكبرى، وانحيازهم لجانب الثورة المعلوماتيّة وقنوات التواصل الاجتماعيّ. وتأتي قمّة التشيّؤ؛ في تحوّل الإنسان في حدّ ذاته إلى رقم مجرّد. إنّ الدلالة الممكنة لمعرفة الشخص نفسه أو التعرّف عليه من غيره من اليوم فصاعداً؛ هي في الأرقام الّتي تمثّله، وليس في شكله، أو اسمه، أو عرقه وفصيلته" (22).

وفي ظلّ هذا التشيّؤ أصبحنا اليوم نعيش في عالم "أصبح فيه المؤقّت مركزيّاً، نعيش حياة مؤقّتة، وأعمالاً مؤقّتة، وعلاقات مؤقّتة، وزواجاً مؤقّتاً، وسكناً مؤقّتاً، كلّ ما نستخدمه أيضاً في حياتنا اليوميّة أصبح مؤقّتاً كالمناديل الورقيّة والأكياس والأكواب والملاعق البلاستيكيّة، لا شيء يحمل علامة، لا شيء يحمل معنى؛ لأنّ كلّ شيء زائل، فقد تحوّل الانتباه الثقافيّ المعاصر من الكينونة أو الوجود في العالم إلى السيرورة أو العبور في العالم، إنّه عالم العابر والمؤقّت"(23). وهذا العبور المؤقّت يمثّل سمة تجاريّة تدول على زواليّة السلعة في العالم الرأسماليّة؛ لأنّ الزوال قانون تجاريّ سلعيّ مركزيّ في النظام الرأسماليّ، ومثال ذلك أنّه لا توجد سلعة منتجة ما يحدّد لها تاريخ التصنيع وتاريخ الصلاحيّة، لأنّ الديمومة في الأشياء أمر مضادّ لطبيعة الاستهلاك واستمراريّة الاستثمار في الإنتاج والتصنيع والاستهلاك.

6- خاتمة:

في زمن التشيّؤ تحوّل العلم إلى صناعة، واتّخذت المعرفة هيئتها في التجارة، وتحوّلت الثقافة إلى اقتصاد والتربية إلى ربح وفساد، وأصبحت المعرفة والثقافة احتكاراً للشركات الرأسماليّة الكبرى، وأصبح العلم رهين من يمتلك القدرة على شراء الشهادات، وأصبحت المعرفة أداة للسيطرة الاقتصاديّة، وها هي الشركات الاحتكاريّة الكبرى تتنافس في مجال المعلوماتيّة فيما بينها على تصنيع المعلومات، "وتصبح أسماء IBM، Macintosh لا تقلّ أهمّيّة عن الشركات العابرة للقارّات المتعدّدة الجنسيّات في الإنتاج الصناعيّ Mitsubishi, Panasonic, Sanyo, Sony، نيسان، هوندا، تويوتا، وتختلط أسماء العربات مع أسماء شركات أجهزة المعلومات، كلاهما إنتاج وتصنيع، لا فرق بين صناعة الذهن وصناعة السيّارة، بين صناعة العلم والصناعات الاستهلاكيّة، الكلّ يسعى إلى الربح والسيطرة على الأسواق لا فرق بين الأذهان والأبدان، بين الاستهلاك المعرفة واستهلاك السلع" (24) .

في هذا الزمن الموحش، لم يعد هناك شيء محظور إذ هو عالم البيع والشراء ، فكل الأشياء تباع وَتُشْرَى : الجسد الروح المعنى الفنّ الأدب الموسيقا. وفي هذا العالم المختنق بقيم الربح والاستهلاك يفقد الناس خصوصيّتهم وكرامتهم، وتتحوّل حياتهم الخاصّة إلى سلع رغماً عنهم، فالناس يراقبون بوسائل التنصّت ويحاصرون بالتصوير، ولم تعد هناك حصانة أو أسرار. إذ لم تبق هناك حرمة أمام أجهزة الإعلام ووسائل الاتّصال الحديثة، كلّ شيء عرضة للاتّجار للإعلام. والشركات الكبرى تنفق اليوم بلايين الدولارات للسيطرة على الفكر وصناعة الثقافة وتصنيع الرأي العامّ وتشكيل المعتقدات وتدمير الفكر الإنسانيّ المضادّ لوضعيّة الاغتراب، وأصبحت القيم مخلوعة من جذورها مقلوبة في تشكيلها مغلوبة على أمرها: "فالرأسماليّة حرّيّة، والاستغلال منافسة، والاحتكار تجارة، والربح عرض وطلب، ورأس المال الأجنبيّ عمّالة، والاستهلاك تسويق، والإنتاج وفرة، وحماية الصناعات الوطنيّة انغلاق. والخصخصة انفتاح، والدولة تطغى على المجتمع المدنيّ، والمجتمع المدنيّ بديل عن الدولة، كما تركّز رأس المال في الشركات العابرة للقارّات كذلك تركّز الإعلام في المراكز الاقتصاديّة والقوى السياسيّة نفسها لا فرق بين رأس المال والقوّة الكبرى والقمر الصناعيّ" (25).

وعلى هذه الصورة يقال إنّ الإنسان قد تشيّأ "زومبياً" : جسد بلا روح !!! وهو الزمن الرأسماليّ الذي لم ولن يقف عد حدود تشيؤ الجسد والعمل والقيم، بل استطال هذا التشيّؤ وامتدّ ليسكن الروح الّتي فارقت عالم المعاني، واشتطّت هبوطاً في عالم الأشياء، وقد أصبحنا أرواحاً هائمة في عالم الأشياء، أرواح تباع وَتُشْرَى كما هي الدمى وألعاب الأطفال. وقد لا نبالغ بأنّ الكائن البشريّ في هذا الزمن الصعب قد تحوّل كائن "زومبي" أجساد بلا أرواح تهيم في عالم لا روح فيه، وتلك هي الحقيقة الّتي عبّر عنها طاغور في قوله الشهير: " إنّ الحضارة المادّيّة ستخسر كلّ شيء إذا فقدت روحها، وأنّ البشريّة ستصبح مهدّدة بالفناء في ظلّ جسد بلا روح، وعندما تصبح الحضارة بلا قلب، فإنّها ستفقد أهمّ مقوّمات الحياة (26). ونستطيع أن نردّد مع طاغور بأنّ الحياة في الزمن الرأسماليّ فقدت المعنى والقلب والروح، بل نزيد على طاغور بالقول إن الحضارة المعاصرة أصبحت حضارة زومبية يعيش فيها الناس أجساداً بلا أرواح أو أرواحاً هائمة في عالم الأشياء ، ولم يبق للإنسان إلّا الأمل إذ كان الأمل ما زال باقياً في صندوق باندورا المكسور.

***

عليّ أسعد وطفة

كلّيّة التربية – جامعة الكويت

.......................

هوامش المقالة ومراجعها:

(1) - الزومبي أو الموتى الأحياء (Zombie)‏ هو الجثة المتحركة التي أثارتها وسائل سحرية من الساحرات أو حدث خطأ بالعقل وغالبا ما يطبق هذا المصطلح غير الحقيقي لوصف شخص منوم مجرد من الوعي الذاتي. يأتي المصطلح من الفولكلور الهايتيّ حيث الزومبي هو جسد ميت يتم إحياؤه بطرق مختلفة معظمها تنطوي على السحر.

(2) - عدنان عويّد، التشيؤ، الأربعاء، تلاسكف، 1 أكتوبر 2018.

https://www.tellskuf.com/index.php/authors/1111- add/77944- cb178.html

(3) - ستيفن إريك برونر، النظرية النقدية: مقدمة قصيرة جدًّا، ترجمة سارة عادل، مراجعة مصطفى محمد فؤاد ، القاهرة ، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع ، 2016 . ص 43 .

(4) - Martha C. Nussbaum, Objectification , Philosophy & Public Affairs, Vol. 24, No. 4 (Autumn, 1995), pp. 249- 291. https://www.mit.edu/~shaslang/mprg/nussbaumO.pdf

(5) - Rae Langton, Sexual Solipsism: Philosophical Essays on Pornography and Objectification, Oxford, GB: Oxford University Press (2009). https://web.mit.edu/langton/www/pubs/SexualSolipsism.pdf

(6) - عبدالوهاب المسيري، "التشيؤ" وما بعد الحداثة، مجلة العربي الكويتية، العدد 464. 19- 3- 2024. https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/3453

(7) - عبد الغفار مكاوي ، تجارب فلسفية ، مؤسسة هنداوي ، القاهرة ، 2020 . ص 95 .

(8) - محمود حيدر، وثن التّقنيّة وعبادة الشّيء، فصليّة «الاستغراب »، العدد الخامس عشر، السّنة الرّابعة، ربيع 2019 .

(9) - ستيفن إريك برونر، النظرية النقدية: مقدمة قصيرة جدًّا، ترجمة سارة عادل، مراجعة مصطفى محمد فؤاد ، القاهرة ، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع ، 2016 . ص 45 .

(10) - أنجيل الشاعر ، الاستلاب في ظل العولمة: كيف أفقر الإنسان نفسه؟ حفريات ، 29- 10- 2023 . https://bitly.ws/3frRI

(11) - وحيد عبد المجيد، الرأسمالية.. وظاهرة التشيؤ في المجتمعات الحديثة، آفاق اجتماعية - العدد الثاني - أغسطس 2020، صص 1- 5. ص 4.

(12) - وحيد عبد المجيد، الرأسماليةـ المرجع السابق، ص 4.

(13)- عبد الله أبو راشد، العولمة: إشكالية المصطلح ودلالته في الأدبيات المعاصرة، معلومات دولية، العدد 58، خريف 1998، صص 19- 25، ص 23.

(14) - Hannah Arendt, La Condition de l'homme moderne, Broché - 15 octobre 2002.

(15)- عبد الخالق عبد الله، عبد الخالق عبد الله، العولمة جذورها وفروعها وكيفية التعامل معها، عالم الفكر، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ديسمبر 1999. صص 79- 80.

(16)- عبد الإله بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، دار إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1998، ص121.

(17)- - كفاح الفني، طفل الفضاء الافتراضي وهمهمات في أذن المستقبل ،التكنولوجيا أداة لصياغة الهوية في بعد معرفي تحرري، مركز القطان، موقع إليكتروني.

http://www.qattanfoundation.org/pdf/1564_24.doc.

(18)- محمد جمال باروت، الدولة والنهضة والحداثة، مراجعات نقدية، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2000، ص 129.

(19)- عبد الله الخياري، التعليم وتحديات العولمة، فكر ونقد، عدد 12، السنة الثانية، أكتوبر، 1998، صص 45- 82،ص 45.

(20) - عماد الدين عبد الرزاق، الحداثة الغربية وتشيؤ القيم، المجلد 16، العدد 62 (30 سبتمبر/أيلول 2018)، ص ص. 291- 300، ص 292.

(21) - عبد الغفار مكاوي ، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مؤسسة هنداوي ، القاهرة ، 2017. ص 20.

(22) - حمّاد السالمي ، تشييء «الناس»؟! الجزيرة ، الأحد 14 اغسطس 2016 . https://www.al- jazirah.com/2016/20160814/ar2.htm

(23) - وائل فاروق ، ديمقراطية العدم .. ما بعد الحداثة تلعب دورًا حاسمًا في تقرير مصائر الأمم ، مجلة الفيصل ، العددان 499- 500 ، مايو /يونيو ، 2018 ، (صص 68- 78) ، ص 72.

(24) - حسن حنفي ، ثورة المعلومات بين الواقع والأسطورة ، ضمن أعمال : المجلس الأعلى للغة العربية (2007) ندوة الطريق إلى مجتمع المعرفة وأهمية نشرها باللغة العربية المنعقدة بالجزائر يومي:13 و 14 نوفمبر 2007 .

(25) - حسن حنفي، ثورة المعلومات بين الواقع والأسطورة ، المرجع السابق .

(26) مجدي عزيز إبراهيم، المنهج التربوي العالمي، أسس تصميم منهج تربوي في ضوء التنوع الثقافي، مكتبة الأنجلو مصرية القاهرة 2001، ص 232.

 

أولا: حسن الاختيار ضمان لسلامة النشأة والإعمار

حماية النسب هي أساس حماية الطفل، وحماية هذا الأخير تبتدئ من "تخيروا لنطفكم"[1] و"تزوجوا الودود الولود "[2] و"إياكم وخضراء الدمن ... المرأة الحسناء في المنبت السوء"[3] و"تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"[4] و"إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ..."الحديث

هذه النصوص وغيرها تؤكد ابتداء حماية حقوق الطفل غيبيا وظاهريا وتحمي له حقوق الأداء الكاملة والناقصة وكذلك حقوق الوجوب، ومن ثم يتم التكامل بين مقتضى الغريزة ومقتضى الشرع، مقتضى النسب ومقتضى البنية الاجتماعية وتكاتفها والعصبية وإيجابياتها، كما نجد الدلالة عليها في النصوص القرآنية و الحديثية كقوله تعالى"زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب"[5]و"المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا .."[6]، " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا "[7].

فلقد حرص الإسلام على حفظ البنوة الشرعية ليس في مجرد حقوقها المادية المترتبة عن الميراث والنفقة والرضاع والحضانة أو حتى الانتماء الديني بالتقليد الأسري المحض وإنما في حقوقه الروحية التي قد يولد وهو مزود بأنوارها وإشعاعاتها التي ترسخت في ذاته منذ عالم الذر حيث يقول الله تعالى "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريا تهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟قالوا بلى!شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟"[8]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ..."[9] الحديث.

و للحيلولة دون تأثير الشيطان ومكايده على المولود وخاصة في باب الإيمان والحقوق الروحية للإنسان فإن الشرع بين لنا هذه الإجراءات الضرورية في الدعاء، لتحقيق هذا المكسب الذي يعد في الإسلام لب المكاسب وأثمنها قبل المواريث والتفاخر بالأحساب والأنساب يقول الله تعالى "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركا فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون" [10]

عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم :"أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله :بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ثم يقدر بينهما في ذلك أو قضي ولد لم يضره شيطان أبدا " [11].

ثانيا:حماية الحقوق الروحية للطفل أولوية وجودية

ففي الآية والأحاديث دلالات واضحة على حماية حقوق الطفل روحيا سواء قبل ولادته أو عندها بإسماعه ابتداء الآذان والإقامة، إذ قد تكون هناك لدى الأبوين رغبة في الولد وإلحاح في طلبه فيلجآن إلى الدعاء، لكن ما أن يتحقق لهما هذا الطلب حتى يتغير القصد وتبدأ الأوهام والانفلات العقدي يحوم حول قلبيهما في نسبة الخلق إلى غير الله تعالى من مخلوقاته وحصرها في الأسباب المادية أو الطبيعية المسخرة وغيرها؛ مما قد ينفلت إليه وهم الإنسان في نسبة الخلق والإبداع، بينما حقيقة تلك الأسباب الظاهرية في التوليد كما سبق وبينا ليست إلا وسائل جعلها الله تعالى مترتبة بعضها عن بعض لتحقيق تلك الخلقة، كما أنها بدورها مخلوقة، ومن ثم فالمخلوق لا يخلق وإنما هو بخلقته واستعداده للتشكل والتشكيل الخلقي خاضع لمشيئة الله وإرادته، ومن هنا جاء الاستفهام الإنكاري في الآية الموالية من قوله تعالى: "أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون "[12].

فلقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود في هذه الآيات بالخطاب كما يروى عن الحسن البصري:هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا "، وهذا من أحسن التفاسير كما - يعلق ابن كثير-وأولى ما حملت عليه الآية". [13]

إذن فحماية الطفل روحيا أولا قبل أن تصبح قضائيا وفقهيا، وذلك لحفظ العلاقة النسبية بينه وبين والديه وهي مبنية على الوحدة الدينية التي تربط الفرع بأصله، كما تحدد الانتفاع المادي بين الطرفين على سبيل الميراث وتبادل المنافع سواء في الحياة أو بعد الممات قد يفهم هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يتوارث أهل ملتين" [14].

ومن هذا البعد فقد كانت حقوق الطفل الروحية عند الصوفية خاصة أوفر منها عند أهل الظاهر والفتوى من الفقهاء الذين يرون أن الإسلام في حق الصبي الصغير الرضيع هو بحكم التبع فقط، وأما عندنا كما يقول الشيخ ابن عربي الحاتمي فهو"بالأصالة والتبع معا، فهو ثابت في الصغير بطريقتين وفي الكبير بطريق واحد وهو الأصالة لا التبع، فالإيمان أثبت في حق الرضيع، فإنه ولد على فطرة الإيمان وهو إقراره بالربوبية لله تعالى على خلقه حين الأخذ من الظهر الذرية والإشهاد، قال تعالى "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟قالوا بلى ."فلو لم يعقلوا ما خوطبوا ولا أجابوا، يقول ذو النون المصري :كأنه الآن في أذني، وما نقل إلينا انه طرا أمر اخرج الذرية عن هذا الإقرار وصحته، ثم إنه لما ولد ولد على تلك الفطرة الأولى، فهو مؤمن بالأصالة، ثم حكم له بإيمان أبيه في أمور ظاهرة فقال : "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان " يعني إيمان الفطرة" ألحقنا بهم ذريا تهم "فورثوهم وصلي عليهم إن ماتوا وأقيمت فيهم أحكام الإسلام كلها مع كونهم على حال لا يعقلون جملة واحدة، ثم قال "وما ألتناهم من عملهم من شيء"يعني أولئك الصغار ما أنقصناهم شيئا من أعمالهم، وأضاف العمل إليهم، يعني قولهم:بلى. فبقي لهم على غاية التمام ما نقصهم منه شيئا، لأنه لم يطرأ عليهم حال يخرجهم في فعل ما من أفعالهم عن ذلك الإقرار الأول ..."[15].

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

المملكة المغربية

......................

[1] رواه ابن ماجه عن عائشة

[2] رواه أبو داود والنسائي عن معقل ابن يسار

[3] رواه الدارقطني في الأفراد

[4] رواه البخاري ومسلم

[5] سورة آل عمران آية 14

[6] سورة الكهف آية45

[7] سورة النساء آية 11

[8] سورة الأعراف آية 173

[9] رواه البخاري في كتاب التفسير

[10] سورة الأعراف آية 189-190

[11] رواه البخاري في كتاب النكاح

[12] سورة الأعراف آية 191

[13] الصابوني: مختصر ابن كثيرج2ص74

[14] رواه الترمذي عن جابر

[15] ابن عربي: الفتوحات المكية، ج1، ص670

The magic of the mundane

بقلم : لوسي ماكدونالد

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أدرك عالم الاجتماع الرائد إرفينج جوفمان* أن كل فعل يكشف بعمق عن الأعراف الاجتماعية التي نعيش بها

فكر في المرة الأخيرة التي سقطت فيها في مكان عام. ماذا فعلت بعدها؟ ربما قمت بتعديل نفسك على الفور وواصلت العمل كما كان من قبل تمامًا. أراهن أنك لم تفعل ذلك، رغم ذلك. أراهن أنك ألقيت نظرة خاطفة أولاً على المناطق المحيطة بك لمعرفة ما إذا كان هناك شهود. إذا كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أنك انحنيت وتفحصت الأرض كما لو كنت تعرف سبب تعثرك، حتى لو كنت تعرف السبب بالفعل. أو ربما ابتسمت أو ضحكت على نفسك أو نطقت بكلمة مثل "عفوا!" أو "اللعنة". على أقل تقدير، أراهن أن معدل ضربات قلبك قد زاد.

تبدو هذه السلوكيات غير عقلانية. إذا لم تتأذى، لماذا تفعل أي شيء بعد العثرة؟ لسبب ما، فإن هذه الحوادث العامة (التعثر، أو الاصطدام بشيء ما، أو سكب شيء ما، أو دفع الباب، أو إدراك أنك قد سلكت الطريق الخطأ، ثم الالتفاف) تثير القلق الذي يجبرنا على الانخراط في سلوكيات غريبة.

وذلك لأنه، كما يوضح لنا عالم الاجتماع إيرفينغ جوفمان، ليس هناك شيء بسيط في المرور عبر مكان عام. وبدلاً من ذلك، يُتوقع منا دائمًا طمأنة الغرباء من حولنا بأننا عقلانيون وجديرون بالثقة ولا نشكل تهديدا للنظام الاجتماعي. نحن نفعل ذلك من خلال الامتثال لجميع أنواع القواعد غير المرئية، التي تحكم، على سبيل المثال، مدى المسافة التي نبتعد بها عن بعضنا البعض، وأين نوجه أعيننا، وكيف نتصرف. تساعدنا هذه القواعد المعقدة على فهم أنفسنا والآخرين. وإذا تم انتهاك هذه القاعدة، فإن "الأساس المشترك للفهم المتبادل السهل" يصبح مهدداً.

إن النظر إلى الأرض يشير إلى أنك لم تختر التحرك بشكل غريب: لقد تعرضت لعائق غير متوقع. ويشير الابتسام إلى أنك ترى الحادث "على سبيل المزاح، وهو أمر غير عادي إلى حد ما". وتشير الشتائم إلى أنه بما أنك تستطيع استخدام اللغة، فأنت شخص سليم العقل وأن سقوطك كان حادثة عابرة في حياة عادية. ومن خلال أداء مثل هذا "المشهد الطبيعي"، يعيد المرء ترسيخ نفسه كشخص مطلع، ويتم استعادة النظام.

أدرك جوفمان أن السلوكيات من هذا النوع، مهما كان حجم ما يُشعر بها، ليست نتيجة لمخاوف خاصة، أو وعي ذاتي مفرط، أو حرج. وبدلاً من ذلك، فهي استجابات معقولة من أشخاص متناغمين بشكل مناسب مع تعقيدات العالم الاجتماعي.

يكشف "علم الاجتماع الجزئي"** لجوفمان أنه حتى أكثر التفاعلات الاجتماعية تصادفا هي ذات أهمية نظرية عميقة. كل لقاء يتشكل حسب القواعد الاجتماعية والحالات الاجتماعية؛ "سواء تعاملنا مع الغرباء أو المقربين، فسوف نجد أن أطراف أصابع المجتمع قد وصلت بشكل مباشر إلى العلاقة". تساهم مثل هذه التفاعلات في وعينا الذاتي، وعلاقاتنا مع الآخرين، وبنيتنا الاجتماعية، والتي غالبًا ما تكون قمعية للغاية. بقطع النظر عن التعاملات في قاعة المحكمة، أو مجلس الشيوخ، أو بورصة الأوراق المالية، فإنه في التفاعلات الدنيوية للحياة اليومية، كما يعتقد جوفمان، "يتم إنجاز معظم عمل العالم".

ولد إرفينج جوفمان/ Erving Goffman عام 1922 في ألبرتا، كندا، لمهاجرين يهود من أوكرانيا. بعد حصوله على شهادة البكالوريوس في جامعة تورنتو، بدأ دراساته العليا في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة شيكاغو. قاده عمله الميداني إلى بالتاساوند، وهي قرية تقع في أونست في جزر شيتلاند، اسكتلندا. هنا طور نسخته الفريدة من الإثنوغرافيا. عرضت الأطروحة المنتجة، "سلوك الاتصال في مجتمع الجزيرة" (1953)، الأساليب والمنظور المبتكر الذي أصبح جوفمان مشهورًا به.

ووصف بحثه بأنه دراسة "في مجتمع"، وليس دراسة "مجتمع". لقد اعتقد أنه لكي تفهم عالمًا اجتماعيًا، لا يمكنك مجرد مراقبته؛ يجب أن تدخل فيه، وتكون مراقبًا مشاركًا. كان يعتقد أنه يجب عليك أن تتعمق كثيرًا في الأمر، بحيث "تنسى أن تكون عالم اجتماع".وهكذا، من ديسمبر 1949 إلى مايو 1951، أصبح عضوًا في مجتمع بالتاساوند. كان يحضر المزادات وحفلات الزفاف والجنازات والحفلات الموسيقية. كان يلعب البلياردو والوست( لعبة ورق)  مع السكان المحليين. وتناول العشاء وعمل غاسل أطباق في فندق محلي. سيصبح هذا النهج الغامر طريقة عمله - ومن المعروف أنه سيعمل لاحقًا متخفيًا في مستشفى للأمراض النفسية لدراسة قواعده الاجتماعية.

استخدم جوفمان هذه المنهجية لمتابعة أجندة بحثية جديدة. كان علماء الاجتماع البارزون في ذلك الوقت، مثل تالكوت بارسونز، مهتمين بالبنى الاجتماعية واسعة النطاق، مثل الاقتصادات والأديان والمؤسسات السياسية. تجنب جوفمان علم الاجتماع الكلي هذا لصالح تحليل  التفاعلات الشخصية الصغيرة وجها لوجه . لقد درس، على سبيل المثال، كيف استقبل سكان بالتاساوند بعضهم بعضًا أثناء مرورهم على الطرق، وكيف غيروا سلوكهم اعتمادًا على ما إذا كانوا بين العملاء أو الزملاء، وكيف تعاملوا مع الزلات الاجتماعية، مثل كتابة اسم شخص ما بشكل خاطئ.

مثلما يتصرف الممثل على خشبة المسرح بشكل مختلف عما يتصرف خلف الكواليس، كذلك يفعل كل واحد منا اعتمادًا على السياق.

في بحث الدكتوراه هذا، نجد نواة فكرة جوفمان الأكثر شهرة: أن التفاعلات الاجتماعية تحكمها مجموعة معقدة من المعايير والتوقعات التي أطلق عليها اسم "نظام التفاعل". كان يعتقد أن فهم نظام التفاعل هذا كان أمرًا أساسيًا لفهم كيفية تطوير البشر للهويات الفردية والجماعية، وكيف يتم تشكيل العلاقات والتنقل فيها، وكيف تتشكل أنظمة الاستبعاد والقمع.

في كتابه الأكثر شهرة، عرض الذات في الحياة اليومية (1956)، طوَّر جوفمان تحليلًا دراميًا للتفاعل، آخذًا على محمل الجد اقتراح شكسبير بأن "الدنيا مسرح كبير، وكل الرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح". مثلما يتصرف الممثل بشكل مختلف على خشبة المسرح عنه في الكواليس، كذلك يغير كل واحد منا سلوكه اعتمادًا على السياق.عندما نكون في حضور الآخرين، فإننا نسعى جاهدين لتقديم أنفسنا باعتبارنا نشغل دورًا اجتماعيًا معينًا، سواء كان ذلك موظفًا أو صاحب عمل أو معلمًا أو طالبًا أو جارًا. نحن نستخدم أجسادنا وكلماتنا لتقديم معلومات استراتيجية معينة. أطلق جوفمان على هذا اسم "المرحلة الأمامية".

عندما نترك هذه الأماكن الاجتماعية، نخرج من أزيائنا وندخل إلى "خلف الكواليس". يتضمن الكواليس عادةً حواجز أمام الإدراك - عندما نكون خلف الكواليس، أو المطبخ خلف المطعم، أو حمام المنزل الذي يستضيف حفل عشاء، نكون مخفيين عن الآخرين، ولم نعد بحاجة إلى التحكم بإحكام في الصورة التي نعطيها عن أنفسنا. في بعض الأحيان ينتهك ما وراء الكواليس ما هو موجود في المقدمة؛ قد نكون في حالة من خلع ملابسنا، أو نسمع من يتمتم  بشكل خبيث حول زميل لنا. وهذا يؤدي إلى إحراج شديد لأن الهوية التي نحاول تنميتها على المسرح قد قُوّضت.

أحيانًا يُساء فهم استعارة جوفمان الدرامية. لم يزعم أننا جميعًا محتالون ونسيء تمثيل أنفسنا باستمرار. بدلاً من ذلك، كانت وجهة نظره هي أن كونك عضوًا في المجتمع يتطلب عملاً مستمرًا: عملية مستمرة لإدارة الانطباعات، وجعل نفسك مفهومًا للآخرين من خلال الإشارات والإيماءات الخفية. وكما أن الشخصية في المسرحية هي نتيجة العمل الشاق الذي يقوم به الممثل، فإن هوية الشخص هي نتاج مشروع إبداعي مستمر، يتم تنفيذه من أجل الجمهور ومعه.

ويظل هذا العمل ذا أهمية حتى يومنا هذا، حيث قام المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي بتحويل بناء الهوية وتنظيمها إلى شكل من أشكال الفن. كما تجد استعارة جوفمان المسرحية أصداء في الفكرة المعاصرة للجندر كأداء، والتي طورتها جوديث بتلر في مشكلة الجندر (1990) وفي أماكن أخرى. كان جوفمان متقدما على عصره في ملاحظة أن الهوية لا يتم بناؤها من خلال الحديث فحسب، بل من خلال الجسد. نحن لا نعبر عن هوياتنا بالكلمات فحسب، بل أيضًا في الطريقة التي نتحرك بها وكيف نرتدي ملابسنا - أو ما يسميه جوفمان "لغة الجسد".

خلال الفترة التي قضاها في أونست، لاحظ جوفمان أنه عندما يحتاج السكان المحليون إلى الاختلاف مع بعضهم البعض، فإنهم لا يرفضون بيانًا ببساطة، بل يخففون من حدة الضربة بعبارة مثل "هناك شيء ما حول ما تقوله".وفي مقالته اللاحقة "في العمل على الوجه" (1955)، وصف هذه المناورات الاجتماعية اللبقة بأنها أشكال من "العمل على الوجه"، ومحاولات للحفاظ على "وجه" الشخص. وبالاعتماد على أفكار من المجتمع الصيني، وصف جوفمان "الوجه" بأنه "القيمة الاجتماعية الإيجابية" التي يبنيها الشخص ويطالب بها في التفاعل الاجتماعي.

لا بأس أن تبتسم لطفل مجهول في القطار، وليس لرجل مجهول في منتصف العمر

نحن عادة نعمل بجد لتجنب تقويض "وجه" الآخر. على سبيل المثال، إذا أردنا أن نطلب من شخص ما أن يفعل شيئًا ما، فإننا نظهر أننا نحترم استقلاليته من خلال صياغة الطلب بـ "هل تمانع إذا..."، "سأكون ممتنًا جدًا إذا استطعت..."، "أنا" آسف لإزعاجك، يعرف جميع البريطانيين إيماءة المحادثة التي يقوم بها المرء عندما يصفع فخذيه بكلتا يديه من وضعية الجلوس ويبدأ في الوقوف ببطء ــ وهي الحركة التي تكون مصحوبة في بعض الأحيان بعبارة "صحيح". لماذا تخاطر بتشويه وجه مضيفك بالقول "لقد اكتفيت من هذا وأريد الرحيل" بينما يمكنك أداء هذه الطقوس الصغيرة بدلاً من ذلك؟

نحن أيضًا نستجيب بسرعة عندما يخاطر شخص ما بفقدان ماء الوجه. إذا سقط شخص ما أو وجد نفسه في حالة غير سارة، فإننا ننظر بعيدًا. إذا تم تجاهلهم أو إهانتهم، فيمكننا الاعتذار (إذا كنا مسؤولين)، أو مجاملتهم، أو تقديم الهدايا والدعوات لهم. من المغري الاعتقاد بأن الغرض الأساسي من المحادثة هو تبادل المعلومات. في الواقع، يظل هذا افتراضًا في الكثير من فلسفة اللغة المعاصرة. يوضح لنا جوفمان أن المحادثة هي أكثر من ذلك بكثير ويمكن أن تتعلق بالحفاظ على احترام كل شخص لذاته بقدر ما تتعلق بتوصيل الحقائق أو الآراء.

إن نظام التفاعل يحكم أكثر بكثير من مجرد محادثاتنا. يعتقد جوفمان أننا نخضع لقواعد غير مرئية حتى عندما نكون موجودين فقط في وجود الغرباء. فكر في الطريقة التي تتصرف بها عندما تجلس بجوار شخص غريب في القطار أو تمر بشخص لم تره من قبل في الشارع. من المحتمل أنك ستنظر إليها للحظات - مجرد وميض - ثم تنظر بعيدا بشكل واضح، مثل سيارة تخفض أضواءها. من خلال هذا الإجراء، يتم تحقيق "الحد الأدنى من الطقوس الشخصية"، وهو ما يسميه جوفمان "قاعدة" "الانتباه المتحضر". أنت تعترف بمهارة بوجود الآخر، مع الإشارة إلى أنه "ليس لديك أي نية سلبية ولا [تتوقع] أن تكون موضوعًا له".

يعتقد جوفمان أنه إذا رأيت صديقًا في الأماكن العامة، فقد تحتاج إلى سبب لعدم التفاعل معه. من المحتمل أن تشعر أنك مضطر للتلويح أو الإيماء أو الابتسام. من ناحية أخرى، عندما تقابل شخصًا غريبًا، فإن التوقع الافتراضي هو أن تتجاهله تمامًا تقريبًا، ولكن ليس بالكامل. في بعض الحالات قد يكون من الصعب جدًا القيام بذلك؛ كتب جوفمان، بطريقته  البلاغية المعتادة: "إن القاعدة في مجتمعنا هي أنه بشكل عام، " عندما تكون الأجساد عارية، تكون النظرات مكسوة ".

ومع ذلك، هناك استثناءات لقاعدة الإهمال المدني/ Civil inattention . بعض "الأشخاص المنفتحين" لا يخضعون لها؛ كبار السن، وصغار السن، ورجال الشرطة، والأشخاص الذين لديهم كلاب، والآباء الذين لديهم أطفال، على سبيل المثال، يعتبرون جميعًا ودودين. لا بأس أن تبتسم لطفل مجهول في القطار، وليس لرجل مجهول في منتصف العمر.

ورغم أن جوفمان نفسه لم يتعمق في سياسات Civil inattention ، فمن الواضح أن التسلسلات الهرمية الاجتماعية تحدد نوعا ما من يمكنه الاقتراب من ومن الذي يعتبر سهل الوصول إليه. واصلت كارول بروكس جاردنر، طالبة جوفمان، تطبيق تحليلها للمساحة العامة على التهجم: لاحظت أن النساء الوحيدات غالبًا ما يعاملن كأشخاص منفتحين من قبل المتحرشين في الشوارع، بطرق تعزز المعايير الجنسانية القمعية.

وبينما كان جوفمان يحب أن يسلط شعلته الاجتماعية على الشبكة المعقدة من الأعراف الاجتماعية، فإنه لم ير أي قيمة جوهرية في الأعراف نفسها. في الواقع، كان في كثير من الأحيان ينتقد بشدة إمكاناتها الإقصائية. في كتب مثل المصحات (1961)، وصمة العار (1963) وفي سلسلة من المقالات عن السجون والمستشفيات، أظهر تعاطفًا كبيرًا مع محنة "المنحرفين"، الأشخاص الذين لم يمتثلوا أو لم يتمكنوا من الامتثال لأمر التفاعل. ، على سبيل المثال. لأسباب نفسية أو جسدية، وبالتالي استبعادهم من المشاركة الاجتماعية.

في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، أمضى جوفمان 12 شهرًا في العمل كموظف في مستشفى سانت إليزابيث، وهو مرفق للأمراض النفسية في واشنطن العاصمة بهدف "التعرف على العالم الاجتماعي لنزيل المستشفى، حيث يختبر هذا العالم بشكل شخصي".  وكانت النتائج التي توصل إليها لاذعة، ووصف هذه المستشفيات بأنها "مقالب تخزين للقمامة لا نفع منها مغطاة بأوراق الطب النفسي".

كانت أعمال العصيان البسيطة هي محاولات المرضى للتشبث بهويتهم

وصف مستشفيات الأمراض النفسية، إلى جانب السجون ودور الرعاية وثكنات الجيش والأديرة والمدارس الداخلية، بأنها "مؤسسات كاملة". هذه هي المؤسسات التي ينقطع فيها الأفراد عن بقية العالم الاجتماعي، ويضطرون إلى الخضوع لجميع الإجراءات الروتينية الأساسية للحياة اليومية - العمل، واللعب، والنوم - في نفس المكان، في نفس المكان، مع آخرين في نفس المكانة، وفقا لجدول زمني تحدده السلطة.

لاحظ جوفمان أن السجناء، عند وصولهم إلى مثل هذه المؤسسة، يخضعون عادة لسلسلة من الإذلال والإهانة وتدنيس الذات ــ على سبيل المثال، في السجن أو المستشفى، تتم مصادرة ممتلكاتهم، وتجريد أجسادهم، وفحصها. ويغتسلون، ويحلقون في بعض الأحيان، وتنزع وسائل اتصالهم بمعارفهم في العالم الخارجي.

ويعتقد جوفمان أنه من خلال هذه العملية، أُجبر المرضى على التخلي عن "ذواتهم المدنية" لصالح الذات المؤسسية المعقمة. إن أعمال العصيان البسيطة التي انخرط فيها المرضى بعد ذلك، مثل امتلاك أماكن محظورة للاختباء أو الابتزاز أو العمل الجنسي، لم تكن أعراضًا للانحطاط بل كانت محاولات للتشبث بهويتهم بينما كانت القوى المحيطة بهم تعمل جاهدة للقضاء عليها.

كان جوفمان ينتقد بشدة ما يمكن أن نسميه الآن «النموذج الطبي» للمرض العقلي، والعمليات التي من خلالها يصبح الشخص مؤسسيًا. وقال إن العديد من أعراض حالات الصحة العقلية كانت في الواقع "مخالفات ظرفية" - فشل في الالتزام بمعايير نظام التفاعل.

يعتقد جوفمان أن إضفاء الطابع المؤسسي على الأشخاص الذين ارتكبوا مثل هذه "المخالفات" من شأنه أن يدفعهم إلى ارتكاب المزيد: "إذا سلبت الناس جميع الوسائل المعتادة للتعبير عن الغضب والاغتراب ووضعتهم في مكان لم يكن لديهم فيه سبب أفضل من قبل لهذه المشاعر، فإن الملاذ الطبيعي سيكون هو هو استغلال ما تبقى – المخالفات الظرفية."

وهنا، حدد جوفمان ما أسماه الفيلسوف إيان هاكينج "الحلقة الاجتماعية": إن وصف شخص ما كعضو في فئة اجتماعية (في هذه الحالة، شخص يعاني من مرض عقلي) يؤدي إلى تطوير المزيد من الخصائص التي تبرر مثل هذا التوصيف. يبدو أن مستشفى الطب النفسي كان يتفاعل فقط مع المرض العقلي، لكنه في الواقع قام ببنائه إلى حد ما.

يرى جوفمان أن الشخص الموصوم سيظل إلى الأبد "أجنبيًا مقيمًا"

في وصمة العار، ركز جوفمان اهتمامه على عمليات الاغتراب الاجتماعي خارج المؤسسة. لقد تصور وصمة العار على أنها "سمة تسيء إلى السمعة بشكل كبير، وتتسبب في "تلوث" الشخص أو التقليل من شأنه، وبالتالي "عدم أهليته للقبول الاجتماعي الكامل". كان يعتقد أن هناك وصمة عار جسدية مثل الإعاقة. وصمة العار الأخلاقية، مثل العيوب المزعومة في الشخصية؛ والوصمة القبلية، مثل الانتماء إلى أعراق أو أمم أو ديانات أو طبقات معينة.

كان جوفمان واضحًا في أن وصمة العار "ليست جديرة بالثقة أو غير جديرة بالثقة باعتبارها شيئًا في حد ذاتها". بل إن المجتمع هو الذي يحدد السمات العادية والطبيعية وأيها ليست كذلك. لقد كان ذكيًا بشكل خاص في التعامل مع التحديات التي يواجهها الأشخاص الذين يعانون من الوصمة، وفي ما يمكن أن نسميه الآن "سياسة الاحترام": "العرض أو عدم العرض"، يجب على الشخص الموصوم أن يتساءل، "الإخبار أو عدم الإخبار؛ السماح أو عدم السماح ؛ الكذب أو عدم الكذب؛ وفي كل حالة، لمن وكيف ومتى وأين. في عبارة واضحة ومميزة، وصف جوفمان المكفوفين الذين يختارون ارتداء نظارات داكنة لإخفاء أعينهم بأنهم "يكشفون عن سوء البصر بينما يخفون القبح".

ويرى جوفمان أن الشخص الموصوم سيظل إلى الأبد "أجنبيًا مقيمًا". إن اندماجها الظاهري في أي مجتمع سوف يكون دائما مؤقتا وغير مستقر، وسوف يعيش في خوف من إرباك أولئك الذين يتفضلون بضمه. من المتوقع أن يقدم هذا الشخص لمجتمعه الجديد قبولًا بأنه لن يقدمه له أبدًا في المقابل. يمكنك أن تتوقع، في أحسن الأحوال، "القبول الوهمي"، والذي بدوره يتيح لك الشعور "بالحياة الطبيعية الوهمية".

في وقت متأخر من حياته، وجه جوفمان اهتمامه نحو الجنس. كان متيقظًا، كما كان دائمًا، لطبيعة الهوية المبنية اجتماعيًا، ورفض الاختلاف الجسدي كأساس لعدم المساواة الاجتماعية بين الرجال والنساء،وجادل بأن الاختلافات بين الجنسين تم إنتاجها من خلال "نظام تحديد الهوية" الذي يملي أنواع العمل الذي يقوم به الأشخاص، ومع من يتفاعلون، وكيف يلبسون، وحتى المراحيض التي يستخدمونها. يعتقد جوفمان أن "التعبيرات عن التبعية والسيطرة ليست مجرد تتبع أو رمز أو تأكيد طقسي للتسلسل الهرمي الاجتماعي". وبدلاً من ذلك، «تشكل هذه التعبيرات التسلسل الهرمي إلى حد كبير؛ إنهما الظل والجوهر.  فالنوع الاجتماعي هو نتاج الممارسات الاجتماعية التفاضلية، وليس مبررًا لها.

طوال حياته المهنية، رفض جوفمان وصف عمله بأنه يقدم نظرية للعالم الاجتماعي. في خطابه الرئاسي أمام الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع، والذي نُشر بعد وفاته بسبب وفاته المبكرة عن عمر يناهز الستين عامًا، وصف جوفمان نفسه بأنه يقدم ببساطة "لمحات" عن بنية التفاعل الاجتماعي. ولعل هذا يفسر لنا  سبب اختلاف العديد من علماء الاجتماع بشأن أعماله، على الرغم من شهرته، ولماذا يتم تجاهله في كثير من الأحيان في مجال الفلسفة المجاور.

من الصعب أن نعرف بالضبط ما يجب فعله مع جوفمان. فهو لم يقدم أي مبادئ تأسيسية، ولا تحليلات شاملة للعالم في مجمله. ولم تكن منهجيته واضحة دائمًا أيضًا؛ لقد استخدم الكثير من البيانات ليتأهل كمنظر، لكن عمله كان في كثير من الأحيان مجردًا جدًا، وانطباعيًا جدًا، وأدبيًا جدًا بحيث لا يمكن اعتباره إثنوغرافيًا صالحا. ولم يساعد فى توضيح الأموربسبب  رفضه الانخراط في تحليلات الآخرين لعمله.

ألا توجد راحة من مطالب وآراء الآخرين؟

ومع ذلك، فإن رفض جوفمان للتنظير له أهمية كبيرة من الناحية النظرية. لقد أظهر أن المرء لا يحتاج إلى صياغة نظرية كبرى عن العالم من أجل تحسين فهمنا له. والواقع أن مثل هذه النظريات الكبرى قد تكون سابقة لأوانها في حين أننا لم نقدر بعد التعقيد الكامل حتى لأدق الظواهر ــ مثل سقوط شخص في الشارع. اعتقد جوفمان أنه يمكن أن تكون هناك قيمة كبيرة في توفير حتى «تمييز مفاهيمي واحد»، «إذا كان يأمر وينير ويعكس البهجة في حدود بياناتنا».

ومن خلال تحديد "نظام التفاعل"، ألقى جوفمان الضوء أيضًا على بُعد من الحياة كان مخفيًا في السابق عن معظمنا. من خلال مهاجمة ما أسماه "النزعة المؤثرة للحفاظ على جزء من العالم في مأمن من علم الاجتماع"، أظهر لنا جوفمان أن الحياة اجتماعية بكل معانيها: لا شيء نفعله خال من أعراف مجتمعنا وتوقعاته.

قد يجد المرء هذا الاكتشاف محبطًا؛ ألا يوجد راحة من مطالب وآراء الآخرين؟ ولكن من الممكن أيضًا أن تجد الأمل في هذا. إن ما يمكن أن نعتبره حرجًا شخصيًا هو في الواقع دليل على الانسجام الشديد مع الأعراف الاجتماعية. إن سمات أجسادنا وسلوكياتنا وعقولنا التي أخبرنا الآخرون بأنها عيوب متأصلة ليست في الواقع ذات أهمية أخلاقية - إذ تنشأ عيوبها المزعومة من معايير اجتماعية تعسفية "للحياة الطبيعية". وفي نهاية المطاف، فقط عندما ندرك تعسف واصطناع مثل هذه الأعراف الاجتماعية، وخاصة تلك التي تضطهدها، يمكننا أن نبدأ في تحويلها.

***

........................

* إرفنج جوفمان (11 يونيو 1922 - 19 نوفمبر 1982) عالم اجتماع أمريكيًا كندي المولد، وعالم نفس اجتماعي، وكاتب، يعتبره البعض "عالم الاجتماع الأمريكي الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين".

**علم الاجتماع الجزئي هو أحد المستويات الرئيسية للتحليل (أو التركيز) في علم الاجتماع، فيما يتعلق بطبيعة التفاعلات الاجتماعية البشرية اليومية والفاعلية على نطاق صغير: وجهًا لوجه.   يعتمد علم الاجتماع الجزئي على التحليل التفسيري الذاتي بدلاً من التحليل الإحصائي. أو الملاحظة التجريبية.

المؤلفة: لوسي ماكدونالد/ Lucy McDonald محاضر في الأخلاقيات في جامعة كينغز كوليدج في لندن. ظهرت أعمالها في مجلة الفلسفة الأخلاقية والمجلة الأسترالية للفلسفة، وغيرها.

(رؤية تحليلية – نقدية)

”وبعد الترحيب بالأفكار من دون التسليم بها إحدى أهم العلامات التي تميز العقل المثقف“ (أرسطو).

” وحتماً، يمكن أن يكون العقل أي شيء... فطريقة تفكيرك هي التي تحدد شخصيتك “ (بوذا).

- تمهيد:

ما تزال الرغبة في السيطرة على أفكار الآخرين وسلوكياتهم وأفعالهم أكثر المطالب إلحاحاً منذ بزوغ فجر الإنسانية. بيد أن قلة نادرة من الناس فقط تدرك أن تقنيات السيطرة على العقل وجدت مع فجر الحضارة نفسها. وبقدر إدراكنا لما وهبنا إياه الله تعالى من عقول متنوعة وطرائق تفكير مختلفة. ندرك في الوقت نفسه تلك الشهوة العارمة للسيطرة على عقول الآخرين وطرائق تفكيرهم، بغض النظر عن الدافع أو الفائدة المبتغاة، ربما يكون السبب نابعاً من رغبتنا في فهم الطريقة التي يفكّر فيها الآخرون، وما إذا كانت تتفق مع طريقتنا أو تختلف عنها(1).

لكن بالمقابل، يعتبر العقل ميزة الإنسان وقيمته العليا، لا بل هو والإنسان صنوان لا يفترقان وبدونه يفقد الإنسان إنسانيته. وبفضل العقل وقواه استطاع الإنسان أن يصول ويجول ويكشف الحقائق ويُخضع الأشياء لسلطانه وأن يذلل الصعاب ويبدد الظلمات وينشر النور ويتصور الأشياء ويتأمل في الوجود ويسبح في الخيال والفرضيات واللامعقول.

وعن أهمية العقل في التطور البشري يمكننا القول إن العقل هو قوة أساسية تمكن الإنسان من التطور والنمو الشخصي. بفضل العقل، يستطيع الإنسان أن يفكر ويتعلم ويتطور، ويستخدم التفكير العقلي لتحقيق أهدافه واتخاذ القرارات الصحيحة. يساعد العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق النجاح في الحياة(2).

عندما يستخدم الإنسان عقله بشكل فعّال، يتمكن من استكشاف إمكاناته وتطوير مهاراته العقلية والإبداعية. يسمح له العقل بالتفكير بشكل منطقي وتحليلي، وبالتالي يزيد من فهمه للمشكلات ويتمكن من العثور على حلول إبداعية. يعمل العقل الباطن في خلفية الوعي اليومي للإنسان، وهو المسؤول عن تطوير العادات والمعتقدات وتشكيل الشخصية. لذا، يُعتبر استخدام العقل الباطن في تطوير الذات وتحقيق الأهداف أمراً ضرورياً. من خلال تنمية العقل وتعزيز التفكير المنطقي، يمكن للإنسان أن يحسن من أدائه في جميع جوانب الحياة. فالتفكير العقلي يساعد على اتخاذ القرارات الصائبة ومواجهة التحديات بثقة. كما يساعد في تحليل المعلومات والبيانات بشكل فعّال، وبالتالي يمكن للإنسان اتخاذ قرارات مدروسة والوصول إلى نتائج إيجابية(3). ولكن قبل الخوض في تحليل ونقد ممارسات العقل الإنساني سنحاول توضيح وتعريف مفهوم العقل في محاولة لفهم جوهر هذا المفهوم لغوياً، وفلسفياً، واصطلاحياً.

- مفهوم العقل: لغوياً العَقْلُ (اسم)، الجمع عُقُولٌ. مصدر عَقَلَ. عَقَلَ: (فعل). عَقَلَ عن يَعقِل، عَقْلاً عُقُول، فهو عاقل، والمفعول معقول - للمتعدِّي. عَقَلَ الوَلَدُ: أَدْرَكَ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ. وأصل معنى العقل المنع والإمساك والحبس، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه، أي يحبسه عن التورط في المهالك، أو لأنه يعقل حقائق الأشياء(4). ومن المعاني الواردة، قولهم: عقل عقلاً: أي أدرك الأشياء على حقيقتها، والغلام أدرك وميّز، ويقال: ما فعلت هـذا منذ عقلت. والعاقل هـو الشخص المدرك. ومن المعاني، أن العقل هـو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. ومنه قولهم: الإنسان حيوان عاقل. ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصورات والتصديقات. كما أن من المعاني الواردة حول موضوع العقل: إنه ما يتميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل.

أما معجم وبستر Webster فقد أورد معان عدة لكلمة عقل، تحت الكلمة الإنجليزية، Mind ومن هـذه المعاني: الذاكرة، التذكر أو الاسترجاع. وقد تعني ما يفكر به الشخص، أو رأيه في موضوع من المواضيع. ومن المعاني الواردة: أنه يعني الإدراك، الشعور، الانتباه، الذكاء، الملاحظة. وقد قصرت بعض التعريفات في هـذا القاموس العقل: على ما يمكن التفكير به، أو إدراكه، مما يمكن تصنيفه على أنه جزء من الشعور، إلا أن تعريفاً آخراً، يضيف الخبرة اللا شعورية، كعمل من أعمال العقل. والتعريف الشامل الذي ورد في قاموس وبستر هـو طريقة، وحالة، واتجاه للتفكير والشعور، الذي يكون عليه الفرد، وقد وردت معاني مثل: الانتباه، الطاعة، الاهتمام، الملاحظة، الاعتراض، الكره، كمعان معبرة عن العقل.

ومفهوم العقل في التربية وعلم النفس يتشعب فيها، بين الذكاء، والفهم، والقدرة العامة، والقدرات المتخصصة، بالإضافة إلى القدرات الشعورية واللاشعورية، حيث أورد فاخر عاقل تعريفاً للعقل: على أنه مجموع السلوك الذكي، بما في ذلك التذكر، والتفكير، والإدراك. وكثيراً ما يستعمل مرادفاً للخبرة الشعورية(5). فالعقل بناءً على ما سبق هو: مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة والذاكرة. هو غالباً ما يعرف بملكة الشخص الفكرية والإدراكية. يملك العقل القدرة على التخيل، التمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤدياً إلى مواقف وأفعال.

أما العقل فلسفياً يرى أسطو أن العقل عبارة عن جوهر قائم بالإنسان يفارق به الحيوان ويستعد به لقبول المعرفة. أقام أرسطو فلسفته كلها على الماهيات العقلية التي عرفت من خلال نظريته في الصورة. فالعقل في الفلسفة اليونانية هو مقياس لذاته، وهو سند يقينه فلا حاجة للتدليل على صدق قضاياه إلى أدلة خارجية عن دائرة ذاته، وهو وحده كاف لتحصيل العلوم والمعارف في شتى أشكالها وضروبها(6).

إن الشعور دائماً ما يحثنا على عدم قبول نتائج منطقية يؤيدها العقل. وليس من الحكمة التنكر لشعورنا لمجرد أن العقل يرفضه. ويذهب كانط إلى أن العقل أداة فكرية تحول الإدراك الحسي إلى أفكار، وتمنح التجربة وحدة الفكر. وبين التجربة والعقل تتم المعرفة، فالتأملات العقلية النظرية ليس لها قيمة ما لم تدعمها التجربة(7). ففي كتابه نقد العقل المحض 1781، ناقش كانط شروط قيام العلم، ممثلاً بالرياضيات، والتي تعتمد على الإمكان القبلي ثم الإمكان التركيبي فيما بعد، لإنتاج معرفة علمية يقينية ضرورية، والتي يُنتج المحمول فيها شيئاً جديداً لم يكن متضمناً في الموضوع. وقد أخذ كانط على كل الفلسفات السابقة، سواء أكانت عقلية أم تجريبية، أنها أغفلت النظر في العقل ذاته، من حيث هو ينبوع كل معرفة، وبدلاً من ذلك، نظرت في المعارف كلها بواسطة العقل، بوصفه، أي العقل، معصوماً لا مجال للتشكيك في إمكاناته المكتملة. وهذا ما دفعه (كانط) إلى النظر في العقل من حيث إمكاناته وطاقاته، بغية الوصول إلى ما قد يستطيع بلوغه، وما لا يستطيع، ومن ثم الوصول إلى القواعد والمبادئ التي تضبط المعرفة من جهة، والأخلاق من جهة أخرى(8).

ويعرف العقل اصطلاحاً بـأنه كل الأفكار والمفاهيم والمعلومات والعادات الفكرية التي توجه السلوك الفردي والاجتماعي وتقومه. إذ إن العقل ينشأ بالمعرفة ويتحكم بالأمور عن طريق التحليل والتعليل والبرهان، فالعقل يقوم على البرهان، والبرهان عادة نابع من رد النتيجة إلى المقدمة التي تولدت عنها. باختصار شديد العقل يقوم على النقد والموضوعية(9). بناءً على ما سبق سنحاول استعراض مفهوم العقل كممارسة تطبيقية في الواقع العملي والاجتماعي من خلال المفاهيم التالية:

1- العقل الأداتي Instrumental Reason : يقصد بالعقل الأداتي نوعاً من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث وهو ما وصفه هربرت ماركيوز بالتفكير ذو البعد الواحد، ويتضح ذلك في أسلوب التفكير العلمي والتقني، كما تعبر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البراغماتية.

يتضمن مصطلح (الأداتية) مضمونين: فهو أسلوب لرؤية العالم، وأسلوب لرؤية المعرفة النظرية. بحيث إن رؤية العالم بوصفه أداة تعني اعتبار عناصره أدوات نستطيع بواسطتها تحقيق غاياتنا، والمثال على ذلك، أنا لا انظر إلى الشجرة لما يجلب جمالها لي من رضى، بل أراها خشباً يمكن أن يحول إلى ورق يطبع عليه كتابي الذي أقوم بتأليفه.... وبإمكاننا أيضاً النظر إلى المعرفة باعتبارها أداة ووسيلة لتحقيق غاية. وربما تكون هذه الفكرة أصعب كثيراً لأنها تتخلل ثقافتنا لدرجة أن إي وجهة نظر أخرى لا ترى في المعرفة أداة يصعب تصورها(10).

* يمكن القول بأن العقل الأداتي بعد تبلوره، يتسم بالسمات التالية(11):

- ينظر العقل الأداتي إلى الواقع من منظور التماثل بحيث لا يهتم بالخصوصية المميزة للواقع الاجتماعي، لأنه يبحث عن السمات المتماثلة في الأشياء ويهمل السمات التي تميز ظاهرة ما عن أخرى.

- العقل الأداتي قادر على إدراك الأجزاء، فهو يعمل على تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة، ويفككه دون أن يستطيع إعادة تركيبه إلا من خلال نماذج اختزالية بسيطة.

- ينظر العقل الأداتي إلى الإنسان باعتباره مجرد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية (المادية) الأخرى، وهذا الجزء ليس له ما يميزه عن بقية العالم، فهو مستوعب في كليته في النظام الاجتماعي القائم وفي تقسيم العمل السائد في الطبيعة (المادة).

- يرى العقل الأداتي الإنسان من منظور العلوم الطبيعية باعتباره شيئاً ثابتاً وكماً واضحاً ووضعاً قائماً لا يحتوي أية إمكانيات إنسانية خلاقة.

- ينظر العقل الأداتي إلى الطبيعة والإنسـان باعتبارهما مادة استعمالية يمكن توظيفها واستغلالها لخدمة أي هـدف.

- الهدف النهائي من الوجود كما يؤمن العقل الأداتي هو الحفاظ على بقاء الذات وهيمنتها وتفوقها، ومن هنا جاءت تسميته بالعقل الذاتي أيضاً.

- لتحقيق هذا الهدف، يلجأ العقل الأداتي إلى فرض المقولات الكمية على الواقع وإخضاع جميع الوقائع والظواهر (الطبيعة والإنسان) للقوانين الشكلية والقواعد القياسية والنماذج الرياضية، حتى يمكن التحكم في الواقع ويصل هذا إلى ذروته في الفلسفة الوضعية. وينتج عن هذا ما يلي:

أن العقل الأداتي يصبح عاجزاً تماماً عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والتاريخية في سياقها الشامل الذي يتخطى حدوده المباشرة، بل إنه يعجز تماماً عن إدراك أي غايات نهائية أو كليات متجاوزة للمعطيات الجزئية الحسية والمعطيات المادية الآنية. ولذا يمكن تسميته بالعقل الجزئي أي أنه يصبح عاجزاً تماماً عن تحقيق أي تجاوز معرفي أو أخلاقي.

لهذا السبب نفسه يصبح العقل الأداتي غير قادر على تجاوز الحاضر للوصول إلى الماضي أو استشراف المستقبل، أي أن العقل الأداتي يسقط تماماً في "اللا زمنية واللا تاريخية".

مع غياب أية مقدرة على إدراك الكل المتجاوز وأية أسس تاريخية ورؤى مستقبلية، أي مع غياب أية أرضية معرفية ثابتة، يمكن أن تستند إليها المعايير العامة، يسقط العقل الأداتي تماماً في النسبية المعرفية والأخلاقية والجمالية إذ تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم تظهر حالة من " اللا معيارية الكاملة "، فيمكن القول بأن النموذج الكامن والمهيمن على الإنسان الذي يصبح مع تساوي الأمور هو: (الطبيعة - المادة - السلعة - الشيء في ذاته - علاقات التبادل المجردة).

يصبح العقل الأداتي قادراً على شيء واحد فقط وهو قبول أمر الواقع، من خلال التكيف مع ما هو قائم من أحداث ووقائع وجزئيات بالإضافة إلى التكيف مع الظروف المنتجة (للقهر والقمع والتنميط والاغتراب) التي تؤدي جميعها بنهاية الأمر إلى تثبيت دعائم السلطة وعلاقات القوة والسيادة القائمة في مجتمع معين، مع العمل على كبح أية نزعات إبداعية تلقائية تتجاوز ما هو مألوف.

كما يتحول العقل رغم تحرره من الأساطير، إلى قوة عقلانية تحاول السيطرة على الطبيعة والإنسـان وترشـيد الحياة بشـكل يؤدي إلى نفي الحرية تماماً كما يتبدى في بنى التسلط الرشيدة الحديثة، ولذلك نجد أن التقدم أدى إلى عكسه وأن التنوير أدى إلى الشمولية، فالمجتمعات الحديثة التي تسعى إلى الفردية همشت الفرد، وأنها في طريقها إلى شكل من أشكال البربرية التي تتقدم بخطى حثيثة نحو الجحيم، والبرهان على ذلك ما حدث في معسكرات الإبادة النازية فهو جزء عضوي من هذه المسيرة الشيطانية حسب آراء مفكري الاتجاهات النقدية باعتباره ينتمون إلى الديانة اليهودية(12).

وهكذا يؤدي الترشيد الأداتي والسيطرة المتزايدة - لمجالات متنامية في الحياة الاجتماعية من قِبَل الأنظمة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والإدارية - إلى استعباد الإنسان وإلى تقليص عالم الحياة وهيمنة عالم الأداة واستبعاد كثير من جوانب حياته الثرية وإمكانياته الكامنة المتنوعة، أي أن العقل الأداتي يؤدي إلى هيمنة الواحدية الموضوعية المادية.

2- العقل النقدي Critical Reason: يقال عنه أيضاً " العقل الكلي أو العقل الموضوعي "، في مقابل "العقل الأداتي أو العقل الجزئي أو العقل الذاتي"، وكلمة نقدي هنا مبهمة إلى حد ما، وتعود إلى مفهوم كانط في النقد، فكانط كان يرى عمله باعتباره جزءاً من المشروع التنويري الغربي الذي رفض جميع الحجج التقليدية القائمة وأخضع كل شيء للنقد، ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد وإنما أخذ خطوة للأمام وأخضع العقل للعملية النقدية نفسها، أي أن كانط أخضع أداة الاستنارة الكبرى للنقد وبيَّن حدودها الضيقة، متجاوزاً بذلك عقلانية عصر الاستنارة، أي أن هناك عقلانيتين: عقلانية مباشرة سطحية، وعقلانية أكثر عمقاً، وهذا هو الذي ترجم نفسه إلى عقلانية العقل الأداتي وعقلانية العقل النقدي. وبالعموم يتسم العقل النقدي بما يلي(13):

- ينظر العقل النقدي إلى الإنسان لا باعتباره جزءاً من كل أكبر منه يعيش داخل أشكال اجتماعية ثابتة معطاة، مستوعباً تماماً فيها وفي تقسيم العمل القائم، وإنما باعتباره كياناً مستقلاً مبدعاً لكل ما حوله من الأشكال التاريخية والاجتماعية.

- لا يدرك العقل النقدي العالم (الطبيعة والإنسان) كما تدركه العلوم الطبيعية، باعتباره نتاجاً ثابتاً ووضعاً قائماً وسطحاً صلباً، وإنما يدركه باعتباره وضعاً قائماً وإمكانية كامنة.

- لا يقنع العقل النقدي بإدراك الجزئيات المباشـرة، فهو قادر على إدراك الحقيقة الكلية والغاية من الوجود الإنسـاني.

- العقل النقدي قادر على التعرف على الإنسان من خلال دوافعه وإمكانياته والغرض من وجوده.

- بناءً على ما تقدم نجد أن العقل النقدي قادراً على تجاوز الذات الضيقة والإجراءات والتفاصيل المباشرة والحاضر والأمر الواقع، لذا يمكن تسمية العقل النقدي بـ (العقل المتجاوز)، فهو لا يقبل الواقع بصورته المطلقة الجامدة، وإنما يمكنه القيام بجهد نقدي تجاه الأفكار والممارسات والعلاقات السائدة والبحث في جذور الأشياء وأصولها وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح وهذا هو الجانب التفكيكي في العقل النقدي.

- يدرك العقل النقدي الحقيقة الكلية والإمكانيات الكامنة ليست كعوامل مجردة متجاوزة للإنسان (الفكرة الهيجلية المطلقة)، وإنما هي كامنة في الإنسان ذاته، والعقل النقدي قادر على رؤيتها في كمونها هذا أي أن الإنسان يحل محل الفكرة المطلقة.

- لا توجد الحقيقة في الواقع بذاته وإنما تقع بين الواقع الملموس، كما يحدده المجتمع من جهة والخبرة الذاتية من جهة أخرى. لذلك فالوضع الأمثل هو وضع التوازن بين الذات والموضوع وهذا ما يقدر على إنجازه العقل النقدي وما يفشل فيه تماماً العقل الأداتي.

- يعتبر التاريخ عملية كاملة تتحقق من خلالها الذاتية الإنسانية، أي أن التاريخ هو الذي يرد إلى الإنسان (خالق التاريخ) وليس الإنسان هو الذي يرد إلى التاريخ، لذلك فإن المجتمع في كل لحظة هو تجل فريد للإنسان، وتحقق الإمكانية الإنسانية في التاريخ هو الهدف من الوجود الإنساني.

- يمكن إنجاز عملية انعتاق الإنسان وتحريره من خلال التنظيم الرشيد للمجتمع المبني على إدراك الإمكانية الإنسانية الذي يعتمد على الترابط الحر بين جميع أفراد المجتمع الذين يتاح لهم نفس الإمكانية لتنمية أنفسهم بنفس الدرجة المعطاة للجميع الأمر الذي يؤدي إلى القضاء على الاستغلال وانتفائه فيما بينهم.

- يمكن للعقل النقدي أن يساهم في هذه العملية من خلال الجهد التفكيكي الذي أشرنا إليه. كما يمكنه أيضاً القيام بجهد تركيبي إبداعي، فهو قادر على التمييز بين ما هو جوهري وبين ما هو عرضي، وعلى صياغة نموذج ضدي ليس انطلاقاً مما هو معطى وإنما مما هو متصور وممكن في آن واحد ويمكن على أساسه تغيير الواقع، أي أن العقل النقدي يطرح أمام الإنسان إمكانية تجاوز ما هو قائم دائماً انطلاقاً من إدراكه لما هو ممكن بداخله، أي أنه يفتح باب الخلاص والتجاوز أمام الإنسان وهو عكـس التكـيف والإذعـان للأمر الواقع (على طريقة العقل الأداتي)(14).

3- العقل التواصلي: Communicational Reason  مفهوم صاغه هابرماس لمحاولة تنمية البعد الموضوعي الإنساني للعقل، ولذلك يطلق على مفهوم العقل عند هابرماس " العقل التواصلي " Communicational Reason هذا العقل لديه هو فاعلية تتجاوز العقل الغربي المتركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه(15).

يرى هابرماس أن العقل الأوروبي قد شهد مراحل من الصعود والهبوط، فالعقل الذي أسسه كانط، أي عقل التنوير في أرقى تجلياته، لم يستخدم دائماً في الطريقة الصحيحة، رغم أنه فتح أمام الإنسان الأوروبي المتجاهل، وحرره من العقد القديمة والوعي الخاطئ، وقذف به نحو اكتشاف أسرار الطبيعة والكون، وأدى إلى تأسيس أكبر حضارة مادية وتقنية شهدها تاريخ البشرية. لكن هذا العقل كان ينحرف أحياناً عن مساره الصحيح، فيتحول إلى عقل أداتي، بحسب تعبير ماكس فيبر، أي عقل حسابي بارد قادر على خلق المعجزات التقنية وعلى استئصال البشرية في وقت واحد(16).

وفي كتابه " الفعل التواصلي " الذي يشكل بوجه من الوجوه إسهاماً فيما يسميه " نظرية التواصل "، يعيد هابرماس طرح إشكالية العقلانية الحديثة بإسقاطاتها المتعددة وهذا ما عبر عنه في التمهيد الخاص بالجزء الأول حين قال: "على الرغم من مما يوحي به العنوان فأنا واع من أنني لم أقدم نظرية مكتملة من خلال هذين الجزأين ومع ذلك سأسعى إلى تثبيت العنصر النظري الضروري لكل الفلسفة ملزمة ببلورة فهم خاص بها يتجاوز الفهم الميتافيزيقي إذا ما رغبت في إقامة روابط تعاون مع العلوم الاجتماعية بالاستناد إلى قاعدة تقسيم العمل فإن الرهان بالنسبة لي يتلخص في تأسيس مشروع قد يتفرع في اتجاهات متعددة إذا ما قبلنا النظر إليه نظرة واعدة"(17).

يسقط مفهوم العقل عند هابرماس من حسابه أية مسألة جوهرية، وبتعبير آخر أن العقل عنده لم يعد جوهراً، سواء أكان هذا الجوهر موضوعياً أو ذاتياً، بل صار معمولاً به نتيجةً لتأثيرات الاتجاهات التحليلية عليه. إنه سيكون من الحكمة البحث فيما هو عقلاني عوضاً عن البحث في مفهوم العقل وعليه ينتقل الاهتمام المركزي إلى العقلانية بدل التركيز على العقل في شكله المجرد(18).

وعندما يطرح هابرماس هذا العقل التواصلي، لا يريد الامتثال للعقول التي تدعي تقديم حلول فورية لإشكاليات مركبة في البيئة الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية، أنه يريد لهذا العقل أن يكون متواصلاً مع غيره.

لذا يؤكد هابرماس على "أن هذا العقل يتجاوز العقلانية الغربية التي أعطت أولوية مطلقة للعقل الغائي، والتي تهدف إلى تحقيق مصالح وغايات معينة، فهذا العقل يبنى على فعل خلّاق يقوم على الاتفاق بعيداً عن الضغط والتعسف وهدفه بلورة إجماع يعبر عن مساواة داخل فضاء عام ينتزع الفرد جانباً من ذاتيته ويدمجها في المجهود الجماعي الذي يقوم بالتفاهم والتواصل العقلي"(19).

ويمكننا القول إن هابرماس من خلال كل أعماله وكتاباته. يريد أن يؤكد على ما يسميه بالعقل التواصلي كصيغة تركيبية لقضية الحداثة الغربية والعقلانية سواء في تعبيرها الأنواري أو في مظاهرها النقدية. فالعقل التواصلي هو الذي ينظم النشاط الاتصالي ويبين أن الحديث عن العقل يستلزم الحديث عن الأسس التي يترتب عليها هذا العقل، فالنشاط الاتصالي يسعى إلى وضع شروط لمجتمع ممكن.

لذلك بدأ يوجه سهام النقد للعقل الغربي المتمركز حول الذات والانتقال منه إلى عقل آخر هو العقل التواصلي، من خلال تأكيد هابرماس على ضرورة الخروج من فلسفة الذات إلى مخرج مهم وهو يسميه العقل التواصلي.

يظهر هابرماس كيفية تحول مجلات البحث من العقلانية الأداتية إلى العقلانية التواصلية، فهذه العقلانية التواصلية تظهر من خلال العلاقة التي يقيمها الناس القادرين على الكلام وعلى الفاعلية عندما يتفقون على شيء معين(20). وبهذا حاول هابرماس جاهداً الانتقال من العقل الأداتي الظاهر بوضوح في المركزية الغربية إلى عقل آخر وهو العقل التواصلي.

- خلاصة القول: يقصد بمفهوم العقل الأداتي العقل الغائي، فهو إما أن يكون أداتياً أو اختباراً عقلانياً أو مركب منهما. وتقوم ممارسات العقل الأداتي على القواعد التقنية المستندة على المعرفة التجريبية، حيث يحقق هذا العقل أهدافاً محددة في ظل شروط واضحة. وهكذا يعتبر مفهوم العقل الأداتي أكبر دليل على ظاهرة التمركز حول العقل العلمي- التقني، حيث أدت حركة التطور العلمي في عصر الأنوار إلى ظهور هذا العقل، وأرسى آلياته النظام الحديث أو بالأحرى المجتمع الحديث. كما تبين ممارسات هذا العقل الطريقة الاختزالية التي يمارسها بحق الطبيعة والإنسان، فالعقل الأداتي ينظر إلى الطبيعة والواقع من منظور التماثل ولا يهتم بالخصوصية، كما يحاول العقل الأداتي تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة وينظر إلى الإنسان باعتباره مجرد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية المادية، فالإنسان بالنسبة للعقل الأداتي شيء ثابت وكمي مما يؤدي إلى النظر للإنسان كشيء (ذي بعد واحد) وتغيبه إنسانيته التي تشكل جوهر وجوده(21).

وفي هذا السياق نستشهد بممارسات الاستعمار الأوروبي الذي يعتبر أحد أهم مفرزات عصر النهضة والثورة الصناعية وسيطرة العلوم التجريبية على الواقع الأكاديمي، حيث ارتكز في رسم خططه وسياساته لاحتلال شعوب العالم الأقل تطوراً على مبدأ العقلانية الأداتية، فأصبحت توجد كل مساراته وعلاقاته مع الآخر المختلف عن الأثنية الأوروبية. وبنفس الطريقة الأداتية التي شرحها رواد مدرسة فرانكفورت حاول الاستعمار من خلال السلطة السياسية توظيف الانثروبولوجيا كعلم أكاديمي والنتائج التي توصلت إليها لإحكام السيطرة على المجتمعات البدائية التقليدية بأسهل الطريقة وأقل التكاليف من خلال الأخذ بعين التوصيات التي تقدمها تلك الدراسات الانثروبولوجية على اختلاف مداخلها النظرية والمنهجية. كما سيطرت على عقلية الاستعمار مبادئ الفلسفة النفعية المتجذرة في البنية الفكرية للعالم الغربي، مما أدى رفع شعار الغاية تبرر الوسيلة بكل معانيها الانتهازية، التي بنى عليها الغرب أفكاره ومبادئه الاستعمارية وبالأخص في تعامله مع الشعوب الأخرى، فقد شكلت هذه المقولة الذهنية السياسية خلال القرون الأخيرة جميع أنحاء العالم الغربي وتحولت مع مرور الوقت إلى عقيدة فاسدة يتم توظيفها من أجل الوصول إلى أهداف خاصة مهما كان ثمن هذا الوصول حتى لو كان على حساب الآخرين من خلال استعمارهم ونهب خيراتهم وتدميرهم وتكريس مبدأ تبعيتهم للاستعمار في كافة المجالات.

فمن الوسائل التي انتهجها الاستعمار لإحكام سيطرته على البلدان المستعمَرة تتمثل في إيهام سكان المستعمرات بأنه جاء إليهم من أجل الإعمار والإصلاح وتمكين البلاد من اللحاق بركب الدول المتقدمة. إلا أنهم في حقيقة الأمر دعاة شر مفسدون ومضللون يعملون وفق سياسة ماكرة، هي سياسة فرق تسد، ولا يقر لهم قرار إلا إذا أشاعوا الفرقة والانقسام بين أفراد المجتمع المستعمَر. بالإضافة إلى العمل في الخفاء والظلام والاعتماد على الجاسوسية والسرية في تنفيذ خططهم وتحقيق مصالحهم وغاياتهم، فالاستعمار في حقيقته ما هو إلا ضرب من ضروب القرصنة بشكله الحديث.

كما شجع الاستعمار على تنفيذ أطماعه التوسعية فكرة: (نحن والآخرون) التي ظهرت إلى العلن بنفس التوقيت، نحن: الأوربيون، بكل تميزنا وتفوقنا، أما الآخرون: فهم غير الأوربيين، الذين يجب أن يخضعوا لنا وأن يسلموا لنا مقاليد الهيمنة على ما يملكون، كانت هذه الاتجاهات التي خلصت إليها الدراسات الانثروبولوجية والاستشراقية نتيجة لعلاقات القوة، أو أوضاع السلطة التي أصر الغرب على الإمساك بها وممارستها على مقاليد الشرق، ويعتبر إدوارد سعيد من أهم الفكرين - الناقدين لهذه الفكرة في كتابه: "الاستشراق" 1978(22).

وفيما يتعلق بممارسات العقل التواصلي يقترح هابرماس أن تقوم عملية النقد في الواقع الاجتماعي على أسس ومبادئ الفعل التواصلي المرتكز بدوره على العقلانية التواصلية، التي تمارسها " ذات قادرة على الكلام والفعل بهدف التوجّه نحو التفاهم بين الذوات "، مما يؤدي حكماً إلى عدم اللجوء إلى العنف أو إلى إلغاء الآخر والسيطرة عليه، وذلك بفضل قدرة " الفعل التواصلي الذي يحدد العلاقات داخل مجالات عمومية قائمة على المناقشة والحوار متخذةً من المبادئ الأخلاقية أساساً لها، أطلق عليها هابرماس أخلاقيات المناقشة "، التي تحكم العملية التواصلية حسب معايير متفق عليه. ولكن تلك الأخلاقيات ليست مذهباً ولا نسقاً من القيم والمعايير الجامدة أو الثابتة، والدليل على ذلك، في أنه إذا تشكك أحد المشاركين في العملية التواصلية في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو إذا تعرضت أحد ادعاءات الصلاحية للشك، أو لم يستطع المشاركون في التواصل تبريرها أو الدفاع عنها بالحجج العقلانية، فإن ادعاءات الصلاحية نفسها تصبح موضع سؤال، مما يؤدي إلى اختلال التواصل أو توقف، وفي هذه الحالة لا بد للمشاركين في التواصل إعادة فحص تلك الادعاءات من جديد ومراجعتها مراجعة نقدية لتصحيح أخطائها، ومعنى ذلك أن العملية التواصلية تخضع لما يسمى بديمقراطية الحوار.

وهكذا يعتمد هذا التفسير على البعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار، وفقاً لشروط وقواعد أخلاقية تنفي قهر الذوات أو السيطرة عليها أو خداعها مما يتيح لهم الفرص بالتساوي للمشاركة في الحوار والنقاش وصنع القرار، كما أن الإجماع لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل(23).

وفي هذا الصدد، يجب علينا أن نذكّر، أنه لا يصح للناقد أن يمارس نقده في كل شيء وهو لا يمتلك معرفة في المجال محل النقد، ذلك أن أدوات النقد بمعية الإلمام بالمادة محل النقد لا بد منهما، لتكون مسألة النقد شمولية، وبدون ذلك لا يمكن أن يسمى نقداً إذا افتقد الناقد العلم بالمسألة.

أما عن غاية العقل النقدي أي ممارسة النقد الاجتماعي، فيجب أن تكون واضحة المعالم، فحري على من يمارس النقد أن يستعد لوضع البدائل المناسبة، فإن ذلك يحقق له التوغل أكثر في المسألة محل النقد، والنظر في حيثياتها وأبعادها المختلفة، ويساهم من خلال ذلك في ترقية المجتمع، ذلك أن النقد بهذه الصورة تكون إيجابية، وأن الناس ليسوا على مستوى واحد من النشاط الذهني والتقبل، ولذا نجد لدى المجتمعات المتقدمة عدة مستشارين ونقاد، وهذا ما يحقق لهم النجاح لوجود الأدوات اللازمة للنقد، وأنهم على استعداد لسد الثغرات ومعالجتها عند حدوث طارئ، وهذا ما تفتقده معظم المجتمعات العربية فيما يتعلق بالنقد البناء الذي يؤدي إلى الازدهار والتطوير والتحديث نحو حياة أفضل. إن أهمية الرؤية النقدية وقوتها لا تكمنان في قدرتها على تسجيل ما يقوله الفاعلون عن أفعالهم، بل في تمكينها الأفراد والجماعات من التفكير في وضعهم بشكل مختلف، وعبر ذلك بتجاوز الجمود الاجتماعي وبتغيير نظام الأشياء(24).

وفي النهاية إن مسألة السيطرة على العقل والواقع بواسطة العقل نفسه وغيرها من أشكال الممارسات الظاهرة والخفية التي تهدف إلى الاستحواذ على تفكير الفرد والجماعة، والتحكم في تصرفاتهم، من خلال التلاعب بعقولهم؛ أي جعل الأفراد يعيشون في حالة دائمة من الشك والارتباك وعدم اليقين، والتغييب التام لأي رؤية واضحة لأن وضوح الرؤية يعني الثقة الناتجة عن ممارسات العقل النقدي. وبقدر ما نكره الاستسلام لهذا الطرح، فإننا نلاحظ وجود مؤسسات وأشخاص يبذلون الغالي والنفيسي للحيلولة دون تمتعنا بعقل صاف ذي بعد نقدي لإدراك تلك الحقيقة تحقيقاً لمصالحهم وأهدافهم الخاصة على أرض الواقع الاجتماعي.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..........................

(1) - ماري د. جونز، ماري فلاكسمان: حروب العقل، ترجمة: نور الدائم باكر أحمد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 2017، ص (9).

(2) -هيئة التحرير: العقل والعقلانية: مفاتيح النمو والرقي في الحياة، موقع تطوير الذات والمهارات الاحترافية، تاريخ الدخول إلى الموقع 06/04/2024. https://n9.cl/7yzmgq

(3)-  المرجع السابق نفسه.

(4) - ابن المنظور: لسان العرب، تحقيق: مجموعة من الأساتذة العاملين بدار المعارف، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ، ص (3046).

(5) - عبد الرحمن الطريوي: العقل العربي وإعادة التشكيل، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط1، 1413ه، ص (33-34).

(6) - لخضر شكير: العقل في الإسلام: مفهومه - قيمته - ودوره، مجلة الشريعة والاقتصاد، المجلد: 3، العدد: 1، الجزائر، 2014، ص (396-397).

(7) - عايدة عبد الحميد عبد الرحمن: نظرية المعرفة عند كانط، حولية كلية أصول الدين بالقاهرة، المجلد: 30، العدد: 30، 2017، ص (749).

(8) - يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل: العقل عند كانط مؤهل للتعامل مع ظواهر الطبيعة فقط..!، جريدة الرياض، العدد: 17313، 18 نوفمبر 2015. https://www.alriyadh.com/1101577

(9) - مديحة فخري محمود: العقلية العربية في زمن العولمة (مشكلات وقضايا)، دار دجلة ناشرون وموزعون، عمان، ط1، 2015، ص (42-43).

(10) - إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم- محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 244، شهر يناير/ كانون الثاني، 1999، ص (316).

(11)-  حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية- نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الأول، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص (50-51).

(12)-  المرجع السابق نفسه، ص (52).

(13) - حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثالث، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022، ص (103 وما بعدها).

(14) - Ibid, p. (6).

(15)- أبو النور حمدي أبو النور حسن: يورغن هابرماس " الأخلاق والتواصل "، دار التنوير، بيروت، ط1، 2009، ص (135).

(16)- توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، دار أويا، بنغازي (ليبيا)، ط1، 2004، ص (187).

(17) - Habermas: The Theory of Communicative Action. Translated By: Thomas Mc Carthy, Boston, Beacon Press, v (1), 1984, p. (9).

(18) - عمر مهيبل: إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص (361).

(19) - Habermas: The Theory of Communicative Action, v (1), op.cit, p. (10).

(20) - أبو النور حمدي أبو النور حسن: مرجع سبق ذكره، ص (138).

(21) - حسام الدين فياض: نظرية نقد العقلانية الأداتية عند يورغن هابرماس، موقع الحوار المتمدن، العدد: 7396، تاريخ 09/10/2022. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=770946

(22) - حسام الدين محمود فياض: الانثروبولوجيا بين الأكاديمية والأداتية (دراسة تحليلية- نقدية لطبيعة العلاقة بين الانثروبولوجيا والاستعمار)، المجلة العربية للعلوم ونشر الأبحاث (مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية)، مجلة علمية محكمة دولية، فلسطين، المجلد: 5، العدد: 5، 2021، ص (70).

(23) - حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص (109-110).

(24) - المرجع السابق نفسه، ص (107-111).

 

هناك فارق كبير بين أن يخترع الإنسان الأسطورة ويصدقها ويحكيها، وبين أن يعي دلالاتها. (فريدريش ڤيلهلم يوزف شلنگ)

1- مقدمة:

ما زالت الأساطير الإغريقية القديمة تشكل منجماً فكرياً فذاً فريداً يستلهمه الأدباء والفلاسفة وعلماء النفس في تفسير نشأة الحضارات وسقوطها. وقد شكلت الأساطير تاريخياً منهج الشعوب في النظر إلى الحياة والتأمل في الكون واستجواب معاني الوجود. وعلى هذا النحو شكلت الآداب الأسطورية منطلقاً للتفكير الفلسفي وبداية لا بد منها للمعرفة العلمية. وعلى هذه الصورة جاءت أشعار هوميروس وهوزيود الأسطورية في بلاد الإغريق لتمهد الطريق أمام التأمّل الفلسفي وتشكيل التصورات الفلسفية القائمة على العقلانية الحديثة. وقد برع فرويد في التوظيف السيكولوجي للأساطير الإغريقية في التحليل النفسي للشخصية والكشف عن الأعماق السحرية اللاشعورية للكائن الإنساني، وعلى هذا النحو وظف أسطورة "أوديب" أجمل توظيف في تحليله للشخصية والكشف عن الميول الجنسية الدفينة في الأعماق للفرد ومنهل اقتبس عقدة أوديب المشهورة في الكشف عن الميول العاطفية بين الآباء والأطفال من الجنسين المتقابلين. وعلى المنوال نفسه وظف تلميذه كارل يونغ أسطورة إليكترا لتفسير علاقة الإناث بالأب وأطلق عليها عقدة إليكترا([1]).

لقد وطف فرويد الرموز الأسطورية في تفسيره لنشأة الأخلاق والدين والحضارة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ إلى حيّزين أسطوريين، يتمثل الأول في الأسطورة الولائمية (الوليمة الطوطمية) بطابعها الأنثروبولوجي الاجتماعي (مقتل الأب الأول)، في حين يتمثل الثاني في الأسطورة “الأوديبية” بتجلياتها السيكولوجية التربوية، وفي كلتا الأسطورتين تتجلى جريمة قتل الأب وغشيان المحارم. وتشكل هاتان الأسطورتان مادة فرويد المميزة في الاستكشاف الرمزي لعمليات التشكل التاريخي للقيم والأخلاق والأنا الأعلى والحضارة. وهو في الوقت الذي يوظف فيها الأسطورة الأولى (مقتل الأب والتهامه) لتفسير منشأ الحضارة الإنسانية بمضامينها الأخلاقية العامة، يوظف الثانية (الأسطورة الأوديبية) في تفسير نشأة الأنا الأعلى والتكوين الخلقي للأفراد في المستويين السيكولوجي والتربوي؛ ولا يخفى على المتأمل وجود تقاطعات كبيرة بين الطاقة الرمزية لكل من الأسطورتين، وتجانس أكبر في الكيفية التي توظف فيها هذه الرمزية لتفسير نشأة الأخلاق والحضارة، إذ تنطلق كلتاهما من موجبات الخطيئة الأصلية (قتل الأب) واللعنة الأبدية (غشيان المحارم) في تفسير ولادة الأخلاق والقيم والضمير الأخلاقي.

ومما لا شك فيه أم جانباً كبيراً من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، حيث تتجلى هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة والتاريخ والرمز والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات.

وقد دأب كثير من المفكرين على توظيف الأساطير في تفسير نشأة الحضارة وسقوطها ومن أبرز الأساطير التي وظفت في تفسير نشأة الحضارة الغربية يمكن الإشارة إلى أسطورتي برومثيوس وأوديسيوس إذ ترمز أسطورة برومثيوس إلى نشأة التنوير والحضارة الغربية، بينما تشير أسطورة أوديسيوس إلى سقوط التنوير وتشيؤ الحضارة الغربية وبين هاتين الأسطورتين يمكن أن نقع على أساطير جزئية ومهمة مثل أسطورة سيزيف والأسطورة الفاوستية التي تتشاكل بوضوح مع دلالات الأسطورة الأوديسية في مسألة سقوط التنوير وتشيؤ الحضارة.

2- أصل التنوير- برومثيوس سارقاً للنار:

تروي الأسطورة أن برومثيوس  (Prometheus) [2] سرق النار الإلهية المقدسة من جبل الأوليمب وأعطاهم قبساً منها للبشر ليدفؤوا بها ويستنيرون بضوئها ويأنسون بسحرها، ومن ثم منح البشر العديد من العطايا والهبات التي سرقها من آلهة الأوليمب. فقد أعطاهم فنون العمارة والبناء، النجارة، استخراج المعادن، علم الفلك، تحديد الفصول، الأرقام والحروف الهجائية، كما علمهم استئناس الحيوانات وركوبها والإبحار بالسفن، وأعطاهم موهبة التداوي والشفاء.

ولما علم زيوس بخيانة برومثيوس وسرقته النار المقدسة غضب غضباً شديداً اهتز له جبل الأوليمب، وقرر عقاب برومثيوس على الإثم الذي ارتكبه بحق الآلهة فعاقيه بأن قيّده بالسلاسل إلى صخرة في جبال القوقاز. وأرسل عليه في كل صباح نسراً عملاقاً يدعى (أثون) لينهش كبده كل يوم، وكان كبده ينمو في المساء ليصبح طعاماً للنسر الوحشي في الصباح. وبقي على هذه الحال حتى جاء هرقيلوس (ابن الإله زيوس) الذي قتل النسر وكسر قيود برومثيوس ومنحه حريته من جديد.

غضب زيوس كبير الآلهة وسيدهم مرة جديدة من تحرر برومثيوس فقرر هذه المرة معاقبة البشر جميعاً وتدمير الهبات التي منحها برومثيوس لهم، ولكنه في هذه المرة لجأ إلى حيلة أسطورية إذ أمر الآلهة بتشكيل امرأة فأعطاها (هيفاستوس) إله النار جسدها الناري وصوتها الساحر الناعم، وأعطتها إلهة الحرب (أثينا) قوة التحمل والقدرة على الإبداع، وأعطتها (أفروديت) إلهة الحب سحراً جذاباً ودهاء مكينا، وأعطاها (هيرميس) ابن زيوس إله البحارة عقلاً مسطحاً صغيرا، ثم أعطاها بوسيدون إله البحر مزاج الأعاصير وهيجان الانفعالات، وأطلق زيوس على هذه المخلوقة الحسناء (باندورا) التي منحت سمات تفوق ما يوجد لدى الآلهة.

ثم أرسل زيوس (باندورا) كهدية إلى إبيمثيوس (شقيق برومثيوس) بعد أن زودها بصندوق سحري عجيب مغلق مطالباً إياها ألا تفتحه أبدا. وسرعان ما وقع إبيمثيوس في حب باندورا وسحر بجمالها وأخذ بسحرها فتزوجها. وطالبها بألا تفتح الصندوق امتثالاً لإرادة زيوس وخوفاً منه، لكن الحسناء باندورا شغلت في التفكير بالصندوق وما قد يحمله في داخله من كنوز خفيّة. ومن ثم صارت حياتها جحيماً، وكاد فضول المرأة يقتلها وينازعها ولم تستطع مقاومة غواية الصندوق وسحره ففتحته خلسة في غياب زوجها، وعندما فتحت الصندوق خرجت كل القوى الشريرة التي وضعها زيوس في الصندوق (الفقر، النفاق والمرض والجوع والحسد الكراهية العنف والقتل وكل الشرور التي توجد في الكون) وعندها ذعرت باندورا وامتلكها الخوف الشديد، فأغلقت الصندوق بعد فوات الأوان فلم يبق فيه فيه إلا قوة الأمل والحلم الإنساني. ومع خروج قوى الظلام من الصندوق فاض العالم بالشر وتحولت جنة الأرض إلى جحيم البشر ولم يبق لهم إلا الأمل الذي يمكن أن يخفف عنهم وقع الشر والظلم والقهر الذي أنزله زيوس بجنس البشر.

ويستفاد من الأسطورة أن برومثيوس نزع الشعلة من أيدي الآلهة ليضيء بها أركان الأرض فلا يترك منها ركناً خافياً في عتمة الظلام وهذا يرمز إلى حركة التنوير التي شهدتها المجتمعات الأوروبية في عصر النهضة وفي زمن التنوير. ومع أن برومثيوس أهدى البشر قبس النار فإن البشر لم يكتفوا باستخدامها للتدفئة وطهي الطعام وصهر المعادن بل صنعوا منها الأسلحة، وأحرقوا بها القرى والغابات واستخدموها في الحروب والقتل، فهل ضاعت تضحية «برومثيوس» هباء؟!

3- أوديسيوس وحوريات البحر:

تشكل الأوديسة إحدى أهم المرجعيات الثقافية للحضارة الغربية المأخوذة بفكرة التحرر من سلطة الطبيعة والسيطرة على مقدراتها والتحكم فيـها وإخضاعها لمطالب الرجل الفاوستي. وقد دأب المفكرون الغربيون على استلهام أسطورة أوديسيوس الإغريقية([3]) واستجواب معانيها الرمزية لتفسير قيام الحضارة الغربية ومن ثم سقوطها في مستنقع العدمية. وأوديسيوس (Ὀδυσσεύς) بالتعريف بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس ([4]) وتروي الأسطورة أنه كان ملك إيثاكا الأسطوري الذي ترك بلده كي يشارك في حرب طروادة الشهيرة، وهو صاحب الخدعة الحربية لحصان طروادة التي كانت سبباً مباشراً لهزيمة الطرواديين. وتروي الأسطورة أن صديق أوديسيوس المحبب قتل في المعركة فاستشاط أوديسيوس غضباً وحزناً وفي موجة غضبه تعرض للآلهة بالسباب والشتم فغضب منه إله البحر بوسيدون فأنزل به أثناء عودته إلى الديار عقاب الضياع في متاهات البحر وأمواجه لمدة عشر سنوات، وقد لاقى في رحلة الضياع هذه أهوالاً كثيرة ومخيفة. وطوال هذه الفترة بقيت زوجته بينيلوبي بانتظاره، ممتنعة عن الزواج، رغم العروض الكثيرة التي تتلقاها، ولاسيما بعد عودة معظم المحاربين في حرب طروادة ما عدا زوجها. وأخيرا تنتهي الملحمة الأسطورية بوصول أوديسيوس إلى عاصمة مملكته "إيثاكا" وقيامه بالانتقام من الذين اضطهدوا زوجته وضايقوها. .

وقد جاء في الأسطورة أن حوريات البحر (أو عرائس البحر) اعتدن على إنشاد أغان ساحرة للغاية بأصوات غناءة عذبة ساحرة صداحة لا يمكن لسامعيها أن يقاوموا سحرها وينتهي بهم الأمر إلى الاستسلام للحوريات عبيداً لهن إلى الأبد. ولما مرّ أوديسيوس بقربهن في رحلة عودته إلى الوطن اتخذ إجراءات صارمة لحماية بحارته من قدر الاستسلام للحوريات، فأمرهم أن يضعوا الشمع في آذانهم كي لا ينتهي بهم الأمر إلى سماع شدو الحوريات الساحرات والاستسلام لغوايتهن، ثم ومن أجل حماية نفسه أيضاً طلب من بحارته أن يقيدوه إلى "صاري" السفينة وأن يشدّو قيده كلما اشتد الغناء وعَذُب سحره كي لا يقع في مصائد العبودية لحوريات، وقد تمكن بهذه الطريقة أن يمرّ وبحارته بسلام، وتنتهي الأسطورة إلى انتحار الحوريات لأنّ أوديسيوس سمع غناءهن وعرف سرّهنّ ([5]).

وقد شكلت هذه الأسطورة مصدر إلهام فكري لهوركهايمر وأدورنو وانطلقا من معانيها ودلالاتها الحضارية في استكشاف العمق الثقافي للحضارة الغربية، ووظفا هذا النص الأسطوري لاكتشاف العلاقة الجدلية بين التنوير والحضارة المادية. وفي مسار التحليل يجد هوركهايمر وأدورنو شرارة التماثل بين الأسطورة وحركة التنوير الأوروبية. فالتنوير كان محاولة تاريخية لفك السحر عن العالم، والإنسان الغربي حاول في سياق حركة التنوير أن يتحرر من القوى السحرية وأن ينتصر على الطبيعية ويخضعها لإرادته العليا، ولكنه في صراعه مع الوحوش أصبح أكثر وحشية، وفي صراعه مع القوى الأسطورية أصبح قوة أسطورية، إذ يقاتل القوى الأسطورية التي تتمثل في " حوريات البحر" وينقذ نفسه من العبودية الاستسلام للغانيات، ومع ذلك فإن أوديسيوس يقع في عبودية من نمط جديد لا تقل خطراً عن عبودية الغانيات، إذ يجد نفسه مشدوداً إلى صاري السفينة وقد خسر حريته وحرية بحارته فأصبح بإرادته عبداً لصواريه هذه المرة. وهذا يعني أن الإنسان في صراعه مع الطبيعية وفي محاولة فك السحر عن حضارته يقع من جديد في أسر العبودية والسحر والأسطورة، بل يتحول إلى وهج أساطير جديدة هي أساطير الحضارة الاغترابية المغلقة التي تدفع بالإنسان المتحضر إلى دياجير العبودية المظلمة.

ولهذا، " كان أوديسيوس في ملحمة هوميروس – حسب قراءة هوركهايمر وأدورنو لهذه الملحمة - رمزاً لقيم التنوير والإنسان الأداتي الذي يبحث باستمرار على تحقيق ذاتـه مـن خلال التحكم في الأشياء والظواهر المحيطة به، ولهذا تصور لنا الأوديسة أن مغامرات أوديسيوس الملحمية قد سمحت له في آخر المطاف بمراقبة الطبيعة والانتصار على قواها الكبيرة والجبارة ليحفظ بقائه والعودة إلى موطنه، ولهذا كانت المعرفة " ([6]).

فالتنوير الغربي في سعيه إلى تحرير الإنسان أسقطه في سحر الفردانية والعقل الأداتي الذي يتمثل في الحبال التي شدت برومثيوس إلى الصواري وقادت بحارته إلى الصمم. وهذا يعني أن صراع الإنسان الغربي مع الطبيعة ومحاولته السيطرة عليها أغرقه في وهم الحرية موقعا إياه في عبودية جديدة، وهي: عبودية العقل الأداتي الذي وضع الإنسان في أقفاص الاغتراب والتشيؤ. وهذا يعني أن الإنسان التنويري عندما عمل على ممارسة السيطرة على الطبيعية فقد السيطرة على ذاته وأفقد نفسه الحرية التي كان يبحث عنها، لقد أصبح شيئاً يرتبط مصيره بالأوثان مقيداً بالصواري في سفينة برومثيوس الذي طور نموذجاً من العقلانية الأداتية ليدرأ عن نفسه شر تلك القوى الأسطورية التي حاصرته، وهي نوع من الحيل الماكرة التي حمت حياته لمرات عديدة أثناء رحلة العودة.

وعلى هذه المنهجية ذاتها أبدعت الحضارة الغربية أدواتها للسيطرة على الطبيعية والانفلات من سحرها، ولكن السحر انقلب في النهاية على الساحر فأصبح الإنسان عبداً لما صنع عقله وما اخترعت يداه من وسائل السيطرة والهيمنة. فالحبال والأوتاد تشدنا إلى الزنزانات الحضارية التي يعيشها الإنسان الغربي المعاصر، والشمع يصم أذنيه إلى الدرجة التي فقد فيها ما هو عليه من قهر وعناء وشقاء. نعم هو الإنسان الذي توقف عن سماع نداء الطبيعة الجميل بما ينطوي عليه من سحر الغناء وغواية الحوريات وارتضى لنفسه عبودية جديدة تتمثل في شبقية الحضارة وجنونها الأداتي. نعم، نجح أوديسيوس في قهر قوى الطبيعة الخارجية (سحر الغانيات)، ولكنه دفع حريته ثمناً لذلك عندما قيَّد نفسه إلى الصارية ([7]). وتكمن العبرة في أن الإنسان عندما حاول أن يروض الطبيعة ويسيطر عليها خسر حريته الذاتية ووقع في عبودية الحضارة وتلك هي حكاية التنوير([8]).

وإذا كان هدف التنوير العقلي منذ القِدم هو تحرير البشر من الخوف، وجعلهم سادة على الأرض وملوكًا عليها أو مالكين لها " فإن الأرض التي تم تنويرها لا تزال تغمرها ظلال الكارثة — والكارثة في مفهومهما هي سيادة الأسطورة (النازية اللاعقلانية!)، وهكذا كانت الأسطورة نفسها نوعًا من التنوير، ولكن التنوير كان يرتدُّ دائمًا إلى الأسطورة ويدمِّر نفسه بنفسه" ([9]). وهذا يعني أن تاريخ التمدن والتنوير ظل حتى اليوم ظل مُتلبِسًاً بالأسطورة أو مطويًّا فيها، وكأن التنوير لا يزال في حركة دائمة كحركة الفكرة المستمرة تُفضي به دائماً إلى الوقوع في أَسر الأسطورة ([10]). ومعنى هذا أن الأساطير تُولِّد وتحقِّق التنوير الذي يتعثَّر بعد ذلك مع كل خطوة من خطواته.

ولهذا يرى هوركهايمر وأدورنو أن انتصار العقلانية الأداتيـة أثنـاء مسار الحضارة الغربية، كان بمثابة نتيجة حتمية لفكـرة الصـراع وإرادة الهيمنة على الطبيعة، غير أن الهيمنة على الطبيعة ليس الدافع الوحيد الذي يفسر المسار الخاص بتاريخ النـوع البشري، إذ تتجلى في جدل التنوير ميزة أخرى بشـرية تلعب دور الدافع الجارف لذلك المسار وهو الخوف، فالرغبة الشديدة في الهيمنة على الطبيعـة تخلق في الإنسان خوفاً يائسـاً مـن المجهول، لذلك تنشـأ القـدرة على التفكير العقلاني كرد على هذا الخوف) ([11]).

لقد كان هدف هوركهايمر وأدورنو العمل على استكشاف الخوف الكامن في الإنسان الغربي وارتداده المستمر إلى اللاعقلانية والأسطورة التي حاول باستمرار وفي كل مرة التنصل منهما طوال تاريخه الحضاري، لذلك يكون هذا الإنسان واهما حين يعتقد أنه بواسطة معرفته العلمية ومـا ارتبـط بهـذه المعرفة من تقدم تكنولوجي وما أنتجه من وسائل وأدوات وأجهـزة، ومـا انـجـر عنهـا مـن هيمنة كلية على الطبيعة، أنه تحرر فعلا من خوفه البدائي وتجرد من الأسطورة واللاعقل، بل هو يرتد إليهما باستمرار [12]. ويفيد هذا كله بأن التنوير هو الحالة التي يتحرر فيها الإنسان من الخوف وذلك عندما لا يعود هناك ثمة شيء مجهـول فالتنوير هو عقلنة الرعب الميثولوجي([13]). وهكذا، يعتبر الخوف حسب هوركهايمر وأدورنو مظهرا أساسيا لعلاقة الإنسان بالطبيعة عبر التاريخ الحضاري الغربي، لذلك يلعب الخوف لديهما دورا أساسيا في الفهم الدقيق للعقل الإنساني وسبر أغـواره العميقة، والسبب أن العقـل مـدفـوع منذ ولادته وإلى آخر مراحل تاريخـه بالخوف من الطبيعة، وذلك أن الخوف هو بمثابة دافع أولي أمام الصراع من أجل الهيمنة على الطبيعة ومنشط للقدرة على التفكير العقلاني ولاتساع السيطرة على الطبيعة، بل وامتداد هذه السيطرة على الطبيعة الداخلية للإنسان، بحيث تحكمت العقلانية الأداتيـة فـي دوافعه الأولية وحياته الباطنية وأحكمت قبضتها عليه، فنتج ما يسمى بالاغتراب والتشيؤ.

4- فاوست- مسخاً شيطانيا:

تتجلى المعاني الاغترابية لأسطورة أوديسيوس بوضوح أكبر في أسطورة " فاوست" (Faust) الأكثر حداثة وهي الأسطورة التي تفيد برمزية العقل الأداتي الذي أدى إلى نهاية التنوير وسقوطه. ولكي نفهم الدلالات الرمزية لأوديسيوس الإغريقي بوضوح أكبر يمكن أن نستلهم أسطورة " فاوست " التي تدور شخصية يوهان جورج فاوست (1480 - 1540) الذي كان كيميائياً لامعاً ومنجماً في عصر النهضة في ألمانيا وأصبحت حياته محوراً لحكايات شعبية وقصص وروايات أدبية ومسرحيات تحمل عنوان "فاوست" ومنها مسرحية " التاريخ المأساوي لحياة وموت الدكتور فاوست " لـ كريستوفر مارلو، وكذلك مسرحية " فاوست" الشاعر الألماني ولفغانغ فون غوته.

تفيد الحكاية أن فاوست في سعيه إلى مزيد من العلم والقوة تحالف مع الشيطان وأبرم معه عقداً (A pact with the devil) وفي هذا العقد يبيع فاوست للشيطان (ميفيستوفيليس ) مقابل أن يقوم الشيطان بمنحه القوة والمعرفة والعلم والسيطرة. وعندما يستغرق فاوست في أهوائه ويشبع ميوله ونزواته ويحقق سيطرته الكلية على مظاهر الحياة من حوله يكتشف في نهاية المطاف أن السعادة الحقيقية لا تتحقق في المتعة الحسية والسيطرة المادية ولكنه يكتشف ذلك بعد فوات الأوان إذ قد أصبح جسداً  بلا روح ومادة بلا معنى وقد أدرك أنه فقد الفرصة للتوبة والنجاة. وفي مواجهة هذا البؤس الوجودي يحاول فاوست الانتحار والتخلص من الحياة التي فقدت بريقها الروحي وجمالها الأخلاقي.

حكايات فاوست تشكل نموذجاً أوديوسياً للحضارة، فاوديسيوس الذي حاول أن يسيطر على الطبيعة فقد حريته على الصواري ولكي يتحرر من عبودية الطبيعة أصبح عبداً لصواري سفينته. ترك الغانيات وسحرهن من أجل السيطرة على العالم ففقد روحه أيضاً وتحول إلى قوة مدمرة لا روح فيها. أوديسيوس اتجه إلى المعرفة معرفة أسرار الطبيعية والسيطرة عليها وهو في سياق ذلك فقد رجه وحريته. وهذا هو حال فاوست الذي باع روحه للشيطان من أجل المزيد من العلم والسيطرة ولكنه وقع في حبائل عبودية الشيطان الذي أفقده جمال روحه.

وفي عملية الإسقاط الحضاري للأسطورتين تتضح الغايات وتنكشف الدلالات وتخرج المعاني الحبيسة. فالإنسان الغربي قد باع نفسه للشيطان، والشيطان هو العقل الأداتي الذي يتمثل في القوة الفارطة للعلم وقدرته على السيطرة، ويبنى على ذلك أن الإنسان في الحضارة الغربية في سعيه للسيطرة على الطبيعية فقد نفسه وانغمس في هوس اكتئابه واغترابه إذ أصبح كياناً بلا روح علما بلا معنى مادة بلا أخلاق ففقدت الحضارة أجمل ما فيها وأرقى أوجه نبلها ورقيها الأخلاقي والإنساني. وهذا يعني أن الحضارة المعاصرة شٌغفت بالعلم والعقل المسيطر فوقع الإنسان في حصار العدم (القنابل الذرية – الحروب الجرثومية – تدمير البيئة – تدمير المعنى – تشويه الأدب والدين ) وهذا يعني كله يعني أن الحضارة الغربية المعاصرة حضارة ميتة فانية مدمرة جسد بلا روح وكيان بلا معنى وتشكيل هلامي بلا دلالة. إنها الحضارة الفاوستية التي باعت روحها للشيطان ففقدت أجمل ما فيها: الأدب الشعر الموسيقا الجمال الأخلاق القيم والروح التي أصبت في متناول الشيطان.

5- سقوط الحضارة:

ليس ثمّة شك في أنّ الحضارة المعاصرة قد حققت قدراً لا بأس به من النجاح والتقدّم. لقد استطاعت أن تلبي وتحقق كلّ ما يحلم به الإنسان من مطالب وحاجات مادية، في ظلّ التقدم العلمي والتكنولوجي الذي استطاع أن يسخّر كلّ شيء للإنسان، وأن يصبح الإنسان بواسطة هذا التقدّم التكنولوجي سيّداً للعالم.

ومع ذلك فهناك صيحات تنذر بأنّ الحضارة تمرّ بمأزق أو أزمة كما رأى "هابرماس". ([14])  وصرّح نيتشه "Nietzsche" أنّها تسير إلى الهاوية.  ويرى نيتشه أن التكنولوجيا  تشكل تهديداً مستمراً لإنسانية الإنسان بعد أن «نما فيها الكم على حساب النوع،  والإنسان الخارجي،  بلغة نيتشه،  على حساب الإنسان الداخلي»  ([15]) .  يقول نيتشه في عبارة رائعة:  «إننا في عصر حضارته مهددة بالتدمير من طرق وسائلها هي نفسها»  ومن ثم يصف «  الحضارة الصناعية للغرب بأنها أحط شكل من أشكال الوجود التي أمكننا أن نراها اليوم ([16]).

وتمضي الحضارة الغربية كما يرى روجيه جارودي  (Garaudy Roger) إلى الهاوية بما أنتجته من أدوات الفتك والتدمير التي أدت إلى هلاك ستين 60 مليون إنسان خلال الحرب الثانية، وقنابل هيروشيما  وناكازاكي  ما تزال شاهدا احتضار هذه الحضارة واقتراب زوالها وقد قام  بتحليل الأزمة التي يعيشها الغرب، ولاحظ أن هذه الأزمة ترجع بجذورها إلى عصر النهضة الذي أسس للرأسمالية الاستعمارية، وما صاحب ذلك من تدمير وهدم للثقافات الإنسانية وقد اعتمدت هذه الحضارة منهجا أوصلها إلى أزمة داخلية عميقة وشاملة وغير قابلة للحل .  ويرى في هذا السياق إنه إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فإننا سنواجه أضعاف ما عشناه من ويلات وكوارث" ([17]) .  وعلى إيقاع غارودي  يقول نورثروب: " إن عالمنا هذا عالم متناقض؛ فالمنجزات التي تمثِّل أمجاده هي التي تهدده بالدمار، ويبدو أننا كلما تقدمنا في الحضارة، فقدنا القدرة على الحفاظ عليها"([18]) . ويقرر كونكلين في كتابه الإنسان: الواقع والمثال أن الجنس البشري الآن في أشد أزمة مرَّ بها في تاريخه الطويل ([19]) . ويرى جوليان هكسلي، فيقول: إن هذه الحقبة حقبة شديدة الحرج يسودها العنف والصراع والثورة، والدمار والوحشية والأخطار النووية والذرية، والانفجار السكاني والتلوث البيئي، والانفصام الأيديولوجي والإضراب العام . ويؤيد يقول إريك فروم: العالم الغربي في طريق مسدود، لقد حصل على الكثير من الأمور الاقتصادية، وفقد أي معنى وهدف في الحياة، وبدون هذا فإن المجتمع الغربي مثل أي مجتمع آخر في الماضي لا بد من أن يفقد حيويته وقوته الداخلية. ويرى  عالم الاجتماع بيتريم سوروكين: "إن كل جانب من حياة المجتمع الغربي ونظامه وثقافته، إنما هو في أزمة طاحنة أن جسد المجتمع الغربي مريض وعقله مريض، ولا تكاد توجد نقطة صغيرة واحدة على جسده إلا ويعتورها الألم " ([20]) .

ويعد الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821- 1867) من أبرز هؤلاء الذين حذروا من دمار الحضارة عندما وجد أن التكنولوجيا التي يعيش بها الغرب ستدمر ثقافته وحضارته . وهذا هو الأمر الذي أكده الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي (1828- 1919) . وقد أكد فيودور دوستويفسكي (1821- 1881) الفكرة التي تقول بأن الحضارة الغربية تتجه نحو انهيار مأساوي لا يمكن إيقافه.   ويعد أوزوالد شبنغلر (Chweitzer)   من أبرز المفكرين الذين قالوا بانهيار الغرب وسقوط حضارته البربرية  ويؤكد أننا نعيش اليوم في ظلّ انهيار الحضارة الغربية التي تدخل الآن مرحلة التداعي، وقد حكم عليها بالموت والدمار.

6- خاتمة - صخرة سيزيف:

عندما حصل الأديب والفيلسوف الهندي طاغور على جائزة نوبل في الآداب عام 1913 قال " إن الحضارة المادية ستخسر كل شيء إذا فقدت روحها، وأن البشرية ستصبح مهددة بالفناء في ظل جسد بلا روح وعندما تصبح الحضارة بلا قلب فإنها ستفقد أهم مقومات الحياة ([21]). وفي هذا القول تتوهج كل الدلالات الأسطورية للحضارة الغربية الفاوستية التي فقدت بريقها الإنساني من نار برومثيوس التي أحرقت العالم إلى صواري أوديسيوس وسجونه الحضارية، ومنهما إلى الروح الفاوستية في الحضارة الغربية .

في الأساطير الثلاثة يتوهج نور الحضارة في البداية ثم تأفل الأنوار ويسقط الإنسان في مستنقع العدمية. أراد برومثيوس أن ينير الأرض بشعلته ولكن هذه الشعلة أحرقت الأرض ودمرت الأنوار، وانتهى به الأمر بصندوق باندوا (عقاب زيوس للبشر ) التي انفتح شراً على الإنسانية فانتشرت الشرور والآثام ولم يبق فيه إلا الأمل.

أراد أوديسيوس أن يسيطر على الطبيعية بالعقل والمعرفة فوقع في أسر الصواري وأرهب الطبيعة إذ كشف أسررها دون أن يمتثل لغواية الغانيات التي ترمز إلى في جمال الطبيعة وسحرها، حرم نفسه من أناشيد الطبيعة الروحية فأخضع نفسه لقوانين العلم والمعرفة، فسقط تحت مقصلة العقل الأداتي فاقداً للروح والجمال الذي تتجلى فيه الطبيعة التي تتمثل في الفن والموسيقا والجمال.

وهذا هو الواقع الحضاري المأساوي الذي نعيشه المحاصر بزنزانات الاغتراب والاستلاب لقد أصبح الناس في هذا الزمن الحضاري عبداً لنزواته المادية يرزح تحت السلطة البيروقراطية، وقد أصبح اليوم عاجزاً مجرداً من طاقته الروحية والأخلاقية. فالحياة المعاصرة في ظل الحضارة الغربية حضارة فاوستية حضارة السيطرة والقوة والدمار. والإنسان اليوم يعيش تحت مظلة الخطر الذي يهدد كيانه ووجوده الذي يتمثل في الحروب النووية والخراب البيئي وسيطرة الإعلام وهيمنة الذكاء الاصطناعي. لقد اصبحنا نعيش في عالم يعلو فيه كل شيء وتسقط قيمة الإنسان نفسه صانع الحضارة والتاريخ. وعلى هذا النحو يمكن القول إن كل حضارة تنطوي على بذور فنائها، وعليه فالحضارة الإنسانية الكونية تقارب الفناء والزوال والانحدار. وقد كتبت أطنان من الكتب والروايات والدراسات التي تحدثنا عن فناء الحضارة الإنسانية وسقوط الإنسان.

وقد تمثل أسطورة سيزيف ([22]) اليوم تصورا عميقا عن وضعية الحضارة المعاصرة فالإنسان يعيش فيها وضعية سيزيفية مجردة من الحلم والأمل، وحياة البشر أصبحت  اليةم روتينا يستمد معناه من صخرة سيزيف الأبدية  أي كحال سيزيف الذي يدفع صخرته بصورة دائمة إلى أعلى الجبل لتنحدر بعدها إلى سفحه على نحو لا يتوقف أبدا . وتلك هي حالة الإنسان المعاصر الذي يرفع أثقاله اليومية في ظل غياب الروح الحقيقية للإنسان بوصفه والإنسانية بوصفها نمطا للعيش الحرّ الكريم، وقد يكون كل ما يقوم به الإنسان المعاصر في ظل هذه الروح الفاوستية مجرد عمل رتيب سخيف تافه لا قيمة له ولا معنى محال سيزيف الذي يحمل صخرته المتدحرجة دون جدوى إلى الأبد. وتلكم هي الحياة العبثية التي نعيشها في هذا الزمن، وقد لا نبالغ في القول: إن الحياة التي نعيشها اليوم تشبه إلى حد كبير هذا الشقاء الذي حُكم به على سيزيف إنها مأساة هذا الروتين اليومي الذي يكبلنا بأغلال برومثيوس وصواري أوديسيوس. فنحن نعيش اليوم في مهب الريح نكرر حياتنا كل يوم دون هدف يتميز بنبله وسموه، نعيش نستهلك نأكل نخضع نستسلم نتشيأ نتملك نشتري نبيع كما نُشترى ونُباع في سوق النخاسة الرأسمالي الجديد، وقد أصبحنا أشلاء في ماكينة الإنتاج الصناعي والإعلامي الجبار، بل قل أننا اصبحنا وقوداً لهذه الصناعة وموضوعاً لها. وقد لا يوجد أمام الإنسان بعد أن فقد شغفه الطبيعي إلى الحياة الإنسانية الروحية إلا الموت خلاصاً من هذا الضجر الأبدي، أو لنقل إذا حاولنا رفع المعنويات بأن لم يبق أمام هذه الإنسانية البائسة أكثر من الحلم والأمل القابع في صندوق باندورا الذي يحتاج إلى من يطلقه من جديد في قلوب الناس ووعي البشر. ويبقى السؤال هل هنام من يأتي ليكسر أغلال برومثيوس؟ أو ليحرر سيزيف من عنائه الأبدي فيحطم صخرته الكارثية؟ وهل هناك من جنيات بحرية تأخذنا إلى صوابنا في التفاعل مع الطبيعية لنخرج من دوائر اغترابنا واستلابنا؟

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

..................................

مراجع المقالة وهوامشها:

[1] - إلكترا شخصية اسطورية ابنة ملك الإغريق "أغمانون". وقد اشتهرت بقيامها بتحريض أخيها "أوريستيس" على قتل أمّها "كليتمنسترا"، بعدما اتهمتها بالمشاركة في قتل أبيها. يضاف إلى ذلك كلّه السبب الأهم وهو حبّها السابق والشديد لأبيها وتعلُّقها به ورفضها في أن تشاركها فيه أي امرأة غيرها، حتى ولو كانت هذه المرأة هي أمّها! لذلك أطلق علماء النفس هذا الاسم على إحدى العقد النفسية التي تعاني منها البنت في فترة المراهقة، وما ينتج عنها ليغطي المراحل القادمة. وبهذا المعنى فإلكترا هي النسخة المؤنَّثة لما يُسمَّى "عقدة أوديب". وعلى الرغم من أن فرويد هو من ابتكرها، إلا أن يونغ هو من أطلق التسمية الحالية على العقدة التي كان يُسمّيها فرويد "عقدة أوديب المؤنثة".

[2] - بروميثيوس (Prometheus) أحد الأرباب المعروفة بالتيتان في مجمع أرباب اليونانيين القدماء، ويعني «المتبصر» وهو ابن التيتان إيابتوس وشقيق أطلس وابمثيوس في الأساطير اليونانية. وقد كان يملك المقدرة على التنبؤ بالمستقبل. عندما قامت الحرب بين كرونوس و التايتن من جهة وزيوس وأخوته من جهة أخرى، انضم بروميثيوس إلى جبهة زيوس، وبعد الانتصار اتخذ زيوس من بروميثيوس مستشار له لبعد نظره وحكمته. عهد زيوس إلى بروميثيوس وأخيه ابيمثيوس تشكيل الحيوانات والبشر. شكل ابيمثيوس الحيوانات، بينما شكل بروميثيوس البشر. أنهى ابيمثيوس الحيوانات بسرعة، بينما استغرق بروميثيوس الكثير من الوقت، بالرغم من رغبة بروميثوس إتقان تشكيل البشر، إلا أن بطئه الشديد جعل أخاه يمنح الهبات كلها إلى الحيوانات: السرعة في العدو، الرؤية عن بعد، السمع عن مسافات بعيدة كما أعطاهم رداء من الفراء ليدفئهم من البرد، ومختلف الأسلحة للدفاع عن نفسها مثل القرون والأنياب، ولم يبق شيء للإنسان. أعطى بروميثيوس البشر العديد من العطايا والهبات التي سرقها من آلهة الأوليمب هيفاستوس وأثينا وغيرهم، فقد أعطاهم فنون العمارة والبناء، النجارة، استخراج المعادن، علم الفلك، تحديد الفصول، الأرقام والحروف الهجائية، كما علمهم استئناس الحيوانات وركوبها والإبحار بالسفن. لم يكتف بروميثيوس بذلك، بل سرق النار من جبل الأوليمب، وأعطى قبسا منها للبشر. فقد حزن بروميثيوس لرؤية البشر في برد الشتاء محرومين من الدفء والأمن. تألم بروميثيوس لحال البشر، وقرر أن يحضر لهم النيران التي تدفئهم وتأنسهم بنورها. سرق برميثيوس إحدى صواعق زيوس، وأخفاها داخل عصا مجوفة صنعها من النباتات. وقد علم زيوس بخيانة بروميثيوس، وقرر عقابه على الإثم الذي ارتكبه في حق سادة الأوليمب. استدعى هيفاستوس وطلب منه أن يصنع سلاسل قوية حتى يقيد بها بروميثيوس على صخرة في جبال القوقاز. وكان كل صباح يأتيه نسر عملاق يدعى أثون ينهش كبده، الذي يعود لينمو مجددا في المساء ليستمر عقاب بروميثيوس الأبدي. انظر الموسوعة العربية للمزيد من المعلومات.

[3] - الأوديسة باليونانية (ούνταξις)هي ملحمة شعرية وضعها هوميروس في القرن 8 قبل الميلاد. وتتكون من 24 جزئا. تبدأ الملحمة من منتصف القصة، ثم تروي ما حدث بالبداية وتنتهي بوصول البطل إلى الجزيرة. تبدأ قصة الأوديسة بعد نهاية ملحمة الإلياذة. وتروي قصة عودة أوديسيوس ملك إيثاكا الذي من المعروف عنه أنه صاحب فكرة حصان طروادة.

[4] - يسمى أوديسيوس يوليز أو عوليس باللاتينية (Ulysses)

[5] - Max Horkheimer and Theodor w. Adorno, La dialectique de la raison, fragment philosophiques, traduit de l'allemand par eliane kaufholz, Editions gallimard, p 50.

[6] - كـمـال بـومـنـيـر، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: من ماكـس هـوركهايمر إلى أكسـل هـونيـث، الدار العربية للعلوم ناشرون، الرباط، الطبعة الأولى، 2010. ص 20.

[7] -Max Horkheimer et Theodor W. Adorno, La Dialectique de la Raison, trad. Éliane Kaufholz, Gallimard, 1974, p. 72.

[8] - خلدون النبواني، الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت من الماركسية إلى ما بعد الحداثة، الأوان، 8ديسمبر 8, 2013. https://bitly.ws/3dqE3

[9] - عبد الغفار مكاوي، تجارب فلسفية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2020. ص 106.

[10] - عبد الغفار مكاوي، تجارب فلسفية، المرجع السابق، ص 106.

[11] - كـمـال بـومـنـيـر، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: من ماكـس هـوركهايمر إلى أكسـل هـونيـث، الدار العربية للعلوم ناشرون، الرباط، الطبعة الأولى، 2010. ص 21.

[12] - كـمـال بـومـنـيـر، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، المرجع السابق، ص 22.

[13] - كـمـال بـومـنـيـر، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، المرجع السابق، ص 22.

[14] - عماد الدين ابراهيم عبد الرازق، مفهوم الاغتراب لدى فلاسفة مدرسة فرانكفورت، مؤمنون بلا حدود، يناير 2017. https://bitly.ws/3dqMj

[15] - مهند حبيب السماوي، نقد الحضارة الأوربية عند نيتشه، مركز الشرق العربي، 12/7/2007. https://www.asharqalarabi.org.uk/mu-sa/b-mushacat-417.htm

[16] - مهند حبيب السماوي، نقد الحضارة الأوربية عند نيتشه، المرجع السابق .

[17] - زيد بن محمد الرماني، فلاسفة الغرب والحضارة الغربية الحديثة، الألوكة، 13-6-2022.

https://bitly.ws/3htXA

[18] - زيد بن محمد الرماني، فلاسفة الغرب والحضارة الغربية الحديثة، المرجع السابق.

[19] - زيد بن محمد الرماني، فلاسفة الغرب والحضارة الغربية الحديثة، المرجع السابق.

[20] - زيد بن محمد الرماني، فلاسفة الغرب والحضارة الغربية الحديثة، المرجع السابق.

https://bitly.ws/3htXA

[21] نقلا عن: مجدي عزيز إبراهيم، المنهج التربوي العالمي، أسس تصميم منهج تربوي في ضوء التنوع الثقافي، مكتبة الأنجلو مصرية القاهرة 2001، ص 232.

[22] - سيزيف شخصية أسطورية شريرة في الميثولوجيا الإغريقية، وقد صوره هوميروس أكثر أبناء البشر مكرا وخبثا ولؤما. ولسوء أعماله حكمت عليه الآلهة الأوليمبية أن يدحرج صخرة ضخمة من أسفل الجبل إلى أعلاه، وفي كل مرة تصل فيها إلى قمة الجبل تتدحرج إلى أسفله فيعود سيزيف جديد ليدحرجها إلى القمة من جديد مرارا وتكرارا إلى الأبد. وليس هناك عقاب أقبح وأشد أيلاما من القيام بعمل تافه لا معنى له ولا جدوى فيه.

1) من أهم أركان النفس الإنسانية التي طرحها القرآن الكريم باعتبارها تمثل مظهرا رئيسيا، عليها يتم تقسيم سلوك الإنسان وخلفياته، نجد تلك الصورة التي عبر عنها بالنفس الأمارة بالسوء، وهي تمثل الجانب المذموم من التوجه النفسي. وتتجلى على عدة صور وظواهر جزئية في سلوكه الظاهري والباطني. بحيث ستمثل المجموعة السالبة في كيان الإنسان كمقابلة ومناقضة للموجبة ذات الصورة المحمودة من ظواهره النفسية .

ولئن كنا قد اصطلحنا بمصطلح المجموعة أو النفس السلبية أو السالبة فذلك من حيث إنها لا تقدم للإنسان مكسبا زائدا على ما هو عليه في نفسه الحسية الغريزية أو ما في معناها، أي أنه لا يسعى إلا إلى الاستجابة للمتطلبات الجسدية أو ما يدور في فلكها من نوازع ذاتية تؤول في النهاية إلى تحقيق الرغبة الجسدية على غير اعتدال أو وجه صحيح في أغلب الأحيان .

فلقد ورد هذا الوصف للنفس الإنسانية في قول الله تعالى :"وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي لغفور رحيم ".

فالآية قد وردت في سياق أو معرض حادثة لها دلالتها الخاصة على مستوى سلوك غريزي محدد والذي بسبب تصارعه قد اعتبرت النفس على صيغة العموم بأنها أمارة بالسوء.بحيث إن هذا الوصف سيوضح لنا صورة استثنائية للنفس البشرية، ومع ذلك فقد تمثل قاعدة عامة عند أغلب الناس الذين قد يظهرون بسببها على شكل شخصية متناقضة ذاتيا.

لأن الوضع الطبيعي والأسلم للإنسان، عقلا وذوقا وسلوكا، هو أن يسعى إلى تحقيق مصلحته ونفع ذاته وبالتالي اجتناب كل إساءة إليها ورفض كل ما يضرها.

لكن المشكلة التي تحتاج إلى تحليل عميق لواقع النفس الإنسانية هي: كيف يمكن تصور الإنسان الواعي يأمر ذاته بالسوء، ويسعى إلى حتفه بظلفه ؟ فمن تكون النفس المقصودة في الآية ومن يكون الإنسان الذي لا يبرئ نفسه، وهل توجد ازدواجية في تكوينه على مستوى التناقض أم على مستوى التكامل ؟ كما أنه :هل له مسؤولية جزائية كاملة أم أنه يتحمل المسئولية عن بعض سلوكياته بينما يعفى منها في الجوانب الأخرى؟.

إن ظاهرة الأمر بالسوء، الذي وصفت به النفس الإنسانية قد جاء في سياق الوضع الغريزي الذي هو من جهة قد يمثل المطلب الجسدي بالدرجة الأولى.و هو استحثاث باطني من جنس الباعث المادي لتحقيق الاستجابة للحاجة وسدها، وخصوصياته هو أنه انجذابي ومغناطيسي نحو مشاكله، على أية صورة كانت هذه المشاكلة.

وبما أن الجسد له اتصال بالروح العنصر الواعي والشعوري في شخصية الإنسان فإنه سيكسب قسطا نسبيا من الوعي الذاتي الذي يصرف به مصالحه ويطلب بواسطته حاجاته، وتستحث من خلاله غرائزه.ولهذا فالوعي الجسدي هو وعي محدود انطوائي لا يعمل إلا في دائرة الأنانية الجسدية والتخطيط والتحايل على إشباعها إشباعا أعمى، وانجذابا غير واعي بأبعاده السيئة إن هو جاوز الحدود الفطرية واخترق حقل الوعي الروحي الذي هو أصله مرتكز حياته وإحساساته .

والواقع أن سقوط النفس في دوامة الوصف بالأمارة بالسوء هو نتيجة فتح المجال لعدم التوازن بين العمل الروحي والعمل الجسدي، وقد دل على ذلك قول الله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف عليه السلام :" إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي".

إذ الاستثناء وارد بسبب التدخل الإلهي لضبط السلوك النفسي، مما يعني أن المرتكز في معرفة النفس ابتداء وانتهاء مرتكز عقدي توحيدي، هو الذي يحقق التوازن بين الوظيفة الروحية والجسدية لتحقيق السلامة الفطرية.

2) والأمر بالسوء قد يعرض على صورتين: إما على صورة عقل واعي قد يتخذ صور تخطيط وحيل وتسويل وحديث نفس، وإما على صورة شهوة بدنية ستأخذ شكل الاندفاع والانجذاب نحو المبتغى بالتحسيس الممزوج بالألم واللذة كتلازم بين ألم اللذة ولذة الألم .

والملاحظ أن الأمر النفسي قد يعتبر جزائيا على المستوى العملي أو الحركي، أما ما يبقى داخل الخطاب الذاتي الباطني فهو خارج عن هذا الاعتبار.

وهكذا سنجد القرآن يقرر أن الظاهرة عامة عند الإنسان، وهي تأخذ مستوياتها بحسب الاعتماد الفطري أو غيابه وذلك في قول الله تعالى:"ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد، ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد"[1].

وبما أن هذه الظاهرة من خصائص النفس الإنسانية التي قد تدخل إما في حكم الاختيار، ولكن في حدود الاستعراض الخيالي، وإما في حكم عدم الاختيار بالتسلط والتأمر النفسي فإننا سنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرح بحكم شرعي كطمأنة للنفوس وصرفها عن التعقد وتوهم الخطأ أو الضياع وما إلى ذلك بحسب حديث النفس.

فعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به "[2]، بل سيذهب إلى أبعد من هذا وهو التلطف في اتهام النفس وتحميلها من النعوت إلا ما تستحقه بالاستحقاق الجزائي المناسب كما في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي"[3]. واللِّقْس يختص بامتلاء المعدة . وهذا فيه أيضا دلالة الارتباط الموضوعي العضوي بين مفهوم النفس والاستحثاثات الغريزية .

قال ابن جمرة كما يحكيه عنه العسقلاني:"ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء والعدول إلى ما لا قبح فيه، والخبث واللقس وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورا زائدة على المراد، بخلاف اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة.قال : وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن . ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة.

قال: ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله: لا يقول لست بطيب بل يقول ضعيف ولا يخرج نفسه من الطيبين فيلحقها بالخبيثين "[4].

لكنه مع هذا النهي عن وصف النفس بالخبث سنجد حديثا آخر يصفها بنفس النعت المنهي عنه، وذلك بالحكم الشرعي وليس بالحكم الشخصي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة:عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان[5].

وللجمع بين الحكم الشرعي والحكم الشخصي، فإن الحكم الشرعي يبقى هو المقرر الأعلى في قضايا النفس وظواهرها وبواطنها لأنه العلم الإلهي الذي له كامل الحق في الحكم على الأشياء ولأنه أعلم بها من كل جوانبها "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"[6]، وعلمه بالنفس قد يتضمن التقرير والحكم والجزاء والتربية والتزكية:"فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"[7]، "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا، ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا"[8].

" ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا"[9].

وفي الحديث:" أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ويلك قطعت عنق أخيك ثلاثا! من كان مادحا لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسبه ولا أزكي على الله أحدا إن كان يعلم ". (رواه البخاري في كتاب الأدب ).

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

المملكة المغربية

.....................

[1] سورة ق آية 16-23

[2] رواه مسلم

[3] رواه البخاري، كتاب الأدب

[4] :فتح الباري في شرح صحيح البخاري، دار الكتب العلمية بيروت ط1-1410-1989 ج10 ص 690

[5] رواه البخاري، كتاب الجنائز

[6] سورة الملك آية 14

[7] سورة النجم آية 32

[8] سورة الإسراء آية 25

[9] سورة النساء آية 49

 

تتجلى آيات الله عز وجل في ثلاثة منها تحكم طبيعة السلوك بين البشر، حيث تتناول ثلاثة دوائر أكبرهما الحديث والقول الحسن للناس كافة بغض النظر عن دينهم وأعراقهم وأصنافهم وأشكالهم وأوضاعهم الاجتماعية، الاقتصادية، والعلمية ونحوها، فالرسالة واضحة وجلية في الإحسان في القول والفعل. " وقولوا للناس حسناً " [1]، وقوله عز وجل " وقولوا للناس حسنا)" أي: كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري في قوله: (وقولوا للناس حسناً) فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله .وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو عامر الخزاز، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تحقرن من المعروف شيئاً، وإن لم تجد فالق‏ أخاك بوجه منطلق " .[2] ودعا أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وداعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك ؟ تسلم على اليهودي والنصراني. فقال: إن الله يقول: (وقولوا للناس حسناً) وهو: السلام . قال: وروي عن عطاء الخراساني ونحوه .[3]

وقالَ أبُو العالِيَةِ: مَعْناهُ قُولُوا لَهُمُ الطَيِّبَ مِنَ القَوْلِ، وحاوِرُوهم بِأحْسَنِ ما تُحِبُّونَ أنْ تُحاوِرُوا بِهِ، وهَذا حَضٌّ عَلى مَكارِمِ الأخْلاقِ.[4]، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" وقوله - صلى الله عليه وسلم - "[5]من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت"[6]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "والكلمة الطيبة صدقة"[7]

إن اللطافة واللين في التعامل مع الناس من شيم الكرام وأخلاقهم السمحاء ومعادن نفوسهم الطيبة للقول والتصرف والفعل الحسن، يقول ربنا عزوجل "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"[8] .

تعتبر القدرة على فهم الناس وإقامة علاقات اجتماعية معهم والتعامل بشخصية لبقة ولطيفة ومتعاطفة من أساسيات الذكاء الاجتماعي التي يتصف بها المرء في فهمه ولباقة تصرفه مع من حوله. ويوضح الحسن البصري بعبارته الحكيمة: "اِصْحَب الناس بأي خلق شئت يصحبوك". فلا تُعاملهم كما يعاملوك به، أنت صاحب قيم وأخلاق سامية، فديدن القلوب الرحيمة والمبادىء السمحاء يصلحون ولا يفسدون، ولديهم القدرة على التحمل والصبر من إيذاء الآخرين . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "درجة الحِلم، والصبر على الأذى، والعفو عن الظلم؛ أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؛ يبلغ الرجل بها ما لا يبلُغه بالصيام والقيام"[9] قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[10]

وبدأت الدائرة تضيق رويداً رويداً حتى أنها وصلت إلى تخصيص في طبيعة العلاقة ما بين المؤمين بعضهم ببعض في علاقة لا تقبل شكاً أو تطاولاً ولا استقواءً على أحد ولا تكبراً أو استغلالاً لهم، علاقة سامية صفتها التواضع ولين الجانب واللطف في التعامل، فلا ينبغي أن تترفع وتتكبر على أخيك المسلم "واخفض جانحك للمؤمين" [11]، اخفض لهما جناح الذل، بمعنى: اخفض لهما جناحك الذليل، وجناح الإنسان يقال ليده، فإن الإنسان إذا أراد أن يبطش رفع يده، ويقال ذلك بمعنى لين الجانب والتواضع. الطائر إذا أراد أن يضرب ضرب بجناحه، رفع جناحه وضرب به، وإذا جاء عند صغاره فإنه يخفض جناحه ويرفرف على هؤلاء الصغار، فخفض الجناح يعني التواضع واللين في التعامل والمخالطة والمعاشرة[12]. والتعبير عن اللين والمودة والعطف بخفض الجناح تعبير تصويري، يمثل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.[13]

وقوله) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وألِن لمن آمن بك، واتبعك واتبع كلامك، وقرِّبهم منك، ولا تجف بهم، ولا تَغْلُظ عليهم، يأمره تعالى ذكره بالرفق بالمؤمنين.[14]، إن الإسلام يدعو إلى الكلمة الطيبة في القرآن الكريم الأمر بالقول المعروف، والقول السديد، والقول الميسور، والقول الحسن، والقول الكريم، والقول اللين.[15]

فالبيئة التي ينشأ فيها الطفل إذا كانت تُربي فيها على القِيّم الإيجابية، وتنشئته على تعلم الألفاظ الجميلة والكلمات الطيبة، فسيكون محبوباً في بيئته، وتجعل المحيطين به يتوددون إليه ويتقربون منه، ويتعاملون معه برقي واحترام، أما إذا كان ما تربى على محتوى سلبي، غير لائق، فإن الناس سوف ينفرون من حوله، وينبذونه، ويحذرون من مجالسته وصحبته والتقرب منه، ويصبح منبوذاً وغير مقبول اجتماعياً. ففي دراسة أعدتها الدكتورة إليزابيث سويني من جامعة سينسيناتي والمتخصصة في مجال الاجتماع خلُصت في نتائجها إلى "إن الأطفال الذين ينشؤون في كنف عائلة يتسلط فيها الأبوان يميلون إلى الاستئساد على الآخرين والهيمنة عليهم عبر شتى وسائل الضغط والترهيب".[16]، فاختيار أحسن الكلام من أعظم أخلاق الإسلام التي كثُر تأكيدها في كثير من الآيات والأحاديث، قال تعال: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[17]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِن مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلُ السَّلامِ، وَحُسْنُ الْكَلامِ»؛[18] .

والهين اللين ينسحب رفقه على كل صور حياته، التي تقتضي السماحة واللين في التعامل مع المؤمنين، حتى يحظى بمحبة الله سبحانه وتعالى (إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله)[19]، كما نحظى بعون الله عز وجل يقول رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف .[20]، ليس الرفق في الأمور الكبيرة أو ذات الشأن أو قضايا الحياة فقط، بل يتخطاها إلى ما يسمى صغائر الأمور: النظرة، المصافحة، طريقة الجلوس، الإقبال بالوجه. وكلها ذات آثار عظيمة في النفس، فهي تملك القلوب، وتنبّه العقول، خاصة أن محمدًا لم يفرق في ذلك بين فقير أو غني، ذو الشأن أو بسيط الشأن، الرجل والمرأة، الصغير والكبير. لذا، امتلك حب القلوب من حوله.[21]

وأمست الدائرة تضيق أكثر وأكثر في العلاقة ما بين الآبناء والآباء، في احترام وتقدير وتوقير لفضل هؤلاء على أبنائهم وفلذة أكبادهم " ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما".[22]، وقضى أي أمر وألزم وأوجب . قال ابن عباس والحسن وقتادة: وليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر[23]، وقضى ربك وأمر أمراً مقطوعاً به . ألا تعبدوا بأن لا تعبدوا إلا إياه لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة، وأحسنوا بالوالدين إحساناً لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش . فلا تقل لهما أف فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما، وهو صوت يدل على تضجر . وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافع وحفص للتنكير، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما. ولا تنهرهما ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ .[24]

هناك آداب ينبغي لنا مراعاتها، ويجدر بنا سلوكها مع الوالدين، لعلنا نرد لهما بعض الدين، ونقوم ببعض ما أوجب الله علينا نحوهما، كي نرضي ربنا، وتنشرح صدورنا، وتطيب حياتنا، وتسير أمورنا، ويبارك الله في أعمالنا، وينسأ لنا في آثارنا وبالوالدين إحسانا). إن مخاطبتهما بلطف وأدب وعدم رفع الصوت عليهما أو الرد عليهما بغضب وعبوس وجه وعدم رضا. فطاعتهما في كل وقت وكل أمر من ليل أو نهار ولكن في غير معصية الله، «فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .[25]، وتجنب مجادلتهما أو تخطئتهما أو إنكار شيء عليهما مباشرة ولكن يوضح لهما الصواب بلطف ولين وحسن أدب. والدخول عليهما بإذن ولاسيما وقت نومهما وراحتهما وكذلك عدم التصنت لحديثهما أو إفشاء سرهما.· تناول الطعام بعدهما أو الدخول إلى المنزل أو الجلوس قبلهما أو المشي أمامهما، أو النوم أو الاستلقاء أمامهما.· عدم تفضيل الزوجة والأبناء عليهما، عدم الإكثار والإلحاح عليهما بالطلبات التي ترهقهما إما مالية بالنسبة للأب أو أعمال منزلية بالنسبة للأم، عدم الكذب عليهما أو لومهما إذا عملاً لا يعجب الابن ·.[26]

***

د. أكرم عثمان

مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

2024

.........................

[1] البقرة: 83

[2] أخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي [ وصححه ] من حديث أبي عامر الخزاز، واسمه صالح بن رستم، به .

[3] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura2-aya83.html

[4] https://tafsir.app/ibn-atiyah/2/83

[5] رواه البخاري ومسلم

[6] رواه البخاري ومسلم

[7] متفق عليه

[8] سورة فصلت: 34

[9] https://www.aljazeera.net/blogs/2019/2/6

[10] سورة آل عمران: 133

[11] الحجر: 88

[12] https://khaledalsabt.com/interpretations/2740/3-

[13] https://quran-tafsir.net/qotb/sura15-aya88.html

[14] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura15-aya88.html

[15] http://saaid.org/Doat/mehran/109.htm

[16] https://nir-osra.org

[17] الأسراء: 53

[18] رواه الطبراني

[19] رواه البخاري

[20] https://www.islamweb.net/ar/article/10245

[21] https://www.alukah.net/sharia/0/116664

[22] سورة الأسراء: 23

[23] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/qortobi/sura17-aya23.html

[24] https://www.islamweb.net/ar/library/content/205/1437

[25] أخرجه البغوي

[26] https://kalemtayeb.com/safahat/item/42660

 

لما كانت الغاية من العقاب في الفقه الاسلامى حماية الفضيلة، وحماية المجتمع من أن تتحكم فيه الرزيلة، والحفاظ على المصلحة العامة، فقد وجب أن تكون العقوبة ذات طبيعة ملائمة تحقق هذا الغرض وتؤدى وظيفتها كما ينبغي."ولا يتحقق ذلك إلا أن تكون العقوبة تقوم على أصول ومواصفات معينة أهمها:

- أن تكون العقوبة زاجرة بحيث تجعل الفرد يفكر في عواقب الجريمة قبل الإقدام على اقترافها، فإذا وقعت الجريمة كانت العقوبة بحيث تؤدب الجاني على جنايته، وتزجر غيره عن التشبه به وسلوك طريقه، ولذلك قيل عن العقوبة أنها موانع قبل الفعل زواجر بعده، أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعها يمنع العودة اليه.

- أن تكون العقوبة مناسبة لحاجة الجماعة ومتلائمة مع مصلحتها، فإذا إقتضت مصلحة الجماعة التشديد شددت العقوبة، وإذا اقتضت المصلحة التخفيف خففت العقوبة فلا يصح أن تتجاهل حاجة الجماعة ورغبتها.

- إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم إستئصاله من الجماعة، أو حبسه عنها كفاً لشره، وتحقيق أمن المجتمع واستقراره، وجب أن تكون العقوبة هي قتل المجرم أو حبسه عن الجماعة حتى يموت مالم يتب أو ينصلح حاله.

- إن كل عقوبة تؤدى لصلاح الأفراد وحماية الجماعة، هي عقوبة مشروعة، فلا ينبغى الإقتصار على عقوبات معينة دون غيرها.

- إن هدف العقوبة على اختلاف أنواعها ليس الإنتقام من المجرم وإيذائه، وإنما لإصلاحه وتقويمه". يقول الماوردى فى العقوبة: "أنها تأديب وإصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب". والعقوبات إنما شرعت "رحمة من الله تعالى بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغى لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم، والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض". والتأديب يختلف ويتفاوت باختلاف الأشخاص "فتأديب أهل المكانة أخف من تأديب أهل السفالة والسفاهة، لقول النبى r "أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا حداً من حدود الله"، والمراد بذوي الهيئات"أهل المروءات، أما أن يعلم من رجل صلاح في الدين، وكانت العثرة أمراً فرط منه على خلاف عادته ثم ندم، فمثل هذا ينبغي أن يتجاوز عنه، أو أن يكون أهل نجدة وسياسة وكبر فى الناس، فلو أقيلت العقوبة عليهم فى كل ذنب قليل أو كثير لكان فى ذلك فتح باب التشاحن، واختلاف على الإمام فإن النفوس كثيراً ما لا تحتمل ذلك، وأما الحدود فلا ينبغى أن تهمل إلا إذا وجد لها سبب شرعى تندرئ به، ولو أهملت لتناقضت المصلحة، وبطلت فائدة الحدود".

"ولأن التأديب المقصود منه الزجر عن الجريمة وأحوال الناس مختلفة فيه، فمنهم من ينزجر بالصيحة ومنهم من يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب، ومنهم من يحتاج إلى الحبس".ومنهم "من لا ينفع معه إلا القتل، لهذا تدرجت عقوبات التعزير من الوعظ والإرشاد إلى القتل تعزيرا"ً، ومما يؤكد حرص الشريعة الاسلامية على مصلحة المجتمع وحمايته من الخطر الذى يتهدده من جراء تلك الجرائم ، وجود تشريع عقابي حازم يضرب بيد من حديد كل من صادته حبائل الشيطان، وأصرّ على غيّه ونزع عن نفسه عذار الدين والحياء، بيد أن الشرع لا يتعجل فى تطبيق تلك العقوبة إلا بعد روية وتمحيص في الأسباب التي دعت الجانى لاقتراف الجرم الفادح، والوقوع في حمى الرحمن، "فالشريعة الغراء تراعى كلا الأمرين مصلحة المجتمع، ومصلحة الجانى، ففي عقوبات جرائم الحدود لاحظت الشريعة مصلحة الجانى بأن جعلت شخصية الجانى تقف عند التأكد من بلوغه وعقله وإختياره وعدم وقوعه في حالة الإكراه أو الضرورة والجهل في بعض الأحيان،كما لو شرب خمراً يظنها عصيراً، فلا عقاب عليه في هذه الحالة لأنه جاهل بذلك".

ويختلف الأمر حين النظر إلي مصلحة المجتمع ، فلو ارتكب الجانى جريمة من جرائم الحدود كالزنا والسرقة دون إكراه أو إضطرار وهو عاقل مختار، استحق أن تقام عليه العقوبة المقررة للجريمة المرتكبة، ولا يلتفت إلي المبررات التي ساقها لدرء العقوبة عنه، كما لا تولى ظروف وملابسات القضية أدنى اهتمام، ولا تلعب شخصية الجاني والأجواء المحيطة به وضحالة تعليمه، دوراً في اسقاط العقوبة أو احالتها لعقوبة أخرى تعزيرية، ولا يملك القاضي إلا توقيع الحد على المذنب لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدر العقوبة وجعلها عامة لجميع مرتكبى جرائم الحدود، دون النظر لشريفهم أو وضيعهم طالما فيهم شروط تطبيق العقوبات المقررة لهذه الجرائم، وهي كون مرتكبها عاقلاً بالغاً غير مضطر ولا مكره، هذا هو النهج القويم فى حماية المجتمع وصون ذماره، حتى لا يتهضم جانبه، ويستباح حماه.

***

د. الطيب النقر

أولا:  النظام الأسري وضمان امتداد المشروعية

حينما أرسل الله تعالى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام خاتمة الرسالات والشرائع حدد لنا الأحكام النهائية الفاصلة بين الصلات الرحمية المحرمية، وبالتالي فرع لنا المحرمية الرضاعية عن المحرمية الرحمية على شكل هندسي منضبط وثابت غير قابل للتحويل أو التجويز الذاتي والأهوائي المحض، مع تبيين وجه التأبيد من غيره في هذا التحديد .فكان أول هذه الضوابط والمحددات هو النسب بشروطه وموانعه التي تتأسس على مصدر واحد رئيسي لا غير ألا وهو الزواج أو النكاح الشرعي القائم على أركانه وشروطه بالدرجة الأولى، والذي كان معمولا به في كل الأزمان والمتعارف به عند كل الشرائع، يليه كعارض أو واقع ظرفي ما يصطلح عليه الشرع بملك اليمين وهو المستند على المواضعات والمعاهدات التي قد تتفق عليها الأمم والشعوب ويحدد قيمتها وأحكامها الشرع.

فالزواج المعترف به شرعا والمقر عليه قبل وعند ظهور الإسلام هو ما لخصته لنا السيدة عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المؤرخ لواقع النسب في الجاهلية وصوره فيما خرجه البخاري عن عروة بن الزبير من أن النكاح في الجاهلية : "كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الإستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان! تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم"1.

هذا الحديث الملخص لمصادر النسب في الجاهلية يتضمن انتقاء للزواج السليم المؤسس للنسب والبعيد عن الاختلالات السلوكية والاجتماعية التي كانت لا تحقق نسبا شرعيا -أي معترف به في الشرائع السابقة واللاحقة- كما أنها في نفس الوقت لاتحقق حتى النسبة البيولوجية والجنسية في ربط المولود يقينا بمن كان علقه سبب ولادته، أي أنه لا يتقرر بهذه المظاهر والإجراءات الجاهلية لا البنوة الشرعية ولا البنوة الخلقية الطبيعية كما عبر ابن العربي المعافري في تعريف النسب، ولم يكن يوجد ما يحقق النسب الشرعي إلا صورة واحدة وهي التي ذكرتها السيدة عائشة رضي الله عنها في الحديث والذي بنى عليه البخاري في صحيحه وكذلك أغلب المذاهب الفقهية السنية ركن الولي كشرط رئيسي في الزواج إضافة إلى أدلة أخرى مؤيدة له بشكل مكثف في كتاب النكاح كباب "من قال لا نكاح إلا بولي لقوله تعالى "فلا تعضلوهن "فدخل فيه الثيب وكذلك البكر، وقال "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ""و أنكحوا الأيامى منكم ".هذا مع خلاف فقهي حول المسألة سيلخصه ابن رشد في بداية المجتهد بقوله: "اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط النكاح أم ليست بشرط ؟فذهب مالك إلى أنه لا يكون نكاح إلا بولي، وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤا جاز؛وفرق داود بين البكر والثيب، فقال: اشتراط الولي في البكر وعدم اشتراطه في الثيب.ويتخرج على رواية ابن القاسم عن مالك في الولاية قول رابع:  أن اشتراطها سنة لا فرض، وذلك أنه كان يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي..!"ثم يختم بأسلوب علمي وأبعاد نفسية واجتماعية رأيه في الموضوع: "وأما احتجاج الفريقين من جهة المعاني فمحتمل، وذلك أنه يمكن أن يقال إن الرشد إذا وجد في المرأة اكتفي به في عقد النكاح كما يكتفي به في التصرف في المال، ويشبه أن يقال إن المرأة مائلة بالطبع إلى الرجال أكثر من ميلها إلى تبذير الأموال، فاحتاط الشرع بأن جعلها محجورة في هذا المعنى على التأبيد، مع أن ما يلحقها من العار في إلقاء نفسها في غير موضع كفاءة يتطرق إلى أوليائها، لكن يكفي في ذلك أن يكون للأولياء الفسخ أو الحسبة، والمسألة محتملة كما ترى، لكن الذي يغلب على الظن أنه لو قصد الشارع اشتراط الولاية لبين جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم، فإن تأخر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإذا كان لا يجوز عليه، عليه الصلاة والسلام تأخير البيان عن وقت الحاجة وكان عموم البلوى في هذه المسألة يقتضي أن ينقل اشتراط الولاية عنه صلى الله عليه وسلم تواترا قريبا من التواتر ثم لم ينقل، فقد يجب أن يعتقد أحد أمرين : إما أنه ليست الولاية شرطا في صحة النكاح وإنما للأولياء الحسبة في ذلك، وأما عن كان شرطا فليس من صحتها تمييز صفات الولي وأصنافهم ومراتبهم، ولذلك يضعف قول من يبطل عقد الولي الأبعد مع وجود الأقرب..."2.

ثانيا:  الزواج في الإسلام وملازمة شرط الولي

فالملاحظ في تحليل ابن رشد وعرضه للمذاهب أن الولاية تبقى حاضرة في تزويج المرأة بوجهه من الوجوه وذلك لحمايتها من الغبن الذاتي والتغرير العاطفي والاستغلال بشتى أنواعه وصوره، إذ الحسبة تبقى قائمة مهم اختلفت المذاهب مع اعتبار الكفاءة والانعكاسات الجماعية التي يمكن أن يؤدي إليها زواج المرأة من غير ولي وبدون مراعاة دور أهلها ونصائحهم في الموضوع وخاصة والدها التي تحمل نسبه، إذ فشلها بعد زواجها لا قدر الله من غير ولي أو استشارته وأخذ رأيه في هذا الاختيار قد يعرضها للتشرد ورفض استقبال وليها لها، ومن ثم سيضيع المجتمع وعلى رأسه الطفل إن كانت هناك ولادة!، فهذا قد يحدث كثيرا لا محالة وخاصة في زمن يفتقد أهله أبسط درجات التكافل والمراعاة لظروف الآخر ولو كانوا أبناء أو حتى آباء وأمهات!

هذا مما لم تشر إليه مدونة الأسرة المغربية لما ألغت دور الولي في الزواج، وذلك باعتبارها المرأة كأنها عالم منفصل عن كل مقوماته الأسرية وروابطه النسبية وحتى الأخلاقية التي أساسها عند المرأة هي الحياء وخاصة في باب الزواج، وذلك حينما نصت في المادة 24 بأن: "الولاية حق للمرأة تمارسها الرشيدة حسب اختيارها ومصلحتها"وفي المادة25 :  "للرشيدة أن تعقد زواجها بنفسها أو تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها ".

ففي المادة 24 تحريف لمفهوم الولاية الذي اتفق على شروطها العلماء كما يقول ابن رشد نفسه: "الإسلام والبلوغ والذكورية، وأن سوالبها أضداد هذه: أعني الكفر والصغر والأنوثة".كما في المادة أيضا تبطين بفتح المجال للمرأة أن ترافق من تريد قبل الزواج وربما حتى بعده طالما أن الولاية من حقها، ضاربة بعرض الحائط كل الوصايا النبوية والاحتياطات الشرعية في تحديد طبيعة التواصل وحدوده بين الرجال والنساء في المجتمع سواء في السفر أو الحضر، مما سيؤدي لا محالة إلى شيوعية المرأة ومعه النسب كما سبق وعرضنا حول تخطيط أفلاطون لجمهوريته!وهذا فيه قتل لمفهوم النعرة والعصبية التي يتأسس عليها المجتمع والملك والنظام الاجتماعي برمته...

أما في المادة 25 فيبدو الخلل الفقهي واضحا في صياغة هذه الفقرة وذلك بفتح شرخ واضح في علاقة البنت بأبيها عند الزواج وذلك حينما تساوي بين الأب وسائر القرابة في الولاية أو لنقل الرعاية والاعتبار المعنوي الذي يختص به الأب دون غيره من قرابتها، وهذا فيه مدعاة ومبرر للأب كي يزهد في حرصه على مصلحة بنته طالما أنها اختارت غيره مع حضوره في عقد قرانها، وهذا مما لم يقلبه أحد من الفقهاء عبر التاريخ!

إذ كان ينبغي على معدي هذه المدونة أن يضيفوا توضيحات وتعليلات عند مثل هذه القضايا الشائكة التي تتداخل فيها مفاهيم الحريات الشخصية مع التقييدات الأسرية والمجتمعية التي لابد وأن تؤخذ في الحسبان عند أي تقنين!

إضافة إلى هذا فإن حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حول أنواع الأنكحة في الجاهلية يؤسس لصحة نسب من ولدوا قبل الإسلام واعتبار الزواج الشرعي مسألة جوهرية وثابتة في الوجود الإنساني واستمراريته السليمة، ولم يشرع الفصل بين الاختلافات العقدية وأثرها على الزواج إلا بوجود المشرع وخاصة عندما جاء الإسلام فحدد ما يجوز وما لا يجوز من الزيجات أو الزوجات بحسب المعتقد والانتماء الديني لأنه هو الذي يميز الحلال من الحرام، هذا مع اعتبار ثوابت سبق وبينها الرسل والأنبياء فيما قبل وأقرها الإسلام فيما بعد وفصل ما ينبغي تفصيله أو نسخ ما وجب نسخه وتعديله، وبالتالي تميز النكاح عن السفاح كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم في تحديد نسبه وموقعه الشرعي بقوله "ولدت من نكاح غير سفاح"، "إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح"3.

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

وجدة - المملكة المغربية

......................

1- رواه البخاري في كتاب النكاح

2- ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مكتبة المعارف، الرباط، ج 2، ص14-15

3- رواه البيهقي عن عائشة

الخلاصة: كان الدكتور مصطفى جواد أحد اعلام اللغة المبرزين، وكانت له جهود لغوية تصحيحية كتبها على غرار كتب تصحيح اللغويين القدماء كالمبرد والحريري، وكانت تلك الكتب تعالج ما طرأ على العربية من اضافات وتغييرات طفيفة. أما في عصرنا فان العربية عانت اضافات وتغييرات جذرية غيرت مسارها القديم وجعلتها شبه محتلة من الانجليزية، فكثير من الفاظها ومعانيها استبدل به اللفظ والمعنى الانجليزي، بل وصل الامر الى القواعد وهي اركان اللغة فحركت الى قواعد انجليزية في كثير من مفاصلها. وامام هذه الحقيقة ستكون جهود مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) غير مواكبه، وهو كمن يصلح امورا خارجية طفيفة والمشكلة صارت في العمق، ففاته الكثير، وصار على الجهود اللغوية التصحيحية الاتجاه نحو التصحيح الشامل وليس الجزئي، وهو ما تناولته بالتفصيل في كتابي (اللغة العربية الشاملة – الفصحى الهجينة) وفي هذا البحث ساقف على بعض ملاحظات مصطفى الجواد التي تعد أغاليط  وفق الفهم الجديد للتصحيح اللغوي.

المقدمة

(قل ولا تقل) جملة تصحيحية، لعل اول ورودها في القرآن الكريم (فلا تقل لهما اُفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (الإسراء: 23). وقد أخذها أهل اللغة واستعملوها في تصحيح اللغة بعد أن انحرفت. قال ابن السكيت في (وتقول ضفرت المرأة شعرها، ولها ضفيرتان ولها ضفران، ولا تقل ظفيرتان)( ترتيب اصلاح المنطق، 1412هـ): 23). واستعمل اللغوي الانكليزي (T.J. Fitikides) في كتابه ( الأخطاء الشائعة في اللغة الانكليزية =in English  Common Mistakes) الذي صدرت الطبعة الاولى منه عام 1936عبارتي: (Don’t say)   (say) = (لا تقل) و(قل). واشتهر هذا الاستعمال اكثر حين اختاره العلامة الدكتور مصطفى جواد عنواناً لبرنامجه الاذاعي ولكتابه (قل ولا تقل). ولعل مصطفى جواد تأثر باللغوي الانكليزي أو نقله من التراث العربي، والثاني الارجح.

كان الفساد قد دبَّ في اللغة العربية مبكراً بسبب اختلاط الاعاجم بالعرب وتزايد ثقلهم، وفي درجة أقل جاء الخطأ من الترجمة في العصر العباسي، التي فرضت عبارات وصيغا دخيلة. وقد انبرى العلماء الغيورون يصححون ما انحرف ويحاولون اعادة اللغة الى نصابها. وهذا التصحيح هو داخلي أو جزئي أو ترميمي، بمعنى أن اللغة سليمة بمجملها وكمالها ولكن هناك بعض الوهن الممكن اصلاحه، بالضبط كترميم بناية قائمة على اسسها وقواعدها وشكلها العام، وان زاد الفساد والانحراف مع الوقت.

وفي العصر الحديث، وبتأثير الترجمة وهيمنة الغرب والتكنولوجيا أنشئت (لغة عربية جديدة) صارت تتسع على حساب العربية المتوارثة، وهذه اللغة تتكون من الفاظ دخيلة هي ألفاظ وعبارات اكثر العلوم التي لم يعرفها العرب، واذا لم ينقلوا اللفظ الاجنبي اخترعوا لفظا غير موجود في العربية ليقابله مثل (Sterilization) ابتدعوا له لفظة (التعقيم) وهو غير موجود في العربية. أو يأتون بلفظ منسي في زماننا فيضعونه امام اللفظ الاجنبي مثل (Microbe) وضعوا ازاءه لفظ (الجراثيم) و(جُرْثُومة كل شيء أَصلُه ومُجْتَمَعُه، والارتفاع)، ونقلوا معاني وعبارات تفوق ما اضافوا من الفاظ نقلا ومسخا وخلقا مشوها، بل تعدت هذه اللغة، التي اسميتها الخامسة، ذلك الي تبني القواعد الانكليزية، وهذا أخطر شيء؛ لانه يعني اجتثاث لغة العرب من القواعد.

وما قام به الدكتور مصطفى جواد استصلاح واهم وموهوم، لانه عاش في زمن اجتثاث العربية وليس زمن الاخطاء التي يمكن اصلاحها. وقد كان عمله من النوع الذي اشتغلت عليه كتب التصحيح القديمة كإصلاح المنطق ودرة الغواص والكامل للمبرد وغيرها.

لست أحب الظهور والشهرة على حساب الطعن بالكبار بالباطل، ولكني أروم الحقيقة التي انكشفت لي عن لغتنا المعاصرة بأنها لم تعد عربية حقا، بل صارت هجينة مفترسة مهيمنا عليها من قبل اللغة الانكليزية بدرجة فوق الكبيرة وقريبة من الكاملة. فاذا نجح ابن السكيت وسواه في تقويمه الداخلي الجزئي الترميمي لان اللغة العربية تضررت ولكنها لم تنتهب ويهيمن عليها، فإن الدكتور مصطفى جواد لم ينجح في عمله الذي صار قاصرا بعدما اتسع الخرق على الراقع، ولم يعد الترميم يكفي فالبناء تداعى او سوف يتداعى بالكامل. ولا كان علاجه الداخلي الجزئي مفيدا وقد بليت اللغة بالانحراف الخارجي الكلي، ونهر العربية برمته انحرف مجراه بعيدا عن لغة العرب الجاهلية بل حتى العباسية المثقلة بالدخيل والمعرّب والمترجم، ولغة القرون الوسطى المثقلة بالعاميات وشتى الانحرافات.

قرأت كتاب الدكتور مصطفى جواد (قل ولا تقل) أول مرة قراءة المتعلم المتزود، وقرأته ثاني مرة فلم اجده الا كتابا قاصراً قد فات صاحبه أن تصحيحه جزئي وان اللغة كلها قد هدمت وان الترميم ما عاد يصلحها، فهو كمن يريد رصد الكوكب وهو على سطحه. لأنه لم ينتبه على حقيقة أن الاغاليط في زماننا ليس مرجعها انحراف اللغة العربية نفسها وانما خلق لغة جديدة من قبل المترجمين تبدو انها لغتنا العربية وليست هي.

وهكذا جاء كتابه مفيدا في الجانب الذي فيه انحراف فعلا عن بنية اللغة العربية، وبعيدا جدا في الجانب الذي يخص تلك اللغة البديلة الهجينة التي هي عبارة عن مسخ ترجمات عن الانكليزية. على الرغم من الدكتور مصطفى جواد صرح في المقدمة بما يظن انه متنبه على هذه الحقيقة (أفتتح الجزء الاول من كتابي (قل ولا تقل) وأقدمه الى محبي اللغة العربية، في مختلف البلاد التائقين الى بقائها كريمة الضرائب، مسعفة بالطالب، رائقة المشارب، نقية من الشوائب، سليمة من لحن المتهاونين، بريئة من غلط المترجمين، ناجية من عبث المستهزئين، سائرة في سبيل التطور الطبيعي البارع، آخذة بالاقتباس المفيد والقياس النافع، مستمدة اشتقاقها الجليل من مركبها الاصيل ومجازها العريض الطويل، مضيفة الجديد الصحيح الى تراثها النبيل) (قل ولا تقل، ، بلا معلومات: 21).

سنجد أن أخطاء الدكتور مصطفى جواد (الفاحشة أحيانا) سببها أن كثيرا من الاخطاء التي أشرها أعتقد انها انحراف عن اللغة العربية نفسها، والحقيقة هي ترجمات غير موفقة عن الانكليزية. و(هذه الأخطاء) ألفاظ وضعها المترجمون لمعان جديدة على العربية، فظنها الدكتور مصطفى جواد (أخطاء عربية) ونادرا ما تنبه على هذه الحقيقة دون التيقن. فبينما نجده يدقق في الجذور والاستعمال العربي، اذا به يغفل عن انقطاع معنى اللفظة المعاصر عن معناها العربي، فيأخذ بالمعنى المعاصر الهجين مسلما به وكأنه عربي قح.

أخطاء مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل)

* قال الدكتور مصطفى جواد: (قل الجُمهور والجُمهورية، ولا تقل: الجَمهور والجَمهورية) (قل ولا تقل: 33). فضبط نطق اللفظة الجُمهور والجُمهورية، وفاته أن (الجمهورية) لا علاقة لها بـ(الجمهور) وان كانت منسوبة اليه. ففي اللغة العربية لم يستعمل قبل العصر الحديث (جمهورية – جمهوريات)، واستعمل (الجمهور – الجماهير – الجماهر). ومعناه (الرمل الكثير، والشيء الكثير، وصفوة الشيء). ذكر ابن سيده (جَمهرتُ الشَّيء: أخذتُ خِيارَه) (المخصص، بيروت، دار احياء التراث العربي: 64). وقالوا: (جمهور العلماء) و(جمهور الناس) وغيرها، وكلها تعني (الغالبية والنخبة). ولم يفهم العرب معنى الجمهورية أو (حكم الشعب) فترجم الفلاسفة كتاب افلاطون الجمهورية إلى (المدينة الفاضلة).

مصطلح (الجمهورية) جاءنا من الانگليز مع حزمة من المصطلحات السياسية ذات العلاقة مثل: ديمقراطية (Democracy)، دكتاتورية (Dictatorship) ملكية (Property)، لبرالية (Liberalism)، تكنوقراطية (Technocratic)... الخ.

والمصطلح ترجمة لـ (Republic). وترجمة كتاب (جمهورية أفلاطون) (Platonis Republica ). وقد فضَّل المترجمون العرب اسم النظام الجمهوري على (النظام الشعبي) و(النظام العامي) لان الشعبي والعامي يمثلان (طبقة العامة) غير المثقفة  التي يقابلها (طبقة الخاصة) المثقفة. بينما الجمهورية بأصلها الأجنبي تعني كل الطبقات وهو ما يجسده مصطلح (Republic) فهو مأخوذ من الشعب كافة (Public) بمعنى حكومة العامة (الشعب) وليس الخاصة (طبقة النبلاء) (اللغة العربية الخامسة، 2022: 253).

وقد اعترض الدكتور مصطفى جواد على (الدكتاتورية) في قوله: قل: كان الحاكم جباراً، ذا حكم جبَّاري، ولا تقل: كان دكتاتوريا وكان حكمه دكتاتوريا (قل ولا تقل: 60)؛ لكون الكلمة غير عربية. وكذلك قوله: قل جواز السفر وأجوزة السفر وجوازاته، ولا تقل: پاسپورت (قل ولا تقل: 88). فمن المؤكد ان الدكتور مصطفى جواد ظن ان الجمهورية ليس من جنس الدكتاتورية، وذلك لوجود تصريف عربي لها، واذا كان يتتبع المستعمل والمعروف فهل وجد العرب استعملوا (الجمهورية)؟ وهذا يدل على عدم التحلي بالعمق والدقة.

قال الدكتور مصطفى جواد: (قل: فلان مُؤامر، ولا تقل: مُتآمر. لأن حق الواحد المفاعلة أي (المؤامرة) (قل ولا تقل، 34). فالدكتور صحح متآمر الى مؤامر، وصحح المؤامرة، ولم يدرك انها لا تعطي معنى المؤامرة المعاصر. فالمؤامرة في العربية تعني المشاورة: (الائْتِمارُ والاستئْمارُ: المشاورة. وكذلك التَآمُرُ) (لسان العرب: 4/ 30) (يُقسَم فيها الفّيْءُ والصَّدَقات من غير مُؤامَرة الخليفة) (كتاب العين (مؤسسة دار الهجرة، 1410): 7/ 123). ولا علاقة بين معنى (التآمر = المشاورة) والتآمر بالمفهوم المعاصر، ولم تذكره المعجمات العربية التي آخرها (تاج العروس). والمعجمات الحديثة استوعبت اللغة الهجينة فلا يعتد بها كالذي جاء في المعجم الوسيط (تآمروا عليه: تشاوروا في ايذائه) (المعجم الوسيط (دار الدعوة، 1989): 26).

والصحيح أن المؤامرة والتآمر بالمعنى المعاصر ترجمة لـ(Conspiracy = مؤامرة) (conspirator = متآمر). جاء في قاموس أكسفورد:

Conspiracy: planning sth, especially a crime, together with other people (Oxford word: 159).

(التآمر: التخطيط لشيء معين، وخاصة الجريمة، مع أشخاص آخرين). وهذا المعنى جديد، وضع له المترجمون لفظ (التآمر والمؤمرة) خطأ. فصحح الدكتور مصطفى جواد العبارة تصحيحا جزئيا وفاته ان المفردة برمتها خطأ، وكان عليه ان يرفعها ويضع مكانها (الكيد والمكيدة). قال تعالى  (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا(يوسف: 5).

* قال الدكتور مصطفى جواد: (قل: هذا رجل رُجعي ورجوعي، ولا تقل: رَجعي) (قل ولا تقل: 40). وهذا خطأ فاحش؛ فلفظة رجعي ورجوعي مصدر والمصدر لا ينسب اليه. وهذا خلل يؤكد ان الدكتور مصطفى جواد اختلط عليه الامر فروّج أقبح انواع الأخطاء وهو ما يتعلق بالقواعد. اذ ان كل الاخطاء اللغوية في الازمان السابقة كانت في الالفاظ وقليل منها في المعاني، ثم جاء العصر الحديث بأخطاء اجتثت القواعد لتسقط العربية في مهوى خطير أو مثوى أخير. ومثلها تدريسي، فدائي، قيادي، انتاجي، ارهابي.. الخ.) بـ(اشتقاق اسم الفاعل من المصدر الملحقة به ياء النسب). وفي اللغة العربية يشتق اسم الفاعل من الفعل مثل: عمل = عامل، كتب = كاتب. والأمثلة السابقة أسماء فاعل مشتقة من المصدر الملحقة به ياء النسب: فـ(التدريس مصدر درس، وبالنسبة اليه = تدريسي)، و(الفداء مصدر فدى، وبالنسبة اليه = فدائي)، و(القيادة مصدر قاد، وبالنسبة اليه = قيادي)، و(الإنتاج مصدر أنتج، وبالنسبة اليه = انتاجي)، و(الإرهاب مصدر أرهب، وبالنسبة اليه = إرهابي)، ويقتضي القياس العربي للجمل السابقة أن تكون: (هذا مدرس) و(أخي فادي) (هو قائد) (المعمل منتج) و(الرجل رهيب) (اللغة العربية الخامسة: 329).

والرجعي والرجعية ترجمة غير موفقة للمصطلح الانكليزي (Reactionary)، لأنه لا توجد كلمة تعبر عن هذا المعنى: ناكص ومتراجع ورجعي كلها تعني الرجوع الى الخلف لا اكثر. واللفظة الانكليزية بمعنى:

A person or entity who holds political views in favor of returning to a previous political state of society believed to have characteristics absent from the contemporary status quo of society. The word reactionary describes the views and policies aimed at restoring the status quo of the past (The New Fontana Dictionary, 1999: 729)

(شخص أو كيان يحمل وجهات نظر سياسية تحبذ العودة إلى حالة سياسية سابقة للمجتمع يعتقد أنها تتمتع بخصائص غائبة عن الوضع الراهن المعاصر للمجتمع. تصف كلمة رجعية وجهات النظر والسياسات الرامية إلى استعادة الوضع الراهن في الماضي). والاصح القول: ناكص، نكوص، ومتراجع، تراجع.

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: الموظفون ونقلاتهم ولا تقل: تنقلاتهم (قل ولا تقل: 46). وقال في مكان آخر، قل: هو موظف فشل وفشيل، ولا تقل: هو فاشل (قل ولا تقل: 182). أقول: ان الدكتور ترك لفظة الموظف وبها المشكلة اللغوية الاكبر وراح الى النقل والتنقل. ففي لغة العرب (الوَظيفة من كل شيء ما يُقَدَّرُ له كل يوم من رزق أو طعام أو علف أو شراب، وجمعها الوظائف والوظفُ) (لسان العرب: 9/ 358). فالوظيفة تقابل الاجر او المقدر من الرزق، والموظَّف يعني (المال) وليس الشخص الذي يُعطى المال. فالوظيفة عربيا ليست العمل المخصص، بل (مقدار الراتب) لذا يقولون (له وظيفة من رزق. أي مقدار مبلغ يصرف له جراء العمل) ولا يقولون (هو موظف) بل (هو موظَّفٌ عليه = يُجرى عليه مبلغ) (اللغة العربية الخامسة: 234).  أما المعنى المعاصر للموظف فلم يرد الا في المعجمات الحديث جاء في تكملة المعاجم العربية  (توظف: تولى منصبا) (تكملة المعاجم العربية: 170). وهو ترجمة لـ(employee).

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: فلان يكافح الاستعمار ويحاربه، ولا تقل: يكافح ضد الاستعمار ويكافح ضده (قل ولا تقل: 56). والصحيح يكافح المحتل والاحتلال، وليس الاستعمار. فان القوى العالمية احتلت دولنا وشعوبنا وأرادت تلطيف عملها الشنيع فروجت عن طريق المترجمين لفظ الاستعمار الدال على العمار وليس الخراب، وانطلت اللفظة حتى على المختصين كالدكتور مصطفى جواد. فـ(عَمَرَ النّاس الأرض يَعْمُرُونَها عِمارةً، وهي عامرة معمورة ومنها العُمْران. واستعمر الله النّاسَ ليَعْمُروها. والله أعمر الدّنيا عمْراناً فجعلها تعمر ثمُ يُخَرِّبُها) (العين: 2/ 137). فعلى هذا يكون المحتل جاء ليعمّر بلداننا لا يخربها الى الابد.

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: الانتكاس أو الانتكاس النوعي، ولا تقل: الشذوذ الجنسي ولا الانحراف الجنسي. وقل: فلان منتكس، ولا تقل: فلان شاذ جنسيا، ولا منحرف جنسيا (قل ولا تقل: 83). الصحيح القول: شذوذ النكاح، وشاذ في النكاح، لان شاذ وشذوذ مقبولة، ولكن الجنس لا تعطي معنى النكاح والمضاجعة. إن الدكتور مصطفى جواد أخذ لفظة الجنس وراح يبحث في جذورها العربية، فلم يجد ولن يجد غير (النوع) فقال (قل الانتكاس النوعي) ولا يوجد ترابط بين الانتكاس النوعي ومعنى (الشذوذ الجنسي). وقد اوقع الدكتور في الخطأ أنه ظن نفسه يصحح ما روجته العامة كأخطاء القرون السابقة، وفاته ان الجنس ترجمة لـ(Sex) التي لها معنيان في الانكليزية: (المضاجعة) و(النوع) فخلط وغلط بهما الدكتور. والشذوذ الجنسي ترجمة لـ(homosexuality).

وغلط الدكتور باختياره الانتكاس بدل الشذوذ، فالانتكاس هو رجوع المرض ثانية؛ جاء في الوافي بالوفيات (ووفاته بدمشق في داره بالعادلية الصغيرة بعد مرضة طويلة عوفي في أثنائها ثم انتكس) (الوافي بالوفيات، دار إحياء التراث، 2000): 4/ 159). ولفظة شاذ اقرب الى الصحة جاء في الصحاح (شَذَّ عنه يَشُذُّ ويَشِذُّ شُذوذاً: انفرد عن الجمهور، فهو شَاذٌّ) (الصحاح، دار العلم للملايين، 1407هـ: 2/ 565). فالشاذ مختلف منحرف عن الجمهور ومنه (الافعال الشاذة) و(الشاذ عن القياس) والشاذ من الرجال والنساء منهم ولا يشبههم. ولم يوصف الشاذ في العربية، ففي القرآن الكريم وصفهم سبحانه بـ(قوم لوط (هود: 74). وقالت العرب (لوطي). وتسميهم الانكليزية (sodomy = سدومي) نسبة الى سدوم قوم لوط، وهي اصح من تسمية العرب لأنها تنسبهم الى قوم النبي، ونسبهم العرب الى النبي وهو منهم بريء.

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: أسست المدرسة وأسس المسجد، ولا تقل: تأسست المدرسة وتأسس المسجد (قل ولا تقل: 87). والسبب كما يراه الدكتور (أن المدرسة واشباهها من العمارات، والمسجد وامثاله من البنيان لا تقوم بأنفسها). والصحيح ان العربية تقول: (شُيّدت كلية العلوم) و(بُني المسجد) و(المشيدات والمباني). وإذا قرأنا في اللغة العربية لفظة (أسس، تأسس) نجدها لا تعطي معنى (بنى، وشيّد) بل تعني (الاساس) وليس اكتمال البناء. لذا فهي لا تعطي معنى البناء وحدها، فاذا قلت لعربي (تأسست او أسست كلية العلوم) سيقول لك: (على ماذا أسست؟) فهم يقولون: (أسس البيت على قواعد متينة) (تأسست صداقته على المكر والخديعة). وجاء في الذكر الحكيم: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ(التوبة: 109).

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: هذا هُوي طوابع، وهؤلاء هوو طوابع، وهو الهٌوي، وهم الهوون، ولم يكونوا هوين من قبل. ولا تقل: هذا هاوي طوابع، ولا هم الهواة) (قل ولا تقل: 95). واذا رجعنا الى المعجمات والكتب العربية لا نجد لـ(هوو، هوون، هوين) ذكرا. ولعل الدكتور اجتهد في القياس فأخطأ لانه خالف لغة العرب. والهوى تعني الحب، والشهوة جاء في كتاب الله العزيز (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (النازعات: 40). فالصحيح القول: (الوَلُوع) (أُولِع بكذا وَلُوعاً وإيلاعاً إذا لجّ، وتقول: وَلِعَ يَوْلَعُ وَلَعاً) (العين: 2/ 250). أما قولهم (الهاوي في مقابل المحترف) فممكن اقتراح (المتدرب والمحترف). وذوقا، ليس فيما اقترحه الدكتور مصطفى جواد (هوو، هوون، هوين) أي جمالية. ولم يقف الدكتور عند لفظة الطوابع، ولا تحرى معناها في لغة العرب، وهل يوجد لها معنى يطابق معناها المستعمل في ايامنا. فالمعجمات تذكر من معاني الطوابع (الطبيعة، الفطرة) يقولون (له طابعٌ حسن، بكسر الباء، أي طبيعة) (لسان العرب، أدب الحوزة، 1405هـ): 8/ 323). وكذلك (الختم، والذي يقوم بالختم) لذا قالوا (رأيت الطابع في يد الطابع) (اللغة العربية الخامسة: 236). والاصح استعمال الملصق والملصقات بدل الطوابع، والملصق البريدي بدل الطابع البريدي.

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: هذا تلميذ مستتم، وهذه تلميذة مستتمة، وهذا تلميذ إكمالي، وهذه تلميذة إكمالية، ولا تقل هو مكمل ولا إكمال ولا مستكمل (قل ولا تقل: 97). الدكتور لم يحرر ذهنه من دائرة لفظة (الاكمالية) وراح يتحرى صورة صحيحة لها. فاقترح (تلميذ اكمالي) وخطَّأ (مكمل وإكمال ومستكمل). وهذه الالفاظ أصح من إكمالي؛ لان اكمالي نسبة الى المصدر، والعرب لا تنسب الى المصدر، والخطأ في القواعد أفحش الاخطاء على الاطلاق. وسبب اضطراب الدكتور انه تقيد بلفظة الاكمالية ولم يدر انها ترجمة حرفية لـ(complementary student = طالب مكمل) و(complementary) تأتي بمعنى (تكملة، مجموعة كاملة، متتم). وكان على الدكتور أن يقترح لفظة خارجة عن هذا السياق المترجم، مثل: (مُطالب) مثل: (مطالب بمادة او مادتين) (اللغة العربية الخامسة: 278).

*   قال الدكتور مصطفى جواد قل: الخُطة الاقتصادية، ولا تقل: الخِطة الاقتصادية (قل ولا تقل: 99). ركز الدكتور على حركة الخاء للفظة خطة، وراح يستشهد بالمصادر المختلفة ليثبت انها الضمة وليس الكسرة، ولم يبحث في تلك المصادر عن صحة لفظة الاقتصاد! فكان ان تعامل مع اللغة المعاصرة بأسلوب قديم لا ينفع أو ينجع.

والاقتصاد ترجمة للمصطلح الانكليزي (Economy) واختياره غير موفق وقاصر عن تأدية المعنى الحضاري للمصطلح. ففي اللغة العربية (الاقتصاد: نقيض الإسراف) والفعل منه (اقتصد يقتصد). وجاء في مختار الصحاح (الاقتصاد: القصد بين الإسراف والتقتير. يقال: فلان مقتصد في النفقة، أي وسط في الإنفاق بين البخل والتبذير) (مختار الصحاح، دار الكتب العلمية، 1994): 277). ويأتي الاقتصاد بمعنى الوسطية كقوله تعالى ( مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ(المائدة: 66). فمن الواضح أن معنى الاقتصاد في اللغة العربية لا يغطي معناه المعاصر. وكان العرب يسمونه (علم المعاش) فترك المترجمون هذه التسمية العربية مع أنها اقرب إلى الحقيقة (اللغة العربية الخامسة: 16). وكان على الدكتور مصطفى جواد الذي نصب نفسه قيما على اللغة العربية ان يعيدها الى نصابها ما استطاع الى ذلك سبيلا، ولكننا وجدناه يترك هذه المصطلحات الكبيرة الخطأ منشغلا بأخطاء أقل خطراً.

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: بالأَصالة عن نفسي، ولا تقل: بالإصالة (قل ولا تقل: 115). وراح يقلب الكتب القديمة ليثبت صحة أصالة (بالفتح) وليس بالكسر. ولم يبحث وما كان سيجد لفظة (بالأصالة) لانها تأتي حالا، وفي العربية لا يجر الحال، فالصحيح (اصالة عني ونيابة عن عائلتي) وهذه العبارة ترجمة من الانكليزية (On my own behalf and on behalf of my family) (اللغة العربية الخامسة: 166). فضحى الدكتور مصطفى جواد بالقواعد ليثبت ان الاصالة بالفتح وليس الكسر، ولم نسمع احدا يكسر همزة الاصالة. فضلا عن أن هذا التصرف يجعل عمله المضخّم هيناً، بل انه روج للغة الخاطئة. ولا ينكر جهده الباقي، الا انه كصحف المقتطف والاهرام، وقواميس المعجم الوسيط ومحيط المحيط والمنجد وغيرها روجت لهذه اللغة الخامسة الهجينة واعطتها جواز المرور لتحطيم لغة العرب الفصيحة.

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: فعل ذلك على الرغم من أنف فلان، وبرغم أنف فلان، ولا تقل: فعله رغم أنف فلان. ثم قال: قل على الرغم من أنفه، وبالرغم منه، ولا تقل: رغم أنفه الا في الشعر (قل ولا تقل: 119). فالدكتور مصطفى جواد يريد القول: يجوز على الرغم، وبالرغم، ولا يجوز رغم. ولكنه جوّز رغم في الشعر من باب الضرورة الشعرية.

الحقيقة ان الخطأ الذي أشره الدكتور مصطفى جواد طفيف هنا؛ لان كل الالفاظ التي ذكرها بما فيها رغم هي بمعنى الرغم فعلا. ان الخطأ المعاصر في استعمال هذه الالفاظ (الرغمية) استعمالا في غير معنى الرغم مثل (كان مريضاً، ولكنه عمل بجد برغم ذلك) وهذه العبارات غير الرغمية بألفاظ الرغم خطأ فاحش، وهو ترجمة من الانكليزية (He was ill, but he worked hard all the same) والصحيح ترجمتها الى (كان مريضا، ومع ذلك عمل بجد).

* قال الدكتور مصطفى جواد قل: أحيل فلان على معاش التقاعد، وأحال عليه بحوالة، وأحال على الكتاب المذكور، ولا تقل: أحال اليه بهذا المعنى (قل ولا تقل: 157). وهذا خطأ، لعدم مناقشة الدكتور مصطفى جواد الالفاظ المترجمة غير الموفقة في الترجمة، والتي فرضت على اللغة العربية فتبنتها وكأنها منها. أقصد لفظة (التقاعد). ففي اللغة العربية (التقاعد: التراخي والقعود عن الشيء) (لسان العرب: 14/ 315) جاء في الأثر (تقاعد الناس عن مبايعته = تراخوا، قعدوا) (قعد عن الجهاد = لم يجاهد). فالتقاعد في العربية لا يعطي معنى الجمل السالفة. ولنا أن نعذر العربية على عدم وجود لفظة دقيقة لهذه الحالة، لان العرب لم يألفوا الوظائف، واللغة لن تجد اسماً دون أن يوجد المسمى. وأرى الاصوب القول (القعود) و(فلان قعد عن العمل) و(بلغ السن القانونية) و(بلغ سن القعود) و(قانون القعود في العمل).

والتقاعد وما يتصل به جاء ترجمة من الانگليزية لألفاظ:

التقاعد = (Retirement)

قانون التقاعد = (Retirement law, Pensions law)

تقاعد، أحيل الى التقاعدَ = (Retire, Pensioned off)

المعاش التقاعدي = (Pension)

والغريب إن المتحذلقين يجادلون في أيهما أصح (أحيل إلى التقاعد أم أحيل على التقاعد) والمشكلة ليست في إلى وعلى، بل في التقاعد نفسه. وهو اصطلاح خاطئ لا يدل على الحالة، وسببه محاولة المترجمين إيجاد لفظة واحدة تكون إزاء اللفظة الانگليزية، وهو لا يمكن في كثير من الأحوال لفقر العربية الحالية، وكان عليهم ايجاد مصطلح عربي من أكثر من لفظة للترجمة الدقيقة (اللغة العربية الخامسة: 252).

*  قال الدكتور مصطفى جواد قل: الدأب والديدن والشاكلة والطريقة والسنة والجديلة، ولا تقل: الروتين (قل ولا تقل: 169). فالدكتور حاول ايجاد لفظة عربية لمصطلح انكليزي. ولو انه كرَّس جهده ومعرفته الضخمة بالعربية في ايجاد كلمات عربية للمصطلحات، فقد يفلح في وضع الكثير، ويسن سنة لمصححي اللغة العربية في هذا الاتجاه وهو الاكثر والافحش أخطاء. وفي مكان آخر يقول : قل ما أجمله وما أجملها، وما كان أجملهما، ولا تقل: كم هو جميل وكم هي جميلة (قل ولا تقل: 180). وهذا خطأ قواعدي مهم، ويدل على ان الدكتور تنبه على هذا النوع، الا انه لم يوله اهتمامه غفلة وليس تغافلا.

الا انه مع ذلك لم يوفق فيما اقترحه لمعنى الروتين وهو طبيعة العمل الاداري بوضع خطوات ثابتة ومحددة لاستكمال المعاملات في الدوائر والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية. واشتق من الروتين كل عمل يجري على نسق واحد، فيقولون (إجراء روتيني)، (روتين يومي). والروتين يقترن بالعمل الإداري. وكلمة روتين انگليزية (Routine) وممكن وضع اقتراحات افضل من اقتراحات الدكتور مصطفى جواد وهي:(نمط، رتابة، عمل يومي، ابتذال، فقرة مكررة) (اللغة العربية الخامسة: 28).

الخاتمة

هذه عينة من أخطاء الدكتور مصطفى جواد. نكتفي بها في قراءة كتابه (قل ولا تقل) لبيان ان هذا الكتاب وكل كتب التصحيح المعاصرة وضعت جهدها في التصحيح الجزئي، وتركت التصحيح الشامل الذي سببته الترجمة والعوملة، التي مسخت اللغة العربية وبنت الى جانب بنائها لغة اخرى هجينة، وقد تناولنا ذلك في كتابنا (اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة).

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون

......................

قائمة المصادر والمراجع بالعربية

* اصلاح المنطق، ابن السكيت (ت 244هـ)، تحقيق: الشيخ محمد حسن بكائي (مشهد، مجمع البحوث الاسلامية، 1412هـ).

* تكملة المعاجم العربية، رينهارت دوزي، عربه جمال الخياط (بغداد، دار الشؤون، 2001).

* الصحاح، الجوهري (ت 393هـ)، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط4 (بيروت، دار العلم للملايين، 1407هـ).

* قل ولا تقل، مصطفى جواد، قدم له عبد المطلب صالح (بلا معلومات).

* كتاب العين، الخليل بن احمد الفراهيدي (ت 175هـ)، تحقيق: د. مهدي المخزومي ود. ابراهيم السامرائي (مؤسسة دار الهجرة، 1410).

* لسان العرب، ابن منظور (ت 711هـ)، نشر أدب الحوزة، 1405هـ.

* اللغة العربية الخامسة، الاستاذ الدكتور محمد تقي جون (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة.

* مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي (ت 721هـ)، تحقيق: أحمد شمس الدين (بيروت، دار الكتب العلمية، 1994).

* المخصص، ابن سيده (ت 458هـ)، تحقيق: لجنة احياء التراث العربي (بيروت، دار احياء التراث العربي).

* المعجم الوسيط (دار الدعوة، 1989).

* الوافي بالوفيات، الصفدي (764هـ)، تحقيق: أحمد الارناؤوط وزكي مصطفى، (بيروت، دار إحياء التراث، 2000).

* وفيات الاعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان (ت 681هـ)، تحقيق: احسان عباس (لبنان، دار الثقافة).

*   Oxford word power, first published, University press 1999

* The New Fontana Dictionary of Modern Thought Third Edition, (1999) p. 729.>

 

أولا: الطغيان كنتيجة معبرة عن الضعف

بجانب الصور النفسية ذات الارتباط بالعلم والجهل الإنساني وآثارها العقدية بالدرجة الأولى، يطرح القرآن الكريم صفات نفسية أخرى ذات البعد المادي والغريزي من حيث الظاهر.

من بينها نجد نموذج الضعف العام الذي يطبع بنية الإنسان نفسيا وبدنيا،وذلك في قول الله تعالى:"يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا"[1].

وعند هذا الضعف فقد تتولد لديه صورتان نفسيتان متناقضتان بحسب قربه أو بعده من صفة الجهل التي تطبعه منذ البداية أو بعد الاكتساب المعرفي وتحصيل العلم بصفة خاصة.

هاتان الصورتان تمثلان مجموعتين تنضوي تحتهما صفات فرعية قد تنتمي إلى هذه المجموعة أو تلك،كاليأس والكفران والطغيان والمكر من جهة،والحرص والاضطرار والهلع والمكايدة وما في هذا المعنى من المواقف الإنسانية ،والتي هي في الحقيقة صور موضوعية وثابتة للنفس الإنسانية، قد نجد لها أوصافا دقيقة في القرآن الكريم الذي سيجمع في بعض الأحيان بين المجموعتين في خطاب واحد بحسب ضرورة ورودها في السياق واقتضاء الحال عند البيان.

يقول الله تعالى:"وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض"[2].

"...وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور "[3]،"وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون"[4]،"وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا.قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون"[5]،"ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مست ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور،إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير"[6].

ثانيا: الطغيان وتأثيراته السلبية على السلوك الفردي والاجتماعي

وقد تعتبر ظاهرة الطغيان عند الإنسان إحدى أهم الصور النفسية الجزئية ذات الأثر السلبي في سلوكه،وهي بمثابة محاولة تعويضية عن الضعف الذي يعاني منه وعدم استفادته من عبرته،لأن الضعف في حد ذاته قد يكون عنصرا أساسيا للقوة! بل يمثل البذرة الرئيسية للحصول عليها،وهذا ما يمكن استلهامه من قول الله تعالى:"الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير"[7].

فدورة الضعف في الإنسان بتوسط القوة في مسيرة وجوده إيذان بأنه ليس له قوة ذاتية قارة،وإنما هو أصلا ضعيف ، ولئن أصبح قويا فإن مآله القطعي والنهائي سيكون هو الضعف.

ولهذا فقوته ليست ذاتية،وإنما هي موهبة من الله تعالى، والمفسرة في كلمة ذكر هي"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

فطغيان الإنسان بظاهرة القوة الوهمية سواء كانت جسدية أم مالية أم سلطوية ... إنما هو عنوان على اختلال توازنه النفسي ومناقضته الصريحة لواقعه الذاتي،وأكثر ما يقع الطغيان والبغي في حالة وجود بذخ وسعة مجال الإغراء المالي "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير. وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد"[8].

فالطغيان مترتب عن الشعور الوهمي بالاستغناء،وبالتالي سيتبعه الاستعلاء كنتيجة حتمية سيرتبها القرآن على الواقع النفسي للإنسان وسلوكه بحسبه عند إخلال شخص ما بتوازنه ، وذلك عند هذا التأكيد التقريري في قول الله تعالى:"كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"[9].

إذ الإنسان السليم والمتزن قد يبقى دائما واقفا بين ظاهرتي الطغيان بسبب الاستغناء، والقنوط واليأس بسبب الفقر والحاجة والاضطرار ... فكلا طرفي قصد الأمور ذميم ،لأن ميل النفس إلى الاستغناء وتوهمه إذا لم يوظف في صورته الصحيحة وهي الاستغناء بالغني الحق قد يجعل من الإنسان نموذجا استبداديا واحتكاريا ومستأثرا،كصفات وصور غير سليمة لواقعه النفسي.

ويتجلى هذا الامتداد في المجال المالي أكثر من غيره، بحيث قد يطبع من جهته بصور من الشح والبخل والقتر في الإنفاق، كما نجد التأكيد على هذا السلوك النفسي في قول الله تعالى:"قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا"[10].

وهذا القتر أو التقتير الذي قد يطغى على الإنسان في تعامله المالي منشؤه صورة نفسية غريزية نص عليها القرآن في قول الله تعالى:"إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد"[11].

وللحيلولة دون الوقوع في جانبي الإفراط أو التفريط يقرر القرآن ضوابط للنفس الإنسانية قد تحقق الوسط والاعتدال في السلوك النفسي للإنسان كمبدأ وغاية قبل أن يكون سلوكا عمليا ماديا وظاهريا محضا.

ويتجلى هذا البعد في قول الله تعالى:"ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا"[12].

فاللوم النفسي والتحسر الذاتي ،كل هذا مترتب عن السلوك غير السوي للإنسان ويمثل نتائج ضرورية وحتمية تخضع لها النفس بحسب التزاماتها أو عدم التزامها بأسس ضوابطها.

وهكذا لو تتبعنا تفصيل هذه الصورة النفسية التي عرضها القرآن الكريم فإنها ستؤدي بنا إلى دراسة مستفيضة ومترابطة،الواحدة تصب في الأخرى وتشعبها كتأكيد على أن بنية النفس الإنسانية تخضع لقوانين صارمة هي التي تحدد صحتها أو مرضها بحسب الوقوف عند حدودها أو اختراق سياجها.لأن الإنسان بما هو إنسان مسئول عن كلامه وعلمه وسلوكه ظاهرا وباطنا،وينبغي أن يراعي ويخضع للأمر والنهي الذي أقره الحق سبحانه وتعالى لضمان سلامة النفس وسلوكها،ومنه ما نجده في قول الله تعالى:"ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها"[13].

ولكي نبقى أكثر التزاما بعنوان البحث وبمحدودية هذا الفصل الهادف إلى الدلالة على مدى اعتماد المفكرين المسلمين على الأصول الشرعية في تأسيس مناهج معرفة النفس وضبطها،فإننا سنقتصر على ما أوردناه من الصور النفسية الجزئية باعتبار أنها تدخل في صورتين رئيسيتين للنفس الإنسانية عليهما مدار البحث النفسي في الفكر الإسلامي من الجانب الوظيفي والسلوكي خصوصا وهما:

النفس المذمومة والنفس المحمودة،بالإضافة إلى صورة ثالثة يمكن الاصطلاح عليها بالنفس الاستدراكية أو التصحيحية.وهذه الأنفس الثلاث الرئيسية قد عبر عنها القرآن الكريم بالنفس:الأمارة بالسوء والنفس المطمئنة والنفس اللوامة، وهي متداخلة فيما بينها تداخلا وظيفيا يصعب معه تخصيص كل ظاهرة منها بالدرس والتحليل على حدة،وذلك لأنها ترجع إلى بنية واحدة وهي النفس الإنسانية من حيث هي جوهر متصف بصفات وأعراض...

غير أن أهم هذه الصور النفسية وأكثرها تداخلا وذوبانا في غيرها هي ما اصطلح عليها القرآن الكريم بالنفس اللوامة، لأنها مرة تكون في دائرة النفس الأمارة بالسوء وتارة تكون في النفس المطمئنة، وفي كلا الحقلين تمثل الضمير الحي في الإنسان قد يراقب سكون السلب وسلبيته وحركة الإيجاب وأبعاده.

ولهذا فدراستها كعنصر مستقل قد يحتاج إلى تفصيل دقيق وسعة حقل للدراسة لا يحتمله حجم البحث ومقصده،لكنها ستكون حاضرة عند استعراض الصورتين الرئيسين بالسوء والنفس المطمئنة .

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

المغرب

........................

[1]  سورة النساء  آية 28

[2]  سورة فصلت آية 51

[3] سورة الشورى آية 48

[4]  سورة يونس آية 12

[5] سورة يونس آية 21

[6] سورة هود آية 9-11

[7]  سورة الروم آية 54

[8] سورة الشورى آية 28

[9]  سورة العلق آية 6-7

[10] سورة الإسراء آية 100

[11] سورة العاديات آية 6-8

[12] سورة الإسراء آية 29

[13]  سورة الإسراء آية 36-38

 

المصطلح أبستمولوجيّاً (معرفيّاً):

قبل الدخول في تعريف "المصطلح" ودلالاته اللغويّة والمجازيّة، ومجالات نشاطه النظريّة والعمليّة،لا بد لنا هنا من الوقوف عند دلالاته المعرفيّة. "فالمصطلح" ليس "مفردة" لغويّة عابرة نلقيها جزافاً في متن النص الذي نشتغل عليه، أدبيّاً كان أو فنيّاً أو فلسفيّاً أو دينيّا... أو غير ذلك من العلوم التي نتداولها، على اعتبار أن لكل علم من العلوم التي نتداولها له قاموسه "المصطلحي" بالضرورة. فـ "المصطلح" في الحقيقة له دلالاته المعرفيّة والوظيفيّة داخل بنية النص، أي نص من النصوص التي جئنا عليها أعلاه. (قال ابن حزم الأندلسي:" لا بد لأهل كل علم وأهل كل صناعة من ألفاظ يختصون بها للتعبير عن مراداتهم وليختصروا بها معاني كثيرة.).(1). ففي المصطلح تتحدد توجهات النص الذي نتداول الحديث عنه، أو البحث فيه وأهدافه، مثلما تتحدد مساراته السرديّة والمعرفيّة، فعلى سلطة "المصطلح الواحد وبنيته المعرفيّة قد يتحدد السياق العام للنص المتداول أو الحديث حوله أو عنه بالكامل. فعندما نطرح مثلاً مصطلح "الأركيلوجيا" وهو دراسة علميّة لمخلّفات الحضارة الإنسانيّة الماضية. فهذا المصطلح قابل ان يدخل عالم الأدب أو الفن أو الفلسفة أو الدين أو أي قضية من قضايا الحضارة الإنسانيّة لأي شعب من الشعوب. فعندما نريد أن ندرس تاريخ فن القصة القصيرة في سورية مثلاً، فسنعتمد "مصطلح الأركيلوجيا كمصطلح رئيس أو مصطلحاً أساس في دراستنا هذه، وكذا الحال عند دراستنا لتاريخ الفن أو الفلسفة أو الدين وغيرها عند أي مجتمع من المجتمعات أو حضارة من الحضارات، "فمصطلح الأركيلوجيا" سيحدد لنا بالضرورة مسار تتبعنا للقضية التي نشتغل عليها، وبالتالي سيشكل هذا المصطلح بالضرورة موقفاً منهجيّا على اعتباره يحدد لنا مسار عملنا، وبالتالي إبعادنا عن الخلط والتداخل المجانيّ بين العلم الذي نشتغل عليه وبقية العلوم. وهذا الموقف المنهجي نجده بكل وضوح مثلاً في مصطلح " الفقه" أو "علم الكلام" أو الفن التشكيلي" .. الخ. فكل مصطلح من هذه المصطلحات يشتغل على علم محدد نستنتج من خلاله طبيعة العلم المراد من هذا " المصطلح الأساس" دون أن نغفل بأن كل مصطلح من هذه المصطلحات الرئيسة أو الأساسيّة يرافقها مصطلحات ثانويّة كثيرة تكمل هذا المصطلح وتغنيه. فعندما نتداول مصطلح " الفلسفة المثاليّة" مثلاً، فسيرافق هذا المصطلح مصطلحات متعددة من هذه الفلسفة، كالفلسفة الوجوديّة والحدسيّة والمثاليّة الذاتيّة وكذلك الموضوعيّة وغيرها. وختاماً نقول في هذا الاتجاه كثيراً ما يضطر الباحث أن ينحت مصطلحاً محدداً للموضوع الذي يشتغل عليه، وهذا أمر ليس حديثاً بل قديما قدم الاشتغال على المعرفة. (قال قدامة بن جعفر: " ومع ما قدمته فإني لما كنت آخذا في استنباط معنى لم يسبق إليه من يضع لمعانيه وفنونه المستنبطة أسماء تدل عليها، احتجت أن أضع لما يظهر من ذلك أسماء اخترعها.). (2).

المفهوم اللغوي للمصطلح:

لفظ "مصطلح" مصدر ميمي من الفعل المزيد "اصطلح" الذي مجرده "صلح". وقد استُعمل الفعل الثلاثي " صلَح" في المعاجم اللغوية بمعان واشتقاقات تكاد تكون متقاربة.

ففي الصيغة الاشتقاقيّة ذاتها أورد "ابن منظور" أن:» الصالح: ضد الفساد ... والصلح: السلم، وقد اصطلحوا وصالحوا واصلحوا وتصالحوا وأصّالحوا مشدّدة الصاد، قلبوا التاء صادًا وأدغموها في  الصاد بمعنى واحد « صلح صالحاً.

وجاء في المعجم الوسيط: اصطلح القوم أي زال ما بينهم من خلاف وعلى الأمر تعارفوا عليه واتفقوا... والاصطلاح: مصدر أصطلح ... أي اتفاق طائفة على شيء. (3).

المصطلح مجازاً:

المصطلح هو لفظ يطلق على مفهوم معين للدلالة عليه عن طريق الاصطلاح (الاتفاق) بين الجماعة اللغويّة على تلك الدلالة المرادة، والتي تربط بين اللفظ (الدال) والمفهوم (المدلول) لمناسبة بينهما. وأطلق المتخصصون في علم المصطلح تعريفا دقيقا له وهو: (الرمز اللغوي والمفهوم).

بينما أطلق عليه «فيلبر» إنه عبارة عن بناء عقليّ فكريّ مشتق من شيء معين، فهو- بإيجاز - الصورة الذهنيّة لشيء معين موجود في العالم الداخليّ أو الخارجي، وأضاف: «لكي نبلغ هذا البناء العقلي - المفهوم - في اتصالاتنا يتم تعيين رمز له ليدل عليه». (4) .

تعريف المصطلح النقدي:

يمكننا القول إذاً بالنسبة للمصطلح موضوع بحثنا، بأنه أداة من أدوات التفكير العلميّ، ووسيلة من وسائل التقدم العلميّ والأدبيّ، وهو قبل ذلك لغة مشتركة، بها يتم التفاهم والتواصل بين الناس عامة، أو على الأقل بين طبقة أو فئة خاصة، في مجال محدد من مجالات المعرفة ونشاطات الحياة. وإذا لم يتوفر للعلم مصطلحه العلميّ الذي يعد مفتاحه، فقد هذا العلم مسوغه، وتعطلت وظيفته.

المصطلح في الثقافة العربية:

لم يكن " المصطلح في كل دلالاته وأهدافه بعيداً في الحقيقة عن الثقافة العربيّة، لقد "عرف العرب مع عصر التدوين المصطلح، وخبروا خفاياه وجوانبه المختلفة، كما لمسوا أهميته وفوائده في بناء النهضة العلميّة التي سعوا إليها، ووقفوا على طرائق وضعه بما أفادوه من الترجمات عن اللغات الأخرى، أو ما نحته الأدباء والفلاسفة والفقهاء العرب من مصطلحات خاصة بهم. هذا وقد بلغت اللغة العربيّة قمة التطور والمرونة في التعبير عن كل المستجدات من النظريات العلميّة والآراء الفلسفيّة في العصور الوسطى وخاصة مع عصر الترجمة والانفتاح على الحضارات الأخرى، حتى  أصبحت الواسطة الكافية للتعبير عن كل مناحي الفكر العلميّ والتقنيّ في ذلك العصر، بل والجسر الذي عبرت عليه الثقافة العربيّة الإسلاميّة بكل مكوناتها ومصادرها إلى الغرب. يقول الجاحظ في البيان والتبيين: (و قد أفاد النقد الأدبيّ من هذا التلاقح الفكريّ مع الشعوب: كالفرس واليونان والهند والرومان، حتى تسربت بعض هذه المصطلحات الفكريّة والفلسفيّة إلى النقد العربي والأدب عامة، ويدل على ذلك تلك المصطلحات التي عُرفت في العلوم العقليّة، والنقليّة، والدخيلة، جميعا. ويؤكد الجاحظ هذا بقوله: "هم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني. وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا بذلك سلفا لكل خلف وقدوة لكل تابع.). (5).

وهكذا أشرع العلماء والنقاد والمفكرون العرب في وضع اصطلاحات نقديّة وبلاغيّة في الأدب وغيره من الفنون والعلوم في ذلك العصر. ولاحظوا اختلاف هذه المصطلحات بين عالم وآخر، فقال "ابن المعتز" مثالاً في مقدمة كتابه " البديع": (و لعل بعض من قصر عن السبق إلى تأليف هذا الكتاب ستحدثه نفسه وتمنيه مشاركتنا في فضيلته فيسمى فناً من فنون البديع بغير ما سميناه). وعندما يأتي "قدامة بن جعفر" يعيد طرح المشكل من جديد، فيعزو لنفسه فضل الريادة في وضع بعض المصطلحات النقديّة والأدبيّة قائلاً: (و لما كنت آخذاً في استنباط معنى لم يسبق إليه من يضع لمعانيه وفنونه المستنبطة أسماء تدل عليه احتجت أن أضع لما يظهر من ذلك أسماء اخترعتها) (6).

نعم ... مع انتشار الإسلام وبدء التدوين والاشتغال على المعرفة، بدأت الحاجة إلى ثقافة المفاهيم اللغويّة تظهر، وبدا من المهم العمل على إيجاد تحديدات دقيقة لما تعنيه ألفاظ المشتغلين بتلك العلوم، وهو ما دفع بعلماء المسلمين إلى وضع مصطلح "علوم الحديث" مثلاً الذي يختص بدرجات الحديث وأنواعه وطرق إسناده. وكذلك علوم اللغة وبديعها ونحوها.. وغير ذلك من علوم، وهكذا انتقلت عبر اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخرى، بزيادات زيدت. وشرائط شرطت، ولقد صار لكل جماعة تشتغل بعلم واحد ألفاظهم ومصطلحاتهم الخاصة بهم. وقد شرع أصحاب تلك العلوم والصناعات يحددون معاني ألفاظهم وحدودها ورسومها، ونشأت إثر ذلك حركة تأليف مصطلحيّ تمثلت في كتب خاصة باصطلاحات العلوم المختلفة، ومنها:

- الحدود "لجابر بن حيان"  ت 200 هـ.

- مفاتيح العلوم لـ "محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي"  ت 387 هـ.

- رسالة الحدود، "لأبي حامد الغزالي"  ت 505 هـ.

- السامي في الأسامي. "محمد أبي الفضل الميداني النيسابوري"  531 هـ.

- التعريفات، "للشريف علي بن محمد الجرجاني".  ت 816هـ.

- كشف اصطلاحات الفنون "للتهانوي".  ت 1108هـ. (7).

تأثر الكتاب والأدباء والمفكرون العرب بالمصطلح الغربي:

لا شك أن المسألة الثقافيّة والفكريّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة قد أصابها الكثير من الجمود والتكلس في عصر الانحطاط، حيث توقف الاجتهاد على مستوى العلوم الدينيّة وساد النقل على حساب العقل، كما أخذت تتعطل شيئاً فشيئاً بقية العلوم الأخرى ويتوقف العمل بالكثير منها، أو تتجه باتجاهات أخرى كعلوم الأدب وخاصة الشعر منه. ولكن مع حلول عصر النهضة الحديثة، التي أعقبت الحملة الفرنسيّة على مصر، بداية القرن التاسع عشر، بدأ الأدب العربي يخرج من دائرة جموده والضعف الذي عاشه خلال الحقب الماضية، فهذا الجمود والضعف اللذان يرجعان بمجملهما إلى المحسنات البديعيّة، وغيرها من وسائل التلاعب بالألفاظ والأحاجي والألغاز، ولذلك فقدت الألفاظ الشعريّة على سبيل المثال دلالاتها، فلم يعد شعراء هذا العصر يهتمون بدور الكلمة الشعريّة المعبرة والموحية والمؤثرة في الإحساس والوجدان، بل كان اهتمامهم منصب على أنواع البديع والتفنن فيه، فزينوا ألفاظهم وزخرفوا أشعارهم بالسجع والجناس ونحوهما، من فنون البديع، حتى كثرت المؤلفات فيه. فأطلق عليها البديعيات كبديعة "عز الدين الموصلي"، المتوفى 122هـ، و"صفى الدين الحلي"، المتوفى723هـ، و("صالح الدين الصفدي"، المتوفى 711هـ، وغيرهم كثيرون، (8). فمع عصر النهضة في تاريخنا الحديث اتجه الأدب والنقد الحديثين اتجاهات شعريّة متنوعة، حددت مذاهب الشعر الحديث، ورصدت اتجاهاته، بأن أطلق عليها النقاد المحدثين (المدارس الأدبيّة الحديثة). وكان لهذه الاتجاهات الأثر الكبير في بلورة تلك المدارس، التي أسهمت في رد الشعر إلى طبيعته، وعملت على تحديد، مناهجه ومقاييسه النقديّة الحديثة، مطبقة بعض نظرياته بما يوافق طبيعة الأدب العربي، وقيمه وتقاليده. هذا وتعد مدرسة "الأحياء والبعث"، أولى المدارس ظهوراً، والتي يعزى إليها هذا التجديد والتطور. (9). وبالتالي فالقارئ للأدب العربي الحديث، يلحظ تحولات أدبيّة هائلة في جميع جوانب الحياة الأدبيّة والفكريّة والثقافيّة، نتيجة الوعي الحضاريّ والثقافيّ لدى كثير من أدباء ونقاد هذا العصر، حين أنكبوا على دراسة التراث بشكل واع وجرئ، فأظهروا ما فيه من سلبيات وايجابيات، وحاولوا تخليصه من شوائبه التي أدت إلى ضعفه، ودعوا إلى التخلي عن الوجه المسيء للأدب، وإحلال الوجه المشرق والمضيء له، وجعله جسر عبور بينه وبين الحضارة الإنسانيّة. ومن أوائل من نادى بهذا، (محمود سامي البارودي، وعباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري، والمازني، وطه حسين، وأحمد شوقي)، وغيرهم ممن سار على نهجهم وخطا خطاهم، مكونين مدارس أدبيّة جديدة في الأدب والنقد، تأخذ بمقاييس ومصطلحات ومناهج عالميّة.) .(10). ومع ظهور هذه المدارس، بدأ النقد العربي، في عصر النهضة يستمد قواعده وأصوله من المذاهب النقديّة، ومن جميع المدارس التي نشأت نشأة حديثة عربيّة كانت أم أجنبية وبأكثر انفتاحاً، وكان المذهب "الغربي" ومصطلحاته ذا أثر بالغ في التأثير، وفي تطور النقد العربي، وخير دليل على هذا هو تكوين المدارس الأدبيّة ونشؤ المذاهب النقديّة. كما أن الفلسفة الحديثة في الغرب كانت أشد تأثيراً في حركة النقد العربي الحديث، من حيث ظهور الاتجاهات الجديدة الواضحة في النقد، علاوة على تأثر بعض النقاد العرب المحدثين، بآراء النقاد والفلاسفة الغربيين.

ومن المدارس الأدبية المتعددة التي تركت بصمات في نهضة الأدب العربي والنقد في تاريخنا الحديث والمعاصر، والتي لا شك بأن شعراؤها ونقادها كانوا متأثرين باتجاهات المدارس الغربيّة، كالمدرسة  "الرومانسيّة"  التي برزت ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر، ونادت بتفوق العاطفة على العقل، ونادت بالحريّة والتعبير، وتقديم الخيال على العقل وتفضيله في التحليل النقدي، والميل إلى الغموض والأساطير وغيرها، وكان من أبرز مؤسسي هذا التيار في الوطن العربي، الناقد والأديب "خليل مطران" المتأثر بالثقافة الفرنسيّة، ومعه مجموعة من النقاد والأدباء، أمثال: (عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازني، عبد الرحمن شكري)، وهؤلاء الثلاثة كانوا مطلعين على الثقافة الغربيّة ومتأثرين بها. (11).

وكان في هذه المرحلة تيار جماعة (أبولو)، بزعامة "أحمد  زكي أبو شادي" الذي ظهر بمصر عام 1933م. وأبولو نسبة إلى (أبولون)، إله الفكر والجمال وهو رب الشعر والموسيقى عند الإغريق، لقد أخذ هذا التيار أساطيرهم التي كانوا يؤمنون بها. ومنه أطلق هذا الاسم على هذا التيار، وقد أصدرت هذه المدرسة مجلة أدبيّة، خُصصت للشعر وبنشر الإنتاج الأدبيّ لهذه الجماعة  ونشر أفكارهم وآرائهم، وهي أول حركة أدبيّة لتجديد الشعر العربي، والدعوة لنقده في تاريخ الأدب العربي الحديث. وفيها قالت خالدة سعيد: (" لما نشأت مدرسة أبولو، كانت الفكرة الموحدة الجامعة هي الشعر الحق الرفيع، وهو ما عبر عن الشعور تعبيراً فنيّا أصيلاً، ولم يكن ابتذالاً ولاً احترازاً لما سبقه من الشعر ".). (12).

كما يخرج تيار ثالث يحمل مبادئ ومصطلحات جديدة للأدب العالمي، هو تيار (الواقعيّة)، الذي يعني، نقد الحياة والكشف عما فيها من شرور وآثام، وهذا الكشف هو الذي يظهر الواقع للحياة وحقيقتها الجوهريّة الأصيلة الدفينة.). وقد نادى أصحابه إلى البحث عن الذاتيّة والمثاليّة، وأول ما نشأ هذا التيار وظهر في أوروبا، وهو رد على الرومانسيّة، حاملاً آراء ومصطلحات وأفكار نقديّة للأدب، هدفه ترسيم واقع الحياة كما هو عليه دون التدخل الذاتي، ومشاركة الأدب والشعر للمجتمع مشاركة صحيحة وفعالة، وأن لا يجنح إلى عالم الخيال والأوهام، متخذين من القصة المحور الأساس لهذا التيار، وقد انخرط تحت لواء هذا التيار (نازك الملائكة، وبدر الدين شاكر السياب، ومحمود حسن حامد)، ولفيف آخر من الشعراء، متخذين من الشعر الحر هدفاً وطريقاً لرسم معالم هذا الاتجاه في الوطن العربي، جاعلين أدبهم ملازماً للمجتمع وحياته في مشاكلهما وأحداثهما، كما جاء في قصيدة  (الكوليرا) "لنازك الملائكة" و(وهل كان حباً) "لبدر الدين شاكر السياب"، وشعر "محمود حسن في ديوانيه"  (لابد وإصرار). (13).

هذا وقد ظهر تأثير معظم المدارس الغربيّة في النقد والمصطلح لدى النقاد العرب  والحركة النقديّة العربيّة في تاريخنا الحديث والمعاصر، كالرمزيّة، والبرناسيّة، والسرياليّة والوجوديّة.

ملاك القول هنا:

إن النقد الأدبيّ العربيّ الحديث والمعاصر بدأ، يصدر أحكاماً نقديّة نظريّة، على النص الأدبي، مبدياً رأيه وفق مقاييس أوليّة توافق الطبيعة الإنسانيّة والفطرة والحس والتذوق الجماليّ الذاتيّ والحدسيّ، وتدور في معظمها حول ما تراه العين، وتسمعه الأذن، ويتذوقه اللسان، أو يشمه الأنف، أي بما يمكن إدراكه عموماً بالحس. (14). وفي كتب النقد أمثلة مليئة بمثل هذه الأحكام، نقف عند واحد منها كتحاكم "الزبرقان بن بدر"، و"عمر بن الأهتم" و"عبده بن الطبيب"، و"المخبل ربيعة بن عوف"، إلى "ربيعة بن حذار الأسدي". ففي الشعر أيهم أشعر، قال للزبرقان (أما أنت فشعرك كلحم أسخن لهو أنضج فأكل، ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا "عمرو" فإن شعرك كبر ودجر، فيتلألآ فيها البصر، وإما أنت يا "مخبل"، فان شعرك قصر عن شعرهم،  وإما أنت يا "عبده" فان شعرك كمزادة أحكم خوزها، فليس تقصر ولا تمطر) .(15).

وهكذا كانت معظم الأحكام النقديّة تصدر من هذا القبيل، أي لا تخرج عن الذوق الفطريّ والملاحظة البسيطة والنظريّة الجزئيّة، وهي مطبوعة بطابع الارتجال. بيد أن هذا النقد لم يدم على حالته هذه عندما نظر النقاد فيما بعد بالنظرة الشاملة والمتكاملة إلى النصوص والأساليب، ودراستها دراسة تحليليّة قائمة على المناهج والمقاييس والمصطلحات النقديّة، عمادها الذوق والمنهج والتركيب الثقافيّ والفكريّ واللغويّ، وبعد أن اتسع النقد وتشعبت مباحثه، وتنوعت اتجاهات النقاد لتشمل النقد اللغوي، ونقد الألفاظ الشعريّة ومعانيها، ونقد الأخطاء النحويّة والصرفيّة والنقد البلاغيّ، والنقد الدينيّ والفنيّ والفلسفيّ والفكري الذي تناول البعد الطبقيّ والاجتماعيّ بشكل عام  وغير ذلك.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

.................................

الهوامش:

1-  المصطلح النقدي. univ-tlemcen.dz

https://elearn.univ-tlemcen.dz › resource › view

PDF .

2- المرجع نفسه.

3- في مفهوم المصطلح وعالقته بعلم المصطلح (المصطلحية).

The concept of the term and its relation to Terminology

الدكتور: عبد الحميد بوفاس، جامعة عبد الحفيظ بو الصوف، ميلة، الجزائر - فوزية سعيود، طالبة دكتوراه، جامعة الإخوة منتوري قسنطينة1مجلة القارئ للدراسات الأدبية والنقدية واللغوية. 18/8/ 2020

4- الويكيبيديا.

5- البيان والتبيين ج1 ص139. تحقيق حسن السندوبي. مكتبة هنداوي.

6- المصطلح النقدي  - مرجع سابق.

7- المرجع نفسه.

8- تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق - د/ الهادي امحمد محمد السلوقي / جامعة الزاوية ليبيا-

  https://drive.uqu.edu.sa/_/mabagazi/files.

9- المرجع نفسه.

10- رامز الحوراني-1992م، نشؤ النقد والأدب وتطوره ج1 ص211.).

11-). جبور عبد النور،1981م، المعجم الأدبي،ص232.).

12- .) خالدة سعيد، 2979م، حركة الإبداع،ص13،

13- طور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق - د/ الهادي امحمد محمد السلوقي / جامعة الزاوية ليبيا-  المرجع نفسه.

14- محمد زغلول سالم، تاريخ النقد العربي ج1 ص33.

15- بدوي طبانة،1972م، دراسات في نقد الأدب العربي، ص 13.).

"الفقر لا يصنع ثورة؛ إنَّما وعي الفقر هو الذي يصنع ثورة. الطاغية مهمَّته أنْ يجعلك فقيراً؛ وشيخ الطاغية مهمَّته أنْ يجعل وعيكَ غائباً". كارل ماركس.

وينطلق نزار قباني في دعوته للثورة الثقافية والتربية إذ يقول: "

نريد جيلا غاضبا، نريد جيلا يفلح الآفاق، وينكش التاريخ من جذوره، وينكش الفكر من الأعماق، نريد جيلا قادما، مختلف الملامح، لا يغفر الأخطاء... لا يسامح، لا ينحني لا يعرف النفاق، نريد جيلاً شامخاً عملاقا".

***

1- مقدمة:

يفيض مفهوم الثورة بمعانيه السياسيّة، ويتدفّق برمزيّته الأخلاقيّة ويتجلى في صيغة رفض شامل لكلّ أشكال الظلم والإذلال والعبوديّة والقهر الّذي يمكن أن يقع على أبناء الأمّة والشعب. فالثورة غالباً ما تكون ثورة المظلوم ضدّ الظالم، والمغلوب ضدّ الغالب، والمقهور ضدّ القاهر، طلباً للعدالة الاجتماعيّة، وصوناً للحقوق الإنسانيّة، ورفضاً لكلّ أشكال التعنّت والتغلّب والقهر. وإذا كان التاريخ الإنسانيّ كما يرى ماركس وأتباعه هو تاريخ الصراع بين الطبقات الغالبة والمغلوبة، أو تاريخ الصراع بين الظالمين والمظلومين كما يرى ماركوز، فإنّ الثورة بمعانيها المختلفة، ودلالاتها المتنوّعة، كانت وما زالت سبيل الشعوب المظلومة إلى الحرّيّة والكرامة نبذاً لكلّ أشكال الظلم ورفضاً لكلّ تجلّيات العبوديّة والقهر.

والثورة، كما يعلّمنا التاريخ، كانت دائماً وأبداً السبيل الأوحد لخروج المظلومين من دائرة العبوديّة والقهر إلى فضاءات الحرّيّة وأفنية والعدالة. وما التاريخ الإنسانيّ في أكثر صوره تشويقاً وإثارة إلّا تاريخ الثورات المترامية في تضاريس الزمان وأطراف المكان. ونظراً لأهمّيّة الثورة وسحرها المبيّن في حياة الشعوب يعدّ مفهوم الثورة من أكثر المفاهيم السياسيّة والاجتماعيّة استخداماً وتواتراً وحضوراً وأهمّيّة وتشويقاً في الفكر السياسيّ والاجتماعيّ في تاريخ المجتمعات الإنسانيّة، وما زال هذا المفهوم يثير جدلاً واسعاً بين المفكّرين والباحثين فيما يتعلّق بدلالاته وإسقاطاته الّتي تتّصف بالغنى والتنوّع والثراء. ونظراً للتعقيد الشديد في طبيعة هذا المفهوم، وفي اتّساع دلالاته وتنوّع معانيه وتقاطع توظيفاته صعب على المفكّرين والعلماء بناء تعريف علميّ جامع مانع يكفي الباحثين مغبّة البحث المتواصل عن مضامينه المعقّدة ودلالاته المترامية في العمق الأطراف. فكلمة الثورة، بما تنطوي عليه من دلالات وأفكار وتصوّرات، حاضرة في مختلف مستويات الكلام والمواقف والإشارات، وتطلق على عدد كبير واسع من الحوادث الّتي تتّصف بالعنف والشدّة بهدف التغيير، وهي تتداخل على نحو فريد مع عدد كبير من مفاهيم التمرّد والعصيان والانقلاب والمقاومة والخروج والهوجة والانتفاضة على النظام في أيّ موقف من المواقف الّتي تنزع إلى إحداث تغيير مقصود أو غير مقصود.

2- الأصل اللغوي:

وكلمة ثورة في اللغة العربيّة، جاءت اشتقاقاً من الفعل يثور، ثار، ثورة، وتعني في الأصل الهيجان، أو اشتداد الغضب والاندفاع العنيف: ثار أيّ هاج، ثارت أعصابه أي فقد السيطرة على أفعاله. وجاء في لسان العرب أنّ الثورة كلمة تشتقّ من الفعل ثار الشيء ثوراً وثؤوراً. وتثور هاج. وجاء في تاج العروس الثور: الهيجان. وثار الشيء هاج، ويقال للغضبان أهيّج ما يكون: قد ثار ثائره وفار فائره إذا هاج غضبه. الثور: الوثب وقد ثار إليه إذا وثب. وثار به الناس، أي: وثبّوا عليه. وجاء في الصحاح: ثار الغبار يثور ثوراً وثوراناً، أي: سطع. ومن الواضح بمكان أنّ كلمة الثورة في الاشتقاقات العربيّة لا تحمل مضموناً اجتماعيّاً واضحاً، بل تشير إلى كلّ فعل يتضمّن طابع الفجائيّة والحركة والسرعة، ويؤدّي في الوقت ذاته إلى حالة من الفوضى والتغيير في طبيعة الأشياء: كثورة الغبار، وسطوع الضوء. وباختصار، تعني كلمة "ثورة" في اللغة العربيّة القديمة الهيجان والوثوب والسطوع، وجاءت من الفعل يثور ثار ثورة. وهي ترمز في الأصل إلى شدّة الغضب والاندفاع العنيف: ثار أيّ هاج، ثارت أعصابه أي فقد السيطرة على أفعاله. ويتّضح تاريخيّاً أنّ العرب استخدموا لفظة «الثورة» بمعنى الغضب والهوجة والتمرّد والانتشار والهياج والعصيان.

والعرب القدامى كانوا يطلقون تسميات مختلفة "غير الثورة" على الفعاليّات ذات الطابع الثوريّ، مثل: الخروج، و"القومة"، و"الهوجة"، والتمرّد، والفتنة، والعصيان، والانتفاضة. وقد أطلق السوريّون على الثورة الحلبيّة سابقاً (قومة حلب)، وهي ثورة قامت ضدّ الأغنياء وسطوة الفقر والتجنيد والأوضاع الاجتماعيّة المأساويّة عام 1850؛ كما أطلقوا على الحركات الفلاحيّة كلمة (العامّيّات)، ومنها عامّيّة كسروان في جبل لبنان.

وفي هذا الصدد يقول عزمي بشارة " أن أقرب كلمة إلى مفهوم الثورة في اللغة العربيّة هي "الخروج"، بمعنى الخروج لطلب الحقّ. فالخروج هنا بداية ليس خروجاً على الجماعة، ولا حتّى على السلطان، بل هو "خروج إلى"، أي: خروج الناس طلباً للحقّ والعدالة ورفضاً للظلم والقهر، إنّه خروج طلباً لإحقاق حقّ أو دفع ظلم" (بشارة،2011،8).

لقد وجدت كلمة " ثورة" منذ البدء في الجذور اللغويّة للمعجم العربيّ، ولكنّ هذه الكلمة تنأى في جوهر الأمر عن أيّ مضمون سياسيّ واجتماعيّ، وتدور في معاني الهيجان والتمرّد والعصيان والثأر. ويمكن القول بأنّ العرب تلقّفوا المضمون السياسيّ لهذا المفهوم من أدبيّات الثورة الفرنسيّة وغيرها من الثورات الحديثة في الغرب والشرق على حدّ سواء. وفي حقيقيّة الأمر تعرف العرب هذا المفهوم ودلالاته الحيويّة في نهايات الدولة العثمانيّة وبدايات المرحلة الكولونياليّة. وكانت ثورة الشريف الحسين بن علي تعبيراً عن الحراك الشعبيّ الثوريّ ضدّ مظالم الإمبراطوريّة العثمانيّة. ولعلّها كانت الثورة الوحيدة في ذلك الوقت الّتي وضعت في مقدّمة أهدافها تحرير البلاد أوّلاً من الهيمنة العثمانيّة (عودة، 2011). ويمكن القول في هذا السياق: إنّ العرب استخدموا مفهوم الثورة لأوّل مرّة في تاريخهم الحديث عندما أطلقوا اسم (الثورة العربيّة الكبرى) على ثورة الشريف حسين بن علي وهي الثورة قادها الشريف نفسه عام 1915 ضدّ الخلافة العثمانيّة في تحالف أكيد مع بريطانيا الّتي كانت تخوض آنذاك حرباً ضدّ الدولة العثمانيّة.

تأسيساً على هذا التصوّر يمكن القول إنّ استخدام كلمة الثورة حديث نسبيّ في الثقافة العربيّة، وقد استخدمت لوصف الحركات الثوريّة العربيّة الّتي اندلعت ضدّ الاستعمار الغربيّ، فسمّيت الحركات المسلّحة المناهضة للاستعمار العثمانيّ والفرنسيّ والبريطانيّ والإيطاليّ ثورات التحرير، ومنها الثورة السوريّة الكبرى والثورة الجزائريّة والثورة الفلسطينيّة والثورة العراقيّة وثورة عرابي في مصر وثورة الخطابي في المغرب وثورة عمر المختار في ليبيا وغيرها من الثورات الّتي اندلعت في مختلف أنحاء الوطن العربيّ كما هو الحال في اليمن والسودان والعراق.

لقد استخدم العرب لفظة "ثورة" بمعنى الغضب والهياج، ولم تستخدم هذه الكلمة كمصطلح سياسيّ واجتماعيّ بمعنى التغيير الجذريّ والانقلاب والتمرّد وتغيير النظام إلّا في العصر الحديث. وعلى هذا الأساس، فإنّ مفهوم الثورة بمضمونه الحديث نشأ في البلدان العربيّة مع حرب التحرير ضدّ الاستعمار العثمانيّ في البداية، ومن ثمّ في أتون النضال ضدّ كلّ أشكال الاستعمار الأجنبيّ. وأخيراً قفز هذا المفهوم ليجد نفسه أداة جاهزة بأيدي نخبة من السياسيّين من ذوي الخلفيّات العسكريّة والمتطلّعين للوصول إلى سدّة " الحكم". وظلّ مفهوم " الثورة" مجرّد استعارة عسكريّة لمفهوم الانقلاب. فسمّي انقلاب 23 يوليو 1952 بمصر ثورة ضدّ النظام الملكيّ، وانقلاب 14 تمّوز 1958 في العراق ثورة ضدّ النظام الملكيّ أيضاً، والانقلاب البعثيّ في سوريا عام 1963 ثورة ضدّ النظام الإقطاعيّ، ثمّ توالت التسميات في ليبيا وسوريا والعراق"(عودة، 2011).

3- مفهوم الثورة في ضوء الثقافة الغربيّة:

يعود استخدام كلمة ثورة (Revolution) في الثقافة الغربيّة إلى نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus:1473-1543) الذي استخدمه في عنوان كتابه المشهور (ثورة الأجرام الفلكيّة) (De revolutionibus orbium coelestium)، ويقابل هذه المفهوم اللاتينيّ بالفرنسيّة. (Des révolutions des orbes célestes). قد نشر هذا الكتاب في عام 1533. وفي هذا الكتاب يكتشف كوبرنيكوس أعظم ثورة فلكيّة في التاريخ إذ يبيّن بأنّ الشمس هي مركز المجموعة الشمّسيّة، وليست الأرض كما كان الاعتقاد سائداً في عصره. وقد بيّن كوبرنيكوس بطريقة عبقريّة أنّ الأرض هي الّتي تدور حول الشمس وليس العكس. وكانت هذه النظريّة أكبر ثورة في تاريخ العلم والفلك في مختلف العصور (Bardet , 1991).

وكلمة ثورة - كما وردت في الأصل الفلكيّ - تعني "دورة ثابتة متحرّكة تتجلّى في الحركة الاعتياديّة الحتميّة للنجوم والأفلاك السماويّة". وقد شاع استعمال هذا التعبير الفلكيّ بعد أن أطلقه كوبرنيكوس على الحركة الدائرة المنتظمة والمشروعة لنجوم حول الشمس. ولمّا كانت هذه الحركة لا تخضع لسيطرة الإنسان ولتحكمه فقد تضمّنت الثورة معنى الحتميّة التاريخيّة الّتي تتجاوز إرادة البشر وقوّتهم. وقد استعمل هذا الاصطلاح لاحقاً للدلالة على التغيّرات المفاجئة والعميقة الّتي تحدث في النظم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وقد كانوا قبل ذلك يستعملون تعبيرات أخرى مثل التمرّد والعصيان والفتنة وغيرها.

وفي هذا الصدد تقول حنّا إرندت- في إشارة منها إلى الأصل الفلكيّ لمفهوم الثورة-: "إنّ الثورة هي الفكرة الّتي استحوذت على الثوريّين، وهي أنّهم وكلاء في عمليّة تقضي على عالم قديم، وتأتي بعالم جديد. فحين نزلت الكلمة من السماء إلى الأرض لأوّل مرّة وأدخلت في الاستعمال لتصف ما يحدث على الأرض بين الناس بدت بوضوح كمجاز أو استعارة تحمل فكرة الحركة الأزليّة لتقلّبات المصير الإنسانيّ صعوداً أو هبوطاً والّتي شبّهت بشروق الشمس وغروبها منذ الأزل. وتعني في المصطلح المجازيّ إشارة إلى حركة تدور عائدة إلى نقطة ما محدّدة مسبقاً، فترتدّ إلى نظام مسبق التكوين (أرندت،2008،58). وهذه الحركة كانت تعني الأمر الّذي لا يقاوم، وتشير ضمناً إلى الحركة الدائريّة للنجوم الّتي ترتسم في مدارات مسبقة محدّدة خارج نطاق قدرة الإنسان وقوّته(أرندت،2008،64). ومن ثمّ فإنّ فكرة (الحركة الّتي لا تقاوم) سرعان تحوّلت إلى نطاق المفاهيم الثوريّة بمعنى التغيير الثوريّ الّذي لا يقاوم. وقد شبهت الثورة بالبركان الّذي يقذف الحمم، ولا يمكن إيقافه، وكما سمّاها روبسبير زعيم الثورة الفرنسيّة 1789 (العاصفة الثوريّة)، أو كما شبّهها فورستر (بالثورة الّتي تلتهم أبناءها) (أرندت،2008،64).

4- تعريف الثورة:

وهناك عدد كبير من التعريفات الّتي قدّمت لمفهوم الثورة في الثقافة الغربيّة، ومنها تعريف كرين برنتون الّذي يتناول مفهوم الثورة في كتابه الموسوم "تشريح الثورة" ثمّ يعرفها بقوله "إنّها عمليّة حركيّة ديناميّة تتميّز بالانتقال من بنيان اجتماعيّ إلى بنيان اجتماعيّ آخر"(كرايزن،1975،31).

ويورد بيتر أمان تعريفاً آخر للثورة يرى فيه أنّ الثورة " انكسار مؤقّت أو طويل الأمد لاحتكار الدولة للسلطة يكون مصحوباً بانخفاض الطاعة "(الطيّب، 2007،99). كما يعرفها يوري كرازين ماركسيّاً بقوله" إنّها قفزة من التشكيل الاقتصاديّ والاجتماعيّ البالي إلى تشكيل أكثر تقدّماً" (كرايزن،1975،41).

وفي التعريف القاموسيّ، عرف قاموس (شامبر) الموسوعيّ للّغة الإنجليزيّة الثورة بأنّها "تغيير شامل وجذريّ بعيد المدى في طرق التفكير وفعل الأشياء". وللثورة تعريف أساسيّ تقليديّ قديم ظهر مع انطلاق الثورة الفرنسيّة، ويأخذ صورة انتفاضة يقوم بها الشعب تحت قيادة من النخب السياسيّة المثقّفة لتغيير نظام الحكم بالقوّة (لطفي، 2012). وفي هذا السياق يعرف "أيرك هوبزباوم" الثورة في ضوء الأوضاع الأوروبّيّة بين زمني الثورة الفرنسيّة عام 1789 وكومونة باريس 1484 بالقول "إنّها تحوّل كبير في بنية المجتمع"(صديقي،2012).

والتعريف التقليديّ الأبرز للثورة وضع مع انطلاق الشرارة الأولى للثورة الفرنسيّة، عندما قام الشعب الفرنسيّ - بقيادة نخبة وطلائع من مثقّفيه- بتغيير نظام الحكم وإحداث الانقلاب الثوريّ العظيم في أوروبا. والمفهوم الدارج أو الشعبيّ للثورة يتمثّل في انتفاضة الشعب ضدّ الحاكم الظالم. وقد تكون الثورة شعبيّة مثل الثورة الفرنسيّة عام 1789، أو مثل ثورات أوروبا الشرقيّة عام 1989 كثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقاليّة في نوفمبر 2004، وقد تكون عسكريّة تأتي بفعل الانقلابات العسكريّة كما حدث في مختلف البلدان العربيّة، وفي مختلف أصقاع أمريكا اللاتينيّة في حقبتي الخمسينيّات الستينيات من القرن العشرين، وقد تكون حركة مقاومة ضدّ مستعمر ما مثل الثورة الجزائريّة وثورة المختار والخطابيّ والثورة الثوريّة ضدّ المستعمر الفرنسيّ(الموسوعة العربيّة الحرّة،2011).

وعلى هذا المنوال ظهرت تعابير ثوريّة جديدة مثل: الثورة الديمقراطيّة، والثورة العلميّة، والثورة السلميّة، والثورة الرقميّة، وثورة الأنفومديا، والثورة الصناعيّة، والثورة الزراعيّة، حتّى أصبح مفهوم الثورة يغطّي مختلف أشكال التغيير العميق في أيّ جانب من جوانب الحياة الاجتماعيّة والعلميّة في المجتمعات الإنسانيّة.

5- مفهوم الثورة في ضوء الفكر العربيّ المعاصر:

اهتمّ المفكّرون والباحثون العرب بقضايا الثورة وإشكاليّاتها، وعملوا على استجلاء مختلف جوانبها الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، واستطاعوا في سياق أعمالهم ونشاطهم الفكريّ في مجال الثورة تقديم تصوّرات مهمّة وجديدة فيما يتعلّق بمفهوم الثورة ودلالته. وقد اهتمّت الحركات السياسيّة العربيّة بمفهوم الثورة، فعملت على توصيفه وتحديد معالمه ورسم الحدود الفاصلة بينه وبين المفاهيم المتداخلة معه والمجاورة له، ومن أهمّ التعريفات الّتي قدّمت للثورة ما ورد في الميثاق المصريّ عن الثورة: "إنّ الثورة عمل تقدّميّ شعبيّ، أي: حركة الشعب بأسره، يستجمع قواه ليقتحم جميع العوائق والموانع الّتي تعترض طريقه لتجاوز التخلّف الاقتصاديّ والاجتماعيّ وصولاً لتحقيق غايات كبرى تريدها الأجيال القادمة. ولم تكن الثورة نتاج فرد أو فئة واحدة، وإلّا كانت تصادماً مع الأغلبيّة. وتتمثّل قيمة الثورة الحقيقيّة بمدى شعبيّتها، وبمدى ما تعبّر عن الجماهير الواسعة ومدى ما تعبّئه من قوى هذه الجماهير لإعادة صنع المستقبل وفرض إرادتها" (السكران، 2011). ويتضمّن هذا التعريف طابع الشموليّة والعمق للثورة بوصفها شاملة جذريّة تتجاوب مع تطلّعات الجماهير وطموحاتهم في التغيير والتطوّر نحو الأفضل.

يرى محمّد ددّه أنّ مفهوم الثورة يتحدّد بمستويات ثلاثة، تبدأ بتحديد الغايات والأهداف كنقطة انطلاق يتّفق عليها أرباب الثورة، ثمّ تتّخذ هذه الأهداف مرجعيّة يحتكم إليها عند الاختلاف، ثمّ تحديد الوسائل الممكنة لتحقيق الغايات، وتنتهي هذه الخطوات بعمليّة خلق السبل الكفيلة بحماية مكتسبات الثورة والمحافظة على كيانها وهويّتها ومآلها (ددّه،2011).

ويتعرّض خير الدين حسيب لمفهوم الثورة فيقول: "هناك تعميم خاطئ ومبالغ فيه في إطلاق تعبير الثورة على جميع الأحداث الّتي جرت في بعض البلدان العربيّة، وغالباً ما يستخدم تعبير الثورة خارج الدلالة الصحيحة لهذا التعبير، إذ غالباً ما توظّف كلمة ثورة لوصف أي انقلاب عسكريّ أو انتفاضة شعبيّة مؤقّتة تقود إلى تغيير محدود في نظام الحكم السائد. بينما المعنى الدقيق للثورة هو أنّها مجمل الأفعال والأحداث الّتي تقود إلى تغييرات جذريّة في الواقع السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ لشعب أو مجموعة بشريّة ما وعلى نحو شامل وعميق على المدى الطويل، ينتج عنه تغيير في بنية التفكير الاجتماعيّ للشعب الثائر، وفي إعادة توزيع الثروات والسلطات السياسيّة" (حسيب،2011، 128). وتجب الملاحظة هنا أنّ كثيراً من المفكّرين يركّزون على أهمّيّة" التغيير الشامل والجذريّ في المجتمع، ولا سيّما في مجال توزيع الثروة وعمليّات الإنتاج في المجتمع.

والمقصود بالثورة كما يرى عزمي بشارة "هو تحرّك شعبيّ واسع خارج البنية الدستوريّة القائمة، أو خارج الشرعيّة، يتمثّل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة. والثورة بهذا المعنى هي حركة تغيير لشرعيّة سياسيّة قائمة لا تعترف بها، وتستبدلها بشرعيّة جديدة. والضرورة هنا تقتضي التعميم لاستحالة الوصول إلى صيغة عمليّة تحدّد مراحل الثورة، لأنّ الثورة هي صيرورة يصعب الإشارة إلى نقطة بداية ونهاية لها، وهي تنطلق من حاجات يمكن تحديدها، ولكنّها أثناء اندلاعها قد تنتج حاجات وسلاسل مطلبيّة لا علاقة لها بالشرارة الأولى الّذي أنتجها وضع يتّسم ب"القابليّة الثوريّة" (بشارة، 2011، 22). و"القابليّة للثورة" هي الوعي بأنّ وضع المعاناة هو حالة من الظلم، أي الوعي بأنّ المعاناة ليست مبرّرة، ولا هي حالة طبيعيّة معطاة، ووعي إمكانيّة الفعل ضدّه في الوقت نفسه (بشارة،2011). فالثورة في النهاية كما تعرفها الموسوعة العربيّة: "أسلوب من أساليب التغيير الاجتماعيّ تشمل الأوضاع والبنى السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. وعمليّة التغيير لا تتبع الوسائل المعتمدة في النظام الدستوريّ للدولة، وتكون جذريّة وشاملة وسريعة، تؤدّي إلى انهيار النظام القائم وصعود نظام جديد".

وفي هذا السياق يرجّح بعض الباحثين العرب، وفي طليعتهم عبد اللّه النفيسي، أنّ الثورات العربيّة اندلعت، وانطلقت تحت تأثير منظومة متكاملة من العوامل والمتغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ومن أهمّها: الطغيان السياسيّ والاستبداد الأمنيّ واحتكار القرار السياسيّ من قبل الأنظمة القائمة. ومن جهة ثانية يرى بعض المفكّرين أنّ سوء توزيع الثروة يشكّل أحد عوامل الثورة حيث يؤدّي ذلك إلى وجود طبقة غنيّة فاحشة الغنى والثراء يقابلها طبقات فقيرة لا تملك غير الألم والجوع والمعاناة. ويشدّد بعض الباحثين تأثير التبعيّة الّتي يعيشها العالم العربيّ في دائرة علاقته بالعالم الخارجيّ، "فالأنظمة العربيّة تعتمد على التحالف مع الأنظمة السياسيّة في العالم الغربيّ، وهو التحالف الّذي يضمن لهذه الأنظمة أمن الوجود والاستمرار"(النفيسيّ، 2011).

6- إضاءة سوسيولوجيّة:

لم يكن في مقدور الفلاسفة وعلماء الاجتماع أن يغفلوا النظر إلى قضيّة الثورة بوصفها قضيّة وجوديّة صميميّة في الحياة الإنسانيّة، وقد كان على الفلاسفة أن يتأمّلوا في حقيقيّة التغيير الثوريّ في العالم، وأن يستبصروه على نحو فلسفيّ، ومن الصعوبة بمكان أن تغفل الفلسفة قضيّة الثورة والتغيير الثوريّ في المجتمع. وقد لا نبالغ في القول بأنّ مسألة الثورة تأخذ مكانها في صميم القضايا الفلسفيّة، وتشكّل قطب الرحى في مداراتها المتنوّعة. ولا يمكننا في هذا المسار أن نتناول الرؤى والتصوّرات الفلسفيّة للثورة في مجملها إذ لا بدّ لنا أن نقف على بعض الخيارات الفلسفيّة المعبّرة في هذا المجال الثوريّ.

ينظر جون لوك (1632-1704) إلى الثورة بوصفها ظاهرة اجتماعيّة طبيعيّة تعبّر عن الحركة الطبيعيّة لتطوّر المجتمع والتاريخ الإنسانيّ، وهي تندلع عادة إذا توفّرت لها الشروط المواتية لحدوثها، وهي في كلّ الأحوال ممارسة اجتماعيّة مشروعة أخلاقيّاً واجتماعيّاً، ويجب على الشعب أن يثور ضدّ الحكومات الّتي لا تمثّله خير تمثيل ولاسيّما هذه الّتي انحرفت عن الطريق السويّ في الحكم (السكران،2011).

وقد ذهب كارل ماركس (1818-1883) إلى أبعد من ذلك في فهمه للثورة، فنظر إلى الثورة كضرورة تاريخيّة، ووجد فيها صورة لقانونيّة المجتمع، والثورة كما يراها وسيلة المجتمع في تجاوز ذاته وتحقيق المصالحة الداخليّة بين التناقضات الفاعلة في أحشائه، كما إنّ الثورة تشكّل أداة المجتمع في إيجاد الحلول للمشكلات والتحدّيات الّتي تواجهه. ووفقاً لهذا التصوّر، فإنّ الثورة الاجتماعيّة والسياسيّة هي الناموس الطبيعيّ للمجتمع، وهي الطاقة المحرّكة لوجوده انتقالاً به من حالات أقلّ تطوّراً إلى حالات أكثر عمقاً وأكثر تقدّماً في مختلف التجلّيات السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والفلسفيّة للحياة الاجتماعيّة.

وباختصار يمكن القول إنّ الماركسيّة تشكّل بذاتها نظريّة ثوريّة، فالثورة حتميّة ضروريّة حيويّة لتطوّر المجتمع وتجاوز مواطن ضعفه وقصوره، وهي المحرّك التاريخيّ لتطوّر المجتمع من نظام اجتماعيّ إلى آخر. وقد شكّلت الماركسيّة بذاته نظريّة ثوريّة تبنّتها القوى الماركسيّة في تحقيق الثورة البلشفيّة في روسيا البيضاء عام 1917 وللثورة الثقافيّة والاجتماعيّة عند ماوتسي تونغ في الصين. من هنا يمكن الاستنتاج بأنّ جون لوك وكارل ماركس يؤكّدان كلاهما على مشروعيّة الثورة وضرورتها في عمليّة التغيير وتحقيق العدالة الاجتماعيّة (السكران،2011).

وفي هذا السياق يرى ماركس في مقدّمته «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسيّ» أنّه في مرحلة معيّنة من مراحل تطوّر المجتمع تدخل القوى المنتجة في تناقض مع العلاقات الإنتاجيّة، وذلك عندما تتحوّل هذه علاقات الإنتاج هذه إلى عوامل تعيق تطوّر المجتمع، وتعرقل مساره، عندها يحدث الصراع بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ويتحوّل هذا الصراع إلى ثورة يتمّ فيها تدمير علاقات الإنتاج القديمة وبناء علاقات إنتاج جديدة تواكب مستوى تطوّر قوى الإنتاج الجديدة، وعليه فإنّ الصراع بين القوى المنتجة الجديدة وبين العلاقات الإنتاجيّة القديمة يشكّل الأساس الموضوعيّ الاقتصاديّ للثورة. وعلى هذه الصورة حدث تطوّر المجتمع من المجتمع العبوديّ إلى المجتمع الإقطاعيّ، ومنه إلى المجتمع البرجوازيّ انتقالاً إلى المجتمع الاشتراكيّ. وتشير النظريّة «الماركسيّة اللينينيّة» إلى أهمّيّة الحزب الثوريّ ودوره في توحيد القوى الثوريّة وتنظيمها، وأهمّيّة العوامل الذاتيّة في توعية الجماهير وقيادتها. وتشكّل وحدة الظروف الموضوعيّة والذاتيّة، عند لينين، القانون الأساسيّ للثورة. وباختصار فإنّ الثورة تعني تجاوزاً للصراع وإحداث التغيير الاجتماعيّ من منطلق هدم القديم وبناء الجديد.

7- البعد الفلسفي:

وفي هذا السياق يعلن جان جاك روسو (1712-1788) في كتابه (العقد الاجتماعيّ) أهمّيّة الثورة وضرورتها لتحقيق العدالة الاجتماعيّة وبناء الدولة على أساس العقد الاجتماعيّ، فالحاكم الطاغية استولى على الحكم بالعنف والقوّة، وعندما يتمادى في طغيانه تندلع الثورة الّتي تطيح بالحاكم، ولمّا لم يكن بدّ من وجود حاكم يرعى الشعب فإنّ أهل المدينة يختارون حاكماً من بينهم على أساس العقد الاجتماعيّ السياسيّ الّذي يضمن للشعب الحرّيّة، ويحقّق العدالة بين الحاكم والمحكوم، وعلى هذا فإنّ الشعب مخوّل دائماً بالثورة عندما يخرق الحاكم شروط العقد السياسيّ مع الشعب.

وعلى خلاف روسو وماركس ولوك يرى الفيلسوف الألمانيّ هيجل (1770-1830) أنّ الثورة ظاهرة اجتماعيّة استثنائيّة تتعرّض مع طبيعة التطوّر السياسيّ للدولة، ولذا يقرّر بأنّ الثورة انقطاع في عمليّة التطوّر الطبيعيّ وخرق لقانونيّته الأصيلة المتمثّلة في الدولة والثورة وفق هذا التصوّر الهيجليّ لا تحدث إلّا نادراً في المجتمع، ومن المؤكّد أنّ هذه الفكرة تتناغم مع التوجّهات السياسيّة المحافظة لهيغل فيما يتعلّق برؤيته للدولة ولتطوّر المجتمع الإنسانيّ.

وغالباً ما يربط المفكّرون والفلاسفة الكبار بين الثورة والحرّيّة، وهذا هو حال كوندورسيه الّذي يقول: "إنّ كلمة ثورة لا تنطبق إلّا على الثورات الّتي يكون هدفها الحرّيّة" (Condorcet,1948). وتلك هي الغاية الّتي تعلنها حنّة أرندت للثورة إذ تقول: إنّ القضيّة الّتي تشكّل حقيقة السياسة هي قضيّة الحرّيّة في مواجهة الاستبداد " وهي تريد بذلك أن تقول بذلك أنّ الثورة هي الحرّيّة" (أرندت،2008، 57).

فالثورة هي "حصيلة تفاعل جدليّ بين الاستقراء والتأمّل الفكريّ من جهة، وبين الممارسة والفعل من جهة أخرى. وقد شهد مفهوم الثورة تحوّلات عديدة أكسبته معاني متضافرة فمن ن دلالته على عودة الشيء إلى الدلالة على معنى التحوّل المفاجئ ثمّ القطيعة وإعادة التأسيس" (القيّ،2011). ويبقى معنى القطيعة طاغياً على دلالة المفهوم كما يرى فرانسوا شاتليه في قوله: "تحيل كلمة ثورة على معنى القطيعة، وهذا هو المعنى الدارج للكلمة حاليّاً. وفي رحاب هذا التصوّر تأسّست فكرة الثورة من أفلاطون إلى ماوتسي تونغ مروراً بـ روبسبير وماركس وتروتسكي" (Francois,1996,1075).

ومن المناسب في هذا السياق الإشارة إلى المنظومة الفكريّة لكلّ من «سينموند نيومان» و«كرين برينتون». فالثورة كما يريانها تحدث دون مقدّمات، باعتبارها طفرة في مسار التطوّر التاريخيّ، وهي تحدث تحت تأثير أزمات وإكراهات وضغوط يؤدّي تفاعلها إلى تغيير أساسيّ في التنظيم السياسيّ والبنيان الاجتماعيّ والاقتصاديّ. والثورة وفقاً لهذا التصوّر تشكّل انكساراً رئيساً في المسار العامّ لتطوّر المجتمع. وهي في جوهرها تهدف تحرير الإنسان من المعاناة الوجوديّة للظلم والقهر، وكلّ أشكال الاستلاب والاغتراب، والثورة في كلّ الأحوال ترمز إلى القوى الاجتماعيّة الفاعلة في التاريخ الّتي تفعل فعلها في تحقيق أعظم الإنجازات الحضاريّة للمجتمعات الإنسانيّة.

ومن الأهمّيّة بمكان أيضاً الإشارة إلى النزعة السيكولوجيّة بزعامة «غوستاف لوبون» الّذي ينظر إلى الثورات بوصفها انفجارات سيكولوجيّة اجتماعيّة، وهي إذ تحدث يأتي حدوثها تحت تأثير انفعالات جماهيريّة لاشعوريّة مدمّرة يكون فيها اللاشعور الجمعيّ المحرّك الأساسيّ والفاعل الحيويّ الّذي يفسّر قيام هذه الثورات وانطلاقها.

يقول غاندي في هذا الخصوص: "يصبح العصيان المدنيّ واجباً مقدّساً عندما تصبح الدولة فاسدة أو غير شرعيّة. والمواطن الّذي يتعامل مع دولة كهذه فهو شريك في فسادها وفي عدم شرعيّتها". وقد كتب إريك هوفر مرّة يقول: «يحسب الناس أنّ الثورة تأتي بالتغيير، لكنّ العكس هو الصحيح». ومن المؤكّد أنّ التغيير يبدأ في المجتمع ويتراكم ثقافيّاً وإنسانيّاً وأخلاقيّاً، ويؤدّي في النهاية إلى الإحساس بضرورة الثورة وحتميّتها، وأنّ الثورة الّتي تنطلق لن تتوقّف حتّى تصل مداها وتؤتي أكلها وتحقّق أهدافها وتنجز غاياتها.

وقد حاول روجر بيترسن، مؤلّف كتاب المقاومة والتمرّد، عند دراسته لسلوك ثورات في أوروبا الشرقيّة، الإجابة عليّ سؤال: كيف يستطيع الناس العاديّون التمرّد على أنظمة قويّة ووحشيّة عنيفة؟ يقول الكاتب في تفسيره النظريّ لذلك: "إنّ الثورة تبدأ عليّ شكل احتجاجات، وهذه الاحتجاجات تأخذ بعداً شعبيّاً، فتكسر حاجز الخوف، أو ينسى الناس الخوف، ومن ثمّ تتحوّل إلى غضب شعبيّ عارم يطلق عليه "ثورة" (صديقي،2012).

ويحدّد جول مونيرو Jules Monnerot "ثلاثة مراحل للثورة: في المرحلة الأولى يتداعى النظام القائم وينهار، وقد يكون نظاماً سياسيّاً أو اجتماعيّاً أو اقتصاديّاً أو نظاماً قيّميّاً أو نظاماً معرفيّاً. ويطلق مونيرو على المرحلة الثانية الغليان الثوريّ أو إرادة التغيير، ولهذه المرحلة خصائص وسمات، ومن سمات الغليان أن تكون الثورة عنيفة وفوضويّة أحياناً، ومن سمات الفعل الثوريّ أن يكون نوعاً من التغيير الجذريّ الراديكاليّ يقوّض ما هو قائم، ويقلّب معطياته ويهدمه هدماً تامّاً" (القيّ،2011). ويقول جون منرو في هذا السياق: "إنّ الثورة هي الّتي تضفي الطابع الثوريّ على الحراك الاجتماعيّ الحاصل، ومن غير لا تكون الثورة ثورة حقيقيّة ". وتوصف المرحلة الثالثة بأنّها مرحلة التأسيس وإعادة البناء حيث تقوم الثورة ببناء نظام جديد مختلف كلّيّاً عن القديم، وقد يناقضه على نحو شامل"(القيّ،2011).

8- عنّف الثورة وسلّمها:

عرفت الثورات تاريخيّاً بعنفها ودمويّتها، ويلاحظ المؤرّخون أنّ أغلب الثورات الّتي حدثت في التاريخ كانت ثورات مسلّحة ودمويّة. وانطلاقاً من هذه التجربة التاريخيّة لا يستطيع الناس تصوّر الثورة من غير عنف ودم وصراع مسلّح حتّى أصبح العنف المسلّح سمة من سمات الثورة. ولكنّ بعض التاريخ الحدّيّ يعلّمنا اليوم أنّ الثورة يمكن أن تأخذ طابعاً سلميّاً.

ويعدّ المهاتما غاندي رائد النزعة السلميّة في النضال من أجل الحرّيّة والكرامة، وقد رسّخ منهجاً فكريّاً فلسفيّاً أصيلاً للثورة السلميّة في العالم واستطاع أن يبني فلسفة إنسانيّة للسلام قادرة على أن تنير دروب الشعوب المظلومة والمغلوبة على أمرها في نضالها من أجل الحقّ والحرّيّة والسلام. واستطاع غاندي أن يجترح أساليب نضاليّة رائعة في النضال السلميّ مثل: العصيان المدنيّ، الصيام حتّى الموت، مسيرة الملح، واشترط في مختلف وسائل النضال ألّا تسيل قطرة دم واحدة في نضاله ضدّ الاستعمار الإنكليزيّ للهند. واستطاع عبر هذه الوسائل أن يحرّر الهند بثورة سلميّة عظيمة لم يسبقها مثيل في تاريخ النضال السياسيّ.

يقول غاندي في تعريفه للثورة السلميّة «يمكن لمجموعة صغيرة من الشجعان بعزيمتها وإيمانها أن تغيّر مجرى التاريخ» وكان يؤكّد دائماً “بأنّ أعتى نظام سياسيّ يمكن إسقاطه من دون سفك قطرة دم واحدة". ويتّضح هذا الأمر في قول الفيلسوف البريطانيّ برتراند راسل الّذي رفض الاشتراك في الحرب العالميّة الأولى: "إذا استعمل شعب بأسره المقاومة السلبيّة بإصرار وإرادة عازمة وبالقدر نفسه من الشجاعة والانضباط اللّذين يظهرهما الآن في الحرب، فبإمكانها أن تحقّق حماية أكبر وأتمّ لكلّ ما هو جيّد في الحياة العامّة ممّا تستطيع أن تحقّقه القوّات البرّيّة والبحريّة وبدون أيّ من تلك المجازر والخسائر ومشاهد القسوة الّتي ترتبط بالحرب الحديثة"(وطفة، 2013، 9).

لقد أوضح غاندي، في كثير من المواقف والرؤى والاتّجاهات، أنّ اللاعنف ليس عجزاً أو ضعفاً أو استسلاماً أو هزيمة بل هو كما يقول: "أعظم قوّة متوفّرة للبشريّة، إنّه أقوى من أقوى سلاح دمار صمّم ببراعة الإنسان". وهو بذلك يوضّح بأنّ اللجوء إلى العنف قد يكون مبرّراً ومشروعاً في حالات معيّنة حيث يقول:"إنّني قد ألجأ إلى العنف ألف مرّة إذا كان البديل القضاء على عرق بشريّ بأكمله". فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هي إبراز ظلم المحتلّ من جهة وتأليب الرأي العامّ على هذا الظلم من جهة ثانية تمهيداً للقضاء عليه كلّيّة أو على الأقلّ حصره والحيلولة دون تفشّيه(وطفة،2013، 10).

وفيما يتعلّق بطبيعة الثورة يمكن التمييز اليوم بين اتّجاهين أساسيّين: يرى أصحاب الاتّجاه الأوّل أنّ الثورة يجب أن تكون ثورة مسلّحة، وأنّ الثورة لا يمكن أن تتمّ إلّا من خلال القوّة واستخدام العنف. أمّا أصحاب الاتّجاه الثاني فيرون أنّ الثورة يمكن أن تحدث على نحو سلميّ لا عنف فيه ويمكن للنضال السياسيّ الخالص أن يؤدّي إلى نتائج فعّالة في التغيير السياسيّ، وهم بذلك يعتقدون ألّا حاجة إلى ممارسة العنف والقوّة في عمليّة التغيير لأنّ العنف يؤدّي إلى نتائج وخيمة في غالب الأحيان.

ويمثّل فرانتز فانون الاتّجاه الأوّل: إذ يؤمن بدور العنف في الثورة، فيقول: "العنف وحده، العنف الّذي يمارسه الشعب، العنف المنظّم الواعي الّذي ينير قادة الثورة، هو الّذي يتيح للجماهير أن تحلّل الواقع الاجتماعيّ، وأن تملك مفتاحه. ودون هذا النضال القائم على العنف، ودون هذه المعرفة النابعة من النضال، لا تكون الثورة إلّا ثمّة تهريج” (فانون 2010، 139). فالثورة كما يرى فانون يجب أن تكون عنيفة، وأن تقترن بالعنف تقترن بالعنف، ومن غير العنف لا يمكن للثورة أن تكون ثورة، وهذا هو أغلب حالات الثورات في التاريخ الإنسانيّ.

ويمثّل الاتّجاه الثاني إيفرز تيلمانة عندما يقول: "إنّ العنف ليس آلة تتّصف بالكمال. إنّه يعجز، أوّلاً، عن حلّ التناقضات الاجتماعيّة فيكبتها، فتميل إلى التفاقم. وهو يبقى، ثانياً محدوداً، بما هو سلطة مكثّفة للطبقة السائدة، بالسلطة المضادّة للطبقات الخاضعة"(تيلمان،1986، 23). وهذا ما يذهب إليه جاك ووديز إذ يؤكّد أن تبني العنف بالمطلّق وجهة نظر ضيّقة وبالغة الخطر سياسيّاً(تيلمان،1986، 23).

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى رأي المفكّر الماركسيّ غرامشي الّذي يؤكّد أهمّيّة العمل السياسيّ وحيويّته في تغيير الأوضاع القائمة، وهو يعطي العامل السياسيّ والثقافيّ أولويّة وأهمّيّة على العامل الاقتصاديّ في حدّ ذاته، وقد عبّر عن هذه الرؤية بقوله:" يمكن استبعاد أن تكون الأزمات الاقتصاديّة بحدّ ذاتها سبباً في أحداث أساسيّة، فهذه الأزمات يمكنها فقط أن تخلق التربة الأكثر صلاحيّة لنشر طرق معيّنة للتفكيـر، ولطرح وحلّ المسائل الّتي تتداخل في كلّ التطوّر الجاري في حياة الدولة" (غرامشي، 1972، 152).

وباختصار يمكن القول: إنّ منهج غاندي للنضال السلميّ قد تحوّل إلى أداة نضاليّة في متناول الشعوب المظلومة والمغلوبة على أمرها من أجل العدالة والحقّ والمساواة. وهكذا فإنّ مفهوم اللاعنف قد سجّل حضوره في التاريخ الإنسانيّ قوّة هائلة تستلهمها الشعوب المظلومة كطاقة ثوريّة من أجل العدالة والحرّيّة. لقد أطلق غاندي قوّة فكريّة إنسانيّة هائلة لتحرير الشعوب، وهذا ما حدّا بـ رومان رولاند بأن يشبه فكر غاندي بتسونامي هائلة انطلقت من أعماق الشرق، ولكنّها لن تسقط إلّا عندما تغمر العالم برمّته(Gandhi,1924). لقد نجحت الثورة السلميّة في السنوات الأخيرة في شيلي وجنوب أفريقيا وبولونيا والمجر وبورما وأوكرانيا وجورجيا. وكذلك استعمل اللاعنف لإسقاط نظام الطاغية سلوبودان ميلوسوفيتش في صربيا. وقد مارست فلسفة اللاعنف تاريخيّاً دوراً هائلاً في نضال الشعوب ولاسيّما عندما طبّقت ببراعة وذكاء ولم يكن أدلّ على قوّتها إلّا القمع الّذي استخدمه الخصوم في مجابهتها ومواجهتها (درويش 2011).

9- المفهوم الشامل للثورة:

خرج مفهوم الثورة من عقاله السياسيّ، وحطّم زنزانات الاشتقاق اللغويّ ليأخذ طابعاً اجتماعيّاً شاملاً يغطّي مختلف جوانب التغيير في الحياة الإنسانيّة والمجتمعيّة. ومن هنا يجري تعريف الثورة الاجتماعيّة الشاملة بأنّها حالة من التغيير الشامل السريع المفاجئ الّذي يشمل مختلف جوانب الحياة الاجتماعيّة سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً من أجل إعادة بناء الحياة على نحو آخر يتّصف بالعمق والشمول والجذريّة.

وضمن هذا المجال عرفت موسوعة علم الاجتماع "الثورة" بأنّها:" التغييرات الجذريّة في بنية المؤسّسات السياسيّة والاجتماعيّة، وهي تلك التغيّرات الّتي تؤدّي إلى تحوّلات جوهريّة في المجتمع بحيث يتمّ تبديل الأنماط القديمة للحياة والوجود بأنماط جديدة تتوافق مع مبادئ وقيم الثورة وأهدافها. وقد تكون الثورة عنيفة دمويّة، ويمكن أن تأخذ طابعاً سلميّاً، ومن سماتها أنّها فجائيّة سريعة وخاطفة" (الأسود، 2003، 47).

وفي هذا السياق يعرف كرين برنتون الثورة في كتابه(تشريح الثورة): بأنّها عمليّة ديناميّة تؤدّي إلى الانتقال من بنيان اجتماعيّ إلى آخر "(كرايزن،1975، 3). وجاء في المعجم الفرنسيّ للعلوم الاجتماعيّة أنّ الثورة تعني " تغييراً جوهريّاً يتميّز بعنصر العنف والمفاجأة يؤدّي إلى تحوّل في بنية السلطة وتغييرها ببنية جديدة من العلاقات السياسيّة والاجتماعيّة المختلفة نوعيّاً عمّا كانت عليه في النظام السابق" (Grawitiz, 1983, 319).

وقد تكون الثورة شعبيّة مثل الثورة الفرنسيّة عام 1789، أو مثل ثورات أوروبا الشرقيّة عام 1989، أو كثورة أوكرانيا الّتي عرفت بالثورة البرتقاليّة في نوفمبر 2004. وقد تكون الثورة عسكريّة تتمثّل في الانقلابات الّتي شهدتها أمريكا اللاتينيّة في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين: وقد تأخذ حركة مقاومة شعبيّة ضدّ المستعمر مثل الثورة الجزائريّة ضدّ الفرنسيّين والثورة الفلسطينيّة ضدّ العدوّ الصهيونيّ(لطفي، 2012).

في الأصل نشأ مفهوم الثورة في حاضنه السياسيّ، وقد لاحظنا ذلك في آراء كلّ من ماركس وهوبز وأنجلز وهيغل وروسو وجون لوك. فالثورة تغيير سياسيّ بامتياز يتضمّن إحداث تحوّل جوهريّ وعميق في المؤسّسات الدستوريّة، وفي الممارسة السياسيّة الاجتماعيّة. وقد عرفت الثورة بصورة عامّة بأنّها فعل سياسيّ يؤدّي إلى التغيير في الواقع الاجتماعيّ تغييراً جذريّاً، وهذه الثورة تحدثها قوى اجتماعيّة غاضبة وناقمة على الأوضاع الراهنة من أجل تحقيق نسق من الطموحات والتطلّعات الّتي تتعلّق بالحرّيّات العامّة والحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ونجد هذا الفهم السياسيّ للثورة كامناً في نظريّة الفيلسوف اليونانيّ العريق أرسطو طالي الّذي ميّز في كتابه (السياسة) بين شكلين من أشكال التغيير السياسيّ يتجلّى أحدهما في التغيير الكامل للدستور وصياغة دستور جديد، ويتمثّل الآخر في التعديل على دستور قائم وموجود. وهذا يعني أنّ الانتقال من دستور إلى آخر يشكّل صورة للثورة السياسيّة بكامل أبعادها.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّ "لكلّ شعب ثورتان: ثورة سياسيّة يستردّ بها حقّه في حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليه، أو من جيش قد أقام في أرضه دون رضاه. وثورة اجتماعيّة تتصارع فيها طبقاته، ثمّ يستقرّ الأمر فيها على ما يحقّق العدالة لأبناء الوطن الواحد" (السكران،2011) .

ومن الواضح أنّ العلاقة بين الثورة السياسيّة والثورة الاجتماعيّة يجب أن تكون عميقة وجوهريّة، إذ لا بدّ للشعب عندما يريد إحداث صيرورة اجتماعيّة بمعنى التغيير الجذريّ في المجتمع أن يمتلك زمام السلطة السياسيّة، وهذا يعني أنّ الثورة السياسيّة تتقدّم على الثورة الاجتماعيّة، وتنطوي عليها في آن واحد، فالنظام السياسيّ هو وحده الّذي يستطيع أن يوجّه حركة المجتمع وفعاليّاته. وعلى هذا الأساس يمكن القول: إنّ الثورة السياسيّة تشكّل منطلق الثورة الاجتماعيّة، وفي هذا السياق فإنّ الثورة السياسيّة تفقد معناها ودلالتها إذا لم ترافقها ثورة اجتماعيّة ثقافيّة أخلاقيّة شاملة في المجتمع والدولة، وهذا يعني أنّ التغيير السياسيّ الّذي لا يكتمل اجتماعيّاً لا يعدو أن يكون انقلاباً سلطويّاً مفرغاً من دلالته الثوريّة. فالثورة تعني مرحلة مغايرة لما كان قائماً، وانقطاعاً تامّاً عمّا كان موجوداً، وهذا الانقطاع لا يعني تغيير النظام الحاكم فقط، بل تغيير القيم والمفاهيم والأفكار السائدة الّتي ثار الناس في وجودها.

10 - بين الثورة والانقلاب:

يروي مؤرّخو الثورة الفرنسيّة، أنّه عندما سقط سجن الباستيل في باريس في 14 يوليو 1789، جاء حاجب الملك ليانكورت ليخبر جلالة الملك لويس السادس عشر بأنّ الباستيل قد سقط، وعندها قال له الملك "إنّه تمرّد"! فصحّح ليانكورت قائلاً: "كلّا يا صاحب الجلالة، إنّها ثورة!"، وفي التعقيب على هذه الحادثة يرى المؤرّخون أنّ لويس السادس عشر عندما قال إنّ اقتحام الباستيل هو تمرّد كان يؤكّد سلطته، وعلى مشروعيّته في السلطة ومشروعيّة الوسائل المختلفة الّتي يمتلكها يديه لمواجهة المؤامرة والتحدّي الواقع على سلطانه، وعلى خلاف ذلك عندما قال ليانكورت بأنّها ثورة فكان يعني أنّ شرعيّة الملك قد سقطت حينها، فالثورة تعني إرادة جماهيريّة كبيرة وشرعيّتها تفوق شرعيّة الملك وكلّ الأنظمة القائمة.

تتشاكل مفاهيم الثورة والانقلاب والتمرّد تشاكلا فريداً في مدى تعقيده وتداخله. ومع ذلك استطاع الباحثون التمييز بين هذه المفاهيم بوضوح وجلاء، فالانقلاب يهدف إلى الاستئثار بالسلطة دون إحداث تغيّرات سياسيّة اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو قانونيّة شاملة وعميقة، وبعبارة أخرى، الانقلاب هو قيام السلطة الحاكمة أو جزء منها بتغيير نظام الحكم القائم بطرق غير شرعيّة، مثل قيام أحد الضبّاط الكبار بالإطاحة برئيس الجمهوريّة وتنصيب نفسه رئيساً أو حاكماً للبلاد أو عندما يقوم بتعطيل البرلمان أو الانفراد بالسلطة حيث يقوم الجيش أو بعض وحداته بالإطاحة بالحكومة القائمة والاستئثار بالسلطة (السكران 2011). وبعبارة أخرى، الانقلاب هو انتقال السلطة بين أطراف النظام الواحد، ويكون هذا الانتقال "باستخدام وسائل العنف الرسميّة دون إحداث تغيير في وضع القوّة السياسيّة في المجتمع، أو في توزيع عوائد النظام السياسيّ أي أنّه تغيير في أوجه حال الحكّام دون تغيير في أحوال المحكومين والانقلاب نوع من أنواع التمرّد" (الأسود، 2003، 47)، أمّا الثورة، على خلاف الانقلاب، هدفها إحداث تغيير جذريّ في النظم والأوضاع القائمة على نحو شامل جذريّ شامل عميق ومتكامل في جوهره. ويفرّق الباحثون بين الثورة، وبين الانقلاب على أساس أنّ الثورة تهدف إلى إحداث تغييرات جوهريّة في النظام السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ. بينما يهدف الانقلاب إلى إعادة توزيع السلطة السياسيّة بين هيئات الحكم المختلفة أو الأشخاص القائمين به.

إنّ التمايز الجوهريّ بين مصطلحات الانتفاضة والتمرّد والانقلاب من جهة ومصطلح الثورة من جهة أخرى يكمن في الآنية وردّ الفعل المباشر الّذي تتميّز به مفاهيم الانتفاضة والانقلاب، وهذا لا يفضي إلى تغيير فعليّ وحقيقيّ في بنية المجتمع والدولة، فيما تفضي الثورة إلى تغيير بنيويّ شامل جذريّ يضرب في البنية الأساسيّة للمجتمع، ويؤدّي إلى تغيير عميق وجوهريّ في القيم والأفكار والعادات والذهنيّات،ت ويؤدّي إلى بناء عالم جديد مختلف بكلّ مقوّمات وجوده وكينونته (الحلو، 2011). فالانقلاب العسكريّ فهو قيام أحد العسكريّين بالوثوب للسلطة من خلال قلب نظام الحكم، بغية الاستئثار بالسلطة والحصول على مكاسب شخصيّة من كرسيّ الحكم (الموسوعة العربيّة الحرّة، 2011).

الثورة نتاج أوضاع اجتماعيّة مركّبة تراكميّة يتداخل فيها السياسيّ بالاجتماعيّ، ويتراكب في ديناميّاتها الثقافيّ بالاقتصاديّ، ويتشاكل في أعماقها الأخلاقيّ بالوجدانيّ. ومن الطبيعيّ أن تلعب هذه العوامل مجتمعة ومتفرّقة الذاتيّة منها والموضوعيّة دورها في اندلاع الثورة وانطلاق شرارتها. وفي كلّ الأحوال تنضج لحظة الثورة مع نضج عواملها ومتغيّراتها الجوهريّة المتداخلة اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً. ومن ينظر في طبيعة هذه العوامل سيجد أنّ كلّ متغيّر يلعب دوره في تنمية الآخر وتشكيله ـ فغياب العدالة الاقتصاديّة يؤدّي إلى الإحساس بالظلم، والشعور بالظلم يغذّي ثقافة الثورة، وثقافة الثورة تؤجّج الإحساس بوجدانيّاتها ثمّ تأتي اللحظة المناسبة، وتنضج هذه العوامل لتنطلق الثورة، وعندها لا يمكن لأحد إيقافها.

لقد شكّل الهاجس المعرفيّ للثورة موضوعاً فكريّاً فلسفيّاً للتفكير في أسباب الثورة ومتغيّراتها، وفي هذا المسار نجد أنّ الفيلسوف الإغريقيّ أرسطوطاليس كان من أوائل المفكّرين الّذين اهتمّوا بقضيّة الثورة، وبحثوا عن أسبابها، وقد أفرد الفصل السابع من كتابه (السياسيّة) للبحث في عوامل الثورة وأسبابها، وهو في هذا الكتاب يؤكّد جوهريّة العامل اللامساواة في عمليّة انفجار الثورة، ومن الطبيعيّ أن تؤدّي اللامساواة إلى الظلم الّذي يؤدّي شعوره المرّ إلى الثورة، وهكذا فإنّ أرسطو يبحث في متوالية الثورة الّتي تبدأ بغياب العدالة ثمّ الشعور بالظلم الّذي يشعل فتيل الثورة الاجتماعيّة الجامحة. ولو أخذنا برأي أرسطو لقلنا أنّ الظلم أيّاً كان نوعه يشكّل الرافعة الحقيقيّة لكلّ أشكال الثورات في التاريخ (الطاهر، 2003).

وإذا كان أرسطو يؤكّد البعد السيكولوجيّ الناجم عن الشعور بالظلم وغياب العدالة، فإنّ المفكّر الاشتراكيّ الطوباويّ سان سيمون يركّز على أهمّيّة العوامل الاقتصاديّة الخالصة، وينطلق من مقولة الصراع بين الطبقات الاجتماعيّة بين من يملك وبين لا يملك بين العامل وأرباب العمل، وهذا هو لبّ النظريّات الماركسيّة واليساريّة الّتي ترى في الصراع الطبقيّ، وهو بالتأكيد صراع اقتصاديّ جوهر الثورة ومنطلقها الأساسيّ(الكياليّ، 1979، 871). ويمكن القول في هذا السياق أنّ عوامل الثورة متكاملة متشكّلة تلعب فيها العوامل النفسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة دوراً متكاملاً في إنتاج الفعل الثوريّ، وتحدّد اللحظة التاريخيّة لانطلاقة الثورة.

11- نجاح الثورة أو إخفاقها:

قد لا تحقّق الثورة غايتها تحت تأثير مجموعة من الظروف الخارجيّة والداخليّة، ويعلّمنا التاريخ أنّ بعض الثورات قد أجهضت وبعضها خطف، وبعضها قد انحرف عن مساره، وبعضها سقط تحت تأثير ما يسمّى بالثورات المضادّة. وعوامل سقوط الثورة وإخفاقها متعدّدة تعود إلى ظروف تاريخيّة ومجتمعيّة متعدّدة ومتنوّعة، ومن أهمّها: عدم نُضْج الثورة، أن تتعرّض الثورة لمؤامرات تفرضها قوى كبيرة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة. ومهما يكن فالمراحل الأولى من الثورة خطرة جدّاً، وهي تشبه إلى حدّ كبير عمليّة الوقوف على الرأس، وتحتاج أن تحقّق التوازن من أجل الوقوف على القدمين مجدّداً. فالثورات موجات متدافعة " ولا يحكم على الثورة، نجاحاً أو فشلاً، بمجرّد تقييم موجة واحدة لها. وفي الغالب الأعمّ تكون الموجة الأولى للثورة هي الأسهل، ولاسيّما في الثورات الشعبيّة، الّتي تشهد حضوراً جماهيريّاً طاغياً، وزخماً ظاهراً، بما يجعلها تمتلك قوّة دفع هائلة، تجرف أمامها أيّ عقبات أو عثرات ترمي إلى إعاقة التقدّم الثوريّ، وتعطيل الثوّار عن بلوغ هدفهم الأساسيّ الأوّليّ، وهو إسقاط النظام الحاكم"(حسن، 2012).

وقد "تخفّق الثورات لأسباب متعدّدة، أوّلها أن يتمّ إجهاضها من البداية، سواء عن طريق تدخّل مباشر وشامل من السلطة الحاكمة، أو بتراجع القائمين عليها مبكّراً لعدم وجود احتضان شعبيّ لها، وغالباً ما يصعب في هذه الحالة الفصل بين الثورة والانتفاضة المؤقّتة أو الجزئيّة. هناك أيضاً أسباب ذاتيّة أخرى قد تسمح باندلاع الثورة لكن تحول دون اكتمالها أو على الأقلّ تعطّلها. من أهمّها: افتقاد القيادة أو الأهداف الواضحة أو مقوّمات الاستمراريّة. وأخيراً هناك سبب جوهريّ ومباشر هو التضييق على الثورة وخنقها سواء من جانب قوّة داخليّة أو خارجيّة، ما يحول دون نضج الثورة واكتمال مسيرتها، بل ربّما يؤدّي إلى الانقلاب عليها لاحقاً استغلالاً لفقدانها التأييد الشعبيّ؛ ومن ثمّ الحماية والشرعيّة" (راشد، 2010).

12- خصائص الثورة:

تتمحور النقطة الّتي تتقاطع فيها مختلف النظريّات والاتّجاهات الفكريّة للثورة بأنّها تغيير جوهريّ انقلابيّ شامل سريع وخاطف في مختلف الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة للمجتمع. ويمكن انطلاقاً من مختلف التوجّهات والنظريّات الّتي تناولت مفهوم الثورة أن نميّز عدّة خصائص في العمليّة الثوريّة:

الخصوصيّة: فلكلّ ثورة خصوصيّتها وتفرّدها، ولا يمكن لثورة أن تتطابق مع ثورة أخرى فلكلّ ثورة بصمتها الخاصّة فيما يتعلّق بزمانها ومكانها وظروف انطلاقها.

الانتشار: فالثورة سرعان ما تنتشر جغرافيّاً، فتنطلق في الجوار، وبمعنى آخر تصدر الثورة نفسها، فسرعان ما تنتشر في الحيّز الجغرافيّ، وهذا هو حال الثورة الفرنسيّة 1789 وثورة الطلّاب في مايو 1968 الّتي انتشرت في كلّ أنحاء أوروبا، وهو حال الثورة البلشفيّة الّتي انتشرت في بلدان الاتّحاد السوفييتيّ سابقاً، وفي دول أوروبا الشرقيّة. وهذا هو حال ثورة الشباب العربيّ الّتي انتشرت من ربوع تونس إلى مختلف أقطار العالم العربيّ فيما سمّي بالربيع العربيّ.

التراكم: وتتميّز الثورة بمبدأ التراكميّة حيث تتراكم عواملها عبر الزمن ولفترات طويلة،ة فتتحوّل التغيّرات الكمّيّة إلى كيفيّة، وتنفجر الثورة بعد نضج الظروف المواتية لها(صديقي،2012).

الجماهيريّة: تعبر الثورة عن تطلّعات الشرائح الأوسع من المجتمع، ولذا فإنّ الثورة يجب أن تكون جماهيريّة، لأنها تقوم ضدّ فئة قليلة استحوذت على السلطة والقوّة والثروة في البلاد.

الراديكاليّة: غالباً ما تأخذ الثورة طابع التغيير الجذريّ العميق في مختلف مكوّنات المجتمع، وهي تتجاوز حدد الإصلاح لتحدث تغييراً جوهريّاً جذريّاً انقلابيّاً في بنية المجتمع سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً.

الفجائيّة: الثورة غالباً ما تكون سريعة خاطفة ومفاجئة غير متوقّعة كما حدث في تونس، وفي مختلف الأقطار العربيّة في الآونة الأخيرة وقد فاقت الثورات العربيّة حدود التوقّع، وكانت سريعة خاطفة ومفاجئة وسريعة الانتشار بين الجماهير.

الشموليّة: الثورة غالباً ما تكون شاملة لمختلف جوانب الحياة والوجود سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، فالتغيير يكون شاملاً حاسماً لمختلف مكوّنات الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة حيث تؤدّي إلى تغيير المنظومات الأخلاقيّة والثقافيّة، وتؤدّي إلى تغيير الذهنيّات والعقليّات والدساتير والبرامج والقوى السياسيّة (الطيّب، 2007، 100). الشموليّة: فالثورة تأتي في النهاية بأنظمة اجتماعيّة وسياسيّة جديدة تقوم على أنقاض الأنظمة الاجتماعيّة والسياسيّة القديمة.

13- خاتمة - نماذج ثوريّة:

من بين الثورات العالميّة المذهلة، تعدّ الثورة الفرنسيّة 1789، الّتي أسقطت التيجان في أوربا وهزّت عروشها، من أكثر الثورات في التاريخ السياسيّ أهمّيّة وخطورة، وما تزال هذه الثورة توصف بأنّها أكثر أحداث القرن الثامن عشر إدهاشاً وذهولاً، وما زالت هذه الثورة تطرح على الباحثين والدارسين أسئلة كثيرة، وما تزال بعض قضاياها تشكّل موضوعاً للبحث والتحليل والدرس حيث بقيت بعض جوانب هذه الثورة التاريخيّة المذهلة عصيّة على الفهم والتحليل. ويذهب عدد كبير من المفكّرين إلى الاعتقاد بأنّ العالم بعد الثورة الفرنسيّة يختلف عما قبلها. وتعدّ هذه الثورة من أكثر الثورات في التاريخيّة دراميّة وأهمّيّة، وتشكّل نموذجاً حيّاً لفهم طبيعة الثورات السياسيّة وفهم قانونيّاتها.

ويسجّل التاريخ مرّة جديدة نموذجه الثوريّ في الثورة البلشفيّة الروسيّة عام 1917، الّتي شكّلت نموذجاً آخر مذهلاً لطبيعة الحراك الثوريّ الّذي شهدته روسيا ومن ثمّ الصين، وجمع دول الاتّحاد السوفييتيّ سابقاً، وكان لهذه الثورة تأثير في تغيير وجه العالم وظهور الدول الماركسيّة كقوّة كونيّة في مختلف مستويات الوجود الاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ.

ومن أبرز الثورات الحديثة نسبيّاً ثورات الطلّاب في أوروبا عام 1968 الّتي بدأت بمسيرة الطلّاب الحاشدة في ميدان جروفنر بلندن في 17 مارس سنة 1968، وامتدّت إلى «ربيع براغ» في تشيكوسلوفاكيا، ثمّ اشتدّت أواصرها في انتفاضة مايو 1968 بباريس، وفي باريس هذه "كان الطلّاب هم النار والنور، التحموا بالشارع فانطلق صوت جيل جديد يعلن رفضه لكلّ شيء: الاستبداد، القهر، والاستبعاد، وتوحّش رأس المال، والنفاق الاجتماعيّ، والجمود العقائديّ. ومن ميكسيكو سيتي وبوينس آيرس إلى براغ، مروراً بباريس، دفعت فكرة البحث عن الغد الأفضل الأجيال للحلم" (محسن، 2011).

في فيلمه الشهير " العصور الحديثة" Modern Times، الّذي عرض لأوّل مرّة في عام 1936، يصوّر لنا الممثّل الكوميديّ الأمريكيّ المشهور شارلي شابلن وضعيّة الاستغلال القهر والعذاب الّذي يعانيه الإنسان العامل في داخل المصنع ولاسيّما فيما يطلق عليه خطّ التجميع. وفي هذا الفيلم لا نجد أيّ إشارة إلى العبوديّة الاستهلاكيّة الّتي يعانيها الإنسان خارج المصنع.

وبعد ثلاثين عاماً اندلعت ثورة الشباب في أوروبا عام 1968، وكانت هذه الثورة تعبيراً عن حالة القهر وتعبيراً عن الثورة ضدّ ما تتعرّض له آدميّة الإنسان، وكانت هذه الثورة تعبيراً عمّا يجري للمستهلكين خارج المصنع من تنميط ينذر بتحوّل كلّ منهم إلى الإنسان ذي البعد الواحد (One dimensional Man) كما يسمّيه هيربيرت ماركوز (Herbert Marcuse وبعد مرور ثلاثين عاماً أخرى "شهدت الإنسانيّة أعنف مظاهر الخطر والقهر الإنسانيّ، وبدأ هذه المرّة الخطر التكنولوجيّ يتحرّك بعيداً ليتجاوز كلّ الحدود والخطوط والممنوعات،إنّه اليوم يتحرّك ليدمّر أعمق أعماق الإنسان، إنّه يهدّد شعوره وأعماقه الواعية واللاواعية الشعوريّة واللاشعوريّة إنّه يمارس قهراً على المخّ والتفكير عند الإنسان. وتتمثّل هذه الثورة التكنولوجيّة المدمّرة فيما يطلق عليه اليوم " ثورة المعلومات " والأنفوميديا. وهذا يعني في نهاية الأمر أنّ التهديد هذه المرّة ينال من الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً يمارس ملكة التفكير وكائناً يمارس فعّاليّة المشاعر والأحاسيس الإنسانيّة" (أمين،1998). ويرى كثير من الباحثين بأنّ ثورة مايو 1968 كانت في جوهرها ثورة ضدّ الظلم وضدّ التقاليد البائدة العمياء الموروثة عن العصور الوسطى، وهناك من يرى بأنّها كانت ثورة حقيقيّة ضدّ الصورة الأبويّة المهيبة في داخل العائلة، وضدّ سلطة أرباب العمل الطاغية في المصانع والمعامل كما كانت ضدّ سلطة المعلّمين والمدرّسين العمياء في المدارس والمؤسّسات التربويّة.

وأخير نقول: إن الثورة التي لا تنمو وترعرع في بوتقة الحرية ولا تنطلق من منصة ثقافية تنويرية تضيء لها الطريق لن تكون إلا مجرد نزوة تمردية عابرة محكوم عليها بالفشل والإخفاق، وكل حركة تغيير ثوري لا تنطلق من البعد الفكري والثقافي لا يمكن أن تكون ثورة حقيقية، وذلك لأن الثورة الحقيقية لا بد لها أن تختمر في رحاب نظرية ثورية عميقة الأبعاد ضاربة الجذور في الوعي الثوري ومن غير ذلك لن تكون "الثورة المزعومة " إلا فقاعة تمردية تسقط وتتلاشى في طيات الزمن مهاوي الفشل.

14- ملخص الدراسة:

تتناول الدراسة مفهوم الثورة من منظور سوسيولوجي، وتضئ الجوانب المختلف لهذا المفهوم في تجلياته ضمن الثقافتين العربية والغربية. تنطلق الدراسة من إضاءة حول الدلالات اللغوية الاشتقاقية للمفهوم بين اللغتين العربية والإنكليزية وتوضح طبيعة التباين بين دلالات الثورة في كل من الثقافتين العربية والغربية. ومن ثم تقدم المقالة إطلالة للمفهوم وفقا لأهم النظريات السوسيولوجية الحديثة. كما تتناول قضايا التشاكل بين مفهوم الثورة والمفاهيم المتداخلة وتحاول الفصل بين هذه المفاهيم على نحو منهجي وتاريخي. ثم تتطرق المقالة لعدد كبير من الجوانب الأساسية في المفهوم مثل العلاقة بين سلمية الثورة وعنفها، وتحدد ملامح المفهوم الشامل للثورة، وتفصل بين مفهومي الانقلاب والثورة، وتبحث في وجوه نجاح الثورة وفشلها، وتبرز أهم الخصائص الأساسية في مفهوم الثورة، وتقدم صورة عن النماذج الثورية التي عرفتها الإنسانية في التاريخ الحديث كالثورة الفرنسية 1789 وثورة الطلاب في مايو 1968 وكومونة باريس 1848 والثورة البلشفية عام 1917.

الكلمات المفتاحية: ثورة، الربيع العربي، نظرية الثورة، الانقلاب، إخفاق الثورة، إجهاض الثورة.

***

بقلم: عليّ أسعد وطفة

جامعة الكويت كلية التربية

...........................

مراجع الدراسة وهوامشها:

 - العربي صديقي، زلزال استراتيجي يضرب أركان العالم، الأوان، الأربعاء 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2012: http://www.alawan.org/

 - الموسوعة العربية الحرة، (ثورة): https://bitly.ws/3fKc8

- إيفرز تيلمان، السلطة البرجوازية في العالم الثالث: نظرية الدولة في التشكيلات الاجتماعية المتأخرة اقتصاديا، ترجمة: ميشيل كيلو، الطبعة1، دمشق، سنة 1986، ص 23.

- جابر السكران، سياسية: الثورة.. تعريفها.. مفهومها.. نظرياتها، الجريدة، انظر Page Not Found (aljaredah.com)

 - جاك ووديز، نظريات حديثة حول الثورة، ترجمة: محمد مستجير مصطفى، الطبعة2، دار الفارابي، بيروت، سنة 1986،ص23.

- حنة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا الله عبد الله، مراجعة رامز بو رسلان، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008. ص 58.

 - خير الدين حسيب، حول "الربيع" الديمقراطي العربي: الدروس المستفادة، ضمن مجموعة من الباحثين، الربيع العربي.. إلى أين؟ أفق جديد للتغيير الديمقراطي، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة كتب المستقبل العربي، العدد 63، أيلول سبتمبر 2011. صص 125- 144. ص 128.

- سامح راشد، رؤية لمسار الثـورات العربية، مجلة شؤون عربية، جامعة الدول العربية - الأمانة العامة، العدد 150، 2012، (صص 88-100).

- شعبان الطاهر الأسود، علم الاجتماع السياسي قضايا العنف السياسي والثورة. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية .2003.

- صبحي درويش، هل نحن بحاجة إلى غاندي جديد. http://www.ashreah.net/vb/showthread.php?t=1156

 - عبد الله النفيسي، ثورة الشباب في العالم العربي الثورة: موجة التغيير الشعبي في الوطن العربي المصدر: جريدة آفاق الجامعية الأحد – 3 إبريل نيسان، 2011.

 - عبد الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الجزء الأول .1979،

 - عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، آب /أغسطس 2011.

- علي اسعد وطفة، الثورة السلمية في منظور غاندي، اللاعنف ضد العنف منهجا ثوريا، مركز الرافدين للدراسات والبحوث، يناير كانون الثاني 2013.

 - عمار علي حسـن، الثورات العربية مهمة صعبة ومصير غامض، شؤون عربية عدد 147، صيف 2011، صص. 32-40.

- غرامشي أنطونيو، فكر غرامشي: مختارات، تحسين الشيخ علي، الطبعة1، دار الفارابي، بيروت، سنة 1972، ص152.

 - فرانتز فانون، معذبو الأرض، ترجمة: سامي الدروبي و جمال الأتاسي، الطبعة 2، دار الطليعة، بيروت، سنة 2010.

 - كرم الحلو، في مفهوم الثورة في فكرنا العربي وتصوّرنا لها، عن ملحق تيارات - جريدة الحياة 25/9/2011 .

- محمد دده، الحراك الجماهيري العربي: ثورة أم صناعة لفرصة سياسية، ضمن مجموعة من الباحثين، الربيع العربي.. إلى أين؟ أفق جديد للتغيير الديمقراطي، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة كتب المستقبل العربي، العدد 63، أيلول سبتمبر 2011. صص 39- 52.

- مرشد القي، قراءة في قراءات الثورة الفرنسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة تشرين الأول / أوكتوبر 2011.

- مصطفى محسن، ثورات الربيع العربي وأسئلة الفكر السوسيولوجي، مغرس، 30/10/2011:

http://www.maghress.com/zapress/10124

 - مولود زايد الطيب، علم الاجتماع السياسي. ليبيا: دار الكتب الوطنية .2007.

- ناظم عودة، متى تعرّف الفكر العربي على مفهوم الثورة، الحرية.

http://ha3imna.babyme.org/t357-topic

 - وفاء لطفي، الثورة والربيع العربي: إطلالة نظرية. انظر الرابطة: مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، 12/5/2012. انظر الرابطة.

http://www.asharqalarabi.org.uk/markaz/d-21-05-2012.pdf

 - يوري كرازين، علم الثورة في النظرية الماركسية، ترجمة سمير كرم، بيروت: دار الطليعة، 1975.

-جلال أمين، العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي لحديث، ورقة مقدمة إلى مؤتمر " العولمة وقضايا الهوية الثقافية " الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة في الفترة بين 12-16 نيسان /إبريل 1998.

- Chattlet Francois, Encyclopdia Universalis , revolution , ORPUS 19, France S.A. 1996 .

- H. Marcuse: Raison et Révolution (...), Ed. Minuit, Paris, 1968.

- Jean-Antoine-nicolas de Cariatat Condorcet , Oeuvres de Condorcet , 12 Tomes , Publie par A. Condorcet O. Conor , et M.F.Arago (F.Genin et Isambert , Paris: F. didot freres , 1947-1849) , Tom 12: Sur le sens du mot Revolutionnaire.

 - Jean-Pierre Bardet, Autour du concept de Révolution: Jeux de mots et reflects cul-turels,In: Histoire, économie et société. 1991, 10e année, n°1. Le concept de révolu-tion. pp. 7-16.

 - M. K. Gandhi, La Jeune Inde (articles de Young India , 1919-1922), trad. H. Hart, Paris, 1924.

 - Madeleine Grawitiz, Lexique des sciences socials. Dalloz. 1983.

بادئ ذي بدء كتعريف لغوي يقال: نسب الرجل وصفه ذكر نسبه إلى فلان: أي عزاه. وناسبه مناسبة: ماثله وشاكله ولاءمه، أو شاركه في النسب وكان قريبه، والنسب والنسبة: القرابة أو إيقاع التعلق والارتباط بين الشيئين أو التماثل بين علاقات الأشياء أو الكميات.

فهذان المعنيان الأخيران أشمل وأكثر تجردا معرفيا في تحديد مفهوم النسب الذي يعني نسبة الشيء إلى آخر -أي إضافته إليه- وهذه الإضافة قد تكون جوهرية أي ذاتية لها ارتباط عضوي لصيق بالمنتسب إليه، أو شكلية ذات تقارب رسمي وجنسي غير أنها ليست عضوية رحمية، أو تجمع بين الأمرين: جوهرية وشكلية في آن واحد، وهذا هو النسب الذي يؤسس له الشرع ويبني عليه أحكاما ثابتة سواء تعلق الأمر بالنسب الكوني بما فيه الحيواني والنباتي والجمادي أو النسب الإنساني وكذا (الجنّْي ) لما يطبعهما من خاصية التكليف وإلزامهما بالتشريع في تحقيقه، وهذا المعنى الأخير هو الذي يفهم من قول الله "وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا "[1].

إذ النسب هو الذي يؤسس لما يصطلح عليه بالأرحام التي لا ينبغي تقطيعها أو بترها و إلا وقع الفساد في لحمة المجتمع وجذوره "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فاصمهم و أعمى أبصارهم"[2]"وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"[3].

ذلك كما يقول ابن خلدون حول النسب والعصبية إن "صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فان القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعا طب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر منذ كانوا...

ومن هذا تفهم قوله صلى الله عليه وسلم "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم"بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة... "[4].

كما أنه المقصود بتأسيس الصلاح في المجتمع وتوارثه "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين"[5].

فمن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تتبين لنا معالم النسب وخصائصه وماله من أبعاد استدلالية في مجال العقيدة وارتباطه بالإيمان ارتباطا موضوعيا ووظيفيا، كما يستشف من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب و النياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم"[6]وأيضا "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر "وفي رواية" من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام "[7] وأيضا "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين"[8].

فباعتبار هذا البعد الإيماني للنسب وما يترتب عنه من نتائج سلبية على الفرد والمجتمع فإنه قد لا يقرر مقتضياته وشروطه وأحكامه إلا الشرع، ومن هنا يختلف عن الخلق المطلق- أي النسب العضوي المادي والغريزي المحض - بحيث أن هذا الخلق غير ذي قيمة في ربط الانتساب الأسري ببعضه وتوارث المصالح المادية والمعنوية بين الأفراد المتصلين به مادام لم يتأسس على قاعدة صحية وسليمة تضمن سريان الخيط الرحمي بين أصل النسب والمنتسب إليه، وهذا ما لخصه الفقيه المالكي أبو بكر بن العربي حينما عرف النسب بأنه "عبارة عن مرج الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا". وهو ما نقله عنه القرطبي في تفسيره: أحكام القرآن عند آية النسب من سورة الفرقان، ممصدرا بأن: النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين...

فعند تحقيق هذا النسب بشروطه الشرعية تترتب حقوق وواجبات تحمي الطفل بالدرجة الأولى ثم أمه وأباه على حد سواء، ولتحديد هذه الحقوق وتفريعاتها و توظيفاتها سيكون من حيث السبر والتقسيم أن البنوة لا تحتمل سوى وجهين وهما: البنوة الشرعية والبنوة غير الشرعية.

أما التبني العادي فهو خارج عن هذا الإطار ويكون أقرب إلى البنوة غير الشرعية من حيث حكم منعه ؛اللهم إلا في اعتباره النفسي والتعويضي العاطفي مجازا أما حقيقة فلا...

فالبنوة الشرعية كما عرفت في مدونة الأحوال الشخصية المغربية سابقا، الفصل83"هي التي يتبع فيها الولد أباه في الدين والنسب ويبنى عليها الميراث وينتج عنها موانع الزواج ويترتب عليها حقوق وواجبات أبوية وبنوية ". وهذا الفصل صاغته مدونة الأسرة في المادة145 المتعلقة بالإستلحاق"متى ثبتت بنوة ولد مجهول النسب بالاستلحاق أو بحكم القاضي أصبح الولد شرعيا يتبع أباه في نسبه ودينه، ويتوارثان وينتج عنه موانع الزواج، ويترتب عليه حقوق وواجبات الأبوة والبنوة".

هذا التعريف يبقى قارا ومجمعا عليه لدى كل فقهاء الشرع مهما تغيرت صيغ القوانين ومدوناتها، وهو المحور الذي يشكل تكاملا بين القاعدة الشرعية والقاعدة الغريزية النوعية (البيولوجية) مما يستوجب تبعات تبادلية بين عنصر الأبوة والبنوة تتحدد في الدين والنسب والميراث وموانع الزواج وحقوق وواجبات على عدة مستويات وبواعث.

من هنا فلا بد من تحديد أحكام أساسية تتعلق بمفهوم البنوة الشرعية وهي مرتبطة بالزواج الشرعي أو غير مرتبطة به، إذ أن البنوة الشرعية لا تنحصر في الزواج الشرعي المتكامل الشروط والواجبات العادية فقط، وإنما مجالها أوسع وأدق، فتشمل استثناءات وطوارئ ونوادر لا يمكن إقصاؤها من الحسبان عند التقاضي.

لهذا فموضوع النسب قد يعتبر أهم من موضوع الزواج في حد ذاته لأنه يشمله ويزيد عليه، كما أنه يوسع للفقيه الآفاق للتغلغل في سبر التفرعات الاجتماعية و طوارئها ونوازلها واستثناءاتها.

لكن الزواج مع ذلك يبقى هو محور النسب والمعطي الرئيسي له، لأنه يبني عليه قاعدته ابتداء، كما أنه عرف منذ وجود الإنسان أي: منذ آدم وحواء عليهما السلام.

فما نسل عنهما يعتبر شرعيا لأنه قائم على الزواج الشرعي الذي شرعه الله لهما بحسب زمانهما وظرفهما وبحسب قوة النسبة إليهما لأنه لا منازع لهما في هذا النسب، أي أنه لم يكن يوجد رجل ثان أو مزاحم في دعوى النسب حتى يحتاج الأمر فيه[9] إلى إشهاد أو ولي، وإنما آدم أصل لحواء عند بدء الخلق وحواء فرع من آدم بغير وسائط، ومع ذلك كان هناك مهر معنوي أو مادي بحسب الأخبار الواردة في هذا الموضوع، كما أن آدم كان أصلا مباشرا لحواء، أي أنه كان مانحا لها وجودها بجزء من ذاته، وهذا في حد ذاته يعتبر مهرا غاليا جدا، إضافة إلى هذا فآدم كان نبيا؛ ومن ثم فهو مصدر التشريع والولي في زمانه، إذ سيشرع لنفسه ولزوجته ولذريته بإذن ربه، خاصة بعد حمل حواء وكبر ذريتهما، مما يقتضي الحفاظ على بقاء النوع واسترساله، وفي هذه الحالة سيكون من الضروري وجود تشريع لتحديد العلاقات الأسرية وضبطها والحفاظ على مفهوم البنوة الشرعية التي تعطي النسب والصهر والميراث معا.

فحسب ما يحكى أن أول صراع بين بني آدم كان بسبب التزام المشروعية واختراقها في مجال الزواج واعتبار النسب، والذي من خلاله سيتحدد القبول عند الله تعالى أو يرفض، كما يصوره لنا القرآن الكريم إجمالا في قوله تعالى:

"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال: لأقتلنك، قال: إنما يتقبل الله من المتقين"[10].

بحيث كما يفسر ابن عباس وابن مسعود: " أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، وكان قابيل صاحب زرع وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان لهما أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها، وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين"... "[11]

من هذا التفسير نستشف مبدأ التطور المحتمل في عالم الأحياء وظيفيا و تفريعيا، بحسب الزمان والمكان وواقع الكائنات في الاتصال والانفصال والتكاثر والتناقص، وذلك دون الإخلال بالقاعدة العامة التي سبق وارتكزنا عليها في تعريف الولادة، إذ يمكن أن تكون هناك خاصية لتوأمة متتالية فيها تحقيق لحكمة إلهية أراد الله بها أن يحدد وجه العلاقة بين النوع الإنساني وأفراده ؛تتحكم فيها قاعدة شرعية لا تصطدم مع سنن الله في الكون وتتقبلها العقول بفهم جيد وجلي...

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

وجدة - المملكة المغربية

..............................

[1] سورة الفرقان آية 54

[2] سورة محمد آية 22-23

[3] سورة الأنفال آية 76

[4] ابن خلدون: المقدمة، دار إحياء التراث العربي ص 128

[5] سورة لأعرف آية189

[6] رواه مسلم

[7] رواه البخاري في كتاب المغازي

[8] رواه أبو دود والنسائي عن أبي هريرة

[10] سورة المائدة آية 27

[11] محمد الصابوني: مختصر ابن كثير، دار القرآن الكريم بيروت ج1ص 506

 

أولا: الاعتبار التاريخي كميدان للملاحظة والتجربة

حينما نقرأ القرآن الكريم بتدبر وحضور فكري وروحي نجده يحدد مسار السلوك الإنساني على مستوى واقعي متسلسل يحدد نوعية وحدة توجه الأشخاص العقدي أو السلوكي، أعرض لنموذج منه في قول الله تعالى: "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم، ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلافهم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون. ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والموتفكات، أتتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"[1].

فلقد تضمنت الآيات، علاوة على وحدة المواقف الجماعية الشاردة، إشارة إلى امتداد هذه المواقف على المستوى التاريخي وتشابهاته، وبهذا يدخل القرآن الكريم عنصر التاريخ في مناهج معرفة النفس كأهم الوسائل الاستكشافية لها ومعرفة قوانينها وخلفيات سلوكها.

هذا العنصر التاريخي من بين مقاصده أن يوحد القواعد التي ينبغي أن تخضع لها الدراسات النفسية وتحليلاتها، وذلك بفسح المجال لضرب الأمثلة الواقعية والمجربة حتى تأخذ الأحكام التي أصدرها القرآن الكريم على بعض الظواهر السلوكية والنفسية طابع التقرير وطابع البرهان في آن واحد.

فعلى عكس هذه الظواهر المؤسسة للوحدة الشرودية في النفس الإنسانية كنموذج المنافقين ومن في صفهم يطرح القرآن الكريم مظاهر الوحدة السليمة والموافقة لأصل الفطرة وعناصرها وهي المناقضة الكلية للمظاهر التي ميزتها الوحدة الشرودية لا على المستوى العقدي فحسب، بل على المستوى السلوكي والإجرائي أيضا.

وفي هذا يقول الله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله. أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم"[2].

وأما عن الوحدة التاريخية في موافقة الفطرة والتوظيف السليم للقواعد النفسية فنجد أيضا قول الله تعالى:"وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين"[3].

يستشف من خلال الآيات الخاصة بالمنافقين والآية الخاصة بالمؤمنين أن التحديد السلوكي والنفسي هو تحديد عقدي. ولهذا فالصحة أو المرض النفسي سببه بالدرجة الأولى عقدي، مما يترتب عنه سلوكيات فردية واجتماعية تتميز ظواهرها بحسب المبنى العقدي للشخص .

وعند هذه الخصوصية التي يؤسسها الجانب العقدي في التصور الإنساني وطبيعته النفسية تتحدد نوعية التقسيم والاستجابة لنداء الفطرة .

فأما الموافقون للفطرة فتكون استجابتهم موفقة بحسب المناسبة الروحية التي سبق وأشرنا إليها.

وأما المناقضون لها فإنه سيترتب لديهم قياس فاسد يمكن الاصطلاح عليه بقياس الأدنى أو قياس المثل في غير محله، وذلك لأنهم سيرفضون كل نداء بالعودة إلى الصحة النفسية الأصلية بدعوى أن الشخص الداعي إليها هو من جنس مستواهم، ويشترك معهم في وحدتهم الوهمية الشاردة .

ولهذا فقد كان أغلب الرفض لدعوة الرسل والأنبياء وورثتهم من الأولياء والعلماء يتأسس على هذا الوهم، وهو المماثلة والتشابه الجماعي الذي تمتد عناصره على مستوى السلوك الذاتي والتسلسل الاجتماعي والتاريخي.

وفي هذا نجد قول الله تعالى:"ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون؟ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين"[4].

وقوله:"وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون "[5].

فخلفيات هذا الوهم بالمماثلة واضحة في الآيات السابقة، إذ أن غياب الصحة الروحية وصرفها عن فطرتها الأصلية لم يبق إلا الهيكل الجسماني في التصور الإنساني والذي هو عنصر مادي يقاس بالمقياس ذاته المشترك بين سائر الكائنات العضوية عاقلة كانت أم غير عاقلة.

ومن ثم فالتقسيم النفسي من خلال هذا الطغيان المادي على التصور سوف لن يكون إلا بحسب القياس إلى الذات المرئية، وذلك يعني الإسقاط الذاتي المخالف للحقيقة والموضوعية بكل عناصرها.

وللحيلولة دون الوقوع في وهم المماثلة الخاطئة يقرر القرآن أنه لا سبيل إلى معرفة النفس وإدراك تفوق شخصية على أخرى إلا من خلال موافقتها للفطرة والاعتماد على الأساس العقدي في الحكم والميزان .

ولهذا فقد كان نفس الدواء الذي يستشفي منه البعض قد لا يزيد البعض الآخر إلا نفورا و خسارا، لأن تقبله لا يتم إلا بحسب موافقته والتكيف معه ومناسبته كما تدل على ذلك الآية الكريمة في قول الله تعالى:"وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآى بجانبه، وإذا مسه الشر كان يؤوسا، قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا"[6].

فالشاكلة قد تقتضي المشاكلة والمناسبة كما تقول القاعدة النفسية المتداولة"الشكل إلى الشكل أميل"، إلا أن الشكل النفسي له أدوات وشروط وضعها الإسلام في الاعتبار، وذلك لتسهيل معرفة النفس والوصول إلى مستوى التحكم فيها بالأسلوب العلمي المتأسس على القواعد الشرعية التي تحدد خريطة النفس الإنسانية ووظيفتها.

ثانيا: قانون المشكلة والقياس النفسي

وبمقتضى هذه الوحدة النفسية والمشاكلة حسب التوجهات الفردية قد يتأسس مبدأ القياس النفسي للتحفيز والعمل والحفاظ على سلامة الوحدة الفطرية، وهذا القياس سيرتكز على معطيات واقعية تجريبية يوظف عندها في أغلب الأحيان ما يعرف إما بقياس الأولى أو قياس الأدنى.

وكل الأقيسة تعتمد بالدرجة الأولى على العنصر العقدي الذي: إما أن يوحد النفس على مستوى الفطرة وإما بغيابه قد تتوحد على مستوى الشرود كما اصطلحنا عليه، وتتجلى هذه المقايسة النفسية في عدة مجالات، منها ذات الطابع الجماعي التكتلي، ومنها ذات الطابع الفردي ذي الصبغة العقدية المحضة والمرتكزة إما على الاعتبار النفسي أو الاعتبار المادي الغريزي.

فأما المقايسة الأولى فقد نجد نماذج منها في القرآن الكريم في قول الله تعالى: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين"[7].

و"ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"[8].

و"ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا، هل يستوون؟ الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون، وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم"[9].

و"وحاجه قومه قال أتحاجونني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"[10].

فالملاحظ على هذه الآيات هو أن القياس وارد في أغلب الأحيان لصرف الخوف الوهمي وتعويضه بالخوف الحقيقي الذي هو حالة صحية للنفس وليست بمرضية.وبهذا فقد يستعمل القرآن الكريم قياس الأولى لتثبيت النفوس وتأسيس سلوكها على عقيدة حقة قد تطرد الأوهام عنها وتعطيها شخصية صحيحة ترى ذاتها من خلال معتقدها، الذي هو أهم غذاء فطري لها.

أما المقايسة المؤسسة على الموازنة الغريزية لتحفيز الباعث وتنشيط الإرادة فنجدها في قول الله تعالى:"زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب.قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله.والله بصير بالعباد"[11].

وهذه المقايسة على مستوى الغريزة، سواء تعلق الأمر بغريزة البقاء أو النوع نظرا لملازمتهما لتكوين الإنسان، لن يلغيها الإسلام من تحديد سلوكه، بل سيحيلها على ميزان الاعتدال لكي تصبح وظيفتها فطرية متناسبة مع وظيفة الروح الأصلية، وذلك بالتقليل من قيمتها الذاتية بالاعتبار إلى القيمة النفسية التي تعبر حقيقة عن شخصية الإنسان وسمو تكو ينه.

ولتحقيق هذا الاعتدال فقد جاء الخطاب الشرعي بهذه المقايسة لتحقيق بعد نفسي يستطيع من خلالها الإنسان أن يضبط نفسه ويعرف بواعث إرادته ونواياه، فنجد مثلا الحديث "عن حكيم قال:سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: إن هذا المال وربما قال سفيان:قال لي: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى"[12]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس"[13].

ومن خلال الآيات والأحاديث هاته سيتضح لنا المرتكز الأساسي في الدلالة على النفس وأحوالها، وهو الأصل العقدي بالدرجة الأولى. والذي قد تتشخص آثاره ميدانيا في السلوك الداخلي والخارجي للإنسان، إما على المستوى الفردي أو الجماعي -كما مر بنا- أو على المستوى الغريزي.

وعلى هذا التقسيم الأخير أيضا سيركز الإسلام الدلالة على أسرار النفس الإنسانية بحسب تعلقاتها الفطرية العقدية والسلوكية، ومن ثم سيصوغ لنا الثوابت النفسية على ما يمكن صياغته بالصور الجزئية والصور الكلية للنفس الإنسانية.

بحيث أن الأولى قد تدخل أعراضا وضمنا في دائرة الصور الكلية من جهة أنها تمثل مجموعات أحوال نفسية وظواهر نفسية وظواهر سلوكية تنتمي إلى هذه الظاهرة الرئيسية أو تلك ...

***

الدكتور محمد بنيعيش

أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة

وجدة، المملكة المغربية

...............................

[1] سورة التوبة آية 67-70

[2] سورة التوبة آية 71

[3] سورة هود آية 126

[4] سورة المؤمنون آية 23-24

[5] سورة المؤمنون آية 33-34

[6] سورة الإسراء آية 82

[7] سورة آل عمران آية 140

[8] سورة العنكبوت آية 1-2

[9] سورة النحل آية 75-76

[10] سورة الأنعام آية 80-82

[11] سورة آل عمران آية 14-15

[12] رواه البخاري في كتاب الرقاق

[13] رواه البخاري في كتاب الرقاق

 

يؤكد القرآن الكريم على أن نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام مُبشر به في التوراة والإنجيل، وأن أهل الكتاب يعرفون نبينا محمدًا فصفاته والبشارات به مذكورة في كتبهم بما يكفيهم لليقين.

‏‏﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي ‏التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ‏الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي ‏كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ ‏مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)‏﴾ [الأعراف: 157].

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ ‏لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)﴾ [البقرة: 146].

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا ‏أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)‏ ﴾ [الأنعام: 20].

﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي ‏إِسْرَائِيلَ (197)‏﴾ [الشعراء: 196: 197].

فالأنبياء دينهم واحد وميثاقهم واحد، وأهل الكتاب يعلمون بما جاء به أنبياؤهم فهم موثوقون بهذا الميثاق، وما جاء به نبينا مصدق لما أتى به النبيون من قبله، وكان يجب عليهم الإيمان بمحمد ونصرته لكنهم لم يفعلوا.

‏‏‏‏‏‏﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ ‏رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ‏ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)﴾‏ [آل عمران: 81].

ويوثق القرآن الكريم ما كان من أمر اليهود مع المشركين قبل الإسلام بأنهم كانوا يعرفون أن نبيًا قد أقبل زمانه، ولكن لأن الرسول لم يكن منهم ولا على هواهم كفروا به، فغضب الله عليهم مزيد غضب، فقد سبق وأعلن غضبه عليهم في أسفار أنبيائهم، ثم غضب عليهم لرفضهم المسيح وتقولهم على السيدة مريم، وكانت تلك هي المرة الثالثة التي يعلن الله غضبه على بني إسرائيل.

‏‏﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ ‏يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ ‏عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ‏بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ ‏عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)‏﴾ [البقرة: 89: 90].

ويرد الحق سبحانه على من رفض الإقرار بأن نبينا مرسل من الله، ويشير إلى شهادة عبد الله بن سلام حبر اليهود بأن ما في القرآن من عقائد مثل ما في توراتهم.

‏‏﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)﴾ [الأحقاف: 10].

‏‏﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ‏وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 43].

فرسولنا محمد هو خاتم المرسلين.

‏‏‏‏﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ ‏اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)﴾ [الأحزاب: 40].

وبالرغم من أن فريقًا من أهل الكتاب قد عمد إلى طمس كل نبوءة بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام في التوراة والإنجيل، حتى أن مكة التي عاش فيها إسماعيل وهاجر عليهما السلام لا أثر واضح لها بل نتلمس أثرها فيما أفلت من تحريفاتهم! فقد بقيت آثار من هذه النبوءات أعماهم الله عنها فلم تنطمس، كما عملوا دائمًا على إخفاء اسم نبينا محمد في النبوءات التي بشّرت  به من خلال تحريف الترجمة الرديئة، وترجمة الاسم، علمًا ‏بأن الأسماء لا تُترجم أو تُستبدل.

والكلام عن النبوءات بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لدى أهل الكتاب قديم منذ فجر الإسلام، ولعله هو الموضوع الوحيد الذي شغل بال المسلمين واعتنوا بالبحث فيه في الأسفار والأناجيل، وقد تكلموا في نصوص كثيرة، بعضها غير جازم ويحتمل التأويل لذا لن أذكره، واكتفيت بذكر ما أقنعني منه بعد أن أضفت إليه ما يعضده من خلال بحثي، إضافة إلى ما فتح الله به علي مما لم أقرأ لأحد أنه تنبه إليه مثل نبوءة الكامل، ومعنى اسم يهوذا، والنبي عاموس بن يثر الإسماعيلي ابن أخت النبي الملك داود المدفون في قرية عمواس بجوار القدس.

وتتجاهل التوراة ذكر كثير من الأنبياء العرب؛ فلم تذكر هودًا ولا صالحًا، ولا شعيبًا الجذامي، وعند ذكر تدمير مملكة حاضور (حاصور) لم تشر إلى أن هذا كان بسبب قتلهم نبيهم شُعيب الحضوري، ولن أتحدث هنا عن محاولات بني إسرائيل إخفاء أصول الأنبياء العرب الذين ذكرتهم، وأحيانًا إخفاء أنهم أنبياء، فلم تذكر أن إسماعيل كان نبيًا، والنبي أيوب عمدت التوراة إلى إخفاء أصله كرجل أدومي إسماعيلي، ولم تشر إلى أنه كان نبيًا بل رجل صالح وحسب، وكذلك النبي عوبديا (عُبيدة) الذي يكتفون بوصفه بأنه أدومي المولد. واسم عوبديا هو اسم عربي (عُبيدة) وليس اسم عبري بمعنى عبد يهوه كما يدعون، ولا أعلم أين يهوه في الاسم؟!

‏‏‏‏﴿9وَخَافَ دَاوُدُ مِنَ الرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَقَالَ: «كَيْفَ يَأْتِي إِلَيَّ تَابُوتُ الرَّبِّ؟» 10وَلَمْ يَشَأْ دَاوُدُ أَنْ يَنْقُلَ تَابُوتَ الرَّبِّ إِلَيْهِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ، فَمَالَ بِهِ دَاوُدُ إِلَى بَيْتِ عُوبِيدَ أَدُومَ الْجَتِّيِّ. 11وَبَقِيَ تَابُوتُ الرَّبِّ فِي بَيْتِ عُوبِيدَ أَدُومَ الْجَتِّيِّ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. وَبَارَكَ الرَّبُّ عُوبِيدَ أَدُومَ وَكُلَّ بَيْتِهِ.﴾‏ [صمويل الثاني: 6- 9: 11].

‏‏﴿4وَكَانَ لِعُوبِيدَ أَدُومَ بَنُونَ: شَمْعِيَا الْبِكْرُ، وَيَهُوزَابَادُ الثَّانِي، وَيُوآخُ الثَّالِثُ، وَسَاكَارُ الرَّابعُ، وَنَثَنْئِيلُ الخَامِسُ، 5وَعَمِّيئِيلُ السَّادِسُ، وَيَسَّاكَرُ السَّابعُ، وَفَعَلْتَايُ الثَّامِنُ. لأَنَّ اللهَ بَارَكَهُ. 6وَلِشَمْعِيَا ابْنِهِ وُلِدَ بَنُونَ تَسَلَّطُوا فِي بَيْتِ آبَائِهِمْ لأَنَّهُمْ جَبَابِرَةُ بَأْسٍ. 7بَنُو شَمْعِيَا: عَثْنِي وَرَفَائِيلُ وَعُوبِيدُ وَأَلْزَابَادُ إِخْوَتُهُ أَصْحَابُ بَأْسٍ. أَلِيهُو وَسَمَكْيَا. 8كُلُّ هؤُلاَءِ مِنْ بَنِي عُوبِيدَ أَدُومَ هُمْ وَبَنُوهُمْ وَإِخْوَتُهُمْ أَصْحَابُ بَأْسٍ بِقُوَّةٍ فِي الْخِدْمَةِ، اثْنَانِ وَسِتُّونَ لِعُوبِيدَ أَدُومَ.﴾ [أخبار الأيام الأول: 26- 4: 8].

النبي عاموس (جد قديم لنبينا محمد)

ربما لم يسمع أغلب المسلمين بالنبي عاموس وهو عربي من بني إسماعيل، وأمه هي أخت الملك النبي داود، فداود خاله، والملك النبي سليمان ابن خاله، فقد كان زوج أخت داود إسماعيلي. ولكنهم حرّفوا اسم عاموس في النصوص كي لا يُعرف أنه عاموس النبي. وذكروا أن عماسا/عماساي بن يثر كان قائد ‏جيش يهوذا. وهناك قرية في زمام القدس اسمها عِمْواس، قيل إنها تُنسب إليه.

‏‏‏‏﴿10وَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ، وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ رَئِيسَ بَنِي يَهُوذَا، 11وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُوَ، وَسَلْمُو وَلَدَ بُوعَزَ، 12وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ، وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى، 13وَيَسَّى وَلَدَ: بِكْرَهُ أَلِيآبَ، وَأَبِينَادَابَ الثَّانِي، وَشِمْعَى الثَّالِثَ، 14وَنَثْنِئِيلَ الرَّابعَ، وَرَدَّايَ الْخَامِسَ، 15وَأُوصَمَ السَّادِسَ، وَدَاوُدَ السَّابعَ. 16وَأُخْتَاهُمْ صَرُويَةُ وَأَبِيجَايِلُ. وَبَنُو صَرُويَةَ: أَبْشَايُ وَيُوآبُ وَعَسَائِيلُ، ثَلاَثَةٌ. 17وَأَبِيجَايِلُ وَلَدَتْ عَمَاسَا، وَأَبُو عَمَاسَا يَثْرُ الإِسْمَاعِيلِيُّ.﴾‏ [أخبار الأيام الأول: 2- 10: 17].

﴿18فَحَلَّ الرُّوحُ عَلَى عَمَاسَايَ رَأْسِ الثَّوَالِثِ فَقَالَ: «لَكَ نَحْنُ يَا دَاوُدُ، وَمَعَكَ نَحْنُ يَا ابْنَ يَسَّى. سَلاَمٌ سَلاَمٌ لَكَ، وَسَلاَمٌ لِمُسَاعِدِيكَ. لأَنَّ إِلهَكَ مُعِينُكَ». فَقَبِلَهُمْ دَاوُدُ وَجَعَلَهُمْ رُؤُوسَ الْجُيُوشِ.﴾‏ [أخبار الأيام الأول: 12- 18].

وسبق أن ذكرنا في مبحث "نسب مدين" أن خدمة الرب لم تكن قاصرة على كهنة بني إسرائيل، وكانت جماعات أخرى من بينهم عرب في خدمة بيت الرب تُسمى اَلنَّثِينِيم‏.

وذُكر اسم عماساي وعوبيد أدوم ضمن كهنة الرب في زمن داود عليه السلام.

‏‏‏‏﴿24وَشَبَنْيَا وَيُوشَافَاطُ وَنَثْنَئِيلُ وَعَمَاسَايُ وَزَكَرِيَّا وَبَنَايَا وَأَلِيعَزَرُ الْكَهَنَةُ يَنْفُخُونَ بِالأَبْوَاقِ أَمَامَ تَابُوتِ اللهِ، وَعُوبِيدُ أَدُومَ وَيَحِيَّى بَوَّابَانِ لِلتَّابُوتِ.﴾‏ [أخبار الأيام الأول: 15- 24].

ويدعي كتبتهم في موضع آخر أن عماسا ابن رجل إسرائيلي، وأمه أبيجايل ليست بنت يسى وأخت داود بل بنت ناحاش! فهل هناك رجل يُوصف بالإسرائيلي في كتابهم بعد أن تفرقوا في أسباط يعرفون بها؟! ويلاحظ أن سفري صمويل تحاشيا تمامًا ذكر أن صروية أم أبيشاي ويوآب هي أخت داود كي لا يُعرف أن عماسا ابن أخته الأخرى أبيجايل، وزادوا فحرّفوا ونسبوهما إلى ناحاش وليس يسى!

‏‏﴿24وَجَاءَ دَاوُدُ إِلَى مَحَنَايِمَ. وَعَبَرَ أَبْشَالُومُ الأُرْدُنَّ هُوَ وَجَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ مَعَهُ. 25وَأَقَامَ أَبْشَالُومُ عَمَاسَا بَدَلَ يُوآبَ عَلَى الْجَيْشِ. وَكَانَ عَمَاسَا ابْنَ رَجُل اسْمُهُ يِثْرَا الإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي دَخَلَ إِلَى أَبِيجَايِلَ بِنْتِ نَاحَاشَ أُخْتِ صَرُويَةَ أُمِّ يُوآبَ.﴾ [صمويل الثاني: 17- 24: 25].

وقد قُتل عماسا واقتص له الملك سليمان ابن خاله. وإن كنت أشك بسبب ظروف الاقتصاص له أن قتله كان لكونه نبيًا ‏وليس قائد الجيش.‏

‏‏‏‏﴿8وَلَمَّا كَانُوا عِنْدَ الصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي فِي جِبْعُونَ، جَاءَ عَمَاسَا قُدَّامَهُمْ. وَكَانَ يُوآبُ مُتَنَطِّقًا عَلَى ثَوْبِهِ الَّذِي كَانَ لاَبِسَهُ، وَفَوْقَهُ مِنْطَقَةُ سَيْفٍ فِي غِمْدِهِ مَشْدُودَةٌ عَلَى حَقَوَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ انْدَلَقَ السَّيْفُ. 9فَقَالَ يُوآبُ لِعَمَاسَا: «أَسَالِمٌ أَنْتَ يَا أَخِي؟» وَأَمْسَكَتْ يَدُ يُوآبَ الْيُمْنَى بِلِحْيَةِ عَمَاسَا لِيُقَبِّلَهُ. 10وَأَمَّا عَمَاسَا فَلَمْ يَحْتَرِزْ مِنَ السَّيْفِ الَّذِي بِيَدِ يُوآبَ، فَضَرَبَهُ بِهِ فِي بَطْنِهِ فَدَلَقَ أَمْعَاءَهُ إِلَى الأَرْضِ وَلَمْ يُثَنِّ عَلَيْهِ، فَمَاتَ.﴾‏ [صمويل الثاني: 20- 8: 10].

‏‏﴿فَهَرَبَ يُوآبُ إِلَى خَيْمَةِ الرَّبِّ وَتَمَسَّكَ بِقُرُونِ الْمَذْبَحِ. 29فَأُخْبِرَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ بِأَنَّ يُوآبَ قَدْ هَرَبَ إِلَى خَيْمَةِ الرَّبِّ وَهَا هُوَ بِجَانِبِ الْمَذْبَحِ. فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ بَنَايَاهُوَ بْنَ يَهُويَادَاعَ قَائِلاً: «اذْهَبِ ابْطِشْ بِهِ». 30فَدَخَلَ بَنَايَاهُو إِلَى خَيْمَةِ الرَّبِّ وَقَالَ لَهُ: «هكَذَا يَقُولُ الْمَلِكُ: اخْرُجْ». فَقَالَ: «كَلاَّ، وَلكِنَّنِي هُنَا أَمُوتُ». فَرَدَّ بَنَايَاهُو الْجَوَابَ عَلَى الْمَلِكِ قَائِلاً: «هكَذَا تَكَلَّمَ يُوآبُ وَهكَذَا جَاوَبَنِي». 31فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «افْعَلْ كَمَا تَكَلَّمَ، وَابْطِشْ بِهِ وَادْفِنْهُ، وَأَزِلْ عَنِّي وَعَنْ بَيْتِ أَبِي الدَّمَ الزَّكِيَّ الَّذِي سَفَكَهُ يُوآبُ، 32فَيَرُدُّ الرَّبُّ دَمَهُ عَلَى رَأْسِهِ، لأَنَّهُ بَطَشَ بِرَجُلَيْنِ بَرِيئَيْنِ وَخَيْرٍ مِنْهُ وَقَتَلَهُمَا بِالسَّيْفِ، وَأَبِي دَاوُدُ لاَ يَعْلَمُ، وَهُمَا أَبْنَيْرُ بْنُ نَيْرٍ رَئِيسُ جَيْشِ إِسْرَائِيلَ، وَعَمَاسَا بْنُ يَثَرٍ رَئِيسُ جَيْشِ يَهُوذَا. 33فَيَرْتَدُّ دَمُهُمَا عَلَى رَأْسِ يُوآبَ وَرَأْسِ نَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ، وَيَكُونُ لِدَاوُدَ وَنَسْلِهِ وَبَيْتِهِ وَكُرْسِيِّهِ سَلاَمٌ إِلَى الأَبَدِ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ».﴾ [ملوك1: 2- 28: 33].

وإن كان سفر عاموس يستفتح بادعاء أن عاموس النبي كان راعيًا في زمن عُزّيّا ملك يهوذا وهو زمن أبعد بقرون عن زمن داود عليه السلام، فهذا من تحريفاتهم المعتادة، ولو لم يكن هو عاموس بن يثر وابن أبيجايل ما كانوا حرّفوا في نسب أمه ونسب زوجها لكن فضحهم سفر أخبار الأيام.

‏‏﴿1أَقْوَالُ عَامُوسَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الرُّعَاةِ مِنْ تَقُوعَ الَّتِي رَآهَا عَنْ إِسْرَائِيلَ، فِي أَيَّامِ عُزِّيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، وَفِي أَيَّامِ يَرُبْعَامَ بْنِ يُوآشَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، قَبْلَ الزَّلْزَلَةِ بِسَنَتَيْنِ.﴾ [عاموس: 1- 1].

وإحدى الآيات في سفر عاموس تحمل تلميحًا بخصوص أصحاب السبت والذين حدثت قصتهم في زمن داود عليه السلام، وهم من ذرية أفرايم؛ إذ تذكر غضبًا ينال ذرية من في جبل السامرة بشصوص السمك، وبنو أفرايم هم من حكموا مملكة إسرائيل بعد سليمان عليه السلام من السامرة، والسؤال: ما علاقة السبي البابلي بشصوص السمك إن كان هو المقصود في الآيات والسفر عمومًا؟! علمًا بأن سنحاريب كان قد قضى على مملكة السامرة قبل السبي البابلي بنحو قرن من الزمان!

‏‏﴿1اِسْمَعِي هذَا الْقَوْلَ يَا بَقَرَاتِ بَاشَانَ الَّتِي فِي جَبَلِ السَّامِرَةِ، الظَّالِمَةَ الْمَسَاكِينَ، السَّاحِقَةَ الْبَائِسِينَ، الْقَائِلَةَ لِسَادَتِهَا: «هَاتِ لِنَشْرَبَ». 2قَدْ أَقْسَمَ السَّيِّدُ الرَّبُّ بِقُدْسِهِ: «هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي عَلَيْكُنَّ، يَأْخُذُونَكُنَّ بِخَزَائِمَ، وَذُرِّيَّتَكُنَّ بِشُصُوصِ السَّمَكِ. 3وَمِنَ الشُّقُوقِ تَخْرُجْنَ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَتَنْدَفِعْنَ إِلَى الْحِصْنِ، يَقُولُ الرَّبُّ.﴾ [عاموس: 4- 1: 3].

وفي الإصحاح التالي مباشرة من سفره وردت آية تؤكد فناء قسم من ذرية يوسف، وهي إشارة تكفي للتشكيك في زمن كتابة السفر لأن السبي والموت وغيرهما لم يطل ذرية يوسف وحدها، ولكنهم يدّعون أن عاموس صاحب السفر هو راعٍ عاش قبل السبي البابلي وليس هو عماسا ابن أخت داود عليه السلام.

‏‏﴿14اُطْلُبُوا الْخَيْرَ لاَ الشَّرَّ لِكَىْ تَحْيَوْا، فَعَلَى هذَا يَكُونُ الرَّبُّ إِلهُ الْجُنُودِ مَعَكُمْ كَمَا قُلْتُمْ. 15اُبْغُضُوا الشَّرَّ، وَأَحِبُّوا الْخَيْرَ، وَثَبِّتُوا الْحَقَّ فِي الْبَابِ، لَعَلَّ الرَّبَّ إِلهَ الْجُنُودِ يَتَرَاءَفُ عَلَى بَقِيَّةِ يُوسُفَ.﴾ [عاموس: 5- 14: 15].

ومن المبكيات المضحكات أن المسيح عيسى من بني هارون عليه السلام من سبط لاوي؛ لأن أمه السيدة مريم من الكهنة اللاويين، وأما من فيه عرق من سبط يهوذا فهو نبينا محمد لأن عاموس أمه أبيجايل بنت يسى، وعاموس من الأجداد البعيدة لنبينا محمد.

ويدعي إنجيل لوقا أن تلميذين للمسيح كانا يتجهان لقرية عمواس بعد إلقاء اليهود القبض عليه وحادثة الصلب، وأن السيد المسيح ظهر لهما دون أن يعرفاه وأخذا يتباحثان معه عما حدث للمسيح، ثم شرح لهما ما في أسفار اليهود. وبعدها ظهر لتلاميذه كلهم المجتمعين ثم رفعه الله إليه. والمشهد الأول على طريق عمواس كله غير مبرر، فمن المقبول منطقيًا أن يظهر السيد المسيح لتلاميذه ويودعهم قبل رفعه إلى السماء بعد أن استخلصه الله تعالى واستنقذه من أيدي اليهود ليُعلمهم أنه حي، لكن لماذا يظهر لاثنين تحديدًا على طريق عمواس ليحدثهما عما في الناموس؟! وهذا النص قد تفرد به إنجيل لوقا عن بقية الأناجيل! فهل كان الحديث على طريق عمواس أم عن نبي عربي مثل عمواس ومن ذرية عمواس يأتي ليكمل الناموس ويكون النبي الخاتم؟!

‏‏﴿13وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، اسْمُهَا «عِمْوَاسُ». 14وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هذِهِ الْحَوَادِثِ. 15وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ، اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. 16وَلكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. 17فَقَالَ لَهُمَا:«مَا هذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟» 18فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، الَّذِي اسْمُهُ كِلْيُوبَاسُ وَقَالَ لَهُ:«هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ؟» 19فَقَالَ لَهُمَا:«وَمَا هِيَ؟» فَقَالاَ:«الْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، الَّذِي كَانَ إِنْسَانًا نَبِيًّا مُقْتَدِرًا فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. 20كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. 21وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلكِنْ، مَعَ هذَا كُلِّهِ، الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذلِكَ. 22بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِرًا عِنْدَ الْقَبْرِ، 23وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. 24وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضًا النِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ». 25فَقَالَ لَهُمَا:«أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ! 26أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» 27ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ.﴾ [لوقا: 24- 13: 27].

والأنبياء العرب كعوبديا وعاموس يبدو أنهم لم يكونوا مرسلين للعرب في جزيرة العرب، وقد كان هناك عرب كُثر في الشام من الأنباط وغيرهم من بني إسماعيل. وما نعرفه أن العرب في مكة لم يُبعث لهم رسول منهم أو من غيرهم منذ زمن أبيهم إسماعيل، وكان نبيهم مدخرًا ليكون حُسن الخاتمة لهم وللبشرية جمعاء.

‏‏﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ ‏مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ ‏غَافِلُونَ (6)﴾ [يس: 1: 6].

‏‏﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)‏﴾ [فاطر: 24].

ونعرف أن الله تعالى أقسم بنصف حروف اللغة العربية التي نزل بها القرآن في فواتح بعض السور، وفي مستهل سورة "يس" أقسم بحرفي الياء والسين مقترنين، ثم أقسم بالقرآن، وكان جواب القسم أن نبينا محمدًا من المرسلين، ومن اللافت أن أبا داود عليه السلام بحسب أسفار اليهود كان اسمه يسَّى، وهم يعتقدون أنه جد النبي الخاتم، فلعل "يس" تصحيح لاسم أبي الملك داود، وتأكيد في الآن ذاته على أنه جد آخر المرسلين.

دعوة إبراهيم (أكثره بمحمد)

أخبرنا ربنا عز وجل في القرآن الكريم أن بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام كانت إجابة لدعوة أبيه إبراهيم عليه السلام بعد أن بنى البيت الحرام مع ابنه إسماعيل في مكة؛ فهو دعوة إبراهيم ونبوءة موسى وترنيمة داود وبشارة عيسى.

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾ ‏[البقرة: 126: 129].

ولن نجد لدعوة إبراهيم أثرًا صريحًا في توراتهم، إذ حذفوا منها قصص إبراهيم، ولن يجد قارئ التوراة ذكرًا صريحًا لمكة وبيته الحرام فيها. بل قد حذفوا أخبار الأنبياء الأولين عدا نوح عليه السلام.

لكن من النصوص القديمة التي احتوت نبوءة خفية بنبينا محمد، ولكن تم تحريفها، بعض الآيات في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين. والآيات تنص على أن الله قد سمع لإبراهيم حين دعا لنسل إسماعيل.

‏‏‏‏﴿18وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ ِللهِ: «لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!». 19فَقَالَ اللهُ: «بَلْ سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. 20وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. 21وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الآتِيَةِ». 22فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَهُ صَعِدَ اللهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ.﴾‏ [تكوين: 17- 18: 22].

وتتحدث الآيات عن البركة التي وعد الله خليله إبراهيم بوضعها في ذرية ابنه إسماعيل التي سيكثرها ‏‏﴿בִּמְאֹד מְאֹד﴾ "بِــــــــــمودميؤود" بحسب النطق في العبرية الحديثة، وترجموها  "كثيرًا جدًا" أو "جدًا جدًا"!

ونص الآية العشرون بالعبرية:

‏‏‏‏﴿כ וּלְיִשְׁמָעֵאל, שְׁמַעְתִּיךָ--הִנֵּה בֵּרַכְתִּי אֹתוֹ וְהִפְרֵיתִי אֹתוֹ וְהִרְבֵּיתִי אֹתוֹ, בִּמְאֹד מְאֹד﴾‏.

﴿20وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا.﴾

وتتبع الحروف في العبرية ‏‏﴿בִּמְאֹד מְאֹד﴾ يجعلها "بِــــــــمُأَدْمُأّد"؛ حيث تتابع حروف "مِم ثم إلف ثم دلِت" مرتين ويسبقها حرف بيت.

وحساب الجُمَّل لها= ب+ م+ أ+ د+ م+ أ+ د= 2+ 40+ 1+ 4+ 40+ 1 + 4= 92

وهو ذاته حساب الجُمّل لاسم محمد= م+ ح+ م+ د= 40+ 8+ 40+ 4= 92

‏‏وما أخبر به أحبار اليهود الذين أسلموا أن أسلافهم كانوا إذا غيروا اسمًا وضعوا محله ما يوافق حسابه تمامًا بحساب الجُمّل. ومن ثم فالأصح هو أنه يكثره "بمحمد". ولا أعلم كيف دخل حرف بيت בִּ "الباء" على جدًا؟!

ويمكن أن نجد بشكل غير مباشر أثرًا لهذه الدعوة  في تعليق بطرس على نبوءة موسى عليه السلام بنبي عظيم وتذكير بعهد الله مع نسل إبراهيم.

نبوءة موسى

فسر المسيحيون نبوءة موسى بمحمد على أنها نبوءة بنبي عظيم مثل موسى،  ولكنهم تجاهلوا أن النبوءة تخص إخوتهم، وأنها تقول إنه أمي لا يقرأ فكلام الله في فيه وليس منزلًا إليه في صحف وألواح، ويكون صاحب شريعة ووصايا تتاح له الفرصة والوقت الكافيان لإبلاغ الناس بها، ومنهم بني إسرائيل، فمحمد عليه الصلاة والسلام لم يكن نبيًا إلى العرب وحدهم.

ونلاحظ أن النص التوراتي في سفر التثنية قد حّرف ووضع مقدمة للنبوءة في الآية الخامسة عشر أضاف فيها كلمة "من وسطك" قبل "من إخوتك"، بينما النبوءة ذاتها التي نقل فيها موسى عليه السلام كلام الرب إلى بني إسرائيل تبدأ في الآية السابعة عشرة وجاء فيها "من وسط إخوتهم".

‏‏﴿15«يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ. 16حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ الاجْتِمَاعِ قَائِلاً: لاَ أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلاَ أَرَى هذِهِ النَّارَ الْعَظِيمَةَ أَيْضًا لِئَلاَّ أَمُوتَ. 17قَالَ لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا. 18أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. 19وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ.﴾ [تثنية: 18- 15: 19].

وقد ظن بطرس أحد المبشرين الأوائل بالمسيحية أن النبوءة تحققت في المسيح عليه السلام، ويظهر من كلامه أنها نبوءة متكررة على لسان الأنبياء من بعد موسى، من صمويل أول أنبيائهم بعد موسى فما بعده، ويذكر في سياق كلامه ارتباطها بالعهد لنسل إبراهيم متجاهلًا كعادتهم أن بني إسرائيل ليسوا وحدهم نسل إبراهيم.

‏‏﴿20وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. 21الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ. 22فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ. 23وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَسْمَعُ لِذلِكَ النَّبِيِّ تُبَادُ مِنَ الشَّعْبِ. 24وَجَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَيْضًا مِنْ صَمُوئِيلَ فَمَا بَعْدَهُ، جَمِيعُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا، سَبَقُوا وَأَنْبَأُوا بِهذِهِ الأَيَّامِ. 25أَنْتُمْ أَبْنَاءُ الأَنْبِيَاءِ، وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. 26إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، إِذْ أَقَامَ اللهُ فَتَاهُ يَسُوعَ، أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ».﴾ [أعمال الرسل: 3- 20: 26].

وهي ذاتها النبوءة التي أعادها استفانوس في إحدى عظاته التبشيرية بالمسيحية.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏﴿37«هذَا هُوَ مُوسَى الَّذِي قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ.﴾‏ [أعمال الرسل: 7- 37].

وسبق أن مر بنا مثال أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو لوطًا أخاه وهو ابن أخيه، ومثله أمثلة كثيرة سنجدها في علاقات قرابة ملوك بني إسرائيل كما يظهر من أسفار الملوك وأخبار الأيام، فعندهم يُسمى العمومة وبنو العمومة إخوة. كما أن عناصر التشابه بين موسى ومحمد عليهما السلام كثيرة، فقد طالت أيامهما في قومهما وكان لهما أتباع وجيش، من ثم كانا نبيين ملكين وإن لم يضعا التاج على رأسيهما، بينما المسيح عليه السلام قد أتى الدنيا ليكون آية؛ فمولده آية ومعجزاته آيات ورفعه إلى السماء آية، والواقع يشهد أنه لم يقد بني إسرائيل ولم يصبح ملكًا عليهم رغم كل ما خلطه المسيحيون في كتبهم أرادوا أن يوهموا به أنه كان ملك إسرائيل.

ومن بعض آيات إنجيل يوحنا يتضح بجلاء أن بني إسرائيل كانت عندهم نبوءات بالمسيح ابن مريم ولكنهم أنكروه إذ لم تعجبهم وداعته رغم المعجزات التي أتى بها، وكانوا في انتظار المسيح الآخر الذي لا يعلمون من أين هو، ومن نصوص أخرى يظهر أن من كانوا بانتظاره النبي الملك القوي (المسيح) الذي يأتي بعده.

‏‏﴿25فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ:«أَلَيْسَ هذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟ 26وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَارًا وَلاَ يَقُولُونَ لَهُ شَيْئًا! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِينًا أَنَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ حَقًّا؟ 27وَلكِنَّ هذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ».

‏‏﴿28فَنَادَى يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ قِائِلاً: «تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا، وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. 29أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي».30فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَدًا عَلَيْهِ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ. 31فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ، وَقَالُوا:«أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مَتَى جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ هذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هذَا؟».﴾ [يوحنا: 7- 25: 31].

والإثبات من القرآن أن محمدًا في العرب نظير موسى في بني إسرائيل، قوله تعالى: ‏‏﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)﴾ [المزمل: 15].

وهو نبي من إخوتهم وعلى بني إسرائيل أن يسمعوا له ويطيعوا، فهو لهم أيضًا وليس للعرب وحسب. وهذه النبوءة لا تصدق على أي نبي في بني إسرائيل بدءًا من صموئيل أو أنبيائهم بعد موسى وصولًا إلى المسيح ابن مريم.

ترنيمة داود

ذكرنا أن أصل عقيدة الإقعاد الفاسدة آية في أحد مزامير داود، وهي الترنيمة التي يعتقد المسيحيون أن المقصود بها المسيح، ويعتقد المسلمون أن المقصود بها نبينا محمد.

‏‏‏‏﴿1قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ».﴾‏ [مزمور110- 1].

وبعيدًا عن أن هذا الاعتقاد تجسيم محض لله بجعل بشرًا أيًا كان من هو يجلس إلى يمين الله على عرشه، والمعنى مجازي ولا شك، فالحديث عن ربّي (=ربّاني Rabbi) مظفر على أعدائه، وهذا الوصف لا ينطبق على المسيح عليه السلام، إذ لم تكن له قوة على أعدائه، ولولا أن الله تعالى كان معه فاستخلصه واستنقذه منهم لقتلوه.

وما ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يرد فيه سوى أنه دعوة إبراهيم وبشارة عيسى، ومن ثم فربما كانت هذه الترنيمة المنسوبة لداود عليه السلام من تحريفاتهم كونهم كانوا في انتظار ملك مظفر على أعدائه.

وتوجد ترنيمة أخرى في المزامير يتكرر فيها الحمد كثيرًا، وتذكر الحجر الذي رفضه البناؤون ثم صار رأس الزاوية، وليس له تفسير سوى نبينا الذي اختاره الله من الأمة المحتقرة وهي العرب -وهي النبوءة التي سيكررها السيد المسيح في نبوءة الكرّامين ويُفصِّل فيها- وتشير الترنيمة إلى أن هذا يكون عجيبًا في أعين الناس، وتبارك الترنيمة الآتي باسم الرب الذي تبارك من بيت الرب، ثم تذكر الذبيحة المقدمة للرب.

‏‏﴿19اِفْتَحُوا لِي أَبْوَابَ الْبِرِّ. أَدْخُلْ فِيهَا وَأَحْمَدِ الرَّبَّ. 20هذَا الْبَابُ لِلرَّبِّ. الصِّدِّيقُونَ يَدْخُلُونَ فِيهِ. 21أَحْمَدُكَ لأَنَّكَ اسْتَجَبْتَ لِي وَصِرْتَ لِي خَلاَصًا. 22الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. 23مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا.

24هذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعُهُ الرَّبُّ، نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ. 25آهِ يَا رَبُّ خَلِّصْ! آهِ يَا رَبُّ أَنْقِذْ! 26مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ. بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ. 27الرَّبُّ هُوَ اللهُ وَقَدْ أَنَارَ لَنَا. أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ. 28إِلهِي أَنْتَ فَأَحْمَدُكَ، إِلهِي فَأَرْفَعُكَ. 29احْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ.﴾ [مزمور118- 19: 29].

إضافة لذلك توجد ترانيم في بعض المزامير تمثل نبوءات غير تامة الوضوح بنبينا، وإن كان المؤكد أنها لا تصدق على المسيح عليه السلام، كاَلْمَزْمُورُ الْخَامِسُ والأَرْبَعُينَ، لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. عَلَى «السُّوسَنِّ». لِبَنِي قُورَحَ. وهي تَرْنِيمَةُ مَحَبَّةٍ. والحديث فيها عن رجل جميل الصورة، وهو مسيح لله "نبي ملك" مميز عن باقي المُسحاء فقد سًر به الله أعظم سرور، ويأتيه الوحي شفاهة فينطلق به لسانه، وهو محارب يتبدل حال قومه به، وتدين له الشعوب وتحمده إلى الأبد، والوصف الأخير يتفق تمامًا مع اسم نبينا.

‏‏﴿1فَاضَ قَلْبِي بِكَلاَمٍ صَالِحٍ. مُتَكَلِّمٌ أَنَا بِإِنْشَائِي لِلْمَلِكِ. لِسَانِي قَلَمُ كَاتِبٍ مَاهِرٍ.

2أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ. 3تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخْذِكَ أَيُّهَا الْجَبَّارُ، جَلاَلَكَ وَبَهَاءَكَ. 4وَبِجَلاَلِكَ اقْتَحِمِ. ارْكَبْ. مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالْبِرِّ، فَتُرِيَكَ يَمِينُكَ مَخَاوِفَ. 5نَبْلُكَ الْمَسْنُونَةُ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ الْمَلِكِ. شُعُوبٌ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ.

6كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. 7أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلهُكَ بِدُهْنِ الابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ. 8كُلُّ ثِيَابِكَ مُرٌّ وَعُودٌ وَسَلِيخَةٌ. مِنْ قُصُورِ الْعَاجِ سَرَّتْكَ الأَوْتَارُ. 9بَنَاتُ مُلُوكٍ بَيْنَ حَظِيَّاتِكَ. جُعِلَتِ الْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ بِذَهَبِ أُوفِيرٍ.

10اِسْمَعِي يَا بِنْتُ وَانْظُرِي، وَأَمِيلِي أُذُنَكِ، وَانْسَيْ شَعْبَكِ وَبَيْتَ أَبِيكِ، 11فَيَشْتَهِيَ الْمَلِكُ حُسْنَكِ، لأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُكِ فَاسْجُدِي لَهُ. 12وَبِنْتُ صُورٍ أَغْنَى الشُّعُوبِ تَتَرَضَّى وَجْهَكِ بِهَدِيَّةٍ.

13كُلُّهَا مَجْدٌ ابْنَةُ الْمَلِكِ فِي خِدْرِهَا. مَنْسُوجَةٌ بِذَهَبٍ مَلاَبِسُهَا. 14بِمَلاَبِسَ مُطَرَّزَةٍ تُحْضَرُ إِلَى الْمَلِكِ. في إِثْرِهَا عَذَارَى صَاحِبَاتُهَا. مُقَدَّمَاتٌ إِلَيْكَ. 15يُحْضَرْنَ بِفَرَحٍ وَابْتِهَاجٍ. يَدْخُلْنَ إِلَى قَصْرِ الْمَلِكِ. 16عِوَضًا عَنْ آبَائِكَ يَكُونُ بَنُوكَ، تُقِيمُهُمْ رُؤَسَاءَ فِي كُلِّ الأَرْضِ. 17أَذْكُرُ اسْمَكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ تَحْمَدُكَ الشُّعُوبُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ.﴾ [مزمور 45].

رؤيا نبوخذ نصر وتأويل دانيال

يستفتح سفر النبي دانيال بذكر غزو نبوخذ نصر ملك بابل للقدس، وأسره جماعة من اليهود أخذهم معه إلى بابل، وكان فيهم النبي دانيال، ثم إن نبوخذ نصر قد رأى رؤيا عظيمة أزعجته وعجز حكماؤه عن تأويلها، فأولها له النبي دانيال.

والرؤيا تتحدث عن أربع ممالك أرضية تتعاقب، ثم يأتي حجر مقطوع بغير يدين تعبيرًا عن مملكة سماوية يقيمها الله تسحق كل الممالك وهي تثبت إلى قيام الساعة، ولم تأتِ مملكة سماوية قوية سحقت ممالك الأرض منذ زمن دانيال عليه السلام سوى أمة الإسلام. وأعتقد أن قوله إن المملكة منقسمة تحريف بسيط غير مقصود من الكتبة والأصح أن الأرض تكون منقسمة قبل قيام هذه المملكة الأرضية، وهو ما كان من انقسام بين الفرس والروم قبل قيام الإسلام.

‏‏﴿31«أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنْتَ تَنْظُرُ وَإِذَا بِتِمْثَال عَظِيمٍ. هذَا التِّمْثَالُ الْعَظِيمُ الْبَهِيُّ جِدًّا وَقَفَ قُبَالَتَكَ، وَمَنْظَرُهُ هَائِلٌ. 32رَأْسُ هذَا التِّمْثَالِ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ. صَدْرُهُ وَذِرَاعَاهُ مِنْ فِضَّةٍ. بَطْنُهُ وَفَخْذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ. 33سَاقَاهُ مِنْ حَدِيدٍ. قَدَمَاهُ بَعْضُهُمَا مِنْ حَدِيدٍ وَالْبَعْضُ مِنْ خَزَفٍ. 34كُنْتَ تَنْظُرُ إِلَى أَنْ قُطِعَ حَجَرٌ بِغَيْرِ يَدَيْنِ، فَضَرَبَ التِّمْثَالَ عَلَى قَدَمَيْهِ اللَّتَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ وَخَزَفٍ فَسَحَقَهُمَا. 35فَانْسَحَقَ حِينَئِذٍ الْحَدِيدُ وَالْخَزَفُ وَالنُّحَاسُ وَالْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ مَعًا، وَصَارَتْ كَعُصَافَةِ الْبَيْدَرِ فِي الصَّيْفِ، فَحَمَلَتْهَا الرِّيحُ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَكَانٌ. أَمَّا الْحَجَرُ الَّذِي ضَرَبَ التِّمْثَالَ فَصَارَ جَبَلاً كَبِيرًا وَمَلأَ الأَرْضَ كُلَّهَا. 36هذَا هُوَ الْحُلْمُ. فَنُخْبِرُ بِتَعْبِيرِهِ قُدَّامَ الْمَلِكِ.

37«أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَلِكُ مُلُوكٍ، لأَنَّ إِلهَ السَّمَاوَاتِ أَعْطَاكَ مَمْلَكَةً وَاقْتِدَارًا وَسُلْطَانًا وَفَخْرًا. 38وَحَيْثُمَا يَسْكُنُ بَنُو الْبَشَرِ وَوُحُوشُ الْبَرِّ وَطُيُورُ السَّمَاءِ دَفَعَهَا لِيَدِكَ وَسَلَّطَكَ عَلَيْهَا جَمِيعِهَا. فَأَنْتَ هذَا الرَّأْسُ مِنْ ذَهَبٍ. 39وَبَعْدَكَ تَقُومُ مَمْلَكَةٌ أُخْرَى أَصْغَرُ مِنْكَ وَمَمْلَكَةٌ ثَالِثَةٌ أُخْرَى مِنْ نُحَاسٍ فَتَتَسَلَّطُ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ. 40وَتَكُونُ مَمْلَكَةٌ رَابِعَةٌ صَلْبَةٌ كَالْحَدِيدِ، لأَنَّ الْحَدِيدَ يَدُقُّ وَيَسْحَقُ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَالْحَدِيدِ الَّذِي يُكَسِّرُ تَسْحَقُ وَتُكَسِّرُ كُلَّ هؤُلاَءِ. 41وَبِمَا رَأَيْتَ الْقَدَمَيْنِ وَالأَصَابِعَ بَعْضُهَا مِنْ خَزَفٍ وَالْبَعْضُ مِنْ حَدِيدٍ، فَالْمَمْلَكَةُ تَكُونُ مُنْقَسِمَةً، وَيَكُونُ فِيهَا قُوَّةُ الْحَدِيدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّكَ رَأَيْتَ الْحَدِيدَ مُخْتَلِطًا بِخَزَفِ الطِّينِ. 42وَأَصَابِعُ الْقَدَمَيْنِ بَعْضُهَا مِنْ حَدِيدٍ وَالْبَعْضُ مِنْ خَزَفٍ، فَبَعْضُ الْمَمْلَكَةِ يَكُونُ قَوِيًّا وَالْبَعْضُ قَصِمًا. 43وَبِمَا رَأَيْتَ الْحَدِيدَ مُخْتَلِطًا بِخَزَفِ الطِّينِ، فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِطُونَ بِنَسْلِ النَّاسِ، وَلكِنْ لاَ يَتَلاَصَقُ هذَا بِذَاكَ، كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ لاَ يَخْتَلِطُ بِالْخَزَفِ. 44وَفِي أَيَّامِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ، يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا، وَمَلِكُهَا لاَ يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ، وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. 45لأَنَّكَ رَأَيْتَ أَنَّهُ قَدْ قُطِعَ حَجَرٌ مِنْ جَبَل لاَ بِيَدَيْنِ، فَسَحَقَ الْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ وَالْخَزَفَ وَالْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ. اَللهُ الْعَظِيمُ قَدْ عَرَّفَ الْمَلِكَ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ هذَا. اَلْحُلْمُ حَقٌّ وَتَعْبِيرُهُ يَقِينٌ».﴾ [دانيال: 2- 31: 45].

وسبق أن ذكرنا في المباحث عن يحيى/يوحنا والمسيح ابن مريم عليهما السلام أن نصوص الأناجيل على لسانهما كانت تبشر باقتراب ملكوت السماوات، وأقرب تفسير لهذا الملكوت أنه المملكة السماوية التي فسرها دانيال عليه السلام أنها تأتي لتطيح بممالك الأرض الكافرة القوية حولها. وأما الحجر فقد ذكره السيد المسيح في نبوءة الكرامين.

نبوءة الكرّامين (حجر رأس الزاوية)

تنبأ السيد المسيح في النبوءة الشهيرة بنبوءة الكرَّامين أن النبي القادم لن يكون من بني إسرائيل لأنهم تسافهوا كثيرًا في حق الأنبياء حتى قتلوا بعضهم، وأنه هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وأن هذه الأمة التي ستُعطي الإثمار لن تكون أمة معتبرة بين الأمم، بل هي كالحجر الذي لم يرض البناؤون استخدامه ورفضوه ولكنه بعد ذلك صار رأس الزاوية وعمود البناء، وهي إشارة إلى العرب فقد كانوا أمة محتقرة بين الأمم لعدم اعتنائهم بالعلم، ويكمل السيد المسيح بأن هذا الحجر قوي قادر على سحق أعدائه إن حاربهم، ومن سعى في حربهم يترضض وينكسر. وهي إشارة إلى قوة وبأس محمد عليه الصلاة والسلام ومن معه. ولعل التحريف الوحيد الذي طال هذه النبوءة أنهم أشاروا للمسيح بابن صاحب الكرم.

‏‏﴿33«اِسْمَعُوا مَثَلاً آخَرَ: كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْمًا، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً، وَبَنَى بُرْجًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. 34وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الأَثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ. 35فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا وَرَجَمُوا بَعْضًا. 36ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِينَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذلِكَ. 37فَأَخِيرًا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ابْنِي! 38وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! 39فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. 40فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ، مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟» 41قَالُوا لَهُ:«أُولئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاَكًا رَدِيًّا، وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا». 42قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا! 43لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. 44وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ!».

45وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ، عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. 46وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ، خَافُوا مِنَ الْجُمُوعِ، لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ.﴾ [متى: 21- 33: 46].

ومن النصوص على لسان المسيح عليه السلام التي يمكن أن نستخلص منها أن بناء النبوات واحد وبانتظار الاكتمال، ويعلن المسيح أنه هو ذاته حجر في هذا البناء، فدين الأنبياء واحد.

‏‏﴿17«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ.﴾ [متى: 5- 17: 18].

وفي القرآن الكريم آية تؤكد أن عيسى عليه السلام لم يأتِ لينقض ناموس موسى بل ليصدق به، ويبشر بنبينا الذي يأتي بعده، وأنه لما أتى بني إسرائيل بالبينات كذبوه وادعوا عليه أنه ساحر.

‏‏﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا ‏لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا ‏جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)‏﴾ [الصف: 6].

ولكن لا يعني هذا أن المسيح هو الحجر الناقص من الزاوية؛ فبالعودة إلى نبوءة الكرّامين على لسان السيد المسيح نتأكد أن هذا الحجر الذي رُفض ثم صار رأس الزاوية يأتي من أمة غير بني إسرائيل وهو ساحق لأعدائه، فليس السيد المسيح المقصود به، ولو كان هو المقصود لأزال اليهود هذه الترنيمة من المزامير أو حرّفوا فيها مثلما أزالوا أغلب النبوءات به، ولكنها نبوءة عن النبي الملك القوي قاهر أعدائه الذي كانوا في انتظاره، وهذا سبب تركهم لها وعدم إزالتها رغم تكرار ذكرها على لسان المسيح.

ولرسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام حديث عن اللبنة من الزاوية أو الحجر الخاتم في بناء النبوات الذي يتعجب الناس له، رواه البخاري (3535) ومسلم (2286).

حديث البخاري (3535) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلّا وُضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين".

الكامل (الخاتم)

في رسالة بولس –وهو أحد المبشرين بالمسيحية- إلى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ نص يشير إلى توقف النبوات وعلم أهل الكتاب إلا أن يأتي من تسميه النسخة العربية من العهد الجديد بالكامل.

‏‏‏‏﴿وَأَمَّا النُّبُوَّاتُ فَسَتُبْطَلُ، وَالأَلْسِنَةُ فَسَتَنْتَهِي، وَالْعِلْمُ فَسَيُبْطَلُ. 9لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ الْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ التَّنَبُّؤِ. 10وَلكِنْ مَتَى جَاءَ الْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ.﴾‏ [كورنثوس1: 13- 8: 10].

ويعلق إنجيل Disciples’ Literal New Testament (DLNT) بأنه "هذا هو الذي على النقيض من "جزء". أو، كامل، وناضج، وقد بلغ نهايته (غايته) أو غرضه".

That is, in contrast to ‘in part’. Or, perfect, mature, having attained its end or purpose.”

‏‏والنص من إنجيل Amplified Bible, Classic Edition (AMPC) يصفه بالمُكمِّل والكامل، والمُكمِّل هو "الخاتم"!

(10 But when the complete and perfect (total) comes, the incomplete and imperfect will vanish away (become antiquated, void, and superseded)).

ولأن من قال هذا أحد المبشرين بالمسيحية فيستحيل أن يكون المقصود هو المسيح عليه السلام. فالنبوءة هنا بمن يتمم الدين، باللبنة، بخاتم الأنبياء.

‏‏‏‏﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ ‏دِينًا﴾‏ [المائدة: 3].

المُعزي Parakletos‏ (‏Paraclet‏)‏

هناك نبوءة شهيرة بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام جاءت على لسان المسيح عليه السلام، تفرد بها إنجيل يوحنا في أربعة إصحاحات متتالية، إذ ذكر السيد المسيح المعزي في وصاياه وحديثه الأخير مع حوارييه بعد العشاء الأخير (المائدة). ويستحيل أن يكون المقصود غير نبينا؛ كونها على لسان المسيح.

‏‏‏‏﴿15«إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ، 16وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، 17رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ. 18لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ. 19بَعْدَ قَلِيل لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ. 20فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ. 21اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي».

22قَالَ لَهُ يَهُوذَا لَيْسَ الإِسْخَرْيُوطِيَّ:«يَا سَيِّدُ، مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ؟» 23أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً. 24اَلَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كَلاَمِي. وَالْكَلاَمُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. 25بِهذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ. 26وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.﴾‏ [يوحنا: 14- 15: 26].

﴿26«وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. 27وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ.﴾‏ [يوحنا: 15- 26: 27].

‏‏‏‏﴿5«وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي: أَيْنَ تَمْضِي؟ 6لكِنْ لأَنِّي قُلْتُ لَكُمْ هذَا قَدْ مَلأَ الْحُزْنُ قُلُوبَكُمْ. 7لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. 8وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ: 9أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. 10وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا. 11وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ.

12«إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. 13وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. 14ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. 15كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. 16بَعْدَ قَلِيل لاَ تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيل أَيْضًا تَرَوْنَنِي، لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ».﴾‏ [يوحنا: 16- 5: 16].

ويمكن القول إن بشارة السيد المسيح بمن يصفونه بالمعزي، قد حُذفت من ثلاثة من الأناجيل القانونية المعتمدة، بينما بقيت في الإنجيل الرابع –إنجيل يوحنا-، لكن مع إعطاء تحريف للمعنى الحقيقي المقصود يجعله لا يتضح مطلقًا للقارئ ولا يفهم تلك البشارة. ويعتقد المسمون أن المقصود نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

وبمراجعة النصوص نجد السيد المسيح يتحدث عن المرشد الذي سيأتي بعد أن يفارق ليتولى إرشاد الإنسانية، ولأن إنجيل يوحنا كُتب باليونانية، وهي لغة لم يكن يتكلمها السيد المسيح فإن لفظة Parakletos‏ التي أصبحت في الفرنسية ‏Paraclet‏ ويترجمونها في العربية المُعزي هي لفظة مترجمة وليست الكلمة التي نطقها السيد المسيح.

والنص يسقط هذه الكلمة على الروح القُدس فكأنها هي التي ستأتي بعد المسيح، إذ سيرسل الله هذا الباراقليط، فكيف يكون Paraclet‏ ‏هو الروح القدس، وقد أرسله الله لأمه لتحمل به ثم أيده الله به وكان معه أثناء تبليغ رسالته؟! فالمسيح كان مؤيدًا بالروح القدس فكان معه، وحديث المسيح عليه السلام يُفهم منه بوضوح أن الباراقليط سيأتي بعد أن يذهب هو.

ويدعي سفر أعمال الرسل أن الروح القدس نزل على تلاميذ المسيح في اليوم الخمسين بعد رفعه إلى السماء ليعزي تلاميذه عن غيابه عنهم.

‏‏﴿1وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، 2وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، 3وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. 4وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا.﴾ [أعمال الرسل: 2- 1: 4].

ولم يلتفت د.موريس بوكاي في كتابه "القرآن والتوراة والإنجيل والعلم" كثيرًا للحديث عن الاسم بقدر ما دقق في صفاته، والتي تشير إلى بشر ذي حواس يسمع ويتكلم، وهي ميزات توجد للبشر لأجل التواصل اللغوي، فمرة أخرى كيف يكون هو الروح القُدس؟

ومن صفات الباراقليط التي ذكرتها نصوص وصية المسيح وتؤكد بشريته أنه يشهد للمسيح عليه السلام، وقد شهد نبينا للمسيح كثيرًا وشهد له كتابنا ببراءته من أنه ادعى لنفسه الألوهية أو البنوة لله وإشراك نفسه مع الله في العبادة، وبرأ أمه سيدة نساء العالمين، بينما لا يمكن أن تكون للروح القدس هذه الصفة ولا القدرة.

وأما ما أخبر به المسيح من أن الباراقليط يمكث إلى الأبد فمعناه أن هذه الشريعة الأخيرة تكون الأخيرة التي لن تُنسخ إلى قيام الساعة.

فمن ثم لا يصح مطلقًا أن يكون القصد هو الروح القدس، خاصة والنصوص في إنجيل يوحنا تسميه روح الحق ثلاث مرات وجاءت تسمية روح القدس مرة واحدة.

وينقل د. موريس بوكاي عن ‏"المعجم الصغير للعهد الجديد للأب تريكو ‏A. Tricot‏ : ‏"هذا الاسم أو هذه الصفة المنقولة من اليونانية إلى الفرنسية غير مستخدم في العهد الجديد إلا في إنجيل يوحنا: ‏فهو يذكر الكلمة أربع مرات عند سرده لخطاب المسيح بعد العشاء الأخير* (14، 16 و 26؛ 15، 26؛ 16، 7) ‏ومرة واحدة في رسالته الأولى (2، 1). إن الكلمة في إنجيل يوحنا تنطبق على الروح القدس، أما في الرسالة فهي ‏تنطبق على المسيح. لقد كانت كلمة ‏Paraclet‏ سائدة لدى اليهود الهللنستيين في القرن الأول بمعنى الوسيط، ‏والمدافع (.....). فالمسيح يعلن أن الروح سيرسل بالأب والابن في دوره الإنقاذي الذي يؤديه في أثناء حياته ‏الفانية على الأرض، وذلك لصالح تلاميذه. إن الروح يتدخل ويعمل كبديل للمسيح باعتباره ‏Paraclet‏ أو وسيط ‏قادر على كل شيء".‏

ومن ثم وكما أشار الأب تريكو فقد استخدم يوحنا في رسالته هذه الكلمة ذاتها Paraclet‏ ليشير إلى المسيح عليه السلام، فكيف يستخدمها في إنجيله للإشارة إلى الروح القُدس؟

وعن نفسي أعتقد أن قيامة المسيح مرة ثانية، وادعاء أنه سيرسل لهم الروح القدس وسيلتان استخدمتهما الكنيسة للتغطية على النبوءة بنبي يأتي بعده. ومع ذلك فقد حُرف النص بعده إجمالًا بحيث يستعصي فهم البشارة بنبي يأتي بعد المسيح، ويكون خاتم الأنبياء، الذي تبقى رسالته أبد الدهر وإلى قيام الساعة، بل تجعل القارئ يفهم أن هذا المعزي الآخر الذي سيبعثه الله بعد المسيح هو روح القُدس!

ولنتذكر أن اليونان يضيفون "س" كلاحقة في نهاية أسماء الأعلام الذكور، ومن ثم فكلمة Parakletos على الأغلب هي اسم ذكر، وأصلها دون السين "باراقليط/باركليت". ويذكر الأنبا إثناسيوس في "تفسير يوحنا" (ص117) تعليقًا على إنباء السيد المسيح تلاميذه بمجيء الباراقليط "باعتبار أن لفظ باراقليط إذا حُرِّف نطقه قليلًا يصير بيريكليت ومعناه الحمد أو الشكر وهو قريب من لفظ "أحمد"".

وإنجيل يوحنا كما هو معلوم كُتب نصه الأصلي باليونانية، بينما المسيح عليه السلام كان يتحدث العبرية والأرامية، ومن ثم فاسم "باركليت/باركليتوس" باليونانية هو ترجمة لما نطقه المسيح بلسانه، والذي تمت ترجمته بعد ذلك إلى العربية ترجمة غير دقيقة إلى "المُعزي"، والذي من الواضح أنه في الأساس محرّف، فالمسيح بشّر بأحمد، والذي ترجمته إلى اليونانية "بيريكليت/بيريكليتوس"، وما كان ينبغي أن يُترجم الاسم على أي حال.

وباستخدام الترجمة الالكترونية وجدت أن كلمة Περικλήτ اليونانية تُنطق “periklit’ ومعناها مغلق، فهل هي إشارة لختم النبوة؟

وقد حاول بعض المستشرقين الغربيين الذين كثيرًا ما يأتون بالعجائب لقصور معرفتهم بلغات وثقافات الشرق وعدم قراءة كتبهم أن يدعوا أن نبينا قد غيّر اسمه إلى محمد ليتوافق مع اللفظ الذي بشّر به المسيح! وهو كلام تافه لا يستحق التفصيل في سرده أو محاولة الرد عليه.

وفي نص آخر من سفر إشعياء جاء ذكر المعزي، والنص به قدر من التحريف يجعل فهم البشارة مستحيلة، ويمكن أن نتبين في الآية الرابعة (شريعة من عندي تخرج)، وفي الآية الثانية عشرة (أنا أنا هو مُعزيكم).

‏‏﴿1«اِسْمَعُوا لِي أَيُّهَا التَّابِعُونَ الْبِرَّ الطَّالِبُونَ الرَّبَّ: انْظُرُوا إِلَى الصَّخْرِ الَّذِي مِنْهُ قُطِعْتُمْ، وَإِلَى نُقْرَةِ الْجُبِّ الَّتِي مِنْهَا حُفِرْتُمُ. 2انْظُرُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَبِيكُمْ، وَإِلَى سَارَةَ الَّتِي وَلَدَتْكُمْ. لأَنِّي دَعَوْتُهُ وَهُوَ وَاحِدٌ وَبَارَكْتُهُ وَأَكْثَرْتُهُ. 3فَإِنَّ الرَّبَّ قَدْ عَزَّى صِهْيَوْنَ. عَزَّى كُلَّ خِرَبِهَا، وَيَجْعَلُ بَرِّيَّتَهَا كَعَدْنٍ، وَبَادِيَتَهَا كَجَنَّةِ الرَّبِّ. الْفَرَحُ وَالابْتِهَاجُ يُوجَدَانِ فِيهَا. الْحَمْدُ وَصَوْتُ التَّرَنُّمِ.

4«اُنْصُتُوا إِلَيَّ يَا شَعْبِي، وَيَا أُمَّتِي اصْغِي إِلَيَّ: لأَنَّ شَرِيعَةً مِنْ عِنْدِي تَخْرُجُ، وَحَقِّي أُثَبِّتُهُ نُورًا لِلشُّعُوبِ. 5قَرِيبٌ بِرِّي. قَدْ بَرَزَ خَلاَصِي، وَذِرَاعَايَ يَقْضِيَانِ لِلشُّعُوبِ. إِيَّايَ تَرْجُو الْجَزَائِرُ وَتَنْتَظِرُ ذِرَاعِي.

6«اِرْفَعُوا إِلَى السَّمَاوَاتِ عُيُونَكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ. فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ كَالدُّخَانِ تَضْمَحِلُّ، وَالأَرْضَ كَالثَّوْبِ تَبْلَى، وَسُكَّانَهَا كَالْبَعُوضِ يَمُوتُونَ. أَمَّا خَلاَصِي فَإِلَى الأَبَدِ يَكُونُ وَبِرِّي لاَ يُنْقَضُ. 7اِسْمَعُوا لِي يَا عَارِفِي الْبِرِّ، الشَّعْبَ الَّذِي شَرِيعَتِي فِي قَلْبِهِ: لاَ تَخَافُوا مِنْ تَعْيِيرِ النَّاسِ، وَمِنْ شَتَائِمِهِمْ لاَ تَرْتَاعُوا، 8لأَنَّهُ كَالثَّوْبِ يَأْكُلُهُمُ الْعُثُّ، وَكَالصُّوفِ يَأْكُلُهُمُ السُّوسُ. أَمَّا بِرِّي فَإِلَى الأَبَدِ يَكُونُ، وَخَلاَصِي إِلَى دَوْرِ الأَدْوَارِ».

9اِسْتَيْقِظِي، اسْتَيْقِظِي! الْبَسِي قُوَّةً يَا ذِرَاعَ الرَّبِّ! اسْتَيْقِظِي كَمَا فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ، كَمَا فِي الأَدْوَارِ الْقَدِيمَةِ. أَلَسْتِ أَنْتِ الْقَاطِعَةَ رَهَبَ، الطَّاعِنَةَ التِّنِّينَ؟ 10أَلَسْتِ أَنْتِ هِيَ الْمُنَشِّفَةَ الْبَحْرَ، مِيَاهَ الْغَمْرِ الْعَظِيمِ، الْجَاعِلَةَ أَعْمَاقَ الْبَحْرِ طَرِيقًا لِعُبُورِ الْمَفْدِيِّينَ؟ 11وَمَفْدِيُّو الرَّبِّ يَرْجِعُونَ وَيَأْتُونَ إِلَى صِهْيَوْنَ بِالتَّرَنُّمِ، وَعَلَى رُؤُوسِهِمْ فَرَحٌ أَبَدِيٌّ. ابْتِهَاجٌ وَفَرَحٌ يُدْرِكَانِهِمْ. يَهْرُبُ الْحُزْنُ وَالتَّنَهُّدُ. 12«أَنَا أَنَا هُوَ مُعَزِّيكُمْ. مَنْ أَنْتِ حَتَّى تَخَافِي مِنْ إِنْسَانٍ يَمُوتُ، وَمِنِ ابْنِ الإِنْسَانِ الَّذِي يُجْعَلُ كَالْعُشْبِ؟ 13وَتَنْسَى الرَّبَّ صَانِعَكَ، بَاسِطَ السَّمَاوَاتِ وَمُؤَسِّسَ الأَرْضِ، وَتَفْزَعُ دَائِمًا كُلَّ يَوْمٍ مِنْ غَضَبِ الْمُضَايِقِ عِنْدَمَا هَيَّأَ لِلإِهْلاَكِ. وَأَيْنَ غَضَبُ الْمُضَايِقِ؟ 14سَرِيعًا يُطْلَقُ الْمُنْحَنِي، وَلاَ يَمُوتُ فِي الْجُبِّ وَلاَ يُعْدَمُ خُبْزُهُ.﴾ [إشعياء: 51- 1: 14].

راكب الجمل.. وحي من جهة بلاد العرب

أول النبوءات الكتابية بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، التي سمع بها المسلمون  توجد في سفر إشعيا، وفيها بشارة بالمسيح عليه السلام ونبينا محمد، وكذا نبوءة بهجرة نبينا محمد. وإن كنت أعتقد أن هذه النبوءة وغيرها في سفر إشعيا من توراة موسى الأصلية، فمن أولى من موسى بأن يُبشر بالمسيح وبمحمد.

﴿‏6لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: «اذْهَبْ أَقِمِ الْحَارِسَ. لِيُخْبِرْ بِمَا يَرَى». 7فَرَأَى رُكَّابًا أَزْوَاجَ فُرْسَانٍ. رُكَّابَ حَمِيرٍ. رُكَّابَ جِمَال. فَأَصْغَى إِصْغَاءً شَدِيدًا، 8ثُمَّ صَرَخَ كَأَسَدٍ: «أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَنَا قَائِمٌ عَلَى الْمَرْصَدِ دَائِمًا فِي النَّهَارِ، وَأَنَا وَاقِفٌ عَلَى الْمَحْرَسِ كُلَّ اللَّيَالِي. 9وَهُوَذَا رُكَّابٌ مِنَ الرِّجَالِ. أَزْوَاجٌ مِنَ الْفُرْسَانِ». فَأَجَابَ وَقَالَ: «سَقَطَتْ، سَقَطَتْ بَابِلُ، وَجَمِيعُ تَمَاثِيلِ آلِهَتِهَا الْمَنْحُوتَةِ كَسَّرَهَا إِلَى الأَرْضِ». 10يَا دِيَاسَتِي وَبَنِي بَيْدَرِي. مَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِ إِسْرَائِيلَ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ.

11وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ دُومَةَ: صَرَخَ إِلَيَّ صَارِخٌ مِنْ سَعِيرَ: «يَا حَارِسُ، مَا مِنَ اللَّيْلِ؟ يَا حَارِسُ، مَا مِنَ اللَّيْلِ؟» 12قَالَ الْحَارِسُ: «أَتَى صَبَاحٌ وَأَيْضًا لَيْلٌ. إِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ فَاطْلُبُوا. ارْجِعُوا، تَعَالَوْا».

13وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلاَدِ الْعَرَبِ: فِي الْوَعْرِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ تَبِيتِينَ، يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ. 14هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ، يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ. 15فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيُوفِ قَدْ هَرَبُوا. مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَمِنْ أَمَامِ الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ، وَمِنْ أَمَامِ شِدَّةِ الْحَرْبِ. 16فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ لِيَ السَّيِّدُ: «فِي مُدَّةِ سَنَةٍ كَسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ، 17وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِيِّ أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ».﴾‏ [إشعيا: 21- 6: 17].

وتتحدث النبوءة عن ركاب الحمير وركاب الجمال، وتماثيل مكسرة، ودومة (وليس أدوم)، إذ كانت دومة عاصمة مملكة قيدار، ووحي من جهة بلاد العرب، وأرض تيماء في الحجاز، وشخص يلاقوه أهلها لأنه خرج إليهم هاربًا من محاولة قتل. وكذا ذكر قوافل الدادانيين وهم من العرب الذين سكنوا الحجاز، وتحدثوا العربية، ويكتبون بخط المسند.

‏‏﴿19نَظَرَتْ قَوَافِلُ تَيْمَاءَ. سَيَّارَةُ سَبَاءٍ رَجَوْهَا.﴾ [أيوب: 6- 19].

﴿23وَدَدَانَ وَتَيْمَاءَ وَبُوزَ، وَكُلَّ مَقْصُوصِي الشَّعْرِ مُسْتَدِيرًا، 24وَكُلَّ مُلُوكِ الْعَرَبِ، وَكُلَّ مُلُوكِ اللَّفِيفِ السَّاكِنِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ﴾ [إرميا: 25- 23].

ونسبت التوراة أباهم يقشان لإبراهيم عليه السلام، مثلما نسبت مدين.

﴿3وَوَلَدَ يَقْشَانُ: شَبَا وَدَدَانَ. وَكَانَ بَنُو دَدَانَ: أَشُّورِيمَ وَلَطُوشِيمَ وَلأُمِّيمَ.﴾‏ [تكوين: 25- 3].

وفي الترجمة السبعينية يقشان اسمه جيزان وهو اسم مدينة في جنوبي جزيرة العرب بجانب نجران مدينة أصحاب الأخدود، أو تنطق ‏‏(يزان)، وأعتقد أنها هي الواد الذي كان يُعرف المتملك عليه باسم ذي يزن. وولد يقشان هذا ثيمان وشبا (سبا) وددان، ولا يُعلم أين ذهب ثيمان في الآية الثالثة من ‏الترجمة العربية! ‏ولا خلاف في أنهم عرب. وشبا وددان من عرب جنوبي جزيرة العرب، وهاجرت جالية دادانية لشمالي الحجاز، وأقاموا مملكة ددان (دَدَن)، ولهم بقية آثار تدل عليهم.

وسبق وذكرنا أن تيما/تيمن تعني الجنوبي، وهناك مدينة باسم تيماء/تيمن في جنوبي بلاد الشام كانت للأدوميين العرب، كما توجد تيماء أخرى شمال المدينة المنورة، وذكر أبطال تَيمان لم يُمح من التوراة، وذكر أرض تيماء جاء في النبوءة بهجرة نبينا إلى أرض في الحجاز، تلك النبوءة التي جعلتهم يهاجرون إلى يثرب (المدينة المنورة) في انتظاره، فلما علموا أنه عربي جحدوه. ورسولنا من ذرية قيدار والأوس والخزرج سكان المدينة كذلك، والدادانيون والتيميون الذين ذُكروا في النبوءة من بني تيمن (يمن) بن قيدار.

والأهم أنهم كما حرّفوا النص يحرفون ما بقي في النص من إشارة؛ فيدعون أن القصد عودة قوافل ددن إلى المناطق التي كانت تحت نفوذهم إلى أرض تيماء جنوبًا، بسبب الخوف من مملكة قيدار في الشمال. علمًا بأن التيميين والدادانيين كانوا في هذا الزمان جزءًا من تحالف العرب، وهل هذا تفسير الشخص الهارب من محاولة قتل!

ورغم أن النص في سفر إشعياء به تحريفات، مثل أن أصنام آلهة بابل هي التي تتكسر، والحديث عن فناء مجد قيدار، تجعل النبوءة غير واضحة تمامًا بهذا النبي من بلاد العرب من بني قيدار، الذي يهاجر إلى جزء آخر في بلاد العرب، في أرض شمالي الحجاز، وتلاقيه قوافل الدادانيين وكانت لهم دولة شمالي الحجاز، وذلك بعد محاولة قتل يتعرض لها، إلا أن المدقق لن يجد تفسيرًا لهذا الوحي من بلاد العرب سوى البشارة بنبي يُبعث فيهم، ويهاجر في مدينة بالحجاز، وأن الأصنام المكسرة هي أصنام العرب، وعدد قِسي بني قيدار تزيد، ومجد قيدار يبلغ عنان السماء بذلك النبي، ولا يفنى. وإنما هذه تحريفات من كتب الله عليهم الويل.

ورغم أنه جاء فيها ذكر  جبل سعير  مقترنًا كالعادة بأدوم، كجزء من المتاهة التي خلقتها التوراة بين ذرية عيسو المختلق والأدوميين من بني إسماعيل، للتغطية على البشارة بمبعث المسيح، إلا أن الجزء الأول من النص يذكرنا بقول النجاشي ملك الحبشة حين سمع عن نبينا محمد: "راكب الحمار (المسيح) الذي يبشر براكب الجمل (محمد)".

ونص الآية السابعة في الترجمة السبعينية باللغة اليونانية:

7‏﴾‏ καὶ εἶδον ἀναβάτας ἱππεῖς δύο καὶ ἀναβάτην ὄνου καὶ ἀναβάτην καμήλου. ‏﴿‏

والنص العبري لها:

‏﴿‏ז וְרָאָה רֶכֶב, צֶמֶד פָּרָשִׁים--רֶכֶב חֲמוֹר, רֶכֶב גָּמָל; ‏﴾‏

وبالعبرية רֶכֶב חֲמוֹר (تُنطق رِكب حَمور) بمعنى راكب حمار، و רֶכֶב גָּמָל (تُنطق رِكب جَمَال) بمعنى راكب جمل. فليس هناك جمع ولم يُكتب حموريم أو جمليم، كما لم تستخدم ركبيم ليترجموها ركابًا.

وترجمتها الصحيحة: ‏﴿‏ورأيت راكبًا على حصانين وراكب حمار وراكب جمل.﴾

وقد جاءت آية في سفر زكريا، وهو من أواخر أسفار العهد القديم تتنبأ بالمسيح عليه السلام وحده؛ ملك القدس الوديع الذي يدخلها راكبًا حمارًا.

‏‏﴿9اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ.﴾ [زكريا: 9- 9].

والأناجيل تذكر دخول المسيح عليه السلام القدس راكبًا حمارًا.

‏‏‏‏﴿1وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ 2قَائِلاً لَهُمَا:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُّلاَهُمَا وَأْتِيَاني بِهِمَا. 3وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا». 4فَكَانَ هذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: 5«قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ».﴾‏ [متى: 21- 1: 5].

‏‏‏‏﴿28وَلَمَّا قَالَ هذَا تَقَدَّمَ صَاعِدًا إِلَى أُورُشَلِيمَ. 29وَإِذْ قَرُبَ مِنْ بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا، عِنْدَ الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ 30قَائِلاً:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشًا مَرْبُوطًا لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَطُّ. فَحُّلاَهُ وَأْتِيَا بِهِ. 31وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُّلاَنِهِ؟ فَقُولاَ لَهُ هكَذَا: إِنَّ الرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ». 32فَمَضَى الْمُرْسَلاَنِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. 33وَفِيمَا هُمَا يَحُّلاَنِ الْجَحْشَ قَالَ لَهُمَا أَصْحَابُهُ:«لِمَاذَا تَحُّلاَنِ الْجَحْشَ؟» 34فَقَالاَ:«الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ». 35وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ، وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى الْجَحْشِ، وَأَرْكَبَا يَسُوعَ. 36وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. 37وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، ابْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ التَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقُوَّاتِ الَّتِي نَظَرُوا، 38قَائِلِينَ:«مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي!». 39وَأَمَّا بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالُوا لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، انْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ!». 40فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!».﴾‏ [لوقا: 19- 28: 40].

‏‏﴿12وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ، 13فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» 14وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: 15«لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِسًا عَلَى جَحْشٍ أَتَانٍ».﴾ [يوحنا: 12- 12: 15].

ولا خلاف بين مؤرخي المسلمين أن رسولنا محمد خرج من مكة ووصل المدينة دار هجرته على جمل، ودخل مكة يوم فتحها راكبًا ناقته القصواء.‏

تلالأ الرب من جبل فاران

في سفر التثنية توجد نبوءة تعتبر ثاني النبوءات التي عرفها المسلمون وسمعوها من أحبار اليهود الذين أسلموا، ويمكن أن نجدها في كثير من كتب المسلمين القدماء، خاصة كتب التفسير في تفسير سورة التين.

 ﴿1وَهذِهِ هِيَ الْبَرَكَةُ الَّتِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى، رَجُلُ اللهِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ مَوْتِهِ، 2فَقَالَ: «جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ، وَتَلأْلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ، وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ الْقُدْسِ، وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ .﴾‏ [تثنية: 33- 1: 2].

وكما تدرج النص زمنيًا تدرج في وصف هذا النور الآتي من المجيء إلى الاستعلان بعد الشروق، وأما ربوات القدس فالأقرب أنها ألوف القديسين.

ونار الشريعة هي الرسالة، فالآية بشارة بالشرائع الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام. فكلنا على دين الله؛ دين الإسلام. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا ‏وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى ‏إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى ‏وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏‏(84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ ‏الْخَاسِرِينَ (85)﴾ ‏[آل عمران: 83: 85]. وملة أبينا إبراهيم ‏﴿‏مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ ‏[الحج: 78]. ولكن الله تعالى أراد أن يفرقنا ولا نكون أمة واحدة، وجعل لكل فرقة من الفرق الثلاث شريعة. ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ‏وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ ‏[المائدة: 48].

وسبق أن تحدثنا عن هذه النبوءة في مبحث "والتين والزيتون"؛ فإن كانت نبوة موسى قد بدأت من جبل سيناء، ففاران هو جبل بمكة بجوار البرية التي سكن إسماعيل فيها كما تنص التوراة، وعاشت بجواره قريش من ذرية ابنه قيدار، ومن نسله ولد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

وتحكي التوراة عن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ﴿20وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلاَمِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ. 21وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. ﴾‏ [تكوين: 21- 20: 21]. وإن كانت التوراة تتحدث دومًا عن إسماعيل وكأنه سكن إلى الشرق من أرض كنعان، وأن أمه هاجر سكنت عند بئر سبع، وهذا لم يكن، فكل العرب يعلمون أين سكن إسماعيل وأمه هاجر، فقد سكنا في مكة بجوار بيت الله المحرم، ولا يمنع هذا أن بعض ذريته قد سكنت الشام من قديم.

وسبق وذكرت من خلاصة بحثي أنه لدينا منطقتين متنازعتين باسم فاران وأربع باسم سعير! وبالرجوع إلى قاموس الكتاب المقدس الإنجليزي لمصادر الكلمات العبرية واليونانية فيه Strong’s Hebrew Bible Dictionary بحسب ترجمة الملك جيمس، سنجد Pa'ran برقم (6290) والوصف المكتوب لها:

Pa'ran: from 'pa'ar' (6286); ornamental; Paran, a desert of Arabia:--Paran.

وما فهمته من تحليل المقاطع أن مقطع ar في الكلمة يردونه لكلمة Arabia، ومن ثم فالقاموس يُعرِّف فاران بأنها صحراء شبه الجزيرة العربية. “a desert of Arabia”. ولم يذكر القاموس أي احتمالية أن تكون فاران في الكتاب المقدس في جنوبي سيناء، وعليه فليست هي وادي فيران.

وليست هذه هي النبوءة الوحيدة بنبينا عليه السلام التي جاء فيها ذكر جبل فاران، فقد جاءت أخرى في سفر حبقوق، وهو أحد أنبيائهم قبل نحو 600 عام من ميلاد المسيح، وعمدوا إلى تحريفها كعادتهم، وبقيت آثار تدل عليها بين كلمات النص.

﴿3اَللهُ جَاءَ مِنْ تِيمَانَ، وَالْقُدُّوسُ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ. سِلاَهْ. جَلاَلُهُ غَطَّى السَّمَاوَاتِ، وَالأَرْضُ امْتَلأَتْ مِنْ تَسْبِيحِهِ. 4وَكَانَ لَمَعَانٌ كَالنُّورِ. لَهُ مِنْ يَدِهِ شُعَاعٌ، وَهُنَاكَ اسْتِتَارُ قُدْرَتِهِ. 5قُدَّامَهُ ذَهَبَ الْوَبَأُ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتِ الْحُمَّى. 6وَقَفَ وَقَاسَ الأَرْضَ. نَظَرَ فَرَجَفَ الأُمَمُ وَدُكَّتِ الْجِبَالُ الدَّهْرِيَّةُ وَخَسَفَتْ آكَامُ الْقِدَمِ. مَسَالِكُ الأَزَلِ لَهُ. 7رَأَيْتُ خِيَامَ كُوشَانَ تَحْتَ بَلِيَّةٍ. رَجَفَتْ شُقَقُ أَرْضِ مِدْيَانَ. 8هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ حَمِيَ يَا رَبُّ؟ هَلْ عَلَى الأَنْهَارِ غَضَبُكَ؟ أَوْ عَلَى الْبَحْرِ سَخَطُكَ حَتَّى إِنَّكَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ، مَرْكَبَاتِكَ مَرْكَبَاتِ الْخَلاَصِ؟ 9عُرِّيَتْ قَوْسُكَ تَعْرِيَةً. سُبَاعِيَّاتُ سِهَامٍ كَلِمَتُكَ. سِلاَهْ. شَقَّقْتَ الأَرْضَ أَنْهَارًا. 10أَبْصَرَتْكَ فَفَزِعَتِ الْجِبَالُ. سَيْلُ الْمِيَاهِ طَمَا. أَعْطَتِ اللُّجَّةُ صَوْتَهَا. رَفَعَتْ يَدَيْهَا إِلَى الْعَلاَءِ. 11اَلشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَقَفَا فِي بُرُوجِهِمَا لِنُورِ سِهَامِكَ الطَّائِرَةِ، لِلَمَعَانِ بَرْقِ مَجْدِكَ. 12بِغَضَبٍ خَطَرْتَ فِي الأَرْضِ، بِسَخَطٍ دُسْتَ الأُمَمَ. 13خَرَجْتَ لِخَلاَصِ شَعْبِكَ، لِخَلاَصِ مَسِيحِكَ. سَحَقْتَ رَأْسَ بَيْتِ الشِّرِّيرِ مُعَرِّيًا الأَسَاسَ حَتَّى الْعُنُقِ. سِلاَهْ. 14ثَقَبْتَ بِسِهَامِهِ رَأْسَ قَبَائِلِهِ. عَصَفُوا لِتَشْتِيتِي. ابْتِهَاجُهُمْ كَمَا لأَكْلِ الْمِسْكِينِ فِي الْخُفْيَةِ. 15سَلَكْتَ الْبَحْرَ بِخَيْلِكَ، كُوَمَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ.﴾‏ [حبقوق: 3- 3: 15].

والتعبير بالماضي أمر معتاد في الكتب المقدسة للدلالة على النبوءات المستقبلية للتأكيد على أنها متحققة لا محالة بمشيئة الله. من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى:

‏‏﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)﴾ [النحل: 1].

ونص حبقوق يبدأ بذكر جهة الوحي من تيمان وفاران، ولعل النبوءة في سفر حبقوق التي تذكر أن المجئ من تَيْمَان، وتيمان هي إشارة لجهة الجنوب "التَيَمُن"، وسبق أن ذكرنا هذا وفصلناه عند شرح ذرية إسماعيل ونسبة اليمن إلى تيمن بن قيدار بن إسماعيل. وذكر تيمان مع فاران في نبوءة حبقوق إشارة إلى نسب النبي الخاتم الذي تتلألأ رسالته وتملأ الأرض وأنه من بني قيدار؛ إذ سكنت ذرية قيدار مكة واليمن. واليهود من بني إسرائيل يسمون يهود اليمن بيهود التيمن، والعهد الجديد للمسيحيين يسمي ملكة سبأ ملكة التيمن.

ولا تفسير للنبوءة إلا بأنه وحي يأتي من جزيرة العرب، ومن بني قيدار تحديدًا. ويذكر النص امتلاء الأرض من تسبيحه وهي إشارة لانتشار دعوته في آفاق الأرض، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم دعا بخروج الحمى من المدينة بعد هجرته وأصحابه إليها. وهذا الجزء هو أهم وأوضح ما في النبوءة.

وجاء في الترجمة السبعينية أن "الله يأتي من الجنوب والقدوس من جبل ظليل مورق"، بمعنى أنهم ترجموا "تيمان" بالجنوب من التيمن، وهذا أصل الكلمة ولكنه ليس اسم علم، ولا يُعلم ما هي خيام كوشان التي قُرنت بشقق أرض مديان في النص، ولكن أرض مدين شرق خليج العقبة في الركن الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وكوشان أبو اليمن بحسب التوراة.

ويفسر المسيحيون الجنوب بأن بيت لحم التي يظنون أن بها ولد المسيح تقع إلى الجنوب من القدس، كما قالوا إنه من المحتمل أن تكون السبعينية قد ذكرت  أي مورق من الكلمة العبرية "فارة" أي مورق.

وينبغي على كل عاقل يشكك في أن النبوءة جاءت بأن يأتي النبي الخاتم من بلاد العرب أن يسأل نفسه عن السبب الذي دعا طائفة من يهود بني إسرائيل أغلبهم من الأحبار وليس العوام يتركون الأرض المقدسة التي يتقاتلون لأجل تملكها إلى يومنا هذا ويعيشون في المدينة المبنية بين حرّتين التي يسميها كتابهم "سالع"، إذ علموا من كتابهم أنها مكان هجرته.

من أنت؟ هل أنت ذلك النبي؟ هل أنت إيليا؟

‏‏‏‏ من أنبياء بني إسرائيل الذين قص الحق سبحانه وتعالى قصته علينا مختصرة في القرآن الكريم النبي إيلياس، واسمه العبري إيليا، واسمه اليوناني "إليوس"؛ إذ يضيف اليونان صوت "س" كلاحقة في أسماء الأعلام الذكور، واسم إلياس معروف عند العرب من قبل الإسلام ولا زال شائعًا عندهم إلى يومنا هذا بين مسلميهم ومسيحييهم.

وفي آيات من الأناجيل يبدو كما لو أن النبي يحيى/يوحنا عليه السلام يحمل روح إيليا، ليبشر بالآتي بعده، وهم يقصدون المسيح عليه السلام؛ فرغم أن ولادة يحيى كانت قبل ولادة المسيح بأشهر إلا أن يحيى أعطي النبوة وهو صبي، وكان فعلًا ممهدًا لظهور المسيح.

‏‏‏‏‏‏﴿13فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. ........17وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا».﴾ [لوقا: 1- 13: 17].

﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)﴾‏ [مريم: 12].

وفي الآن ذاته بشّر سفر ملاخي في آخر آياته والتي تعتبر آخر آية في العهد القديم بإرسال النبي إيليا قبل يوم الرب العظيم، فهل المقصود هنا عودة المسيح عليه السلام آخر الزمان أم مجيء النبي الخاتم؟

‏‏﴿5«هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، 6فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ».﴾ [ملاخي: 4- 5: 6].

ومما يثير مزيدًا من التساؤلات ما يُعرف بحادثة التجلي، وهي حادثة يُفترض أنها حدثت على جبل طابور القريب من الناصرة، والذي خلصت من خلال بحثي أنه هو جبل سعير التوراتي المرتبط بالنبوءات بالسيد المسيح، وقد ناقشت هذا في مبحث "أرض وجبل سعير". وتذكر الأناجيل أنه في حادثة التجلي اجتمع موسى مع المسيح مع إيليا على الجبل، فمن المنطقي هنا أن يكون القصد الشرائع الثلاث، وأن يكون إيليا المقصود هو نبينا محمد.

فهل كانت نبوءة بمحمد مكمل الرسالات الثلاث؟ خاصة وأن جبل طابور الذي يعتقد المسيحيون أنه مسرح الحادثة يبدو أنه هو الجبل الذي تسميه التوراة جبل سعير، والذي يظهر فيها مقترنًا بفاران، وأحيانًا أخرى بفاران وسيناء.

‏‏﴿1وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ. 2وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. 3وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. 4فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَارَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ». 5وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً:«هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا». 6وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدًّا. 7فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا، وَلاَ تَخَافُوا». 8فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ.﴾ [متى: 17- 1: 8].

‏‏﴿2وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، 3وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ. 4وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. 5فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ:«يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً».﴾ [مرقس: 9- 2: 5].

‏‏﴿28وَبَعْدَ هذَا الْكَلاَمِ بِنَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَل لِيُصَلِّيَ. 29وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا. 30وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، 31اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ، وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ. 32وَأَمَّا بُطْرُسُ وَاللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِالنَّوْمِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ، وَالرَّجُلَيْنِ الْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ. 33وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ: «يَامُعَلِّمُ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً».﴾ [لوقا: 9- 28: 33].

والنص في إنجيل لوقا الذي يذكر التجلي على جبل طابور يذكر نعاسهم، ولأني لا أصدق قصة قيامة موسى وإيليا ليكلما المسيح، فمن باب إحسان الظن ربما كان حلمًا رآه بطرس للمسيح وموسى وإيليا عليهم السلام، ورأى معه فيه صاحبيه يوحنا ويعقوب.

ويظهر من بعض الآيات في الأناجيل أنهم يسألون يحيى/يوحنا إن كان هو المسيح أم إيليا أم النبي؟! وقد نفى أن يكون أي منهم، رغم أن هذا النفي غير مفهوم لأن يحيى هو أحد الأنبياء الثلاثة الخواتم، فإن جاز أن ينفي أنه المسيح أو إيليا فلم ينفي أنه النبي؟!

فشهادة النبي يحيى عندما سُئل بأنه ليس المسيح ولا إيليا ولا النبي تؤكد أنهم كانوا في انتظار هؤلاء الثلاثة؛ بمعنى أن نبوءات الأنبياء قبلهم تنبأت بنبي وبالمسيح وبالنبي الخاتم (وليس هو المسيح).

‏‏﴿19وَهذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ:«مَنْ أَنْتَ؟» 20فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ:«إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ». 21فَسَأَلُوهُ:«إِذًا مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟» فَقَالَ:«لَسْتُ أَنَا». «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» فَأَجَابَ:«لاَ». 22فَقَالُوا لَهُ:«مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» 23قَالَ:«أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ». 24وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، 25فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ:«فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ، وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ النَّبِيَّ؟»﴾ [يوحنا: 1- 19: 25].

وبالرجوع إلى تفسير إنجيل يوحنا للأنبا إثناسيوس مطران بني سويف في الكنيسة القبطية المصرية نجده يذكر (ص117) أنه "كان اليهود يعتقدون أن اثنين يأتيان قبل المسيا، ولذلك سألوه إن كان هو النبي أم إيليا. وفي الحقيقة لم يكن ليأتي قبل المسيا سوى واحد هو يوحنا المعمدان الذي سماه الوحي نبيًا أو ملاكًا بروح إيليا أي بصفات إيليا في النُسك والشجاعة".

والمسلمون أيضًا يتفقون مع اليهود بأنه كان لا بد أن يأتي اثنان ثم يأتي النبي الخاتم "المسيا"، فأتى يحيى/يوحنا فالمسيح عيسى، ثم انقطع زمان النبوات طويلًا قبل أن يأتي محمد الخاتم.

ومن ثم فقد كان اليهود بعد أن عرفوا يحيى في انتظار المسيح ومن يأتي بعده. وبالأدق فلم يكن يعني اليهود المسيح الوديع المسالم، وإنما من كانوا حقًا في انتظاره هو الملك الخاتم الذي حسبوا أنه سيكون منهم، إذ تجاهلوا ما نبّه إليه السيد المسيح ابن مريم من أن الكرم سيُنزع منهم إلى أمة أخرى.

وهناك سؤال هام يطرحه إنجيل لوقا على لسان النبي يحيى عليه السلام سأله للمسيح عليه السلام، وهو هل هو الآتي أم هناك آخر؟ والتساؤل دومًا عن اثنين. ولم يجب النص عن السؤال!

‏‏‏‏﴿18فَأَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ بِهذَا كُلِّهِ. 19فَدَعَا يُوحَنَّا اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً:«أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» 20فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ الرَّجُلاَنِ قَالاَ:«يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» 21وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ الْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ. 22فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُماَ: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. 23وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ».﴾‏ [لوقا: 7- 18: 23].

وتكرر السؤال مختصرًا في إنجيل متى.

‏‏‏‏‏‏‏‏﴿2أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، 3وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» 4فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمَا:«اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: 5اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. 6وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ».﴾‏ [متى: 11- 2: 6].

ومن بقية النص في إنجيل لوقا يتأكد أن الحديث عن نبي منتظر، ولكن الكلام إجمالًا ليس جازمًا بالمقصود منه.

‏‏‏‏﴿24فَلَمَّا مَضَى رَسُولاَ يُوحَنَّا، ابْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا:«مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ 25بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَانًا لاَبِسًا ثِيَابًا نَاعِمَةً؟ هُوَذَا الَّذِينَ فِي اللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ. 26بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! 27هذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! 28لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ أَعْظَمُ مِنْهُ». 29وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَالْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا اللهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. 30وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ وَالنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ اللهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ.﴾‏ [لوقا: 7- 24: 30].

وفي إنجيل يوحنا يبدو من حديث المرأة السامرية مع المسيح عليه السلام أنهم كانوا مُبشرين في كتابهم بالمسيح ابن مريم بشارة صريحة وفي انتظاره بعد يحيى. وإن كانت المرأة توحد بين المسيا والمسيح باعتبارهما شخص واحد.

‏‏﴿25قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». 26قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ».﴾ [يوحنا: 4- 25: 26].

وأغلب النصوص التي ذكرت إيليا في الأناجيل محيرة وملغزة، ويظهر منها أن كتبة بني إسرائيل كانوا في انتظار إيليا، ويبدو من بعضها كما لو أن إيليا يأتي أولًا ثم يقوم المسيح، وهو ما يمكن أن يُفهم على أنه مجيء النبي الخاتم ثم ظهور المسيح آخر الزمان، وإن كان النص على لسان المسيح يعود بعدها ليذكر أن إيليا قد أتى!

‏‏﴿9وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ:«مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟» 11فَسَأَلُوهُ قَائِليِنَ:«لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» 12فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْذَلَ. 13لكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضًا قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ».﴾ [مرقس: 9- 9: 13].

والنص في إنجيل متى يدعي في نهايته أن المسيح قصد بإيليا الذي أتى يوحنا/يحيى عليه السلام، بينما قد مر بنا أن يوحنا سُئل إن كان إيليا فنفى!

‏‏‏‏﴿9وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً:«لاَ تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ». 10وَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» 11فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. 12وَلكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ». 13حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلاَمِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ.﴾‏ [متى: 17- 9: 13].

كما أن المسيح عليه السلام يتحدث في إصحاح آخر عن إيليا الذي سيأتي! وهذا النص قيل ويحيى عليه السلام كان لا زال حيًا! فكيف يكون هو المزمع أن يأتي؟!

‏‏﴿13لأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا. 14وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ. 15مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ.﴾ [متى: 11- 13: 14].

ويدعي إنجيلا متى ومرقس أن المسيح قد نادى الله عندما صلبوه فظنوا أنه ينادي إيليا ليأتي وينجده.

‏‏﴿46وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ 47فَقَوْمٌ مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا:«إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا». 48وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَّلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. 49وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَالُوا:«اتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ!».﴾ [متى: 27- 46: 49].

‏‏﴿34وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً:«إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ 35فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا:«هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا». 36فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلأَ إِسْفِنْجَةً خَّلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلاً:«اتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!»﴾ [مرقس: 15- 34: 36].

ثم إنه بعيدًا عن الأسماء فإن نصًا في إنجيل لوقا يذكر فيه يحيى/يوحنا عليه السلام أن هناك من سيأتي هو أقوى منه، ويصفه صفات تعني ببساطة أنه يكمل ويتم العمل، وينقيه، وهو وصف يليق بالنبي الخاتم، ولكن لا يصح أن يُدعى أنه المسيح ابن مريم لأنه لم يكن له عليه السلام سلطان، ولم يتح الله له الوقت لينقي الدين –ودين الأنبياء كلهم واحد- مما لحقه من تزييف وتحريف.

‏‏﴿15وَإِذْ كَانَ الشَّعْبُ يَنْتَظِرُ، وَالْجَمِيعُ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ الْمَسِيحُ، 16أَجَابَ يُوحَنَّا الْجَمِيعَ قِائِلاً:«أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ، وَلكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. 17الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ الْقَمْحَ إِلَى مَخْزَنِهِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ».﴾ [لوقا: 3- 15: 17].

شيلون

سبق أن أشرت إلى وجود أمور غير واضحة فيما يخص ما روته أسفار اليهود عن النبي صمويل عليه السلام، فبداية قد حاولوا الإيهام بأنه من ذرية أفرايم ثم ظهر أنه ليس من بنيه. ولما مات صمويل ذهب داود عليه السلام إلى فاران! وفاران هي المكان الذي تربى فيه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وليس لدى المسلمين شك في أنه تربى في مكة، فهل كان صمويل من ذرية إسماعيل وكان يسكن فاران وليس الرامة، وهذا سبب ارتحال داود إلى مكة لما علم بموته؟

‏‏﴿1وَمَاتَ صَمُوئِيلُ، فَاجْتَمَعَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ وَنَدَبُوهُ وَدَفَنُوهُ فِي بَيْتِهِ فِي الرَّامَةِ. وَقَامَ دَاوُدُ وَنَزَلَ إِلَى بَرِّيَّةِ فَارَانَ.﴾ [صمويل1: 25- 1].

والأمر الثاني أنهم قالوا إن صمويل كان أبوه يذبح لرب الصابئة (=رب الجنود) في شيلوه، وقالوا: معناها الصومعة. وهذا المكان لم تأتِ سيرته إلا نادرًا في غير قصة صمويل عليه السلام في أسفارهم.

‏‏﴿3وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ يَصْعَدُ مِنْ مَدِينَتِهِ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَسْجُدَ وَيَذْبَحَ لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي شِيلُوهَ.﴾ [صمويل1: 1- 3].

ثم إن أم صمويل لما ولدته ثم فطمته تركته في بيت الرب في شيلوه مع الكاهن علي (عالي).

‏‏‏‏﴿24ثُمَّ حِينَ فَطَمَتْهُ أَصْعَدَتْهُ مَعَهَا بِثَلاَثَةِ ثِيرَانٍ وَإِيفَةِ دَقِيق وَزِقِّ خَمْرٍ، وَأَتَتْ بِهِ إِلَى الرَّبِّ فِي شِيلُوهَ وَالصَّبِيُّ صَغِيرٌ. 25فَذَبَحُوا الثَّوْرَ وَجَاءُوا بِالصَّبِيِّ إِلَى عَالِي. 26وَقَالَتْ: «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي. حَيَّةٌ هِيَ نَفْسُكَ يَا سَيِّدِي، أَنَا الْمَرْأَةُ الَّتِي وَقَفَتْ لَدَيْكَ هُنَا تُصَلِّي إِلَى الرَّبِّ. 27لأَجْلِ هذَا الصَّبِيِّ صَلَّيْتُ فَأَعْطَانِيَ الرَّبُّ سُؤْلِيَ الَّذِي سَأَلْتُهُ مِنْ لَدُنْهُ. 28وَأَنَا أَيْضًا قَدْ أَعَرْتُهُ لِلرَّبِّ. جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ هُوَ عَارِيَّةٌ لِلرَّبِّ». وَسَجَدُوا هُنَاكَ لِلرَّبِّ.﴾‏ [صمويل1: 1- 24: 28].

وفي سفر التكوين التوراتي أتت نبوءة على لسان يعقوب عليه السلام بشيلون الذي لا يُفهم هل هو من بقية ذرية يهوذا أم سيأتي بعد أن لا يبقى ملك فيهم! والمعنى الأدق أن المُلك في بني إسرائيل سيبقى في يهوذا حتى يأتي نبي ملك من غيرهم تخضع له الشعوب.

‏‏﴿10لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ.﴾ [تكوين: 49- 10].

ونص الآية في الترجمة السبعينية اليونانية:

﴾10 οὐκ ἐκλείψει ἄρχων ἐξ ᾿Ιούδα καὶ ἡγούμενος ἐκ τῶν μηρῶν αὐτοῦ, ἕως ἐὰν ἔλθῃ τὰ ἀποκείμενα αὐτῷ, καὶ αὐτὸς προσδοκία ἐθνῶν.﴿

وترجمتها‏‏: ﴿10لا يَهْلَك رَئيسٌ مِنْ يَهُوذا ولا مُتَسَلِطٍ مِنْ وَسَطِهِ حَتْى يَأتِيَ البَاقِي مِنْه ويَكُونُ رَجَاءَ "مُنْتَظَرَ" الأمَمِ.﴾.

فهو رجاء الأمم= منتظر الأمم = καὶ αὐτὸς προσδοκία ἐθνῶν.

وكلمة ἀποκείμενα يمكن أن تترجم الباقي أو قيد الانتظار.

وإجمالًا فإنه من الواضح أن شيلون في النسخة العربية هو المنتظر في النسخة اليونانية، الذي ترتجيه الشعوب وتخضع له.

ويبقى أن نعرف أن كلمة "رسول" تعني " שָׁלִיחַ" بالعبرية، وتُنطق شيلياخ! ولنضع في اعتبارنا قاعدة أن أي اسم في العبرية الحديثة يظهر في نطقه صوت الخاء يكون محرفًا لأن العبرية لا يوجد فيها حرف الخاء، فليس هذا النطق الصحيح للاسم وإنما هذا الحرف محرف.

مشتهى كل الأمم

يوجد أحد الأسفار الشعرية في العهد القديم لا أعلم كيف يكون ما فيه قد كُتب بإرشاد من الروح القُدس! إلا إن كان ما فيه قد حرّفه شخص ماجن عليه من الله ما يستحق. ومع كل التحريف الذي حدث له حتى لا يظن من ينظر إليه أنه من عند الله أبدًا، فقد بقيت كلمة في ختام آيات الإصحاح الخامس منه ذُكر فيها اسم نبينا محمد מַחֲמַדִּ مضافًا إليها لاحقة تستخدم في العبرية للتعظيم كما تستخدم للجمع، فكُتب محمديم מַחֲמַדִּים ولكنهم ترجموا الاسم وجعلوه في الترجمة العربية "مشتهيات"!

والنص الأصلي باللغة العبرية:

‏‏‏‏﴿טז חִכּוֹ, מַמְתַקִּים, וְכֻלּוֹ, מַחֲמַדִּים; זֶה דוֹדִי וְזֶה רֵעִי, בְּנוֹת יְרוּשָׁלִָם.

﴿16حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ. هذَا حَبِيبِي، وَهذَا خَلِيلِي، يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ.﴾ [نشيد الإنشاد: 5- 16].

والمسيحيون يعتبرون أن هذه نبوءة بالمسيح عليه السلام، بينما اليهود يعتبرون أن إحدى زوجات سليمان عليه السلام تصفه.

وورد أيضًا في سفر حجي، وهو أحد أنبيائهم بعد تدمير الهيكل وعودتهم من السبي البابلي، نبوءة أخرى بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام الذي سيعيد أتباع شريعته تجديد المسجد الأقصى ويمجدوه، وذُكر فيها الاسم، ولكنهم عمدوا إلى ترجمته ليصير ﴿وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الأُمَمِ‏﴾، وفي الترجمة السبعينية ﴿وَتَأْتِي نَفَائِس كًلِّ اْلأُمَمِ﴾.

﴿6لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هِيَ مَرَّةٌ، بَعْدَ قَلِيلٍ، فَأُزَلْزِلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَالْيَابِسَةَ، 7وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الأُمَمِ. وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الأُمَمِ، فَأَمْلأُ هذَا الْبَيْتَ مَجْدًا، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. 8لِي الْفِضَّةُ وَلِي الذَّهَبُ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. 9مَجْدُ هذَا الْبَيْتِ الأَخِيرِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِ الأَوَّلِ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَفِي هذَا الْمَكَانِ أُعْطِي السَّلاَمَ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ».﴾‏ [حجي: 2- 6: 9].

والآيات في سفر حجي هي نبوءة عن رب الصابئة (= رب الجنود) تؤكد أن المسجد الأقصى له مجدان، الثاني أعظم من الأول؛ وقد كان له مجد في عصر سليمان، ثم سيكون مجده أعلى عندما يأتي محمد (مشتهى كل الأمم). وإن كان بعض المسيحيين يعتبرون أن حجي في الآية يبشر بالمسيح عليه السلام لأن حجي كان معاصرًا لزكريا عليه السلام، ولكن هل أعاد أتباع المسيح مجد المسجد الأقصى؟!

ما أفهمه أن الله تعالى قدّر أن يُعاد بناء هيكل سليمان عليه السلام قبل ميلاد المسيح عليه السلام مباشرة ‏ليكون قائمًا في زمن دعوته ليُدرِّس فيه ويعطي تعاليمه، فلم يكن ذلك لأجل المغضوب عليهم، ونُقض لأنهم لم ‏يقبلوا المسيح، وعاد مجد القدس مرة ثانية بعد سليمان مع أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، ومهما فعل اليهود ‏لن يُقام الهيكل مرة ثالثة، فأمر الله قد نفذ فيهم.‏

المختار الذي يخرج الحق للأمم،. رجل الحروب الذي يقوى على أعدائه

‏يبدو لي سفر إشعيا أقل تعرضًا من غيره للتحريف، ويمكن أن يُرى ذلك في آياته الكثيرة التي تؤكد على توحيد الله وتسبيحه وحمده وتنزيهه عن مشابهة خلقه.

وفي نص آخر في سفر إشعيا وردت أقوى نبوءة بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ إذ الحديث عن المختار الذي يخرج الحق لجميع الأمم، فرسالته عامة، والحديث عن فرحة تأتي من الديار التي سكنها قيدار (مكة) وترانيم سالع. ولا شك أن نبينا محمد بن عبد الله من نسل عدنان من ذرية قيدار بن إسماعيل، كما أن "سالع" ليس هو الاسم القديم للبتراء كما أوضحنا، فالبتراء اسمها القديم "الرقيم"، ومدينة سالع المعنية هي المدينة المنورة، مكان هجرته صلى الله عليه وسلم. وأدوم وسالع لا علاقة لهما بعيسو بن إسحق، وإنما مملكة أدوم هي واحدة من ممالك بني إسماعيل. كما أن جميع المدن المنحوتة في الصخر نحتها العرب ولا علاقة لها ببني إسحق عليه السلام.

فالبشارة هنا بنبي من العرب أبناء إسماعيل، وليس من نسل بني إسرائيل بتاتًا، وهو كما تصفه النبوءة رجل حروب يقوى على أعدائه، ولم تكن هذه صفة المسيح عليه السلام. وتأتي إضافة في النص ذاته بأنه رسول الله الذي سيبُعث إلى أمة عميت وصمت واشتهر فيهم النهب والسلب ويعبدون الأصنام، وكان هذا حال العرب قبل الإسلام.

﴿1«هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. 2لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. 3قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. 4لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ».

5هكَذَا يَقُولُ اللهُ الرَّبُّ، خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَنَاشِرُهَا، بَاسِطُ الأَرْضِ وَنَتَائِجِهَا، مُعْطِي الشَّعْبِ عَلَيْهَا نَسَمَةً، وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا رُوحًا: 6«أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ، 7لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ.

8«أَنَا الرَّبُّ هذَا اسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ، وَلاَ تَسْبِيحِي لِلْمَنْحُوتَاتِ. 9هُوَذَا الأَوَّلِيَّاتُ قَدْ أَتَتْ، وَالْحَدِيثَاتُ أَنَا مُخْبِرٌ بِهَا. قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ أُعْلِمُكُمْ بِهَا».

10غَنُّوا لِلرَّبِّ أُغْنِيَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَهُ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ. أَيُّهَا الْمُنْحَدِرُونَ فِي الْبَحْرِ وَمِلْؤُهُ وَالْجَزَائِرُ وَسُكَّانُهَا، 11لِتَرْفَعِ الْبَرِّيَّةُ وَمُدُنُهَا صَوْتَهَا، الدِّيَارُ الَّتِي سَكَنَهَا قِيدَارُ. لِتَتَرَنَّمْ سُكَّانُ سَالِعَ. مِنْ رُؤُوسِ الْجِبَالِ لِيَهْتِفُوا. 12لِيُعْطُوا الرَّبَّ مَجْدًا وَيُخْبِرُوا بِتَسْبِيحِهِ فِي الْجَزَائِرِ. 13الرَّبُّ كَالْجَبَّارِ يَخْرُجُ. كَرَجُلِ حُرُوبٍ يُنْهِضُ غَيْرَتَهُ. يَهْتِفُ وَيَصْرُخُ وَيَقْوَى عَلَى أَعْدَائِهِ.

14«قَدْ صَمَتُّ مُنْذُ الدَّهْرِ. سَكَتُّ. تَجَلَّدْتُ. كَالْوَالِدَةِ أَصِيحُ. أَنْفُخُ وَأَنَخُرُ مَعًا. 15أَخْرِبُ الْجِبَالَ وَالآكَامَ وَأُجَفِّفُ كُلَّ عُشْبِهَا، وَأَجْعَلُ الأَنْهَارَ يَبَسًا وَأُنَشِّفُ الآجَامَ، 16وَأُسَيِّرُ الْعُمْيَ فِي طَرِيق لَمْ يَعْرِفُوهَا. فِي مَسَالِكَ لَمْ يَدْرُوهَا أُمَشِّيهِمْ. أَجْعَلُ الظُّلْمَةَ أَمَامَهُمْ نُورًا، وَالْمُعْوَجَّاتِ مُسْتَقِيمَةً. هذِهِ الأُمُورُ أَفْعَلُهَا وَلاَ أَتْرُكُهُمْ. 17قَدِ ارْتَدُّوا إِلَى الْوَرَاءِ. يَخْزَى خِزْيًا الْمُتَّكِلُونَ عَلَى الْمَنْحُوتَاتِ، الْقَائِلُونَ لِلْمَسْبُوكَاتِ: أَنْتُنَّ آلِهَتُنَا!

18«أَيُّهَا الصُّمُّ اسْمَعُوا. أَيُّهَا الْعُمْيُ انْظُرُوا لِتُبْصِرُوا. 19مَنْ هُوَ أَعْمَى إِلاَّ عَبْدِي، وَأَصَمُّ كَرَسُولِي الَّذِي أُرْسِلُهُ؟ مَنْ هُوَ أَعْمَى كَالْكَامِلِ، وَأَعْمَى كَعَبْدِ الرَّبِّ؟ 20نَاظِرٌ كَثِيرًا وَلاَ تُلاَحِظُ. مَفْتُوحُ الأُذُنَيْنِ وَلاَ يَسْمَعُ». 21الرَّبُّ قَدْ سُرَّ مِنْ أَجْلِ بِرِّهِ. يُعَظِّمُ الشَّرِيعَةَ وَيُكْرِمُهَا. 22وَلكِنَّهُ شَعْبٌ مَنْهُوبٌ وَمَسْلُوبٌ. قَدِ اصْطِيدَ فِي الْحُفَرِ كُلُّهُ، وَفِي بُيُوتِ الْحُبُوسِ اخْتَبَأُوا. صَارُوا نَهْبًا وَلاَ مُنْقِذَ، وَسَلَبًا وَلَيْسَ مَنْ يَقُولُ: «رُدَّ!».﴾‏ [إشعيا: 42-  1: 22].

وهذه النبوءة بنبينا محمد في سفر إشعيا اقتصوا منها في إنجيل متى مع تعديل في الصياغة، وادعوا أنها تحققت في المسيح عليه السلام.

‏‏﴿14فَلَمَّا خَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ، 15فَعَلِمَ يَسُوعُ وَانْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ. وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعًا. 16وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُظْهِرُوهُ، 17لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: 18«هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. 19لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. 20قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. 21وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ».﴾ [متى: 12- 14: 21].

لقد لزمت قبيلة قريش من بني قيدار الإقامة بجوار بيت الله الحرام وعظموه، ومن بني قيدار من لم يبرح جزيرة العرب، فإن تحرك بعضهم فإلى الشمال أو الجنوب من مكة، وقل من تشاءم أو تغرب إلى مصر، فكافأهم رب العزة بأن جعل خاتم الأنبياء منهم. بينما بقية إخوتهم من بني إسماعيل بحثوا عن الأراضي الخصبة ليسكنوها في جزيرة العرب وبعضهم ذهب إلى الشام وإلى مصر.

ولأجل حديث النبوءة عن رجل حروب فقد غلب على ظن اليهود أنه سيكون رسول من نسل داود عليه السلام، وأراد المسيحيون أن يتماشوا مع النبوءة فنسبوا المسيح عليه السلام إلى يوسف القديس الذي قالوا إنه كان خطيب السيدة مريم، وهو من سبط يهوذا، وناقشنا هذا الادعاء في مباحث المسيح عليه السلام.

وقد أخبرنا القرآن أن السيدة مريم من الكهنة بني هارون، وليست من بني داود، ولو كانت من نسل داود حقًا لقبلوا المسيح، ولكنهم رفضوا ابنها الذي أخبرهم وهو رضيع عندما أنطقه الله تعالى أنه رسول الله إليهم؛ لأنه ليس أميرهم المنتظر رجل الحروب الذي يقوى على أعدائه؛ ثم رفضوا محمدًا رغم أن النبوءة منطبقة عليه لأنه ليس من بني إسرائيل.

بعض النبوءات الظاهرة التحريف

لأن النبوءات ليست كلها واضحة بسبب تحريفات كتبتهم فإننا يمكن أن نجد آثارًا في بعض النصوص أقل قوة مما أوردناه.

‏‏﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ‏لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏‏(79)﴾ [البقرة: 79].

اسمه عجيب!

ورد نص آخر في سفر إشعيا يبدو عليه أثر التحريف لإثبات نسب المسيح عليه السلام لله، لكنه يذكر أن علامة الرياسة على كتفه (علامة النبوة). ومعلوم أن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كانت على كتفه علامة النبوة، تلك التي كان يسعى سلمان الفارسي أن يراها ليتأكد أنه هو النبي الخاتم الذي ارتحل وجاب الأرض حتى وجده. ويذكر النص في نسخته العربية أن اسمه عجيب!

‏‏﴿6لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ. 7لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ. غَيْرَةُ رَبِّ الْجُنُودِ تَصْنَعُ هذَا.﴾ [إشعيا: 9- 6: 7].

والنص في Complete Jewish Bible (CJB) يعطينا كلمات غير دارجة في الإنجليزية يفسرها بعد ذلك بين قوسين.

and he will be given the name Pele-Yo‘etz El Gibbor Avi-‘Ad Sar-Shalom.

[Wonder of a Counselor, Mighty God, Father of Eternity, Prince of Peace],﴿

‏‏  وفي Orthodox Jewish Bible (OJB) تكررت الألفاظ ذاتها تقريبًا.

﴾6 For unto us a yeled is born, unto us ben is given; and the misrah (dominion) shall be upon his shoulder; and Shmo shall be called Peleh (Wonderful), Yoetz (Counsellor), El Gibbor (Mighty G-d), Avi Ad (Possessor of Eternity), Sar Shalom (Prince of Peace). ﴿

وتذكرني كلمة "عجيب" في نص إشعيا بالمزمور المئة والثامن عشر الذي بشّر بالحجر المرفوض الذي صار رأس الزاوية، ويعقب هذه البشرى أن هذا يكون عجيبًا. وقد تكررت هذه البشرى كثيرًا على لسان المسيح عند حديثه مع بني إسرائيل منذرًا إياهم بأنهم قد قُطعوا من أن يكونوا الأمة المختارة، والحديث عن حجر محدد فلا يصح أن يقال إن المقصود المسيحيون من كل الأمم.

‏‏‏﴿22الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. 23مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا.﴾ [مزمور118- 22: 23].

وفي النسخة الأرمنية التي ترجمها القسيس أوسكان لسفر إشعيا في القرن السابع عشر ظهرت في النبوءة الشهيرة بنبينا في الإصحاح الثاني والأربعين من السفر كلمات تختلف عن تلك في النسخة المتداولة الشائعة، وأهم ما فيها أن هناك علامة على ظهره (خاتم النبوة)، كما ذُكر اسمه (أحمد).

‏‏‏‏﴿سَبِّحُوا اللهَ تَسْبِيحًا جَدِيدًا، وأثَرُ سَلْطَنَتِه عَلى ظَهْرِه، واسْمُه أحْمَد﴾‏ [إشعيا: 42- 10].

يهوذا/أحمد

لم يذكر القرآن الكريم وحسب أن أهل الكتاب يجدون النبوءات والبشارات بنبينا في كتبهم، بل زاد فذكر أن المسيح عليه السلام ذكر اسمه أحمد صراحة.

﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)﴾‏ [الصف: 6: 9].

وورد في الإصحاح الرابع والأربعين من إنجيل برنابا على لسان السيد المسيح اسم نبينا محمد. ومعلوم أن إنجيل برنابا مرفوض من جميع الكنائس رغم أن برنابا هو أحد المبشرين الأولين بالمسيحية!

‏‏﴿30وَلَمَّا رَأَيْتُهُ امْتَلَأتُ عَزَاءً قَائِلًا: يَا محمد لِيَكُنِ اللهُ مَعَكَ وَلْيَجْعَلْنِي أَهْلًا أَنْ أَحُلَّ سَيْرَ حِذَائِك.﴾ [برنابا: 44- 30].

ومن تحريفاتهم أنهم نسبوا المسيح عليه السلام إلى سبط يهوذا، رغم اعتقادهم أنه ابن الله! ويهوذا من ولد يعقوب، وسُمي بهذا الاسم رغم أنه لم يكن اسم (يهوه) كاسم للرب قد ظهر؛ فبحسب التوراة إن الله تعالى لما كلّم موسى عليه السلام أول مرة أخبره باسمه الجديد (يهوه)!

‏﴿2ثُمَّ كَلَّمَ اللهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: «أَنَا الرَّبُّ. 3وَأَنَا ظَهَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِأَنِّي الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ.﴾ [تكوين: 6- 2: 3].

وما يعنينا الآن أن يهوه هو الحميد، ويهوذا هو أحمد بالعبرية!

جاء في التوراة على لسان السيدة ليئة زوجة يعقوب لما ولدت يهوذا: ‏‏﴿35وَحَبِلَتْ أَيْضًا وَوَلَدَتِ ابْنًا وَقَالَتْ: «هذِهِ الْمَرَّةَ أَحْمَدُ الرَّبَّ». لِذلِكَ دَعَتِ اسْمَهُ «يَهُوذَا». ثُمَّ تَوَقَّفَتْ عَنِ الْوِلاَدَةِ.﴾ [تكوين: 29- 35].

وجاء فيها على لسان يعقوب عليه السلام: ‏‏﴿8يَهُوذَا، إِيَّاكَ يَحْمَدُ إِخْوَتُكَ، يَدُكَ عَلَى قَفَا أَعْدَائِكَ، يَسْجُدُ لَكَ بَنُو أَبِيكَ.﴾ [تكوين: 49- 8].

وجاء تحت اسم يهوذا في Hebrew Glossary:

 “Yehudah ( Judah): (ye-hu-dah) n. Judah. The fourth son of Jacob/Leah and patriarch of the tribe Judah. Also the name for the southern kingdom of ancient Israel. The name Judah (יְהוּדָה) comes from the root (יָדָה) which means to "thank." From Judah was derived the later term "Jew" (which first appears after the destruction of the First Temple,] 2 Kings 25:25[, and was later used in the Aramaic books of Ezra/Nehemiah).

The matriarch Leah used a play on words regarding her birth of her fourth son (Gen. 29:35) when she said she would thank the LORD (אוֹדֶה ‏אֶת־יהוה) and therefore named her son "Judah" (יְהוּדָה).

The Apostle Paul alluded to this in Rom. 2:28-29 by saying that a Jew is "one who praises (or thanks) God," and therefore it may be said that all those who thank the LORD in the truth are spiritual Jews. If you are "blood-related" to God by the Messiah, you are "grafted in" to the covenants, promises, and blessings given to ethnic Israel and are therefore a member of "God's household."”

وترجمة النص:

يهودا: (يي-هو-داه) ن. يهوذا/جودة. الابن الرابع ليعقوب/ليئة، ورئيس سبط يهوذا. هو أيضًا اسم المملكة الجنوبية لإسرائيل القديمة. من يهوذا اشتق المصطلح الأخير "يهودي" (والذي ظهر لأول مرة بعد تدمير الهيكل الأول [ملوك2: 25:25]، واستخدم لاحقًا في الكتب الآرامية لعزرا / نحميا).

استخدمت ليئة Matriarch Leah اللعب على الكلمات المتعلقة بميلادها لابنها الرابع، عندما قالت: ‏‏﴿35وَحَبِلَتْ أَيْضًا وَوَلَدَتِ ابْنًا وَقَالَتْ: «هذِهِ الْمَرَّةَ أَحْمَدُ الرَّبَّ». لِذلِكَ دَعَتِ اسْمَهُ «يَهُوذَا». ثُمَّ تَوَقَّفَتْ عَنِ الْوِلاَدَةِ.﴾ [تكوين: 29- 35].

ألمح الرسول بولس إلى هذا في [رسالة رومية: 2: 28-29] بالقول إن اليهودي هو "الذي يحمد الله (أو يشكره)" ، ومن ثم يمكن القول إن كل الذين يحمدون الرب في الحق هم يهود روحيون. إذا كنت "مرتبطًا بالدم" لله من قبل المسيح ، فأنت "مطعم" بالعهود والوعود والبركات الممنوحة لإسرائيل العرقية وعليه تكون أحد أفراد "بيت الله".

‏‏وأعتقد أن اسم يهوه الذي يعني الحميد قد اختاروه اسمًا أعظم للرب تعالى لأنه أكثر تناسبًا مع اسم يهوذا، وهذا الاسم لم يستخدمه السيد المسيح نهائيًا، ولم يُذكر في الأناجيل.

والقرآن الكريم يذكر أن اليهود سُموا يهودًا لأنهم تابوا بعد عبادة العجل؛ إذ قال الليث بن سعد: "الهود التوبة". والهداية والتوبة هنا إلى الله، ولا دخل ليهوذا باسمهم.

﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 156].

كما أشار القرآن الكريم إلى اليهود بـ ‏‏﴿ الَّذِينَ هَادُوا﴾ عشر مرات، من ذلك:

‏‏﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾ [البقرة: 62].

‏‏﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)﴾ [النساء: 46].

‏‏﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)﴾ [النحل: 118].

‏‏‏‏﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)﴾‏ [الجمعة: 6].

وكما أنهم قد يكونون هادوا هُودًا، فاللفظ يحتمل أن يكونوا هادوا هدية، ومنها جاءت كلمة الهَدْي في اللغة العربية؛ وهو ما يُهدى إلى الحرم من النَّعَم، والواحدة منه (هَدْيَة) و (هَدِيَّة)، وهو ما يحمل ضمنيًا معنى الحمد لله.

وكان سبط يهوذا أقوى أسباط بني إسرائيل وأكثرهم عددًا.

‏‏‏‏‏‏‏‏﴿26بَنُو يَهُوذَا، تَوَالِيدُهُمْ حَسَبَ عَشَائِرِهِمْ وَبُيُوتِ آبَائِهِمْ، بِعَدَدِ الأَسْمَاءِ مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، كُلُّ خَارِجٍ لِلْحَرْبِ، 27الْمَعْدُودُونَ مِنْهُمْ لِسِبْطِ يَهُوذَا أَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَسِتُّ مِئَةٍ.﴾‏ [عدد: 1- 26: 27].

﴿22هذِهِ عَشَائِرُ يَهُوذَا حَسَبَ عَدَدِهِمْ، سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَخَمْسُ مِئَةٍ.﴾‏ [عدد: 26- 22].

وتذكر الأناجيل أن المسيح هو ابن مريم وأخو يهوذا! باعتبار أنهم جعلوا العذراء تتزوج وتنجب إخوة للمسيح! ومن ذُكروا أيضًا في السياق كإخوة للمسيح جميعهم أسماؤهم أسماء أنبياء.

فهل كان النص الحقيقي أنه يسوع من سبط يهوذا أم أنه عيسى المبشر بأحمد؟ وهل كان للنبوءات بأحمد رجل الحروب الذي يقوى على أعدائه أثر في انتظار نبي من سبط يهوذا؟ هل كان المكتوب أنهم في انتظار نبيًا ملكًا محاربًا من سبط يهوذا أم كانت النبوءة أنهم في انتظار يهوذا (أحمد)؟

وكاتب رسالة يهوذا يصف نفسه بأنه أخو يعقوب وليس أخا المسيح.

‏‏﴿1يَهُوذَا، عَبْدُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَخُو يَعْقُوبَ﴾ [رسالة يهوذا: 1].

ومن اللافت أن سبط يهوذا كان أكثر أسباطهم اندماجًا مع أبناء عمومتهم العرب الإسماعيليين، وسبق وتحدثنا في مبحث "نسب مدين" عن اندماج المدينيين والقنزيين العرب أنسباء موسى مع بني إسرائيل، ومع سبط يهوذا تحديدًا. وذكرنا من قبل تزويج الملك النبي داود لأخته من يثر الإسماعيلي أبو عاموس (عماسا)، والذي كان قائد جيش يهوذا، وهو جد بعيد لنبينا محمد. ‏وذُكر عِيرَا الْيِثْرِيُّ، وَجَارَبُ الْيِثْرِيُّ‏ ضمن أبطال جيش داود في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر صمويل الثاني.

وبحسب قاموس الكتاب المقدس فإن "حويلة: اسم سامي معناه "رملية". والصلة بين حويلة وحضرموت وأماكن أخرى تشير إلى موقع في وسط البلاد العربية أو جنوبها". ولأن الملك طالوت "شاول" ضرب عماليق من حويلة إلى شور، وهي المنطقة ذاتها التي تجعلها التوراة حدًا لسكنى بني إسماعيل، فقد دخلت جزيرة العرب في مملكة بني إسرائيل من قبل أن يملك داود. وكانت لسليمان عليه السلام قطعان من الجمال ولم تكن تُربى سوى في جزيرة العرب، وكذا صلته بملكة سبأ "ملكة التيمن" حتى حُكي عن زواجه بها.

ولا ننسى ذهاب داود عليه السلام إلى فاران بعد موت النبي صمويل، وحروب داود في وادي الرفائيين حيث أشجار البكا، وطلبه شربة ماء من البئر هناك، والتي تحدثنا عنها عند شرح المزمور الذي يذكر "بكة".

والاستنتاج الذي وصلت إليه إجمالًا أن بيت داود كما كان له نفوذ في فلسطين ولبنان قد وصل نفوذه إلى جزيرة العرب.

النبوءة المحرَّفة في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين

مر بنا في صفحات هذا الكتاب نص الآيات السبع الأولى من الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين.

‏‏‏‏﴿1وَحَدَثَ فِي أَيَّامِ أَمْرَافَلَ مَلِكِ شِنْعَارَ، وَأَرْيُوكَ مَلِكِ أَلاَّسَارَ، وَكَدَرْلَعَوْمَرَ مَلِكِ عِيلاَمَ، وَتِدْعَالَ مَلِكِ جُويِيمَ، 2أَنَّ هؤُلاَءِ صَنَعُوا حَرْبًا مَعَ بَارَعَ مَلِكِ سَدُومَ، وَبِرْشَاعَ مَلِكِ عَمُورَةَ، وَشِنْآبَ مَلِكِ أَدْمَةَ، وَشِمْئِيبَرَ مَلِكِ صَبُويِيمَ، وَمَلِكِ بَالَعَ الَّتِي هِيَ صُوغَرُ. 3جَمِيعُ هؤُلاَءِ اجْتَمَعُوا مُتَعَاهِدِينَ إِلَى عُمْقِ السِّدِّيمِ الَّذِي هُوَ بَحْرُ الْمِلْحِ. 4اِثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً اسْتُعْبِدُوا لِكَدَرْلَعَوْمَرَ، وَالسَّنَةَ الثَّالِثَةَ عَشَرَةَ عَصَوْا عَلَيْهِ. 5وَفِي السَّنَةِ الرَّابِعَةَ عَشَرْةَ أَتَى كَدَرْلَعَوْمَرُ وَالْمُلُوكُ الَّذِينَ مَعَهُ وَضَرَبُوا الرَّفَائِيِّينَ فِي عَشْتَارُوثَ قَرْنَايِمَ، وَالزُّوزِيِّينَ فِي هَامَ، وَالإِيمِيِّينَ فِي شَوَى قَرْيَتَايِمَ، 6وَالْحُورِيِّينَ فِي جَبَلِهِمْ سَعِيرَ إِلَى بُطْمَةِ فَارَانَ الَّتِي عِنْدَ الْبَرِّيَّةِ. 7ثُمَّ رَجَعُوا وَجَاءُوا إِلَى عَيْنِ مِشْفَاطَ الَّتِي هِيَ قَادِشُ. وَضَرَبُوا كُلَّ بِلاَدِ الْعَمَالِقَةِ، وَأَيْضًا الأَمُورِيِّينَ السَّاكِنِينَ فِي حَصُّونَ تَامَارَ.﴾‏ [تكوين: 14- 1: 7].

وباللغة العبرية:

‏‏﴿א וַיְהִי, בִּימֵי אַמְרָפֶל מֶלֶךְ-שִׁנְעָר, אַרְיוֹךְ, מֶלֶךְ אֶלָּסָר; כְּדָרְלָעֹמֶר מֶלֶךְ עֵילָם, וְתִדְעָל מֶלֶךְ גּוֹיִם.  ב עָשׂוּ מִלְחָמָה, אֶת-בֶּרַע מֶלֶךְ סְדֹם, וְאֶת-בִּרְשַׁע, מֶלֶךְ עֲמֹרָה; שִׁנְאָב מֶלֶךְ אַדְמָה, וְשֶׁמְאֵבֶר מֶלֶךְ צְבֹיִים, וּמֶלֶךְ בֶּלַע, הִיא-צֹעַר.  ג כָּל-אֵלֶּה, חָבְרוּ, אֶל-עֵמֶק, הַשִּׂדִּים:  הוּא, יָם הַמֶּלַח.  ד שְׁתֵּים עֶשְׂרֵה שָׁנָה, עָבְדוּ אֶת-כְּדָרְלָעֹמֶר; וּשְׁלֹשׁ-עֶשְׂרֵה שָׁנָה, מָרָדוּ.  ה וּבְאַרְבַּע עֶשְׂרֵה שָׁנָה בָּא כְדָרְלָעֹמֶר, וְהַמְּלָכִים אֲשֶׁר אִתּוֹ, וַיַּכּוּ אֶת-רְפָאִים בְּעַשְׁתְּרֹת קַרְנַיִם, וְאֶת-הַזּוּזִים בְּהָם; וְאֵת, הָאֵימִים, בְּשָׁוֵה, קִרְיָתָיִם.  ו וְאֶת-הַחֹרִי, בְּהַרְרָם שֵׂעִיר, עַד אֵיל פָּארָן, אֲשֶׁר עַל-הַמִּדְבָּר.  ז וַיָּשֻׁבוּ וַיָּבֹאוּ אֶל-עֵין מִשְׁפָּט, הִוא קָדֵשׁ, וַיַּכּוּ, אֶת-כָּל-שְׂדֵה הָעֲמָלֵקִי--וְגַם, אֶת-הָאֱמֹרִי, הַיֹּשֵׁב, בְּחַצְצֹן תָּמָר.﴾.

وفي النص نجد اسم ملك عيلام الذي تكرر عدة مرات هو "قِيدْر لاعُمر כְּדָרְלָעֹמֶר" وهو أقرب إلى اسم قيدار العُمر! ونعرف أن نبينا من ذرية قيدار بن إسماعيل.

والايميون بحسب النطق العبري al'iimiuwn

‏‏‏‏﴿ וְאֶת-הַחֹרִי, בְּהַרְרָם שֵׂעִיר, עַד אֵיל פָּארָן, אֲשֶׁר עַל-הַמִּדְבָּר.﴾‏ وترجمتها: الحوري في حرم سعير إلى إيل فاران التي في البرية. وسبق أن ذكرنا أن الاسم في الترجمة السبعينية الأميون ‏᾿Ομμίν‏ وتُنطق ‏᾿Ommín.

وإيل فاران بالعبرية: אֵיל פָּארָן

أما آخر كلمة فهي نخلة ثامار בְּחַצְצֹן תָּמָר ويترجموها حصون تامار أو عين جدي. وهذا المكان له علاقة بداود فتارة هو حصون تامار وتارة هو عين جدي، وهو المكان الذي ادعوا أن داود هرب فيه من شاول، ونعرف من القرآن أن السيدة مريم ولدت المسيح تحت نخلة.

فأمامنا نص يربط سعير بإيل فاران، ويأتي فيه ذكر الرفائيين والأميين بعد تحريفه كي لا يظهر أنه اسم العرب، ويتكرر فيه اسم قيدار وهو جد نبينا، كما ذُكر الحوريون باعتبارهم أمة قديمة في المنطقة في زمن إبراهيم عليه السلام وهو ما ينفيه المؤرخون، كما يأتي في النص موضع نخلة ثامار. ومن ثم فالنص إجمالًا يبدو تحريفًا لنبوءة كانت عن المسيح ونبينا محمد عليهما السلام، وربما لم يكن موضعه سفر التكوين أو هذا الموضع المتقدم منه.

بعض النبوءات بالأمة وليس بالنبي

بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُمْ

في سفر التثنية، وهو سفر توراتي من أسفار موسى، إعلام من الله لبني إسرائيل بأن آخرتهم أنه سيغيظ الكافرين منهم كما أغاظوه، وأن ذلك سيكون بأمة وصفتها النسخة العربية من السفر بالغبية، وتصفها أغلب الترجمات الإنجليزية بالمحتقرة a vile nation.

‏‏﴿19«فَرَأَى الرَّبُّ وَرَذَلَ مِنَ الْغَيْظِ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ. 20وَقَالَ: أَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُمْ، وَأَنْظُرُ مَاذَا تَكُونُ آخِرَتُهُمْ. إِنَّهُمْ جِيلٌ مُتَقَلِّبٌ، أَوْلاَدٌ لاَ أَمَانَةَ فِيهِمْ. 21هُمْ أَغَارُونِي بِمَا لَيْسَ إِلهًا، أَغَاظُونِي بِأَبَاطِيلِهِمْ. فَأَنَا أُغِيرُهُمْ بِمَا لَيْسَ شَعْبًا، بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُهُمْ.﴾ [تثنية: 32- 19: 21].

ويُكرر الوعيد على بني إسرائيل في إحدى رسائل المبشرين بالمسيحية إذ لعل بني إسرائيل لم يبلغهم الخبر! ولم يعلموا بوعيد الرب لهم على لسان موسى عليه السلام.

‏‏‏‏﴿19لكِنِّي أَقُولُ: أَلَعَلَّ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْلَمْ؟ أَوَّلاً مُوسَى يَقُولُ:«أَنَا أُغِيرُكُمْ بِمَا لَيْسَ أُمَّةً. بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُمْ». 20ثُمَّ إِشَعْيَاءُ يَتَجَاسَرُ وَيَقُولُ:«وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي». 21أَمَّا مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ:«طُولَ النَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ».﴾‏ [رومية: 10-  19: 21].

ورغم أنه من غير اللائق نسبة الانفعالات السلبية إلى الله تعالى إلا أن جوهر المعنى واضح. والأدق أن الله سيغيظ الكفار بهؤلاء المؤمنين الجدد، وهو ما نص عليه القرآن في خاتمة سورة الفتح ‏‏‏‏﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ ‏الْكُفَّارَ﴾‏.

ما يعني أن الاصطفاء الذي كان لبني إسرائيل سيتحول بسبب كفرهم إلى هذه الأمة، وسبق أن ذكرنا أن بني إسرائيل كانوا يحتقرون أبناء عمومتهم من بني إسماعيل ويسمونهم الأميين، إذ كانوا في أضل حال قبل بعثة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فصار هؤلاء الأميون خير أمة أخرجت للناس.

‏‏‏‏﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ‏وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)﴾‏ [الجمعة: 2].

‏‏﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ‏وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ‏وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) ‏﴾ [آل عمران: 110].

وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ

نبوءة أخرى أنذرهم فيها يحيى/يوحنا عليه السلام بأن غضب الله تعالى آتٍ عليهم، وأن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة تمهيدًا لقطعها، إذ تمادوا في عصيانهم معتقدين أن انتسابهم لإبراهيم عليه السلام يكفي لدوام البركة فيهم، ووضع الفأس يعني استئصالهم وقطعهم من رحمة الله بعصيانهم المتكرر، واستثنى التائبين الطائعين.

‏‏﴿7فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ:«يَاأَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ 8فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. 9وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ. 10وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ.﴾ [متى: 3- 7: 10].

وكان ما فعلوه مع المسيح عليه السلام ضربة المعول الأخيرة التي اجتثتهم فانقطع منهم الأنبياء، وحل غضب الله تعالى العارم الكامل إلا على المتقين، وما أقلهم فيهم.

قُلْتُ: هأَنَذَا، هأَنَذَا. لأُمَّةٍ لَمْ تُسَمَّ بِاسْمِي‏

‏‏‏‏ هناك نص آخر في سفر إشعيا يُفهم منه انتقال النبوة إلى أمة أخرى، وإن كان أقل وضوحًا بسبب وقوع التحريف فيه، فبعد الحديث عن الأمة التي لم تُسمَ باسم الرب التي أصغى لها الرب بعد ترك بني إسرائيل طاعته، يتحدث النص عن إخراج نسل من يعقوب!

﴿1«أَصْغَيْتُ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا. وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي. قُلْتُ: هأَنَذَا، هأَنَذَا. لأُمَّةٍ لَمْ تُسَمَّ بِاسْمِي. 2بَسَطْتُ يَدَيَّ طُولَ النَّهَارِ إِلَى شَعْبٍ مُتَمَرِّدٍ سَائِرٍ فِي طَرِيق غَيْرِ صَالِحٍ وَرَاءَ أَفْكَارِهِ. 3شَعْبٍ يُغِيظُنِي بِوَجْهِي. دَائِمًا يَذْبَحُ فِي الْجَنَّاتِ، وَيُبَخِّرُ عَلَى الآجُرِّ. 4يَجْلِسُ فِي الْقُبُورِ، وَيَبِيتُ فِي الْمَدَافِنِ. يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَفِي آنِيَتِهِ مَرَقُ لُحُومٍ نَجِسَةٍ. 5يَقُولُ: قِفْ عِنْدَكَ. لاَ تَدْنُ مِنِّي لأَنِّي أَقْدَسُ مِنْكَ. هؤُلاَءِ دُخَانٌ فِي أَنْفِي، نَارٌ مُتَّقِدَةٌ كُلَّ النَّهَارِ. 6هَا قَدْ كُتِبَ أَمَامِي. لاَ أَسْكُتُ بَلْ أُجَازِي. أُجَازِي فِي حِضْنِهِمْ، 7آثَامَكُمْ وَآثَامَ آبَائِكُمْ مَعًا قَالَ الرَّبُّ، الَّذِينَ بَخَّرُوا عَلَى الْجِبَالِ، وَعَيَّرُونِي عَلَى الآكَامِ، فَأَكِيلُ عَمَلَهُمُ الأَوَّلَ فِي حِضْنِهِمْ».

8هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «كَمَا أَنَّ السُّلاَفَ يُوجَدُ فِي الْعُنْقُودِ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: لاَ تُهْلِكْهُ لأَنَّ فِيهِ بَرَكَةً. هكَذَا أَعْمَلُ لأَجْلِ عَبِيدِي حَتَّى لاَ أُهْلِكَ الْكُلَّ. 9بَلْ أُخْرِجُ مِنْ يَعْقُوبَ نَسْلاً وَمِنْ يَهُوذَا وَارِثًا لِجِبَالِي، فَيَرِثُهَا مُخْتَارِيَّ، وَتَسْكُنُ عَبِيدِي هُنَاكَ. 10فَيَكُونُ شَارُونُ مَرْعَى غَنَمٍ، وَوَادِي عَخُورَ مَرْبِضَ بَقَرٍ، لِشَعْبِي الَّذِينَ طَلَبُونِي.

11«أَمَّا أَنْتُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الرَّبَّ وَنَسُوا جَبَلَ قُدْسِي، وَرَتَّبُوا لِلسَّعْدِ الأَكْبَرِ مَائِدَةً، وَمَلأُوا لِلسَّعْدِ الأَصْغَرِ خَمْرًا مَمْزُوجَةً، 12فَإِنِّي أُعَيِّنُكُمْ لِلسَّيْفِ، وَتَجْثُونَ كُلُّكُمْ لِلذَّبْحِ، لأَنِّي دَعَوْتُ فَلَمْ تُجِيبُوا، تَكَلَّمْتُ فَلَمْ تَسْمَعُوا، بَلْ عَمِلْتُمُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيَّ، وَاخْتَرْتُمْ مَا لَمْ أُسَرَّ بِهِ. 13لِذلِكَ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هُوَذَا عَبِيدِي يَأْكُلُونَ وَأَنْتُمْ تَجُوعُونَ. هُوَذَا عَبِيدِي يَشْرَبُونَ وَأَنْتُمْ تَعْطَشُونَ. هُوَذَا عَبِيدِي يَفْرَحُونَ وَأَنْتُمْ تَخْزَوْنَ. 14هُوَذَا عَبِيدِي يَتَرَنَّمُونَ مِنْ طِيبَةِ الْقَلْبِ وَأَنْتُمْ تَصْرُخُونَ مِنْ كآبَةِ الْقَلْبِ، وَمِنِ انْكِسَارِ الرُّوحِ تُوَلْوِلُونَ. 15وَتُخْلِفُونَ اسْمَكُمْ لَعْنَةً لِمُخْتَارِيَّ، فَيُمِيتُكَ السَّيِّدُ الرَّبُّ وَيُسَمِّي عَبِيدَهُ اسْمًا آخَرَ. 16فَالَّذِي يَتَبَرَّكُ فِي الأَرْضِ يَتَبَرَّكُ بِإِلهِ الْحَقِّ، وَالَّذِي يَحْلِفُ فِي الأَرْضِ يَحْلِفُ بِإِلهِ الْحَقِّ، لأَنَّ الضِّيقَاتِ الأُولَى قَدْ نُسِيَتْ، وَلأَنَّهَا اسْتَتَرَتْ عَنْ عَيْنَيَّ.﴾‏ [إشعيا: 65- 1: 16].

الساجدون الحقيقيون في غير السامرة والقدس

في حوار المرأة السامرية مع المسيح ابن مريم في الإصحاح الرابع من إنجيل يوحنا يذكر المسيح في الآية الحادية والعشرين أنه تأتي ساعة لا يكون السجود في أي من عاصمتي مملكتي بني إسرائيل الشمالية أم الجنوبية؛ أي في غير السامرة والقدس، ثم يضيف أنه سيكون خلاص من اليهود. ولكن النص كالعادة لم يخلُ من تحريف، فالآية الثالثة والعشرون تكرر أنه ستأتي ساعة لتضيف بعدها (وهي الآن)! لتشير زورًا إلى أن الساجدين الحقيقيين الذين يطلبهم الله هم أتباعه عليه السلام وليس أمة تأتي بعده، فهل للمسيحيين قبلة مقدسة غير القدس؟!

وفي النص محاولة للمعادلة بين المسيا المنتظر الذي يبدو من نصوص كثيرة أن المقصود به نبينا محمد، وبين المسيح ابن مريم، فكأنهما واحد، مع أن هذا يتناقض مع سابقه، إذ لا تفسر تلك الساعة التي سيسجد فيها غير اليهود في مكان آخر سوى القدس والسامرة بأن المسيح هو ذاته المسيا الذي يأتي!

‏‏﴿19قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! 20آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ». 21قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. 22أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ . لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. 23وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. 24اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا». 25قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ:«أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». 26قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ».﴾ [يوحنا: 4- 19: 26].

لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ. تَنْوِيهَاتُ اللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ

يتحدث المزمور المئة والتاسع والأربعون عن ترنيمة جديدة، ورغم أن الحديث فيه عن ابتهاج بني إسرائيل بملكهم القوي إلا أن الصفات المذكورة فيه بدءًا من الآية الخامسة لا تنطبق على أمة بخلاف أمة الإسلام؛ فهم الذين أمرهم الله بأن يذكروا الله على جنوبهم، وأن يكبروا الله دومًا (وقد حرّف النص التكبيرات إلى تنويهات)، والسيوف العربية هي سيوف ذات حدين بعكس سيوف بقية الأمم، وهي السيوف التي حارب بها المسلمون الشعوب والأمم الكافرة التي أدبها الله بأيديهم وأذل ملوكهم وأشرافهم الكافرين.

﴿1هَلِّلُويَا. غَنُّوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً، تَسْبِيحَتَهُ فِي جَمَاعَةِ الأَتْقِيَاءِ. 2لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِهِ. لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ. 3لِيُسَبِّحُوا اسْمَهُ بِرَقْصٍ. بِدُفّ وَعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ. 4لأَنَّ الرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ. يُجَمِّلُ الْوُدَعَاءَ بِالْخَلاَصِ. 5لِيَبْتَهِجِ الأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ. لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ. 6تَنْوِيهَاتُ اللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ. 7لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي الأُمَمِ، وَتَأْدِيبَاتٍ فِي الشُّعُوبِ. 8لأَسْرِ مُلُوكِهِمْ بِقُيُودٍ، وَشُرَفَائِهِمْ بِكُبُول مِنْ حَدِيدٍ. 9لِيُجْرُوا بِهِمِ الْحُكْمَ الْمَكْتُوبَ. كَرَامَةٌ هذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ. هَلِّلُويَا.﴾ [مزمور149].

وأما إجراء الحكم المكتوب الذي يجريه الله بسيوف المؤمنين فهو ذاك المكتوب في الزبور (في المزمور السابع والثلاثين) وفي القرآن بأن الكافرين والأشرار يفنون والبقاء للصالحين يورثهم الله أرضه.

﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏‏(105)‏﴾ [الأنبياء: 105].

‏‏‏‏﴿9لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. 10بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَكُونُ الشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلاَ يَكُونُ. 11أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ.﴾ [مزمور لداود 37- 9: 11].

‏‏﴿22لأَنَّ الْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وَالْمَلْعُونِينَ مِنْهُ يُقْطَعُونَ.﴾ [مزمور لداود 37- 22].

‏‏﴿34انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاحْفَظْ طَرِيقَهُ، فَيَرْفَعَكَ لِتَرِثَ الأَرْضَ. إِلَى انْقِرَاضِ الأَشْرَارِ تَنْظُرُ.﴾ [مزمور لداود 37- 34].

نبوءات بالمكان الذي ستخرج منه الشريعة الخاتمة

فرحة البرية والأرض اليابسة

وهناك النص في سفر إشعيا الذي يتحدث عن فرحة البرية والأرض اليابسة التي تبتهج وتزهر كما لو كانت خضراء كأرض لبنان، وفي النص أيضًا ذكر للطريق المقدسة التي لا يعبر فيها نجس، ومعلوم أن بلاد الحرمين لا يدخلها مشرك لأن المشركين نجس كما أخبر رب العزة عز وجل.

‏‏﴿1تَفْرَحُ الْبَرِّيَّةُ وَالأَرْضُ الْيَابِسَةُ، وَيَبْتَهِجُ الْقَفْرُ وَيُزْهِرُ كَالنَّرْجِسِ. 2يُزْهِرُ إِزْهَارًا وَيَبْتَهِجُ ابْتِهَاجًا وَيُرَنِّمُ. يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَجْدُ لُبْنَانَ. بَهَاءُ كَرْمَلَ وَشَارُونَ. .............. 8وَتَكُونُ هُنَاكَ سِكَّةٌ وَطَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا: «الطَّرِيقُ الْمُقَدَّسَةُ». لاَ يَعْبُرُ فِيهَا نَجِسٌ، بَلْ هِيَ لَهُمْ. مَنْ سَلَكَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى الْجُهَّالُ، لاَ يَضِلُّ.﴾ [إشعيا: 35- 1: 8].

المستوحشة وذات البعل

كذلك هناك نبوءة في سفر إشعيا هي بشارة لمكة وأبناء هاجر؛ فهاجر هي المستوحشة التي عاشت بابنها في أرض قفرة بعيدة عن زوجها، وسارة هي التي عاشت مع زوجها، ومكة (العاقر) التي لم يخرج منها نبي بعد إسماعيل تُبشر بأن لها نصيبًا متأخرًا عظيمًا. ويرث أبناؤها أممًا أخرى ويتوسع ملكها. مكة التي كان بها أول بيت وضع للناس (كأنها زوجة الصبا التي تُركت) يعود الرب فيمجدها إلى الأبد.

‏‏‏‏﴿1«تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَمْخَضْ، لأَنَّ بَنِي الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ، قَالَ الرَّبُّ. 2أَوْسِعِي مَكَانَ خَيْمَتِكِ، وَلْتُبْسَطْ شُقَقُ مَسَاكِنِكِ. لاَ تُمْسِكِي. أَطِيلِي أَطْنَابَكِ وَشَدِّدِي أَوْتَادَكِ، 3لأَنَّكِ تَمْتَدِّينَ إِلَى الْيَمِينِ وَإِلَى الْيَسَارِ، وَيَرِثُ نَسْلُكِ أُمَمًا، وَيُعْمِرُ مُدُنًا خَرِبَةً. 4لاَ تَخَافِي لأَنَّكِ لاَ تَخْزَيْنَ، وَلاَ تَخْجَلِي لأَنَّكِ لاَ تَسْتَحِينَ. فَإِنَّكِ تَنْسَيْنَ خِزْيَ صَبَاكِ، وَعَارُ تَرَمُّلِكِ لاَ تَذْكُرِينَهُ بَعْدُ. 5لأَنَّ بَعْلَكِ هُوَ صَانِعُكِ، رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ، وَوَلِيُّكِ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ، إِلهَ كُلِّ الأَرْضِ يُدْعَى. 6لأَنَّهُ كَامْرَأَةٍ مَهْجُورَةٍ وَمَحْزُونَةِ الرُّوحِ دَعَاكِ الرَّبُّ، وَكَزَوْجَةِ الصِّبَا إِذَا رُذِلَتْ، قَالَ إِلهُكِ. 7لُحَيْظَةً تَرَكْتُكِ، وَبِمَرَاحِمَ عَظِيمَةٍ سَأَجْمَعُكِ. 8بِفَيَضَانِ الْغَضَبِ حَجَبْتُ وَجْهِي عَنْكِ لَحْظَةً، وَبِإِحْسَانٍ أَبَدِيٍّ أَرْحَمُكِ، قَالَ وَلِيُّكِ الرَّبُّ. 9لأَنَّهُ كَمِيَاهِ نُوحٍ هذِهِ لِي. كَمَا حَلَفْتُ أَنْ لاَ تَعْبُرَ بَعْدُ مِيَاهُ نُوحٍ عَلَى الأَرْضِ، هكَذَا حَلَفْتُ أَنْ لاَ أَغْضَبَ عَلَيْكِ وَلاَ أَزْجُرَكِ. 10فَإِنَّ الْجِبَالَ تَزُولُ، وَالآكَامَ تَتَزَعْزَعُ، أَمَّا إِحْسَانِي فَلاَ يَزُولُ عَنْكِ، وَعَهْدُ سَلاَمِي لاَ يَتَزَعْزَعُ، قَالَ رَاحِمُكِ الرَّبُّ.﴾‏ [إشعيا: 54- 1: 10].

الشروق بعد الظلام الدامس

في الإصحاح الستين من سفر إشعيا نبوءة تخص مدينة يشرق عليها نور الرب عندما تغطي الظلمة الأرض، وهذا المشهد لم يحدث سوى عند بعثة نبينا بعد انقطاع الأنبياء بعد رفع المسيح لنحو ستة قرون، ولم تبق إلا قلة مؤمنة إيمانًا صحيحًا بالله تعالى، وفي وسط كل هذا الظلام أشرق نور محمد.

والفقرة الثانية من النبوءة لا تذكر سوى العرب (مدين وعيفة وشبا وقيدار ونبايوت)، وهذه المدينة تجتمع فيها الوفود ويأتونها من بعيد، وتتسع، وهو ما يحدث في مكة كل عام في موسم الحج، وتأتيها خيرات كل الأمم، وتغطيها الجِمال الكثيرة، فالحديث عن مدينة عربية في قلب صحراء العرب ولا شك، كما تأتيها قطعان من مواشي وأنعام العرب لتُقرب لله على مذبحها، ويتزين بيت الله. ويذكر النص تسابيح الرب التي تعني التلبية التي يلبيها المسلمون في الحج.

ولكن كالعادة نجد بعدها النص يحيد ليذكر إسرائيل وهو ما لا يتفق بتاتًا مع الفقرتين الأولى والثانية، ولكن تبقى آثار تتفق مع مكة في الفقرة الأخيرة فمن يسكنها بعد إشراق النور يكونون جميعهم من الأبرار الصالحين الذين يرثون الأرض، وأن هذه الأمة تكون صغيرة ومحتقرة ثم تتحول إلى أمة قوية.

‏‏﴿1«قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ. 2لأَنَّهُ هَا هِيَ الظُّلْمَةُ تُغَطِّي الأَرْضَ وَالظَّلاَمُ الدَّامِسُ الأُمَمَ. أَمَّا عَلَيْكِ فَيُشْرِقُ الرَّبُّ، وَمَجْدُهُ عَلَيْكِ يُرَى. 3فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ، وَالْمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ.

4«اِرْفَعِي عَيْنَيْكِ حَوَالَيْكِ وَانْظُرِي. قَدِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ. جَاءُوا إِلَيْكِ. يَأْتِي بَنُوكِ مِنْ بَعِيدٍ وَتُحْمَلُ بَنَاتُكِ عَلَى الأَيْدِي. 5حِينَئِذٍ تَنْظُرِينَ وَتُنِيرِينَ وَيَخْفُقُ قَلْبُكِ وَيَتَّسِعُ، لأَنَّهُ تَتَحَوَّلُ إِلَيْكِ ثَرْوَةُ الْبَحْرِ، وَيَأْتِي إِلَيْكِ غِنَى الأُمَمِ. 6تُغَطِّيكِ كَثْرَةُ الْجِمَالِ، بُكْرَانُ مِدْيَانَ وَعِيفَةَ كُلُّهَا تَأْتِي مِنْ شَبَا. تَحْمِلُ ذَهَبًا وَلُبَانًا، وَتُبَشِّرُ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ. 7كُلُّ غَنَمِ قِيدَارَ تَجْتَمِعُ إِلَيْكِ. كِبَاشُ نَبَايُوتَ تَخْدِمُكِ. تَصْعَدُ مَقْبُولَةً عَلَى مَذْبَحِي، وَأُزَيِّنُ بَيْتَ جَمَالِي.

8مَنْ هؤُلاَءِ الطَّائِرُونَ كَسَحَابٍ وَكَالْحَمَامِ إِلَى بُيُوتِهَا؟ 9إِنَّ الْجَزَائِرَ تَنْتَظِرُنِي، وَسُفُنَ تَرْشِيشَ فِي الأَوَّلِ، لِتَأْتِيَ بِبَنِيكِ مِنْ بَعِيدٍ وَفِضَّتُهُمْ وَذَهَبُهُمْ مَعَهُمْ، لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكِ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكِ.

10«وَبَنُو الْغَرِيبِ يَبْنُونَ أَسْوَارَكِ، وَمُلُوكُهُمْ يَخْدِمُونَكِ. لأَنِّي بِغَضَبِي ضَرَبْتُكِ، وَبِرِضْوَانِي رَحِمْتُكِ. 11وَتَنْفَتِحُ أَبْوَابُكِ دَائِمًا. نَهَارًا وَلَيْلاً لاَ تُغْلَقُ. لِيُؤْتَى إِلَيْكِ بِغِنَى الأُمَمِ، وَتُقَادَ مُلُوكُهُمْ. 12لأَنَّ الأُمَّةَ وَالْمَمْلَكَةَ الَّتِي لاَ تَخْدِمُكِ تَبِيدُ، وَخَرَابًا تُخْرَبُ الأُمَمُ. 13مَجْدُ لُبْنَانَ إِلَيْكِ يَأْتِي. السَّرْوُ وَالسِّنْدِيَانُ وَالشَّرْبِينُ مَعًا لِزِينَةِ مَكَانِ مَقْدِسِي، وَأُمَجِّدُ مَوْضِعَ رِجْلَيَّ.

14«وَبَنُو الَّذِينَ قَهَرُوكِ يَسِيرُونَ إِلَيْكِ خَاضِعِينَ، وَكُلُّ الَّذِينَ أَهَانُوكِ يَسْجُدُونَ لَدَى بَاطِنِ قَدَمَيْكِ، وَيَدْعُونَكِ: مَدِينَةَ الرَّبِّ، «صِهْيَوْنَ قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ. 15عِوَضًا عَنْ كَوْنِكِ مَهْجُورَةً وَمُبْغَضَةً بِلاَ عَابِرٍ بِكِ، أَجْعَلُكِ فَخْرًا أَبَدِيًّا فَرَحَ دَوْرٍ فَدَوْرٍ. 16وَتَرْضَعِينَ لَبَنَ الأُمَمِ، وَتَرْضَعِينَ ثُدِيَّ مُلُوكٍ، وَتَعْرِفِينَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ مُخَلِّصُكِ وَوَلِيُّكِ عَزِيزُ يَعْقُوبَ. 17عِوَضًا عَنِ النُّحَاسِ آتِي بِالذَّهَبِ، وَعِوَضًا عَنِ الْحَدِيدِ آتِي بِالْفِضَّةِ، وَعِوَضًا عَنِ الْخَشَبِ بِالنُّحَاسِ، وَعِوَضًا عَنِ الْحِجَارَةِ بِالْحَدِيدِ، وَأَجْعَلُ وُكَلاَءَكِ سَلاَمًا وَوُلاَتَكِ بِرًّا.

18«لاَ يُسْمَعُ بَعْدُ ظُلْمٌ فِي أَرْضِكِ، وَلاَ خَرَابٌ أَوْ سَحْقٌ فِي تُخُومِكِ، بَلْ تُسَمِّينَ أَسْوَارَكِ: خَلاَصًا وَأَبْوَابَكِ: تَسْبِيحًا. 19لاَ تَكُونُ لَكِ بَعْدُ الشَّمْسُ نُورًا فِي النَّهَارِ، وَلاَ الْقَمَرُ يُنِيرُ لَكِ مُضِيئًا، بَلِ الرَّبُّ يَكُونُ لَكِ نُورًا أَبَدِيًّا وَإِلهُكِ زِينَتَكِ. 20لاَ تَغِيبُ بَعْدُ شَمْسُكِ، وَقَمَرُكِ لاَ يَنْقُصُ، لأَنَّ الرَّبَّ يَكُونُ لَكِ نُورًا أَبَدِيًّا، وَتُكْمَلُ أَيَّامُ نَوْحِكِ. 21وَشَعْبُكِ كُلُّهُمْ أَبْرَارٌ. إِلَى الأَبَدِ يَرِثُونَ الأَرْضَ، غُصْنُ غَرْسِي عَمَلُ يَدَيَّ لأَتَمَجَّدَ. 22اَلصَّغِيرُ يَصِيرُ أَلْفًا وَالْحَقِيرُ أُمَّةً قَوِيَّةً. أَنَا الرَّبُّ فِي وَقْتِهِ أُسْرِعُ بِهِ».﴾ [إشعيا: 60].

وختامًا فهذه الآيات من سفر إشعيا التي تتحدث عن رؤيا ونبوءة تتعلق بكتاب سماوي يُدفع إلى من لا يعرف الكتابة تذكرني كلما قرأتها بنزول القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورده على جبريل عليه السلام قائلًا: ما أنا بقارئ.

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏﴿11وَصَارَتْ لَكُمْ رُؤْيَا الْكُلِّ مِثْلَ كَلاَمِ السِّفْرِ الْمَخْتُومِ الَّذِي يَدْفَعُونَهُ لِعَارِفِ الْكِتَابَةِ قَائِلِينَ: «اقْرَأْ هذَا». فَيَقُولُ: «لاَ أَسْتَطِيعُ لأَنَّهُ مَخْتُومٌ». 12أَوْ يُدْفَعُ الْكِتَابُ لِمَنْ لاَ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ وَيُقَالُ لَهُ: «اقْرَأْ هذَا». فَيَقُولُ: « لاَ أَعْرِفُ الْكِتَابَةَ».﴾ [إشعيا: 29- 11: 12].

***

د. منى أبو بكر زيتون

مُستل من كتابي "القصص الحق"

يقول بوذا "نحن نتشكل بأفكارنا، نحن نصبح ما نفكر به، عندما يكون العقل نقياً تكون الفرحة ظله الأبدي ". ويقول جيمس هارفي روبنسون:" إن العقل الحديث حديث جزئيا لأن جوانب كثيرة منه ساكنة فينا منذ أيام ماضينا السحيق".

1- مقدمة:

يقول آلفين توفلر، في كتابه المعروف صدمة المستقبل، مشددا على البنية المعقدة لمفهوم العقلية "إن كل شخص يحمل في داخل رأسه نموذجا ذهنيا للعالم، أي تصورا ذاتيا للعالم الخارجي، ويتكون هذا النموذج الذهني من عشرات فوق عشرات من ألوف الصور(1). إنها نمط ذهني من التصورات الذاتية للعالم تساعد الإنسان على تحقيق تكيفه مع عناصر الوجود وتجعله يمتلك نمطا كليا من التفكير يعتمده في النظرة إلى خصائص الوجود.

ومن أجل أن يستطيع الإنسان أن يواجه التغير السريع والعاصف يجب على الفرد أن يغير من مخزونه من تلك الصور بمعدل يتناسب مع هذا الذي يجري به التغيير في داخل المجتمع " (2). " والمعرفة الجديدة إما أن توسع من سابقتها أو تنسخها وفي كلتا الحالتين فإنها تفرض على المعنيين بها أن يعيدوا ترتيب مخزونهم من الصور (3). ويصف توفلر آليات تغير الذهنية فيقول: " إن أمواجا تلو أمواج من الصور الجديدة لا تني تهاجم دفاعاتنا وتهزم تصوراتنا الحقيقية في مختلف مجالات الحياة: في التعليم وفي السياسة، وفي الطب وفي العلاقات الدولية (4). وكنتيجة لهذا الغزو المتواصل فإن معدل تآكل الصور القديمة يرتفع باضطراد (5).

في هذه الصورة البديعة التي يقدمها توفلر لمفهوم العقلية، نجد أنفسنا إزاء مفهوم إنساني متمرد ومغامر، ونعلم منذ البداية بأننا سنواجه صعوبات منهجية في البحث عن تضاريس مفهوم قوام آلاف مركبة من الصور الذهنية. ويجب الاعتراف منذ البداية، أن مفهوم العقلية Mentalité من هذه المفاهيم التي تزداد غموضا كلما اشتد المرء في طلبها، وتزداد صورتها تعقيدا كلما ألحّ الباحث على التأمل في تضاريسها. وهو يشكل واحدا من المفاهيم الإشكالية التي تتداخل بصورة معقدة مع منظومة من المفاهيم المركبة ولاسيما هذه التي تثير الجدل الفكري منذ عهود بعيدة المدى في تاريخ العلوم الإنسانية(6).

يشير مفهوم العقلية  Mentalite إلى  تكوينات معقدة واعية وغير واعية، شعورية وغير شعورية، حاكمة للسلوك الإنساني، إنها نظام معقد من المشاعر والأفكار والتصورات والقيم التي تجعلنا نتصرف على نحو ما، وننظر إلى الكون برؤية خاصة، ونقف من أشياء العالم موقفا محددا يفرضه هذا النظام بمؤثراته المختلفة. فالعقلية هي النظام الأكثر غموضا في تكوين الإنسان والأكثر أهمية وخطورة في حياته، وفي هذا الغامض تتحرك أكثر عناصر الوجود الإنساني وتتفاعل لتقدم للإنسان أكثر صيغه الإنسانية تكاملا. وبعبارة أفضل يمكن القول بأن العقلية تشكل الروح الخفية والغامضة التي تشكل الطاقة الأساسية للحركة والوجود الإنساني. وهي في النهاية نظام من السلوك والنظرة إلى العالم يتشكل ويتبلور في الأفران الثقافية للمجتمعات الإنسانية. وهذا يعني أن السلوك عبارة عن ترجمة عملية للتصورات الذهنية المنبثقة عن ثقافة ما فالفرد في أي مجتمع مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه وهو التراث الثقافي للحضارة التي ينتمي إليها. "وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه، غير أن هذا التراث عندما يتجمد ولا يتجدد يسير نحو الضمور فالزوال، ويحول بالتالي بين الفرد وبين كامل إدراكه لذاته وغيره، ومن هنا كانت هناك صلة دائرية بين تجدد المجتمع وتجدد الفرد فكل منهما يجدد الآخر "(7).

يعد مفهوم العقلية من المفاهيم المركزية في مختلف العلوم الاجتماعية والآداب والإنسانية، ولاسيما هذه التي تفرض نفسها في مختلف أنماط التفكير والنشاطات المعرفية، ويتجلى هذا في تواتر استخدام هذا المفهوم بصورة ملحوظة في مختلف الحقول المعرفية ولاسيما الإنسانية منها. ويضاف إلى ذلك كله أن هذا المفهوم شائع الاستخدام في لغة العامة من الناس في مختلف الثقافات الإنسانية، وهذا من شأنه أيضا أن يضاعف من تضاريس الإشكالية المعرفية التي يطرحها هذا المفهوم.

ويلاحظ في هذا السياق أن مفهوم العقلية ما زال يعاني من التشويش والغموض في الثقافات الغربية المعاصرة، رغم المحاولات العلمية الجادة التي تواترت وتتابعت في سبيل تحريره من شروط الغموض التي تحيط به، سعيا إلى بناء هويته الخاصة، وترسيم حدوده مع مختلف المفاهيم التي تزاحمه وتتداخل معه بشبكة كبيرة من الإيماءات والدلالات والوظائف. وإذا كانت مسألة تحديد الهوية العلمية لمفهوم العقلية قد قطعت أشواطا في الثقافة الغربية، فإن هذا المفهوم ما زال يعاني غموضا أكبر بكثير في الثقافة العربية المعاصرة، وذلك على الرغم من الاستخدامات الكبيرة والتوظيفات المتواترة له في مختلف الأدبيات الاجتماعية والفكرية. وفي هذه النقطة العقدية يأخذ البحث في قضية العقلية أهمية متنامية تقتضيها متطلبات التنمية الفكرية لمختلف جوانب الحياة الفكرية في الثقافة العربية.

ومن الواضح أن البحث في قضية تطور العقلية الإنسانية يأخذ مكان الأهمية في الدراسات التاريخية والأنتروبولوجية منذ قرن من الزمن. وتدور المباحث الجارية في قضية العقلية حول منحنيات التطور الذي شهدته العقلية الإنسانية عبر التاريخ الإنساني. ومن هذه الزاوية يميز الباحثون بين ثلاثة مستويات في تطور العقلية الإنسانية، حيث يجري الحديث حول العقلية البدائية والعقل التقليدي ومن ثم العقل الحديث أو المعاصر.

لقد أولى الباحثون قضية العقل البدائي أهمية خاصة. وبدؤوا بدراسة سمات وخصائص هذه العقلية سعيا منهم إلى فهم طبيعة التطور العقلي والذهني الذي شهدته العقلية الإنسانية عبر التاريخ حتى المرحلة الراهنة. والسؤال المركزي الذي تطرحه المباحث الجارية في قضية تطور العقلية الإنسانية يدور حول أوجه التباين والاختلاف بين العقلية المعاصرة وبين العقلية البدائية (8).

ومن أجل تقديم تصور منهجي حول طبيعة العقلية التقليدية يتوجب علينا في البداية أن نميز بين العقلية البدائية والتقليدية ومن ثم نتعرض إلى المحاولات العلمية التي جسدها الباحثون والمفكرون في سبيل الكشف عن طبيعة العقل البدائي الذي يؤسس لاحقا لما يسمى بالعقل التقليدي من جهة والعقل الحديث من جهة أخرى.

ويعد ليفي برول Levy Bruhl من أبرز الباحثين والمنظرين في مجال العلاقة بين العقلية البدائية وبين العقلية الحديثة، حيث يقابل بين العقلية المنطقية Mentalité logique وبين العقلية ما قبل المنطقية Mentalité prélogique التي ينسبها إلى الإنسان البدائي(9).

ويبين برول في هذا السياق بأن ذهنية البدائي تعتمد على منظومة من المبادئ والمعايير التي تختلف عن هذه التي تؤسس للعقلية الحديثة. فالبدائي لا يستطيع أن يرى العلاقات التي نراها نحن في الأشياء، وهو بالتالي يصف هذه الأشياء بطريقة مختلفة تماما عن هذه التي نعتمدها نحن، وذلك لأنه ينظر إلى الأشياء والأحداث والعلاقات القائمة بين الأشياء على أساس من المعايير المختلفة نوعيا عن المعايير التي نعتمدها نحن. وهذا يعني أن البدائيين يمارسون وظائف ذهنية مختلفة ويحاكمون الأشياء بطريقة أخرى غير هذه التي درجنا عليها. فالوظيفة العقلية عند هؤلاء تستجمع حضورها في صورة تصورات جمعية، إلى حد أنه يمكن لكل ثقافة أن تمتلك صورة خاصة للعقلية السائدة لديها.

فالتصورات الجمعية تكون مشتركة بين مختلف أعضاء الجماعة وهي تنتقل من جيل إلى جيل وتفرض نفسها على الأفراد ثم توقظ فيهم مشاعر وأحاسيس مختلفة. وهذه العملية ليست مجرد عملية عقلية خالصة بل نماذج مع مستويات وعناصر انفعالية ووجدانية. وهذا يعني أن العقلية البدائية تعبر عن حالة مشاركة مكثفة بين الإحساس والتجربة وهذا يتوافق مع حاجة مستمرة تعلنها ثقافتنا المعاصرة.

وفي إطار تحليله للعقلية البدائية يرى ليفي برول أن هذه العقلية تقع تحت تأثير تصورات بوجود قوى خارقة فوق طبيعية توجه الحياة وتحرك صيرورة الوجود، حيث تأخذ التجربة عند أفراد هذه الجماعات طابعا أسطوريا: فالحقيقة تؤخذ على أنها تنبع من الإيمان بوجود قوى وتأثيرات خفية. وهذه التصورات الأسطورية تتكامل فيما بينها بصورة تختلف عن المنطق الذي نعرفه في العصور الحديثة. وعلى أساس هذا التصور يستند ليفي برول في تسمية العقلية البدائية بـ "العقلية ما قبل منطقية Mentalité Prélogique"، وهذا يعني أن هذه العقلية تتوافق مع مرحلة سابقة للتفكير المنطقي، بحيث يمكنها أن توائم بين التناقضات المفارقة والتي تتنافر كليا مع طريقتنا المعاصرة في التفكير، وهذا يعني أنها تشكل طريقة أخرى في التفكير والنظر. ووفقا لمنطق هذه العقلية فإن الأشياء يمكن أن تكون هي نفسها وهي غيرها في الآن الواحد. فالرجل في بعض القبائل الهندية القديمة (بورورو BORORO) يعتقد في الآن الواحد أنه رجل وببغاء، وذلك لأنه يشارك في طبيعة هذا الحيوان بوصفة طوطما "Totem" لوجوده الخاص. وتأسيسا على هذا المبدأ فإن العقلية البدائية أقل قدرة من عقليتنا نحن المعاصرين على إجراء التحليل والتجريد وبناء المفاهيم.

ومن هذا المنطلق فإن عالم البدائيين عالم أسطوري تحكمه قوى فوق طبيعة ( Sur-naturelle). فالرجل البدائي لا يستطيع أن يفكر كفرد خارج دائرة الجماعة التي ينتسب إليها. وهو لا يستطيع أن يرى نفسه خارج دائرة الأشياء التي يملكها، مثل الأشياء الشخصية، كثيابه وآثار أقدامه، فهي جزء منه وتدخل في بنية هويته. وعلى أساس ذلك يعتمد البدائي عمليات سحرية مؤسسة على هذه العلاقة، وهي عمليات لا تفهم إلا إذا اعتبرنا أن التفكير البدائي مختلف كليا عن مبدأ تفكيرنا.

فالتأثير الانفعالي للقوى ما فوق طبيعية يوجد في أصل التصور الأسطوري وهو نفسه الذي يوقظ التجارب الخاصة ويحيها، ولا سيما هذه الشاذة فيها مثل تجربة الموت والأحلام والرؤى الأسطورية، وهي هذه التي تضع الإنسان البدائي في علاقة مع القوى الخارقة. وفي ظل هذه التجربة الأسطورية تتكون صيغة وعي جمعي قوامه نسق متكامل من الرموز والأساطير والطقوس. ولذلك فإن الإنسان البدائي لا يستطيع أن يدرك العالم بالطريقة التي ننهجها نحن، بل يدرك العالم عبر نسق من الفعاليات التي تأخذ طابعا ذهنيا وعاطفيا سحريا في آن واحد. فتجربة البدائيين تتكون عبر المعاناة الأسطورية وبطريقة حدسية. وبالتالي فإن منظومتهم الأسطورية ليست نتاجا لتجربة عقلية بل هي نتاج لمركبات انفعالية ووجدانية. وبالتالي فإن دور المنظومات الأسطورية لا يقف عند حدود تفسير الظواهر الطبيعية فحسب، إذ يتجلى بوصفه مشاركة وجدانية تأخذ صورة ردود فعل إزاء الخوارق الطبيعية. وتلك هي الطريقة التي يجب علينا أن نعتمدها لفهم الطقوس والرموز والمفاهيم التي تعود إلى العقلية البدائية.

فالطقوس تصنع الأساطير في سياق فعلها، وتحقق للأفراد المشاركة بواسطة تدخل الرموز التي لا تتمايز عما ترمز إليه، أي أنها تتشكل على نحو تتكامل فيه الحقيقة والرمز: الحقيقة وما يرمز إليها شيء واحد. وهذا يعني أن الممارسات الثقافية والدينية والسحرية تكوّن علاقات مشاركة بين الإنسان والقوى الأسطورية وبالتالي فإنها توجه هذه القوى لصالح الإنسان.

ويصل برول في هذه المرحلة الأولية من تفكيره إلى نتيجة خطرة وهي وجود قطيعة كلية بين العقليتين وأنه لا يوجد هناك أي تجانس بينهما (10). ولكن برول يستدرك في المراحل اللاحقة من أعماله وجود مراحل انتقالية تطورية بين العقليتين وأن القطيعة التي أعرب عنها في البداية تجانب الحقيقة الموضوعية.

وفي هذا المجال يطرح السؤال التالي نفسه وهو: لماذا لم يتخل البدائيون عن هذه التصورات الخيالية التي تتناقض بوضوح مع الحقائق الموضوعية الواقعية في كل لحظة؟ وهنا يجيب برول إن هذا لا يحدث لأن العقلية البدائية منفعلة أمام التجربة العادية وهي غير حساسة للتناقض. ولكن ما العلاقة التي تربط بين الذهنية البدائية والذهنية المعاصرة؟ هل يمكن القول بأن العقلية المعاصرة هي حصاد تطور العقلية البدائية عبر الزمن ونتاج لها؟

هناك إجابات متعددة الاتجاهات حول هذه القضية. وفي هذا السياق يقدم ليفي برول عبر تحليله المنهجي منظومة من الأفكار والتصورات. يشير برول في سياق تصوراته التطورية إلى تطور نقدي حدث في عقلية البدائيين يميل إلى رفض بعض السمات السحرية والأسطورية السائدة، ومن ثم تنامي بعض المفاهيم التي مكنت هذه العقلية من الفصل المبدئي بين الرمز وما يرمز إليه وهذا الفصل يشكل بداية تطور في الإمكانيات المنهجية للعقل البدائي.

ويبدو أن ليفي برول في هذا السياق قد تخلى عن فكرته الرئيسية الأولى القائمة على الفصل القطعي بين العقلية البدائية والعقلية المعاصرة(11). وبدأ في هذه المرحلة من تفكيره يؤكد وجود مراحل انتقالية تفصل بين الثقافة البدائية والثقافة التقليدية، حيث يبين في هذا المقام أن العقلية البدائية – بصورتها اللامنطقية - لا تهيمن بصورة كليه على البدائيين، كما أن هذه العقلية لا يمكنها أن تختفي من حياتنا نحن المعاصرين. فهي تلعب دورا أكثر أهمية عند البدائيين وأقل أهمية عند المعاصرين. وإنه لا يمكن أن نتصور أبدا بأنه يمكن للإنسانية أن تتحرر نهائيا من الفكر الأسطوري والخيالي. وما هو مهم في هذا السياق هو أن الأساطير والخرافات تتواجد في العقائد المعاصرة، وأن المؤمن يجد اليوم في عقيدته شيئا آخر غير التفكير النقدي البارد وفي هذا مؤشر على أن العقلية البدائية لن تندثر كليا أبدا.

ومع ذلك إذا كان التطور نحو العقلية المعاصرة قد تحقق وأخذ مجراه فإن تفكير الإنسان لا يأخذ الطابع المنطقي بصورة كلية وذلك لأن العناصر الانفعالية لن تختفي أبدا في بنية التفكير العقلاني المعاصر(12). ويضاف إلى ذلك كله أن العقلية الأسطورية لا تحجب عن الإنسان إمكانية التفكير والتطور العقلي المنطقي على نحو كلي. وهذا يعني أن العقلية الأسطورية تعيق التطور العقلاني ولكنها لا تمنعه بصورة كلية.

وقد تعرضت نظرية برول ولاسيما في أعماله الأولى، إلى انتقادات شديدة من قبل المفكرين والباحثين في هذا الميدان. وذلك لأن برول كان يفصل قطعيا بين مرحلتين من مراحل تطور المظاهر العقلية للحياة الإنسانية. وفي أصل هذا الفصل قد تكمن رؤية عنصرية أو قد تؤسس لمثل هذه الرؤية في التمييز اليوم بين المجتمعات الحديثة والمجتمعات التقليدية المعاصرة. ويمكن القول بأن هذه الانتقادات التي وجهت لنظرية برول جعلته يعدّل رأيه في أعماله المتلاحقة حول هذه القضية.

لقد استدرك الأنتروبولوجيون المتأخرون خطأ المتقدمين في القرن التاسع عشر الذين قسموا المجتمعات الإنسانية إلى بدائية يعوزها المنطق والتحليل، وإلى مجتمعات متحضرة لديها ملكة العقل والنقد ولا تستسلم لتفسيرات الغيب. "فاعترفوا حين معاينة المجتمعات الأولى بسخف القول ببدائيتهم، حين اكتشفوا خبرات تجريبية، وجداول تصنيف معقدة للموجودات والبيئة المحيطة بهم، ونظم فهم الكون وتفسير للعالم والحياة، يقف خلفها عقل منتج يماثل العقل الحديث في بنية نشاطه وآلية عمله ووظيفته"(13).

فأغلب الباحثين يؤكدون اليوم وجود درجة كبيرة من التجانس النوعي بين العقلية التي كانت سائدة في المجتمعات البدائية وهذه التي تسجل حضورها في المجتمعات المعاصرة. فالناس في المجتمعات القديمة كانوا يمتلكون معارف غامضة عن الطبيعة وخصائص النبات وحركات النجوم وطبائع الحيوانات، وبالتالي فإن هذه المعلومات كانت تأخذ طابعا أمبيريقيا تجريبيا يجانس إلى حد كبير طبيعة المعلومات التي توجد في حوزة المجتمعات المعاصرة. وهذا يعني أن التباين الذي يمكن ملاحظته بين المظاهر العقلية في المجتمعات البدائية تباين في درجة التطور وتراكم الخبرات الإنسانية ولا يأخذ صورة تباين في النوع أو الجوهر. فالمرحلة التي يطلق عليها بدائية توجد في أصل تطور الحضارة الإنسانية ولعلها المرحلة الأكثر أهمية التي سجل فيها الإنسان حضوره الكوني، حيث استطاع وبوسائل بدائية جدا أن يسجل لنفسه الحضور والبقاء عبر سلسلة من الاكتشافات المتتابعة التي مهدت للإنسان المعاصر.

ويسجل ليفي ستروس Claud Leve - Strauss جهودا علمية كبيرة في دراسة أوجه التباين والتجانس بين العقليتين. وهو في هذا السياق ومن أجل المقارنة بين العقلية البدائية والعقلية المعاصرة يقارن بين المهندس والفلاح القديم. فالفلاح يمتلك معلومات ومعارف عملية فعالة عن موضوع عمله، وهو بذلك يستطيع أن يصنع بعض أدواته وأن يفعل أشياء كثيرة في مكان وجوده دون أن يمتلك أية معرفة نظرية معقدة. أما المهندس فيمتلك معلومات نظرية وتجريبية متقدمة جدا بالقياس إلى الفلاح التقليدي. فمعارف الفلاح هي معارف ناجمة عن الخبرة والتجربة الحياتية، أما المهندس فمعارفه ناجمة عن علم تجريبي(14). فالمعلومات التجريبية للفلاح هي حصاد ملاحظات دقيقة وصبورة وهي تتكون عبر عملية تراكم عبر الزمن. وهذا يعني أن هذه المعارف لم يتم التوصل إليها عبر فعاليات المنطق أو المخبر، بل هي نتاج عملية تغير زمنية طويلة جدا في سياق التطور الإنساني.

ويرفض كلود ليفي ستروس من جانبه استخدام مفهوم العقلية البدائية ويفضل استخدام مفهوم الفكر البدائي Pensée Sauvage وهو بذلك يريد أن يؤكد بأن التفكير عند البدائيين يعتمد على ذات المنطق الذي يعتمده الناس في المراحل الحديثة من التاريخ الإنساني (15). وعلى هذا الأساس يجب التركيز من أجل التمييز بين الذهنيتين على مبدأ الموضوعية والذاتية. وإذا كان التفكير المنطقي الخالص يعيد التجربة إلى عناصر مجردة فإن التفكير البدائي يباشر الحقيقة المعاشة دون توسطات تجريدية.

فالأسطورة على سبيل المثال تعبير إنساني متشبع بالدلالة والمعاني الانفعالية والسيكولوجية، حيث تنطوي على جانب من الحياة الانفعالية ومن المشاركة التي تتجانس إلى حد كبير مع نموذج العقلية البدائية. ومن هنا يمكن الحديث عن تجانس أو علاقة قرابة كبيرة بين العقائد والممارسات البدائية وبين الفلكلور والفنون الشعبية التي تؤكد حضورها في جوانب الحياة الاجتماعية المعاصرة ولا سيما في المناطق الريفية. يمكن أن نجد هذه المظاهر الأولية البدائية في الوسط المدني مثل: العرافين والمنجمين والسحرة.

وتأسيسا على طبيعة الحقائق التي أوردناها أعلاه فإن التمييز القطعي بين العقلية البدائية والعقلية الحديثة مفارقة علمية لا تصمد للمواجهة العقلية. ففي قلب الحياة المعاصرة اليوم، في البادية والريف والحضر، نجد مضامين العقلية البدائية التي تعتمد على مقومات وأسس سحرية وأسطورية تضرب جذورها في أعماق التاريخ الإنساني البعيد.

والسمات البدائية تتجلى بوضوح صارخ في كثير من مظاهر الحياة التقليدية Traditionnelle في مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويمكن للحياة التقليدية المعاصرة أن تسلط الضوء على طبيعة الحياة البدائية ومظاهرها. لأن في الحياة التقليدية المعاصرة ما يعكس طبيعة الحياة البدائية فيما يتعلق بطرق النظر والتفكير والتحليل والسلوك.

2- من العقلية البدائية إلى العقلية التقليدية:

يشار إلى العقلية البدائية بوصفها هذه التي سادت في مراحل تاريخية مغرقة في القدم، ولا سيما في العصور القديمة التي تسبق ظهور الكتابة أي قبل الألف السادس قبل الميلاد. وغالبا ما يشار بذلك إلى أنماط الإنتاج الرعوية، وإلى المجتمعات الإنسانية التي كانت تعتمد وسائل بدائية جدا في الحياة والوجود ولا سيما في العصور الحجرية والبرونزية.

ويشار إلى العقلية التقليدية عادة إلى هذه التي سادت في عصور ما بعد الكتابة وصولا إلى مرحلة اكتشاف الطباعة وبداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر والسادس عشر. ومن المؤكد أن هذا الخط التاريخي الذي رسمناه يحمل تقطعات تاريخية لا يمكن أن تحدد. إذ يمكن لنا أن نجد في ثنايا العصر الذي نعيش فيه اليوم أنماط وجود بدائية كما يمكن أن نجد أيضا أنماط وجود وحياة تقليدية تعود بأصولها إلى مراحل ما قبل النهضة الغربية.

نعني بالحياة التقليدية أنماط السلوك والحياة التي تعتمد على تناوب مستمر لقيم الآباء والأجداد والمحافظة على أنماط السلوك التي عرفتها الأجيال القديمة." ففي كل مرة يجري التمسك بطريقة للحياة أو للعمل أو التفكير، بحجة أنه "هكذا تم التصرف دوما" يمكننا الكلام على التقليد. وقد نظر فلاسفة الأنوار إلى التقليد بوصفه الطاعة العمياء لمجموعة من الأحكام الغامضة والمتباينة والمتناقضة، والتي لا تملك شيئا سوى كونها آتية من العصور الغابرة(16).

تعود كلمة تقليد Tradition إلى اللفظة اللاتينية Traditio التي تعني تحول وانتقال وأصلها الفعل Tradere. ويميز قاموس ليتريه Littré الفرنسي بين أمرين في كلمة تقاليد:

- الفعل الذي يسلم شخص ما شيئا ما لشخص لآخر.

- تناقل أحداث تاريخية وعقائد دينية وأساطير من جيل لآخر بواسطة النقل الشفوي ودون أية براهين مكتوبة.

وهو مفهوم كاثوليكي ويعني تناقل المعارف الدينية والقدسية من مرحلة إلى أخرى.

وهذه التحديدات التي يعرضها قاموس ليتريه تعود في الأصل إلى مصادر حقوقية وقانونية رومانية قانونية.

وعندما نحاول تحليل بنية التقاليد ووظائفها يمكننا أن نميز فيها ثلاثة عمليات أو فعاليات هي::

1-إنها عملية توسط ودمج ثقافي في سياق شروط الوسط المتحولة.

2- عملية حضور مستمر لتراث جماعة أو مجتمع عبر العصور.

3- علاقة بين المطلق التراثي والتجربة الاجتماعية.

ويتناول بودون Boudon مفهوم التقليد في معجمه النقدي بالتحليل حيث يقول في هذا الصدد معرفا بالمفهوم:" في كل مرة يجري التمسك بطريقة للحياة أو للعمل أو التفكير، بحجة أنه "هكذا تم التصرف دوما" يمكننا الكلام على التقليد. وقد نظر فلاسفة الأنوار إلى التقليد بوصفه الطاعة العمياء لمجموعة من الأحكام الغامضة والمتباينة أو المناقضة صراحة الطبيعة، والتي لا تملك شيئا سوى كونها آتية من العصور الغابرة"(17).

وباختصار يمكن القول بأن التقاليد هي أفكار عصر سابق، هي تعبير عن الأمس" وهي الأفكار والقيم والمعايير والمؤسسات ونماذج السلوك القديمة المرتبطة بالماضي، (…) التي تتميز بقدر من الثبات النسبي من جهة، كما يفترض أنه تم نقلها من جيل إلى جيل مما يعكس تقديرا واحتراما لها قد يصل إلى حد التقديس من جهة أخرى" (18).

والتقاليد تتأسس على معطيات الأساطير والقرابة والحكايات والأسرار الخاصة بكل جماعة ثقافية إنسانية. وقد تعمل التقاليد على تحقيق التكامل بين القيم الأسطورية القديمة مع القيم الجديدة. فالتبادل القديم الذي كان يتم بالسلع تخلى عن مكانه لنظام التبادل النقدي. ومع ذلك فإن التبادل القديم السلعي بقي يمارس دوره وبصورة محدودة في كثير من الثقافات المعاصرة. وهذا يعني أن المحافظة على التقاليد القديمة كما هي في وضعيتها التاريخية القديمة ليست فعلا ضروريا للحضارة الإنسانية. وعلى خلاف ذلك فالشعوب البدائية تعطي للتقاليد الدينية دورا كبيرا في حياة الجماعة. ولذا فإن هذه القيم تقاوم إكراهات الوسط الطبيعي وتحافظ على وجودها بدرجة عالية من اليقظة والاهتمام.

فالتقاليد ليست مجرد توسط أو دمج ثقافي فحسب فهي بوظيفتها التحويلية هذه تمكن الجماعة من تجديد ذاتها وتنقلها من حالتها التي كانت عليها إلى الحالة التي تتمثل فيما يجب أن يكون. والتقاليد لا تتحدد بالاتصالات الشفوية فحسب يمكنها أن تقوم على أساس إبداعي يتمثل في قدرة الجماعة على إبداع معاني رمزية أسطورية عبر الممارسات الحياتية اليومية لأفراد الجماعة. وبالتالي فإن هذه لممارسات لا تأخذ طابعا آليا بل تعبر عن حالة توافق بين المنتج والذي يعاد إنتاجه وإبداعه.

3- بين مفهومي التقليد والتخلف:

يجب علينا أن نفصل في التداخل القائم بين مفهومي التقليد والتخلف. فكثير من الباحثين يأخذون مفهوم التقليد بمضامين أيديولوجية قوامها أن صفة التقليد ترمز إلى التخلف بمختلف مضامينه ومعانيه. وعلى خلاف هذه الرؤية يمكن القول بأن التقليد لا يعني تخلفا بالضرورة بل يشير إلى مجموعة من السمات والخصائص السوسيولوجية المحددة. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن هذه الكلمة "التقليد" تنطوي على مضمون نسبي جدا. لقد أصبحت السمات والخصائص التي عرف بها عصر التنوير في أوروبا في حكم التقاليد وهذه التقاليد كانت ترمز وما زالت إلى أهم مرحلة حضارية في تاريخ أوروبا. وهذا هو الحال فيما يتعلق بمرحلة الحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى ولا سيما فيما بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين. وهو عصر ازدهار العقل والفلسفة والمعارف العلمية.

وعلى هذا الأساس فإن مفهوم التخلف يأخذ مساره بعيدا عن مفهوم التقليد. فالتخلف حالة اجتماعية ووضعية تاريخية تأخذ سمات سوسيولوجية محددة قوامها في الأصل الحالة التي لا يستطيع فيها مجتمع أن يواكب روح العصر فيما يتعلق بأنماط الحياة والوجود. وفي هذا يمكن لنا القول بأن حالة المجتمعات العربية المعاصرة متخلفة حتى بالقياس إلى العصر العباسي في القرنين التاسع والعاشر وذلك على الرغم من مظاهر الحضارة السائدة في القرن العشرين.

فالعرب في القرون الأولى للهجرة كانوا يشكلون حالة حضارية بكل المعايير العقلية والإنسانية ولا سيما بالنسبة لعصرهم. أما اليوم فإنهم يمثلون حالة تخلف حضاري وهذا يعني أن الروح الحضارية القديمة تسجل غيابها اليوم بكل المقاييس. ومن هذا المنطلق لا يمكن القول بأن القرون الأولى للهجرة كانت متخلفة بل كانت متقدمة في عهدها بينما نستطيع القول بأن العرب يعيشون حالة تخلف شاملة في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.

فالتقاليد لا تتناقض مع العقلانية، والتقليد لا يعني في كل الأحوال حالة تخلف. أما التخلف فهو الحالة التي تشير إلى اتساع المسافة الفاصلة بين العقلانية وأنماط الوجود، أو هي الحالة التي يعتمد فيها المجتمع أنماط إنتاج قديمة مع إمكانية توظيف إمكانيات إنتاج حديثة: مثل استخدام أنظمة إنتاج رعوية وزراعية قديمة مع وجود إمكانيات أفضل. ويتأسس على هذا أن درجة العقلانية هي المؤشر الأساسي لحالة التخلف والتحضر. وهذا يعني أيضا تباينا بين مفهومي التحديث والتخلف. فالتحديث لا يعني بالضرورة حضارة أو تقدما. فالتحديث يدل على مظاهر الحضارة فإذا كنت استخدم تقنيات حديثة اليوم فهذا لا يعني بالضرورة أنني عقلاني وحضاري. فكثير من الخبراء والمتخصصين وأغلب الناس أيضا يستخدمون منجزات الحضارة من هاتف وتلفزيون وكمبيوتر ولكن لا يعني هذا بالضرورة أنهم على درجة عالية من العقلنة التي تشير إلى حالة داخلية متنورة في النظر إلى الكون والوجود والحياة. وهذا يعني أن شخصا يعش اليوم في هذا العصر قد لا يكون على درجة من التنوير التي توازي حالة شخص عاش في العهد الإغريقي المتنور وتأثر بالفلسفة والفكر الإغريقي. وهذا يعني أيضا بأن الناس الذين يعيشون في هذا العصر ليسوا أكثر تنويرا وعقلانية من هؤلاء الذين عاصروا المعتزلة والأشاعرة أو إخوان الصفا، هؤلاء الذين كانوا يجادلون ويفهمون طبيعة الخلافات الفلسفية في عصرهم. ومع ذلك نقول ما كان سائدا في عصر الإغريق أو عصر المعتزلة يصبح الآن جزءا من التراث والتقاليد ولكنه ليس جزءا من التخلف الذي نعيشه في هذا العصر.

ويتأسس على ما عرضناه أن التخلف حالة من الوجود التي تتناقض مع درجة العقلانية التي حققها المجتمع الإنساني في مرحلة من مراحل تطوره. وبالضرورة فإن المجتمع العربي المعاصر يعيش حالة تخلف عصري شامل لأنه لم يستطع أن يواكب مستوى تطور العصر الحالي بمستوياته العلمية والمعرفية. فالجهل واللاعقلانية وغياب المعرفة العلمية وهيمنة الخرافة والرواسب الأسطورية واعتماد أساليب إنتاج بائدة وقديمة هي مؤشرات التخلف. أما التقليد فهو التراث الذي ما زال حيا بمعطياته الروحية والإنسانية. وهذا يعني أن التقاليد قد تكون في أصل التخلف إذا كانت تعبر عن حالة تخلف أو متخلفة بجوهرها. وقد تكون في أصل التقدم إذا كانت عقلانية وحضارية في زمنها وعصرها.

وعلى هذا الأساس فإن تقاليدنا العربية تحمل في مضامينها مؤشرات حضارية ومؤشرات التخلف. وكلما كانت هذه التقاليد عقلانية كانت حضارية وهي متخلفة إذا كانت مناهضة للعقل والعقلانية. وعلى هذا الأساس يجب التمييز بين التقليد وبين التخلف، فأحدهما لا يطابق الآخر بالضرورة، فهناك تقليد متخلف وهناك تقليد يومض بالعقلانية: استخدام الرعي في العصور القديمة حالة عقلانية أما استخدامه في العصر الحالي حالة من حالات التخلف.

ومع أهمية هذا التمييز فإن أغلب المفكرين العرب يستخدمون أوصاف التقليد بمعنى التخلف، وهم يصيبون عين الحقيقة، لأن تقاليدنا التي تعود إلى ألف سنة ماضية، هي تقاليد لم تشهد تواصلا في وميض العقل والمعرفة العلمية، منذ اللحظة التي توقف فيها نضح العقل، وعطاء الاختلاف، ووهج المعرفة الفلسفية، أي في حدود القرن الثالث عشر وما يليه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تتسم العقلية العربية بالطابع التقليدي أم أنها تشكل حالة حداثية تواكب مفهوم التخلف والتقليد في الفكر العربي: التخلف يساوي التقليد، والتقليد يساوي التخلف وذلك العصر وما يقتضيه من روح عقلانية؟ وهنا يتوجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار توافق في مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية. ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال يمكن لنا أن نستند إلى آراء نخبة من المفكرين العرب الذي شغلوا بدراسة هذه القضية.

3- المجتمعات التقليدية:

غالبا ما ينظر الباحثون إلى "المجتمعات التقليدية" بوصفها مجتمعات شفوية قلما تعتمد التدوين والكتابة بصورة عامة، في حين ينظر إلى المجتمعات الحديثة، بوصفها المجتمعات التي قطعت أشواطا واسعة في ميدان الكتابة والاتصال الجماهيري والمعلوماتية "(19).

في المجتمعات القديمة التقليدية لا تتشكل الجماعة على أساس الوعي الواضح العقلاني بأهمية التضامن الاجتماعي، بل تتكون هذه الجماعات بصورة عفوية على أساس علاقات روحية أسطورية رمزية تؤدي إلى تماسك الجماعة وتفاعلها في دائرتي الزمان والمكان على أساس علاقات قدسية. فالاختلاف الممكن بين الجماعات التقليدية والجماعات الحديثة ليس في اختلاف الفاعلين أو الناس بل يقوم هذا التباين على أساس التباين في الطقوس والعادات والتقاليد التي تحدد لكل فرد دوره ومكانه في إطار الحياة الاجتماعية. ففي الجماعات التقليدية نجد روحا واحدة تأخذ مكانها في داخل كل فرد وتنظم له العلاقة بينه وبين الطبيعة والآلهة والمجتمع.

يميز فريدمان Gerorges friedmann بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة وفقا لدالة العلاقة مع الطبيعة. فالإنسان الريفي يعيش في أحضان الطبيعة وفي علاقة مباشرة مع مكوناتها. وهو في إطار علاقته هذه يتشبع بآليات فعلها ومنهج حركتها وإيقاعات وجودها، ولذلك فهو يتكيف مع متطلبات ومقتضيات وتحديات الطبيعة الفيزيائية.

وعلى خلاف ذلك فإن الإنسان في المدينة التي تغمرها الحداثة ينفصل عن الطبيعة بشبكة معقدة من الآلات والأنظمة التقنية المعقدة والمعارف المتطورة. والإنسان هنا في هذه الحالة لا يخضع لضرورات الطبيعة وهو في هذه الوضعية يحاول أن يتكيف وفقا لمقتضى حاجاته ورغباته وطموحاته. وهو من هذا الموقع يسيطر على الطبيعة ويوظفها لخدمة غاباته وأغراضه. ويطلق فريدمان على هذا الوسط التقني بالوسط الجديد، وذلك لأن ظهور هذا النمط ما يزال حديثا جدا في تاريخ الإنسانية وهو ناجم عن الثورة الصناعية عبر التحولات التي اتجهت من العمل اليدوي إلى العمل الآلي واكتشاف المواد الأولية الجديدة فالمجتمع التقني يختلف عن التقليدي بأنه سبب ونتيجة في آن واحد.

يشار إلى المجتمعات التقليدية على أنها" تلك المجموعات البشرية التي تحكمها أنساق متماثلة من القيم الثابتة والتي تستند في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة، وهي المجتمعات التي تتحكم بها روابط عشائرية أو مذهبية والتي تفلح في صوغ تصورات شاملة عن نفسها وعن الآخر فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تفسره تمسكا بالأصالة. وهي المجتمعات الأبوية التي يتصاعد فيها دور الأب الرمزي في الأسرة (...) مجتمعات تخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية وتعتبره تهديدا لقيمها الخاصة، فالحذر قائم تجاه كل تحديث"(20).

" إنها مجتمعات تأثيميّة تؤثّم أفرادها عندما يقدمون أفكارا جديدة ويتطلعون إلى تصورات مغايرة، ويسعون إلى حقوق كاملة، فكل جديد هو نوع من الإثم، وهي المجتمعات المعتصمة بهوية ثقافية ثابتة تناهض التغيير والتحول، وأخيرا هي المجتمعات التي لاذت بتفسير ضيق ومغلق للنصوص الدينية وصارت مع الزمن خاضعة لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعها للقيمة الثقافية والأخلاقية والروحية الدينية الأصيلة وبالإجمال، هي المجتمعات التي لم تتمكن بعد من التمييز بين الظاهرة الدينية السماوية من جهة، والشروح والتفسيرات والتأويلات الأرضية التي دارت حولها، من جهة ثانية، فتوهمت بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه فصارت تفكر وتتصرف في ضوئها، وهي تختلف باختلاف المذاهب والطوائف والأعراق والبلدان والثقافات والأزمان"(21).

تحليل هذا النص يبين لنا خصائص المجتمعات التقليدية وهي:

1- المجتمعات التقليدية هي تلك المجموعات البشرية التي تحكمها أنساق متجانسة من القيم الثابتة.

2- تستند هذه المجتمعات في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو طائفية أو عرقية ضيقة.

3- تتحكم فيها روابط عشائرية أو مذهبية قبلية ضيقة.

4-لم تفلح هذه المجتمعات في صوغ تصورات شاملة عن نفسها وعن الآخر فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تفسره تمسكا بالأصالة.

5- مجتمعات الأبوية يتصاعد فيها دور الأب الرمزي في الأسرة.

6- مجتمعات تخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية وتعتبره تهديدا لقيمها الخاصة، فالحذر قائم تجاه كل تحديث. فكل تجديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

7- مجتمعات تأثيميّة تؤثّم أفرادها عندما يقدمون أفكارا جديدة ويتطلعون إلى تصورات مغايرة، ويسعون إلى حقوق كاملة، فكل جديد هو نوع من الإثم.

8- مجتمعات معتصمة بهوية ثقافية ثابتة تناهض التغيير والتحول. إنها هذه المجتمعات التي تعيش في أنفاق معتمة يكون فيها شعاع الشمس مؤلما والرياح النقية مصدر إزعاج والخروج إلى العالم مغامرة غير مأمونة العواقب.

9- مجتمعات تعتمد تفسيرا ضيقا ومغلقا للنصوص الدينية وصارت مع الزمن خاضعة لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعها للقيمة الثقافية والأخلاقية والروحية الدينية الأصيلة وبالإجمال.

10 - هي المجتمعات التي لم تتمكن بعد من التمييز بين الظاهرة الدينية السماوية من جهة، والشروح والتفسيرات والتأويلات الأرضية التي دارت حولها، من جهة ثانية، فتوهمت بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه فصارت تفكر وتتصرف في ضوئها، وهي تختلف باختلاف المذاهب والطوائف والأعراق والبلدان والثقافات والأزمان"(22)

" أما المجتمعات الحديثة فهي تلك المجتمعات التي تتميز بحركة متواترة من النشاط العقلي والعلمي حيث تمكنت هذه المجتمعات من تحديث تكويناتها الاجتماعية والثقافية تأسيسا على تصورات متجددة فتحررت من عبء الماضي وتمثلت روحه ولكنها لم تقع في أسره وإنما أدرجته في تفاصيل حياتها، وانفتحت على المستقبل في حركة ناشطة وتعاقدت على صور واضحة حول مفاهيم الحقوق والواجبات والحريات والمشاركة الجماعية في كل شيء"(23).

وتحيا المجتمعات التقليدية المعاصرة ازدواجية ثقافية وعقلية ذات طابع مركزي. وتتوزع هذه الازدواجية في شطرين مركزين للحياة الاجتماعية، حيث تعيش هذه المجتمعات على إيقاعات الحداثة الغربية ولا سيما فيما يتعلق بأنماط الحياة الاستهلاكية والوظيفية، وهي في الوقت نفسه تعيش في أنفاق مظلمة من الماضي البعيد الذي يتنافر على نحو شمولي مع معطيات الحداثة والحاضر. إنها مجتمعات تعيش زمنين مفارقين في آن واحد: زمن الحداثة وزمن القدامة. وبعبارة أخرى تعيش الحاضر استهلاكيا، وتعيش الماضي بأنماطه القيمية، إنها تعيش في العصر الوسيط وفي العصر الحديث في آن واحد. هذه الازدواجية الكبرى تضع هذه المجتمعات في مواجهة إشكالية تاريخية موجعة تفرض نفسها في مختلف تجليات الوجود الاجتماعي والثقافي.

وباختصار يمكن القول أن نقطة الفصل بين مجتمعين أحدهما تقليدي والآخر حديث أو حداثي إذا جاز التعبير هو الموقف من الزمن. فالمجتمعات الحديثة تعيش هاجس المستقبل بالدرجة الأولى فهي تنظر إلى المستقبل وتنظم أسباب وجودها للزمن القادم. أما المجتمعات التقليدية فهي هذه التي تعيش هاجس الماضي ماضي الآباء والأجداد وتراث الأجيال السابقة، وتحاول أن تحافظ على أنماط الحياة التي درج عليها الناس جيلا بعد جيل. وعلى أساس هذا الموقف من الزمن يمكن تصنيف الناس والمجتمعات الإنسانية على أساس تقليدي أو حداثي.

وهناك معايير أخرى للتصنيف تعتمد على طبيعة البنى الفكرية والذهنية. ومن أجل التمييز بين المجتمعات التقليدية وبين هذه التي تأخذ طابعا حداثيا يمكن لنا أن ندرس الخصائص الذهنية المجتمعات التقليدية والحداثية. وباختصار يعرف المجتمع التقليدي بمجموعة من الخصائص التي ينفرد به عن المجتمع التكنولوجي الحديث، فالمجتمع التقليدي يعرف باقتصاده البسيط عادة مثل الرعي والزراعة، ويكون هذا الاقتصاد قائما على مبدأ الكفاية، وتسوده في الغالب علاقات تقليدية تحكمها علاقات قبلية دموية إلى حد كبير، كما هو الحال في أغلب المجتمعات الزراعية في الوطن العربي على سبيل المثال.

وباختصار يمكن القول بأن" التقليد هو الأفكار والقيم والمعايير والمؤسسات ونماذج السلوك القديمة المرتبطة بالماضي، (…) التي تتميز بقدر من الثبات النسبي من جهة، كما يفترض أنه تم نقلها من جيل إلى جيل مما يعكس تقديرا واحتراما لها قد يصل إلى حد التقديس من جهة أخرى" (24).

ويمكن لنا في هذا الخصوص استعراض الجدولين التاليين للمقارنة بين مظاهر المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث(25).3513 جدول

ويميز هشام شرابي بين المجتمع التقليدي البطريركي والمجتمع الحداثي وفقا لتباين الوضعية الخاصة بعدد من المقولات وذلك على النحو التالي  (26): 3514 جدول

4- معايير العقلية التقليدية:

تتسم العقلية التقليدية بالنظرة الأحادية الجامدة إلى الوجود فالحقيقة خيار بين خيارين: حق وباطل، خير وشر، عدل وظلم وهي لا تقبل فكرة التعدد والتنوع والتناقض في بنية الكون فالوجود يرتدي لونا واحدا وحقيقة لا تقبل الانقسام والتجزئة(27).

فالسمات التقليدية للثقافة العربية تتمثل في كينونة مجتمع إيماني إخواني (…) يتحدد برابطة النسب والعصبة ومن ثم فإنه لمن المستحيل عمليا أن نعترف بالإنسان الحر المتخلص من حتميات النسب والانتماء العصبوي. فالإنسان الفرد الحر في مجتمعنا مثار للريبة، وإن أفرط في استقلاله أو أبدي شكا أو خروجا فإن إخوانه ينبذونه، فيصبح شاذا أو خائنا، مرتدا أو كافرا، ملحدا أو زنديقا، رجعيا أو عميلا، محكوما عليه بالجحيم الأبدي، ومن واجب السلطة المقدس أن تقضي عليه لأنه خرق المحتوم والمكتوب"(28).

فالثقافة التقليدية تغرس في وعي أفرادها قيم الخضوع للأمر الواقع، وتعزز لديهم الروح التقليدية القدرية التي تتمثل في القبول بما هو قائم، وعي بالتالي تجريد الفرد من روح المبادرة، وتقتل لديه الإحساس بالمسؤولية، وبالتالي فإنها تضفي الطابع القدسي على أغلب جوانب الحياة والتفكير، وتؤكد على الاتجاهات الماضوية بأخطر مضامينها، كما تسعى إلى تعزيز الأبوية وتغييب الروح النقدية.

تقوم العقلية التقليدية على الإيمان بوجود إرادة كلية صادرة عن قوى كونية خارقة وأن هذه الإرادة تحكم إرادتنا بصورة كلية أو جزئية. ويترتب على هذه الفكرة غياب الإرادة الإنسانية وتدني مستوى حضورها بصورة جزئية أو كلية. فالإرادة الإنسانية وفقا لهذا التصور ليس إرادة مبدعة أو حرة إنها حبيسة إرادات عليا ورهينة قوى كونية طبيعية متعالية تحدد لها مسارها واتجاهاتها (29).

ومن هنا يمكن القول أن الحياة التقليدية هي فعالية إنسانية قوامها إنتاج وإعادة إنتاج مظاهر الحياة التي دشنتها الأجيال السابقة والمحافظة على هذه المظاهر بما تنطوي عليه من قيم أعراف وتقاليد وعادات سلوكية. ولذلك فإن عنصر التجديد يسجل غيابه إلى حد كبير في نمط الحياة التقليدية، والتغير يكون عدميا إلى حدّ كبير. وهذا يعني أن الحياة التقليدية تتجسد في مظاهر وجود ستاتيكية ساكنة تناهض محاولات الإبداع والتغيير على مبدأ كل تجديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وهذه المجتمعات التقليدية غالبا ما تتجسد في مجتمعات القبيلة والريف والبادية والأحياء الشعبية القديمة في المدن.

أما الحياة الحديثة فهي هذه التي تعتمد مبدأ التجديد الدائم وروح والإبداع المستمر نحو كيان وجودي حضاري دائم النمو والاستمرار. ومثالها مجتمع المدينة الذي يعتمد في حركته على التجارة والصناعة والإبداع الفكري والإنساني بمختلف اتجاهاته وتياراته.

وبالطبع فإن مفهوم الحداثة والتقليد مفهومان نسبيان وهذا يعني قد يوصف مجتمع بكامله على أنه تقليدي كما توصف المجتمعات العربية الإسلامية على سبيل المثال، وهذا لا يعني غياب أنماط الحياة الحديثة بالمطلق. وكذلك غالبا ما نجد أنماط حياة تقليدية في مجتمعات حديثة جدا بالمعايير الحضارية مثل باريس ونيويورك ولندن وغيرها من المدن حيث تتواجد أنماط حياة تقليدية محافظة تقاوم التغيير وحركة التجديد المستمرة.

فالتقاليد، بصورتها العامة الإيجابية، خيوط الأزمنة القديمة التي ما زالت قائمة وحاضرة في الوعي. وهي في صورتها السلبية منظومة من الخرافات والعواطف والحكايات والأوهام التي تسيطر على مشاعر أناس حرموا من ضياء العقل وأنواره. والتقليد هو الأفكار والقيم والمعايير والمؤسسات ونماذج السلوك القديمة المرتبطة بالماضي، (…) التي تتميز بقدر من الثبات النسبي من جهة، كما يفترض أنه تم نقلها من جيل إلى جيل مما يعكس تقديرا واحتراما لها قد يصل إلى حد التقديس من جهة أخرى" (30). ومن أجل تحديد خصائص العقلية التقليدية والعقلية الحديثة يمكن أن نعتمد منظومة من المعايير والإشكاليات وأهمها:

4-1- معيار المحافظة والتجديد:

في المجتمعات التقليدية يتجلى دائما الموقف المجانف للتغيير والابتكار، حيث ينظر إلى كل محاولة للتغيير على أنها تهديد اجتماعي، وهنا يمكن لنا أن نلامس الروح التقليدية للعلاقة الذهنية مع الأشياء. وهذا يعني أن المحافظة Conservatisme هي سمة أصيلة في البنية العقلية المحافظة. والمحافظة هنا تضمن لهذه المجتمعات حماية ذاتية ضد كل ما يهدد الطابع التقليدي لوجودها كما أن هذه المحافظة تعد أساسا ذهنيا في عملية تكيف هذه المجتمعات.

فالتغير والتجديد Renouvellement حقيقة تتأصل في عمق العقلية الحديثة أما الثبات فهو قانون جوهري في السجل الداخلي للعقلية التقليدية. وهذا يعني أنه إذا كان التغيير من طبيعة الأشياء في جوهر العقل الحديث فإن الثبات في اصل الوجود يتبدى حقيقة لا تقبل الجدل في العقل التقليدي.

ومن هذا المنطلق يمكن التمييز ببين الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة وفقا لمبدأ المرونة والتصلب فهناك:

1- ثقافات دينامية حديثة تتميز بقدرة عناصرها على الحركة والتوالد والانتشار خارج إطارها الجغرافي، وقدرتها على الإقناع والتحدي وتلبية حاجات الأفراد.

2- ثقافات تقليدية: وهي ثقافات جامدة وذلك لانعدام الراوبط الوظيفية بين وحداتها وعناصرها، فإلى جانب حرية المرأة توجد عناصر عبوديتها والى جانب القانون يوجد الثأر. والثقافة التقليدية تمجد الماضي وتحتقر الحاضر وتتخوف من المستقبل (31).

4-2- معيار التفكير السحري:

يبين التحليل البنيوي للأساطير والذي أجراه ديميزيل (G.Dumezil) وليفي ستروس (C.Levi.Strauss) أن الأساطير نتاج منظم لخيال جمعي وهي تعبير عن لاشعور جمعي يقدم دلالة ومعنى لعناصر الحياة المادية والنفسية الخاصة بجماعة ما. فالبنى المشتركة التي توجد تحت غطاء الأساطير الخاصة بمجتمع ما تتوافق مع النسيج الداخلي للذهنية الجمعية الخاصة بالجماعة.

هذا وتؤدي الأسطورة وظيفة اجتماعية في مختلف المجتمعات الإنسانية (مالينوفسكي ( Malinowski فهي تعبر عن العقائد وترفع من شأنها وتحافظ على المبادئ الأخلاقية ثم تعززها. وهي تضمن فعالية المراسم الطقوسية وتزود الناس بالمبادئ العملية في مجرى حياتهم. باختصار تعمل الأسطورة على تعزيز التلاحم في إطار جماعة ما وذلك من خلال التأكيد على العناصر الثقافية الأساسية للهوية. ومن ثم فإن الدعم الذي تقدمه هذه الأساطير يتيح للجماعة أن تؤكد تماسك هويتها وأن تدفع أعضاءها للمساهمة في المشاركة في بناء الذهنية اللاشعورية.

يضج العقل البدائي والتقليدي أيضا بمظاهر التفكير الأسطوري La pensée Mythique. فالثقافة التقليدية متشبعة بمضامين الأساطير القديمة وهي بالتالي تأخذ طابعا أسطوريا في حركتها وهيئتها. وما نعنيه بالأسطوري هنا هو منظومة المفاهيم والتصورات التي تؤسس على أصول غير منطقية. ومن هذا المنطلق نجد أن أغلب المجتمعات، التي يقال عنها مجتمعات تقليدية أو أحيانا بدائية أو قديمة، تمتلك أسطورة الأصل التي تؤسس للتنظيم الاجتماعي القائم وتضفي الشرعية على المؤسسات السياسية السائدة.

ومع أهمية التقارب بين التفكير الأسطوري والتفكير الخرافي إلا أنه يجب التمييز بينهما وهذا التمييز نجده جليا عند فؤاد زكريا فالتفكير الأسطوري كما يقول "يعبر عن منهجية الشعوب البدائية في التفكير وفي تفسير الكون بمعنى أن الأسطورة كانت تلعب دور المعرفة العلمية في هذه المجتمعات التي لم تشهد ولادة العلم. أما التفكير الخرافي فهو التفكير الذي يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه، والأسطورة غالبا ما تكون تفسيرا متكاملا للوجود على حين أن الخرافة تتعلق بجزئية تتعلق بظاهرة أو حادثة واحدة"(32).

وفي هذا الصدد يرى ليفي ستروس أن الأساطير Mythes تأخذ مكان العلوم في المجتمعات البدائية والتقليدية إلى حد ما(33). وعلى خلاف ذلك فإنه يغلب على المجتمعات الحديثة في حياتها وفي منظوماتها الفكرية أنها تعتمد معطيات العلم والحقائق العلمية بدرجة واسعة جدا. فالحقيقة هي هذه التي تقوم على أسس عقلية وعلمية وبالدرجة الأولى وقلما توجد أفكار ذات طابع سحري أو أسطوري في هذه المجتمعات.

وفي هذا السياق يعرف إبراهيم بدران الخرافة بوصفها" علم لما قبل تاريخ العلم فهي الإرهاصات الأولى لتفسير الوجود و تفسير أحداثه(34). ويرى أن العلاقة بين الخرافة و الحضارة علاقة عكسية وهي أكثر انتشارا في المجتمعات المتخلفة -ومنها المجتمع العربي- أو أكثر انتشارا في الطبقات الصغيرة و الأقل ثقافة. وفي معرض التميز بين الخرافة والعلم يعرف العلم بوصفه" ظاهرة إنسانية وهو موضوع و حصيلة الذهن البشري لتفسير الوجود و رصد حقائقه و هو نشاط ذهني مدعوم بالخبرة و التجربة و الممارسة ومستند إلى حقائق طبيعية قائمة فعلا "(35). فالعلم جدلية متنامية بين الحقيقة كما هي كائنة في الوجود، وبين إدراك الإنسان لهذه الحقيقة و إحاطته بها وقدرته للتعبير عنها"(36).

يقال عادة أن العلم يحرر العالم من أوهامه وهذا يعني أنه يستبدل بالتفسيرات العلمية التفسيرات الخرافية والأسطورية. وهو ينتقل بهذه المعارف من صورتها الذاتية إلى صورتها الموضعية اعتمادا على التجربة والمعرفة العملية. وهذا ما يطلق عليه ماكس ويبر Max Weaber العقلانية Rationality. والعقلانية تقوم على مبدأ أن الأشياء تجد تفسيرها في ذاتها وليس في قوى خارجة عنها مهما يكن أمر هذه القوى، سواء أكانت أساطيرا أو سحرا أو أرواحا أو آلهة. والحقيقة هي حقيقة ليس لأنها اكتشفت بل لأنها قابلة للتفسير منطقيا وتجريبيا. وفي المستوى العملي فإن العقلانية تدفع بإمكانية البحث إلى الأمام وبصورة مستمرة عن أدوات جديدة أكثر موضوعية وفاعلية لتحقيق أهداف محددة وقابلة للتحقق. هذا الوضوح في الاتجاه العقلي والتطبيقي للعقلانية كان في أصل الثورة الصناعية والتقدم الحضاري الشامل.

وفي سياق هذه التصورات يسجل السحر حضوره المستمر وهو يمثل قدرة بعض الأفراد على توظيف قوى وطاقات غير مرئية توجد في أصل الأشياء. والسحر له هدف عملي يسعى إليه ويحققه وفي هذا العدد يبين مالينوفسكي Malinowski حال أفراد التروبريانديس Trobriandais ولا سيما استخدامهم للسحر حيث يلاحظ أن التروبويانديس لا يوظفون السحر عندما يصطادون في البحيرات التي تفيض بالصيد بل يستخدمونه أثناء صيدهم في أعالي البحار حيث الخطر. فالخطر هنا يمارس الفعل الذي تقوم به الأسطورة في التفكير. وكلاهما السحر والأسطورة يؤكدان حضور المقدس. حضور المقدس والدنيوي في آن واحد وتكامل العلاقة الجوهرية بين الوجود الخفي والوجود المعلن لكينونة الأشياء (37). فالناس في المجتمعات البدائية وفق مثيرات ودوافع فوق طبيعية: الله الملائكة الأساطير القوى الخفية. أما المحرضات والدوافع في المجتمعات الحديثة فتأخذ طابعا اجتماعيا.

ومن هذا المنطلق يؤكد مالينوفكسي الوظيفة الحيوية للسحر في المجتمعات البدائية. فالسحر هو استجابة الإنسان الذي يشعر بالقصور والضعف وقلة الحيلة في عالم لا يستطيع التحكم بظواهره أو السيطرة عليه. فالسحر يسجل حضوره الكلي عندما تضعف مقدرة الإنسان العقلية على إدراك أسباب الظواهر ونتائجها في الآن الواحد (38). وفي المجتمعات البدائية والتقليدية غالبا يسجل الوعي العلمي غيابا كبيرا فيترك مكانه لعقلية سحرية تميل إلى امتلاك الواقع على نحو سحري كاستجلاب الحظ والنجاح، أو إبعاد الخطر والشر. وهذا يعني أن التفكير السحري يمتلك وظيفة معرفية تعمل على سد الثغرات في المعرفة السببية لظواهر الطبيعة ولا سيما ما غمض عنها، ومن ثم تشكل هذه العقلية السحرية منطلقا لتفسير العلاقات القائمة بين الناس وتحديد منطق الظواهر الاجتماعية وسببيتها. فالسحر في المجتمعات التقليدية هو ممارسة اجتماعية تهدف إلى تحقيق للرغبات ودرء المخاوف مصدر التهديد لأمن الإنسان في هذه المجتمعات إنها حيلة الإنسان العاجز في مواجهة التحديات الغادرة كما يرى مصطفى حجازي(39).

4-3- معيار المقدس والدنيوي:

يشرح دوركهايم في كتابه الأشكال الأولى للحياة الدينية (40) كيف يمارس أعضاء المجتمع سيطرتهم على بعضهم بعضا عن طريق المعتقدات والطقوس الدينية، ويرى بأن السمة المميزة للدين هي تقسيم العالم إلى مملكتين متعارضتين جوهريا: تحتوي الأولى على كل ما هو مقدس والأخرى على كل ما هو مدنس (41). ويبين دوركهايم في هذا السياق أن الأشياء المقدسة هي هذه التي تصان بالمحرمات. ولا ينحصر المقدس في الآلهة والأرواح ولكنه يمتد ليشمل كائنات جامدة: صخرة، نبع، حصاة، قطعة خشبية وباختصار يمكن لأي شيء أن يكون مقدسا. ويرى دوركهايم أيضا أن الإله هو تعبير رمزي عن المجتمع. وبفضل الفصل بين المقدس والمدنس يمكن للإنسان أن يضع الأشياء في دائرتين: تشمل الدائرة الأولى (المدنس) كل ما يمكن أن يخضع للتساؤل والمعالجة والتجربة، أما الدائرة الثانية ( المقدس) فهي هذه التي تضم كل ما من شأنه أن يتعالى على التخمين والظنون والمعالجة. وبعبارة أخرى: المقدس هنا يأخذ هذا القطاع الذي لا يمكن للإنسان أن يبحثه أو يعالجه أو يلامسه هو المجال الذي يعلو على الشك

وعلى الطعن والنقد والتجريب، وهو المطلق القدسي الذي يعلو فوق التصورات والأوهام.

ومن الخصائص التي تعرف بها المجتمعات التقليدية هي حالة التواصل والتداخل بين الدنيوي profane والمقدس sacré. وفي هذا المجال يبيّن ميرسو إليادEliade Mircea أن البدائيين غالبا ما يعتمدون منهجا في تفسير الظاهر يقوم على تفسير الأشياء الظاهرة بأشياء أخرى خفية، وذلك انطلاقا بأن ما يرى ويشاهد ليس إلا جزءا من العالم الكلي. وهذا النسق الخفي من الأشياء والأفعال هو المقدس الذي يضفي صورة الكمال على الأشياء المادية ويعطيه دلالته الحقيقية: إذ أنه لا يمكن للأشياء أن تفسر نفسها بنفسها بل إن الحقيقة هذه الأشياء تكمن في الأنساق المقدسة لوجودها. والأنساق المقدسة هنا هي مصدر هذه الأشياء وحقيقتها ومن هنا يفيض المجتمع التقليدي بطابعه الرمزي ويمور بمعناه الأسطوري. وهذا النسق القائم بين المقدس والدنيوي ينسحب على الحياة الجمعية. فالحياة الاجتماعية تتكيف أيضا مع أنساق قدسية غير منظورة وتفسر بها(42).

ومن هذا المنطلق فإن توزع المجتمع إلى طبقات متباينة، وتوزيع المنازل، ودورة السنة، أو الحياة الإنسانية هي مظاهر تفسر عبر القوى المقدسة. فعلى سبيل المثال: تكثر الاحتفالات في المجتمع التقليدي وهذه الاحتفالات تشكل مراحل في الدورة الزمنية للسنة وهذا يعني أن هذه الاحتفالات هي نوع من المشاركة بالأحداث غير المنظورة التي تتكرر في كل عام. وعلى هذا الأساس فإن إدراك الأفراد في المجتمع التقليدي لمجتمعهم والتفسيرات التي يقدمونها لأحداثه. تتكامل بالضرورة مع رؤية كونية تفسر الوجود الطبيعي والوجود الاجتماعي وتعيدهما إلى أصول قدسية عليا. وهنا يمكن لنا أن نفهم معنى الكونية Globalisme الشمولية التي تتسم بها العقلية التقليدية. ومع ضيق المجال الجغرافي لهذه المجتمعات فإنها وعبر رؤاها الأسطورية تجعل من نفسها مركز الكون والوجود.

لا يعني هذا أن المقدس يختفي من المجتمعات التكنولوجية. فالدين والمقدس يستمران في الوجود، وأحيانا يلاحظ نهوضا للحياة والنشاطات الدينية والقدسية. ومع ذلك فإن العلاقة بين المقدس والدنيوي تأخذ اتجاهين متكاملين في المجتمعات الحديثة: تمييز واضح ومتطور بين الدنيوي والمقدس وذلك في مستوى الوعي كما في مستوى المؤسسات هذا من جهة. وفي مستوى العمل السياسي العقلي يأخذ هذا التمييز اتجاهه في صورة الفصل بين السلطات الدينية والسلطات الدنيوية من جهة أخرى.

5- عقلية القطيع وإشكالية الفردية:

يعد مفهوم الفردية من أكثر المفاهيم إشكالا إذ يتضمن على نقائض بلا حدود ويأخذ طابعا أيديولوجيا(43). وهذا يعني أنه يجب الاحتراز فيما يتعلق بمفهوم الفردية عندما يؤخذ على عواهنه، حيث يوظف هذا المفهوم في أغلب الأحيان توظيفا أخلاقيا سلبيا فيه تلميحات تبخيسية تحط من شأن الآخر الذي يوصف بالفردية ولا سيما في الثقافة العربية. وفي هذه الصورة السلبية للمفهوم يشار إلى صفة التسلط أو العزلة الاجتماعية وقد يشير إلى نزعة مضادة للجماعة معادية للتعاون مع الآخرين أو إلى الأثرة والأنانية أو التسلط وإلى عدد آخر من الصفات السلبية التي تحيط باستخدامات هذا المفهوم.

تعني الفردية واقعا اجتماعيا وثقافيا يستطيع فيه الناس، بوصفهم أفرادا، اختيار طريقة حياتهم وسلوكهم وممارسة عقائدهم،، مجتمع يضمن فيه النظام الاجتماعي والقضائي حماية حقوق الناس بوصفهم أفرادا غير مكرهين على التضحية أو التنازل عن شيء يعتقدون به (44).

وهنا يترتب علينا أن نميز بين الفردية والذاتية. فالفردية تعني أن يأخذ الإنسان موقفا معينا من قضية ما أو مجموعة قضايا وأن يكون الفرد بالضرورة واعيا بأبعاد موقفه. أما الذاتية فهي اللحظة التي يرى فيها الفرد أنه محور الوجود أو مركز الكون في مسار حياته الاجتماعية وأن يفهم الأشياء من خلال مصلحته الذاتية (45). وهذا يعني بالضرورة صورة من صور الأنانية. فالفردية هي شيء غير النزعة الذاتية أو الفردية التي تنضح بالأنانية والاستغراق في نرجسية لا حدود لها.

وفي هذا الصدد يجب التأكيد على أن مفهوم الفردية Individuality في صورته العلمية براء من كل هذه التوصيفات السلبية التي تعني الأنانية والذاتية والنرجسية. فالفردية مصطلح علمي يتضمن عناصر إيجابية مختلقة تماما عما ينسب إليه في الاستخدامات الجارية. فالفردية هي صورة الإنسان الذي يتمايز عن الجماعة أو الآخرين بطرقة تفكيره وعمله ونظرته للوجود. وهي حالة من حالات شخصنة الفرد أي إعطاء الفرد سمات وخصائص شخصية يتفرد بها ويكتسب عبرها هويته المميزة. في المجتمعات القديمة لا توجد هناك شخصية للفرد وخصائص يتميز بها عن الآخرين، ومع سياق التطور الاجتماعي يكتسب الفرد وبحكم الضرورة التاريخية وتقسيم العمل شخصية يتمايز فيها عن الآخرين. وهذا لا يعني أبدا التفرد والانفراد والعزلة والتضاد مع ما هو اجتماعي بل يعني أن الفرد يكتسب خصائص يتمايز فيها عن الآخرين في سياق التعاون والتكامل الاجتماعي. وتاريخيا غالبا ما ينظر إلى الفردية كمؤشر للتطور الاجتماعي والثقافي. وهذا يعني أن الفردية مؤشر حضاري يجسد حالة التطور التي استطاع المجتمع أن يحققها ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا. فالطبيب والمهندس والعالم والمفكر وأغلب المتخصصين والمثقفين في المجتمع يعيشون حالة فردية فردانية بمعنى أنهم يمتلكون خصوصية فكرية واجتماعية ومهنية يعرفون بها ويتمايزون من خلالها ويكتسبون بها هوية خاصة تميزهم عن سائر الأفراد الآخرين في المجتمع.

في المجتمعات الحرة التي يأخذ فيها مفهوم الفردية حضوره إذ يعيش الناس في عالم يستطيعون فيه اختيار طريقة حياتهم، وفق عقائدهم الخاصة، ويسيطرون على معالم وجودهم بطرق مختلفة، وهم يمتلكون منظومة من الحقوق الفردية، والقانون يعمل على حماية هذه الحقوق الفردية، وعلى هذا الأساس فإن الناس ليسوا مجبرين على التضحية بشيء على أساس القيم الجمعية التي ينظر الناس على أنها مقدسة وأنها تتجاوزهم (46).

وهذا يعني في النهاية أن مفهوم الفردية يقابل مفهوم الجمعية، وبالضرورة فإن الفردية تعني الشخصية المتمايزة التي ترتكز إلى مبادئ الحرية والاستقلال الذي يحظى به الفرد في مسار نمائه الاجتماعي وتطوره الإنساني. ولا بد من الإشارة في هذا الخصوص أن مفهوم الفردية بما ينطوي عليه من مضامين عقلية وسياسية واجتماعية يعد من المفاهيم المؤسسة للنهضة الغربية في القرن الثامن عشر وما يليه من مراحل تاريخية.

في المجتمعات التقليدية، ولا سيما البدائية، تأخذ العقلية صورة العقلية الجمعية والقطيعية Mentalité de troupeau. فالفرد لا يستطيع أن يتصور وجوده على أساس مستقل لأنه يشعر بأنه جزء عضوي في الجماعة التي ينتمي إليها. فهو فرد في قطيع تحكمه معايير وقيم واحدة وهو بالتالي نسخة متكررة عن شخصيات القبيلة التي لا تغاير فيها. وهذا يعني أن وجود الفرد بوصفه كيانا مستقلا متميزا لا وجود له في هذه المجتمعات. ويعد دوركهايم من ألمع المفكرين الذين أشاروا إلى هذه القضية في مختلف أعماله ولاسيما في كتابيه تقسيم العمل De la division du travail social (47)، والأشكال الأولى للحياة الدينية Les formes élémentaires de la vie religieuse (48)، حيث يبين أن تطور المجتمعات يأخذ طابع الانتقال من التكامل الاجتماعي الآلي إلى التكامل العضوي، وذلك عبر عملية تقسيم العمل المستمرة. وفي هذا السياق يوضح أن التكامل في المجتمعات الأولية أو البدائية يأخذ طابع التكامل الآلي فالفرد صورة طبق الأصل ونسخة مكررة عن شخصية القبيلة أو المجتمع الذي ينتمي إليه، وذلك بأفكاره وأسلوب تصوره للحياة ونمط حياته، وهذا بالطبع يعود إلى أنماط الحياة الاقتصادية البسيطة جدا التي تعتمد على الصيد أو الرعي أو الزراعة البسيطة، وجميع أفراد القبيلة يمارسون العمل نفسه وأنماط الإنتاج والسلوك عينها وهذا يعني وجود نوع من التكامل الآلي في داخل هذه المجتمعات. ومع تطور أساليب الإنتاج والعمل وظهور التخصصات يتفرد كل شخص في القبيلة باختصاصات معينة مثل التجارة والصناعة وتربية الحيوان والعمل الثقافي والمهني ويبدأ معها أفراد المجتمع بالتمايز ثقافيا وفكريا وسيكولوجيا ويبدأ المجتمع مرحلة جديدة يعتمد فيها على التكامل العضوي بين مختلف الوظائف الجديدة أو مع تقسيمات العمل وهذه هي سمة المجتمعات العصرية أو الحديثة. والفرد في هذه المجتمعات يمتلك خصوصيته واتجاهاته وفرديته على خلاف المجتمعات التقليدية التي تتطابق فيها شخصية الجماعة مع شخصية أفرادها حيث تغيب الفردية والخصوصية. وهذا يعني أن الروابط في المجتمعات البدائية تأخذ صورة روابط دموية قرابية جمعية بينما تأخذ طابعا ثقافيا فرديا في المجتمعات الحديثة أو المعاصرة. وفي المستوى الذهني يمكن القول بأن العقلية التي تسود في الجماعات الأولية أو القديمة هي عقلية القطيع وعلى خلاف ذلك تسود العقلية الفردية في المجتمعات التي حققت تقدمها الاجتماعي.

وتتضح فكرة دوركهايم في الصورة التي يقدمها أفلاطون في أسطورة الكهف حيث يبين كم هو صعب بالنسبة للفرد أن يتحرر من المألوف والمتعارف عليه. وهذا يعني أنه من الصعب جدا على الفرد أن يتمسك بمبادئ وقيم تتناقض مع عقائد الجماعة وقيمها لأن ذلك سيؤدي به إلى العزلة الاجتماعية بعيدا عن أقرانه ولداته.

ومع ذلك يمكن القول بأن الفرد لا يستطيع دائما أن يختبئ وراء حجاب العقائد والأيديولوجيات القائمة بل يجب عليه أن يتخذ موقفا يتكامل مع غاياته ومقاصده الفردية وهنا يمكن القول بأن عقلية القطيع تصب اللعنة على الوعي الفردي. وترى بأن الحماية الأساسية للفرد تكمن في عزوفه عن الاعتقاد بأي شيء آخر غير عقائد الجماعة أو الخضوع لأية سلطة أخرى غير سلطة المجموع. فالعرق والعائلة والدين تعمل على تشكيل الفرد ومنعه من أن يكون لذاته وأن ينصرف لمقاصده الفردية ومن أن يكوّن هوية فردية خاصة (49).

فالإنسان المختلف يشكل مصدر إزعاج وهو لا يشكل مصدر إزعاج لأنه مختلف بل لأنه يتصرف وفقا لإرادته الخاصة. وبالتالي فإن التصرف وفقا للإرادة الفردية يعني أن الفرد يحتكم إلى بصيرته وهذا بدوره يؤكد انفصاله عن الذكاء الجمعي وهذا يعني أنه ليس لأي فرد الحق في أن يعلن عن حق خاص به مهما يكن في المجتمعات القديمة (50).

وباختصار يمكن القول أن الفردية خاصة من خصائص التطور الاجتماعي وهي خاصة تتجسد في قلب الحياة الاجتماعية للمجتمعات الحديثة والمعاصرة. وعلى خلاف ذلك فإن الجمعية Collectivity تعد خاصة أساسية من خصائص المجتمع البدائي حيث يكون الفرد مجرد صورة عن الجماعة التي ينتمي إليها.

6- خاتمة:

يتضح فيما أسلفناه وسلطنا الضوء عليه أن فالعقلية هي الطريقة المألوفة التي يعتمدها الفرد أو المجتمع ككل في التفكير حتى في أكثر وضعيات الانفعال والإثارة. والعقلية تمثل نوعا من السلوك العفوي الذي لا يحتاج إلى كثير من التأمل والتفكير والنظر. فالإنسان كائن ذهني عقلي وهو محكوم بعقلية تنمّط سلوكه وتوجه حياته كليا وذلك على خلاف الحيوان الذي يخضع للنزعة الحيوية الخاصة بوجوده وكيانه. ونحن عندما نستخدم الصيغة الجمعية للعقلية " العقليات " فإننا هنا نتحدث عن تفكير جمعي وعن عقل جمعي أو سيكولوجيا عقلية جمعية قطيعية. وعندما نتحدث عن عقلية الإنسان المعاصر مع مقارنتها بعقلية الإنسان الإغريقي أو مع العقلية التقليدية فإن ذلك يرمز إلى وجود تفكير جمعي بمواصفات محددة. والسؤال هنا هو كيف يمكن تحديد السمات الأساسية لهذا التفكير الجمعي؟ وما معيار التحديد الممكن؟ وما المجال الذي يغطيه حقل الدراسة في مستوى العقلية؟

إن التباين في العقليات أمر ملموس مع تغاير الزمان والمكان. وهذا التغاير يتزايد بازدياد المسافة الزمنية. فالعقلية التي سادت في العصر الوسيط تبدو لنا غريبة ومباينة للعقلية التي توجه مسار حياتنا. وفي هذا السياق يمكن القول بأن عقلية القدماء تتقاطع مع عقليتنا وإننا بالتالي عندما نقوم بتحليل تحول هذه العقليات الجمعية وتغيرها عبر الزمن ما بين عصر وآخر يمكننا بناء تاريخ للعقليات الإنسانية.

وقد يدهشنا جدا أن نعرف إلى أي حدّ كان أسلافنا القدماء يختلفون عنا بتصوراتهم ومعتقداتهم وأساليب حياتهم وأنماط تفكيرهم. فالدراسات التاريخية تصدم تصوراتنا الشمولية وتؤكد الطابع النسبي للأشياء والتصورات والقيم: فأسلافنا كانوا يمتلكون عقائد أخرى ونماذج أخلاقية مختلفة ومشاعر متباينة عن هذه التي نمتلكها. فتصوراتنا عن الأسرة والعائلة والزمن والمجتمع والقيم تختلف جوهريا عن هذه التي سادت في زمن الأسلاف القدماء. والفكرة الأساسية التي يقدمها لنا تاريخ العقليات هي فكرة واحدة: لا يوجد هناك شيء خالد أو كلي في حياة الإنسان الاجتماعية على مدى تاريخه المديد عبر العصور والحقب التاريخية. فنحن على سبيل المثال نعتقد أو ربما يخيّل لنا أن الشعور بالقيمة العائلية كان دائما قائما عبر الزمن عند جميع بني الإنسان. ولكن الدراسات التاريخية للعقلية تبين لنا خطل هذه الفكرة وبطلانها وإن الحالة لم تكن هكذا أبداً. فالجاذبية الجمالية التي تتميز بها شواطئ البحار وقمم الجبال قد تمكون قيما حديثة نسبيا، وذلك لأن أسلافنا كانوا يسبغون عليها قيما سلبية حول الأمرين وذلك لأن القدماء كانوا يخافون من البحر ويمتلكهم خوف مجانس من الجبال التي كانت ترمز إلى الخطر. هذا ويبين لنا المؤرخون أن أسلافنا القدماء كانوا لا يخافون ولا يذرفون الدموع أو يبكون للأسباب نفسها التي تخيفنا وتبكينا اليوم.

وباختصار، فإن المعطيات العامة لهذا التحليل التاريخي أصبت مألوفة ومعروفة ضمن ما يمكن تسميته الاتجاه الثقافي Culturalisme. والثقافوية هذه تمثل نزعة فكرية تعيد كل أنماط السلوك الطبيعي إلى أصول ثقافية وقد نجمت هذه النزعة عن تأثير الأنتربولوجيا البنيوية. فالثقافة وفقا لهذا التوجه هي التي علمتنا كل الأشياء التي نقوم بها: فهناك ثقافة للدموع، وأخرى للجنس، وواحدة للهضم، وثقافة للصحة، وثقافة للخجل، وللخوف، والنوم.

ويتميز الاتجاه التاريخي للعقلية ببساطته حيث يتمحور حول تساؤل بسيط في جوهره: كيف كان يعيش أسلافنا القدماء (جنسيا، وصحيا، وعقليا، وروحيا ...إلخ)؟ وهذا الأمر يتبع بتساؤل حول طبيعة الاختلاف الثقافي القائم بين الحقب والمراحل التاريخية؟ فالقدماء لا يبكون في المناسبات نفسها التي نبكي فيها نحن المعاصرين، ولا يعيشون الحياة الجنسية التي نعيشها نفسها، كما لا بنظرون إلى النظافة بمعاييرنا المعاصرة ...إلخ.

ومن هذا المنطلق يمكن تبرير مفهوم العقلية من خلال الثقافة الطبيعية بمعنى أن الثقافة كانت في أصل الطبيعة على خلاف ما يجري الاعتقاد اليوم بأن الطبيعة متقدمة على الثقافة. فالمعيار الثقافي وفقا لهذا التوجه يحدد لنا نمط السلوك الذي نؤديه ويحدد لنا في الوقت نفسه ما يجب علينا أن نقوم به وما يجب علينا ألا نقوم به. وهذا يعني في نهاية الأمر أن الثقافي هو الذي يشرط ويحدد اجتماعيا البعد الطبيعي بوصفه بعدا ثقافيا. فعندما أشعر بالخجل واستشعر الجمال واشعر بالخوف عندما ابكي أقوم بكل هذه الأشياء لأنني تعلمتها وتعلمت القيام بها. وإذا كان المرء لا يمتلك ناصية الثقافة التاريخية فإنه سيعتقد بأن ما يقوم به من بكاء وحزن واعتقاد قد كان دائما قائما في التاريخ الإنساني. وهذا يعني أن هذه الأمور قد نجمت عن خلفية طبيعية.

والخطأ العام الذي نقع فيه دائما يتمثل في الاعتقاد بأن كل ما هو عادي هو طبيعي بالضرورة المنطقية. فما هو طبيعي ليس إنساني، أو ما هو طبيعي يؤسس على ما هو أبدي أي ما هو طبيعي. وبعبارة أخرى ما هو طبيعي يمتلك صفة كونية عامة. ونحن نمثل في سلوكنا الإنساني ما هو طبيعي بمعنى أننا نبحث عما هو ثابت ودائم. ونحن هنا مجبرين على تصديق أن كل ما كنا نعتقده طبيعيا كان ثقافيا. وهكذا يهدم تاريخ الفكرة التي تقول بأن الإنسان كان وسيبقى ويبرهن على أن الإنسان ليس كائنا أبديا أعطي دفعة واحدة وأنه لا يقبل التغيير والتبديل. فالماضي أمر مختلف عن الحاضر كما العقليات في الماضي مختلفة جدا عنها في الحاضر. وهنا يمكننا الحديث عن الإنسان في عصر النهضة والإنسان في العصر والوسيط والإنسان في العصر الروماني وفي العصر الإغريقي وهكذا دواليك. كما يمكننا أن نتحدث عن عقلية رجل العلم ورجل الأدب ورجل الفن ...إلخ.

وفي صيغة العلاقة بين القديم والجديد في العقلية وكيف يتجدد الوعي تاريخيا بأشكال جديدة من التفكير نستحضر على سبيل الطرفة والمثال المرحلة التاريخية التي حوربت  فيها «مانعة الصواعق»، بوصفها هرطقة دينية ، والكيفية الشرسة التي هوجم  فيها مخترعها بنيامين فرانكلين من قبل رجال الدين، وذلك بحجة هو أن البرق غضب من الرب، وبما أنه غضب رباني فالكنيسة إذن محصنة، ولم يستطع أحد أمام هذا التفسير أن يعترض، وأصدرت السلطات بيانا «إنه من الفسق والكفر ادعاء أن الرب سيسمح للبرق بصعق إحدى الكنائس . ومن الطرائف التاريخية أنه في الفترة بين 1750 و 1783 قتل أكثر من 120 شخص من قارعي الأجراس في الكنائس في أوروبا بسبب الصواعق بينما صمدت بيوت "الدعارة " التي وضعت مانعات الصواعق. ولم يتأذ أحد من روادها، وعلى الأثر فرض على الكنيسة أن تقر بمشروعية وضع موانع الصواعق على أسطح الكنائس واعترفت أخيرا بفوز العلمي أوهامها الكنسية . .

مراجع الدراسة وهوامشها:

***

أ.د. علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

...........................

[1] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المتغيرات في عالم الغد، ترجمة محمد علي ناصيف، الطبعة الثانية، نهضة مصر، القاهرة، 1990، ص160.

[2] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المرجع نفسه ، ص 162.

[3] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المرجع نفسه ،  ص 160.

[4] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المرجع نفسه ، ص 166 .

[5] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المرجع نفسه ، ص 167 .

[6] Regardez: Herve Martin, Mentalités médiéval X1-XV, Nouvelles Clio. P.U.F., Paris, 1996,

[7] عبد الله عبد الدايم: التربية والقيم الإنسانية في عصر العلم والتقانة والمال، المستقبل العربي، السنة العشرون، العدد 230، نيسان /إبريل، 1998، (صص 64-86)، ص80.

[8] نستخدم مفهوم البدائية إشارة إلى المجتمعات الإنسانية القديمة التي تسجل حضورها في مسرح الحياة الإنسانية في مرحلة سابقة للكتابة أو في مرحلة سابقة حيث وظفت أدوات بدائية جدا في عملية التكيف والصراع من أجل الوجود. وهذا يعني أن هذا المفهوم كما يوظف هنا لا يحمل أية مضامين أخلاقية أو مؤشرات تقلل من شأن هذه المرحلة أو أهميتها.

[9] -Lucien- levé - Bruhl, La Mentalité primitive, ALCANE, paris, 1922.

[10]- Guy rocher: Introduction a la sociologie générale, organisation sociale, point, paris, 1968, p101.

[11] حدث هذا التطور في أعماله الأخيرة التي رفض فيها بعضا من تصوراته الأولى.

[12] - Lucien- Lève - Bruhl, la mentalité primitive, paris, alcane, 1922, p 7.

[13] سيغموند فرويد، الطوطم والتابو، ترجمة بو علي ياسين، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1983، اللاذقية، ص57.

[14]- Claude Levi – Strauss, la pensée sauvage, Paris, 1962, pp (26 - 33).

[15]-  Lucien- Lève - Bruhl, La Mentalité Primitive, Paris, Alcane, 1922, P8.ssss

[16]-  ر.بوردون و ف. بوّريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1986،  ص196.

[17] -.بوردون وف. بوّريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، المرجع السابق ،  ص196.

[18]- عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة البحاث العربية، بيروت، 1984،ص 25.

[19]- ر.بوردون و ف. بوّريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، مرجع سابق ، ص194.

[20]- عبد الله إبراهيم، المجتمعات التقليدية في عالم متغيّر، قضايا إسلامية معاصرة، العدد 19، 2002، صص164-183، ص164.

[21]- عبد الله إبراهيم، المجتمعات التقليدية في عالم متغيّر، المرجع السابق، ص165.

[22]- عبد الله إبراهيم، المجتمعات التقليدية في عالم متغيّر، المرجع السابق، صص164-183، ص165.

[23]- عبد الله إبراهيم، المجتمعات التقليدية في عالم متغيّر، المرجع السابق، ص165.

[24]- عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة البحاث العربية، بيروت، 1984،ص 25.

[25]- Robert Laffont, Encyclopedie de sociologie, Grammont, Paris, 1976.

[26]- محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الحداثة الفلسفية نصوص مختارة ، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت  ، 2009، ص91.

[27]-انظر، عياض بن عاشور، الضمير والتشريع: العقلية المدنية والحقوق الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1968، ص18.

[28]- عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، المرجع السابق، ص17-18.

[29]- عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، المرجع السابق، ص16.

[30]- عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984،ص 25.

[31]- عز الدين دياب، الشخصية والثقافة: محاولة لفهم دور الفرد فى النهضة العربية المعاصرة، شؤؤون عربية، عدد4، حزيران/يونيو، 1981، (صص 125-138)، ص136.

[32]- فؤاد زكريا، التفكير العلمي، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1992،ص57.

[33]- Lucien- Lève Bruhl, La Mentalité Primitive, Paris, Alcane, 1922, P 104.

[34]- إبراهيم بدران، حول العقلية العربية، من مركز دراسات الوحدة العربية، الفلسفة في الوطن العربي المعاصر: بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول الذي نظمته الجامعة الأردنية، بيروت، 1987( ص291 _306 )، ص303.

[35]- إبراهيم بدران، حول العقلية العربية، المرجع السابق، ص304.

[36]- إبراهيم بدران، حول العقلية العربية، المرجع السابق، ص304.

[37]- B.Malinowiski, Magic, science and religion, GLENCO, the free presse, 1948, p.14.

[38]- Malinowski, myth in primitive psychology -London-kegan Paul -1926-p110

[39]- مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور، معهد الإنماء العربي، بيروت 1989، ص160.

[40]- Emile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse, Le système totémique en Australie, Paris, P.U.F, 1960,

[41]- Regarde: A.R. Radcliffe - Brown: Structure et fonction dans la société primitive, POINTS, Paris, 1968, pp230-260.

[42]- Mircea Elide, Le sacré et le profane, Gallimard, collection (IDEA), Paris, 1965.

[43]- Alain Laurent, Histoire de l’individualisme, Que sais-je, No 2712, P.U.F., Paris, 1993, P.3.

[44] Charles Taylor, Les Malaises de la modernité, C.E.R.F., Paris, 1999, P.15.

[45] في مشاركة له في مناقشة ورقة سعدون حمادي: الوحدة الثقافية والتعليم ملاحظات أولية في مركز دراسات الوحدة العربية، دور التعليم في الوحدة العربية: بحوث ومناقشات وقائع القدوة التى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3،1983، ص36.

[46] Charles Taylor, Le Malaise de la modernite, Humanite Les Edition de CERF, Paris, 1999, P.10.

[47] Emile Durkheim, De la division du travail social, 110 Ed., P.U.F, Paris, 1986.

[48] Emile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse, 2O Ed. P.U.F., Paris, 1990.

[49] Alain Laurent, Histoire de l’individualisme, Que sais-je, No 2712, P.U.F., Paris, 1993

[50] Luis Dollot, Culture individuelle et culture de Mass, Que sais-je. No 1552, P.U.F., Paris. 1990.

 

بقلم: أنيكا شميدنج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يبدو أن الصوفية، التي كانت ذات يوم مركزًا للثقافة الأفغانية، قد اختفت في خضم الحرب والاضطرابات. ولكنها ما تزال على قيد الحياة.

بدأت معرفتي بعالم الصوفية الأفغانية في عام 2015، أثناء تناول الغداء مع صديقي روح الله، مدير معهد الأبحاث في كابول. كنت أعمل في أفغانستان في قطاعات مختلفة، بدءًا من الوظائف الحكومية وحتى الوظائف غير الحكومية، وقد عدت لاستكشاف موضوعات الدكتوراه التي كنت قد شرعت فيها قبل عام.

سألت ماذا حدث للصوفيين في أفغانستان. هل ذهبوا جميعا؟ ففي نهاية المطاف، كانت أفغانستان ذات يوم مهد التفسيرات الصوفية للإسلام، والموطن الأصلي لمولانا جلال الدين بلخي، المعروف في الغرب باسم الرومي. هل اختفى الصوفيون وسط النزوح الذي عجلت به الحروب المتعاقبة التي اجتاحت أفغانستان منذ أواخر السبعينيات؟ أم أنه تم استبدالهم بأشكال أكثر تطرفًا وتشددا فى الإسلام، كما تكهن بعض المحللين؟ ضحك روح الله. وقال: "إنهم ما زالوا هنا".أنتم الأجانب لا تسألوا عنهم. الشيء الوحيد الذي يهمك هو النوع الاجتماعي ومكافحة التمرد وبناء الأمة.

إن أية نظرة سريعة على العناوين الموجودة في المكتبات أو عناوين الصحف حول أفغانستان تثبت رؤية روح الله: كان صناع السياسة والصحفيون ومعظم الباحثين الغربيين يميلون إلى تعزيز أنواع المعرفة حول أفغانستان التي تسترشد بها السياسة، ولهذا الغرض لم يكن الصوفيون مفيدين بشكل خاص. ولكن حتى عند البحث إقليميًا عن الأدبيات المتعلقة بالصوفيين في أفغانستان، كل ما تمكنت من العثور عليه هو نصوص عن الانتشار التاريخي للصوفيين وأهميتهم، على الرغم من عدم وجود أي شيء عن حياتهم ونضالاتهم الحالية.

في بعض الأحيان، لا تزال الصوفية تظهر على المسرح العام، على سبيل المثال في عام 2016 عندما حاولت إيران وتركيا المطالبة بالمثنوي المنوي، وهو أعظم أعمال الرومي، باعتباره تراثًا ثقافيًا مشتركًا (توفي الشاعر في قونية، في تركيا الحالية، عام 1273 - وكتب باللغة الفارسية، وهي اللغة المستخدمة في كل من إيران وأفغانستان). بالكاد لاحظ العلماء والنقاد الغربيون ذلك، لكن في أفغانستان، قال المثقفون العامون مثل الشاعر الحائز على جائزة ومدرس الشعر الصوفي حيدري وجودي إن "مولانا ينتمي إلى أفغانستان الحالية وخراسان الأمس". "إنها مسؤولية الحكومة الأفغانية أن تتخذ إجراءات سريعة في هذا الصدد لحماية تراثنا." كما أدان التماس على الإنترنت محاولة سرقة التراث الثقافي لأفغانستان، بينما أجرت وزارة الخارجية محادثات مع اليونسكو بشأن الاستخفاف الملحوظ. وكتب عطا محمد نور، حاكم مقاطعة بلخ الشمالية آنذاك، حيث نشأت عائلة مولانا، رسالة إلى الأمم المتحدة يدين فيها محاولات إيران وتركيا "الإمبريالية" للاستيلاء على الرومي وتجاهل بلخ باعتبارها "الوطن الأم" للشاعر الموقر.

وقد كشف هذا "الجنون الدبلوماسي"، كما أسمته إذاعة أوروبا الحرة/راديو ليبرتي، عن اعتزاز الأفغان بالصوفية، وأنها لا تزال تتمتع بالقدرة على إثارة جدل حاد. الصوفيون في أفغانستان لا يتفقون أبدًا مع الروايات الغربية حول طالبان أو الحرب والاحتلال. لذلك تم تجاهل الصوفية. إن الإجلاء العسكري الأمريكي الفوضوي في عام 2021 واستيلاء طالبان الكاسح على السلطة، مع كل مشاهد المعاناة وانتهاكات حقوق الإنسان التي تلت ذلك، جعل من الصعب تخيل أفغانستان حيث يناقش علماء الصوفية النقاط الدقيقة للوجود الإسلامي ويتأمل الشعراء فيها الطرق اللانهائية ليفقد المرء نفسه في جمال خلق الله. ويتطلب الأمر جهدًا كبيرًا أن نتذكر أن الصوفية، في تجسيداتها المتعددة الأوجه، كانت خيطًا مركزيًا في نسيج الحياة التاريخية والفنية والتعليمية والسياسية في أفغانستان. كانت التقاليد الصوفية ذات يوم مؤثرة جدًا في البلاط الملكي، لدرجة أن الملوك مددوا رعايتهم للشعراء الإسلاميين والفنانين التصويريين الذين أضاءوا المخطوطات ونسجوا الزخارف الأدبية الصوفية في لوحات رائعة. ويذهب بعض المؤرخين، مثل وليد زياد، إلى حد القول إن الطرق الصوفية التي كانت متجذرة بقوة فيما أصبح فيما بعد أفغانستان بنت "خلافتها الخفية"، وأنشأت شبكات في جميع أنحاء الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا.

تذكرنا هذه الفصول بأن تاريخ أفغانستان يتجاوز الاضطرابات الجيوسياسية في الوقت الحاضر، ويعود إلى تراث غني من التعبير الروحي والفني. يبدأ تاريخ مراكز التعلم الصوفي، مثل المحفل الصوفي البهلواني في الجزء القديم من كابول، في هذا الوقت المختلف: في القرن الثامن عشر، انتقلت العاصمة من جنوب قندهار إلى مدينة كابول ذات القمة الجبلية، وهي الهجرة التي بشرت بموجة من التحول الثقافي والروحي. وكان من بين أولئك الذين شرعوا في هذه الرحلة باتجاه الشمال رجل يُدعى صوفي شير محمد وابنه مير محمد. حصل الصوفي شير على لقب بهلوان، أو "المصارع"، وهو دليل على براعته القتالية الخارقة. ولكن أيضًا اسم يستحق الثناء لأنه ناضل من أجل الضعفاء. وفي قلب كابول، بنيا خانقاه بهلوان، أو نزل المصارع، في منطقة اسمها عشقان عارفان، وهو مكان يجتمع فيه العشاق والصوفيون، الباحثون عن المعرفة، في سعيهم وراء الحكمة الإلهية. هنا، اجتمع المريدون لأداء طقوس الذكر التأملي الأسبوعية (حرفيًا، "ذكر الله") والتقدم الروحي من خلال القراءة والتعلم.

في العصر الحديث، استمرت الصوفية في لعب دور مركزي في الفكر والممارسة الإسلامية في أفغانستان حتى الربع الأخير من القرن العشرين على الأقل. لم يكن الشعر الصوفي ظاهرة هامشية، بل كان منهجًا سائدًا لتدريس الإسلام في المدارس الدينية بأفغانستان. إلى جانب القرآن والحديث، تعلم الطلاب التفسير الشعري بناءً على ملخصات الرومي والسعدي وحافظ. قال لي صديق أفغاني: "في الماضي، كانت هناك معرفة شفهية حول كيفية فهم الشعر وإلقائه وغنائه". "حتى عهد الاتحاد السوفييتي، كانت المساجد [بالإضافة إلى القرآن] تدرس الشعر أيضًا، من خلال مجموعات مثل بانج جانج... الآن لا يوجد سوى التعلم عن ظهر قلب، ولا يوجد تحليل"

وأشار صديقي أيضا إلى أن الاحتلال السوفييتي لأفغانستان كان فترة تغيير جذري وعنف على مستويات متعددة. وأدى القتال والدمار إلى هجرة العديد من الأفغان إلى البلدان المجاورة، في حين تغيرت الأفكار حول ماهية السلطة الإسلامية خلال الجهاد، على خلفية الحرب الباردة.

يمتد النسب الروحي لخانقاه بهلوان إلى قرون مضت، لكن الهندسة المعمارية لجناح كابول نفسه تحمل آثار رحلتها عبر تاريخ أفغانستان الحديث. خلال إحدى الزيارات في عام 2018، أخبرني الحاج تميم، الحارس: "كان علينا إعادة بناء السقف والطابق العلوي مرتين"، موضحًا كيف تعرضوا للقصف بالصواريخ التي هزت أساسات النزل. وتابع: «ثم جاء المجاهدون. لقد نهبوا وأحرقوا كل ما كان هنا. أخذوا جميع الأطباق والأغراض من المسجد [في الطابق الأول] ومن الخانقاه [النزل]. حتى أنهم أخذوا السجادة من المسجد!‘ خلال الحرب الأهلية، عندما قاتلت فصائل المجاهدين المختلفة بعضها البعض، وجدت الخانقاه نفسها في كثير من الأحيان على شفا العنف، واضطراب صفائها بسبب الحرب.

اختارت الطائفة الصوفية أحيانًا التجمع في مسجد في جزء آخر من كابول، حيث واصلوا اجتماعات الذكر ودراساتهم الروحية. وعندما تمكنوا أخيرًا من العودة في التسعينيات، اجتمع الطائفة  معًا لإصلاح الخانقاه المتضررة. ساهمت شبكة واسعة من الطلاب والزوار المنتظمين ماليًا وعماليًا في إعادة بناء المبنى. يستخدم الصوفيون في كابول الخانقاه للاجتماعات والاحتفالات والطقوس بالإضافة إلى مساحة مجتمعية لدراسة الشعر وسير الشيوخ  والفلسفة. وبدون أي دعم من الدولة، تجمعت الطوائف الدينية الصوفية، وتم إصلاحها وتجديد شبابها بأفضل ما تستطيع.

كان من الممكن أن يكون هذا نهاية الخنقاه الصوفية، وأن يبدأ قادته حياة جديدة في الخارج. وبينما كنت أسير عبر قاعة الاجتماعات الرئيسية في الطابق الثاني، وهي عبارة عن مساحة مستطيلة طويلة مزينة بسجاد أحمر غني بالزخارف، مضاءة بمجموعة من الثريات، قادني الحاج تميم إلى خزانة معدنية زرقاء داكنة مخبأة في زاوية الغرفة. فتح الخزانة وبدأ بوقار في استعادة مجموعة الآثار. الأولى:  عصا خشبية للمشي، كانت في يوم من الأيام الرفيق الدائم لبهلوان صاحبو مؤسس الخانقاه، قبل أكثر من قرنين من الزمان. وبينما كان الحاج تميم يحتضن الموظفين، روى لهم تاريخ كل قطعة.3505 الصوفية

الحاج تميم يعرض القبعة الخاصة بالحاج أحمد جان. خانقاه بهلوان، كابول، 2018

وكان من بينها قبعة كانت تخص الحاج أحمد جان، وهو مدرس محترم ارتبط مستقبله بالعصر المضطرب لحافظ الله أمين، عندما أطلق الانقلاب الشيوعي عام 1978 حملة مروعة استمرت لمدة عام من التطهير الأيديولوجي لتأكيد السيطرة على التعليم الديني. في هذه الفترة القصيرة، ولكن الكارثة، تراوح العدد التقديري للمختفين بين 50.000 و100.000. المثقفون الذين تجرأوا على انتقاد الحكومة، والمفكرين الليبراليين، والماويين، وعلماء الدين، وكذلك أولئك الذين تم اعتقالهم بشكل تعسفي في عمليات التطهير، وجدوا أنفسهم مكبلين بسلاسل الاضطهاد. وقال الحاج تميم بصوت منخفض: حتى التلاميذ المخلصين ومعلمي الطرق الصوفية المحترمين لم يسلموا من هذا القمع. “كان الحاج أحمد جان هو من قاد الخانقاه. فجاءوا وأخرجوه وألقوا القبض عليه. وعندما عاملوه بخشونة، فقد قبعته. سقط على الأرض. لم يعد أبدًا.

أدى اضطهاد حزب الحزب الديمقراطي الأفغاني لمعلمي الدين في نهاية المطاف إلى التحولات الأكثر ديمومة، بما في ذلك التحالفات غير المتوقعة التي من شأنها ضمان سلامة المحفل وأعضائه. لا تمثل هذه الآثار الثمينة أساس الخانقاه فحسب، بل تمثل أيضًا نقطة تحول، تميزت بقمع النظام الشيوعي، الذي أجبر العائلة التي كانت حراسها المخلصين على المنفى. تم القبض على المعلم وكذلك أفراد آخرين من عائلة بهلوان الذين تم اعتقالهم لعدة سنوات. في ذلك الوقت، لم يكن من الممكن أبدًا معرفة ما إذا كان الاعتقال سيؤدي في نهاية المطاف إلى إطلاق سراحه أو اختفائه. اتخذت عائلة بهلوان قرارًا بمغادرة أفغانستان إلى الأبد - أولاً إلى باكستان، ثم الهند، قبل أن تستقر في الولايات المتحدة وألمانيا. كان من الممكن أن يكون هذا نهاية المحفل الصوفي، أو أن تبدأ قيادته حياة جديدة في الخارج، أو يتفرق الطلاب إلى أماكن أخرى للتعلم أو يتخلون عن طريقهم تمامًا. لكن العائلة عقدت صفقة مع رجل دين هادئ ومتواضع من جزء آخر من المدينة: سيصبح رئيس النظام، ويحرس المحفل ويقود الطائفة. وهكذا بدأت قيادة الحاج سيقال، الزعيم غير المتوقع لطائفة بهلوان الصوفية في كابول.

عندما خرج الحاج سيقال من عتبة مسجده إلى شوارع منطقة ميكرورايون في كابول، ركض أولاً عبر طرق واسعة ثم تحول إلى أزقة متعرجة في طريقه إلى حدود خانقاه بهلوان الكريمة، عبر العديد من المساحات والحدود. في المسجد، كان الرجل العجوز الذي يرتدي ملابس بسيطة ولحيته البيضاء المهذبة وقميصه الذي لا تشوبه شائبة وعمامته المتواضعة على رأسه الأصلع هو حارس القانون، والإمام الذي يؤم الصلاة في أحد الأحياء خمس مرات في اليوم. وكان يلقي خطبة يوم الجمعة يشرح فيها رسالة القرآن والأحاديث.في محفل الطائفة الصوفية البهلوانية، كان الحاج سيقال حارس المعرفة الروحية التي يعتقد أتباعه أنها جعلتهم أقرب إلى الحضور الإلهي. إن الانتقال من دور إلى آخر، ومن الملا إلى المرشد الصوفي (البير) والعودة مرة أخرى، لم يكن أقل - وربما أكثر - انتقالًا روحيًا.

هذا الدور المزدوج لم يُسمع به تقريبًا في التقارير المتعلقة بأفغانستان. وفي الآونة الأخيرة، أصبح الملالي، ربما بشكل غير عادل، طبقة سيئة السمعة من الزعماء الإسلاميين، في كل من الشرق والغرب. في أبسط معانيه، الملا هو مسلم متعلم تدرب على العقيدة الإسلامية والشريعة المقدسة، ويشغل منصبًا رسميًا في مسجد كإمام. لكن هذا المصطلح يجسد مجموعة واسعة من السمات، بدءًا من زعيم المجتمع المحترم إلى الدوغمائي الصارم إلى موضوع السخرية الأخرق. ويُعتقد أن الملالي لديهم القدرة على إثارة الحشود المتحمسة أو حتى الغوغاء المسعورين، خاصة عندما تتعمق خطبهم يوم الجمعة في التضاريس المشحونة سياسيا.

منذ استيلاء طالبان على أفغانستان في عام 2021، وسلفه الثيوقراطي في إيران في عام 1979، أصبح النفوذ الجيوسياسي الذي يمكن أن يمارسه الملالي الحاكمون مصدر قلق إقليمي ومصالح استراتيجية. ولكنها يمكن أن تكون أيضًا نكتة كما هو الحال مع الملا نصر الدين، وهو شخصية ساخرة من فئة الأحمق الحكيم، والمعروف جيدًا في الفولكلور الإقليمي من البلقان إلى الصين؛ أحيانًا ما يكون بارعًا، وأحيانًا حكيمًا، ويقدم الفكاهة التعليمية التي تنتقد الأقوياء وتذلهم.3506 الصوفية

لقاء الذكر في خانقاه بهلوان أغسطس 2021

وبقطع النظر عن موقعهم في الطيف – سواء كانوا محترمين أو مذمومين أو موضع سخرية – فإن الملالي غالباً ما يتم تصويرهم على أنهم نقيض الصوفيين. ومع ذلك، ففي أفغانستان، التي من المفترض أنها تجسيد لكل ما هو خاطئ في "إسلام الملالى  "، كان هناك الحاج سيقال، الذي كان يتولى كلا الدورين بسهولة نسبية. كيف يمكن لملا، معادٍ للفكر والممارسة الصوفية، أن يصبح زعيمًا صوفيًا، ورئيسًا لخانقاه تاريخية  وذات شهرة كبيرة في قلب كابول، ويرتدي عباءة المعرفة الباطنية وحاميًا  لجماعة  الصوفية البهلوانية؟

لقد تم فصل الصوفية عن الإسلام ووقعا في شخصين مختلفين ومتعارضين بالنسبة لمؤرخي الإسلام، فإن الوضع المزدوج للحاج سيقال ليس مفاجئًا جدًا. لعب العديد من العلماء التقليديين (العلماء) على مر التاريخ دور الفقيه والمفكر الصوفي والقائد والمرشد في وقت واحد، بما في ذلك الغزالي وعبد الله الأنصاري والرومي نفسه. ومع ذلك، في الوقت الذي تم فيه اختيار حاج سيقال كزعيم، أدت التغييرات التي حدثت خلال الحرب الأهلية في أفغانستان إلى توسيع الصدع المفاهيمي بين ما يعتبره الكثيرون إسلامًا صوفيًا يتناقض بشكل صارخ مع "الإسلام الملالي" الشرعى، وهو الصدع الذي لا يزال قائمًاحتى يومنا هذا.

يعود أصل هذا الانقسام إلى الأدبيات الاستعمارية والمستشرقية التي قسمت الإسلام بين الإسلام الشرعي فى مقابل التصوف أو الصوفية  كمسعى فردي وليبرالي. ومن أمثلة هذا التقسيم كتابات ماونت ستيوارت إلفينستون، المبعوث الاستعماري المبكر (1859-1779)، الذي يصف ثلاث فئات من المسؤولين الدينيين: "الملالي"، "الرجال المقدسون" (السيد، الدرويش، الفقير، والقلندار). و"الصوفي" الذي يعتبره أقلية من الفلاسفة. بعد أن تخلى إلفينستون عن سوء تصوير الصوفية كطائفة، رأى الملالي والصوفيين كأعداء متعارضين تمامًا في السياق الديني. تم الفصل بين الصوفية والإسلام وتم وضعهما في أدوار مختلفة: عالم يدرس العلوم الإسلامية، مقابل صوفي يرى ما وراءها .وتجاهلاً لحقيقة التوجه المزدوج للعالم والصوفي في شخص واحد، انفصلت الصوفية عن الإسلام ووقعتا في شخصيات مختلفة ومتعارضة.

لم ينقسم الإسلام إلى قسمين (شرعى مقابل صوفي) فحسب، بل انقسمت الصوفية أيضًا: الصوفية كفلسفة – الفن الرفيع وأدب الشعر الصوفي –  على النقيض من الصوفيين الأحياء المعاصرين الذين غالبًا ما كان يُنظر إليهم على أنهم معيبون، أو حتى دجالون .وكما أوضحت عالمة الأنثروبولوجيا كاثرين إيوينج في عام 2020 في نظرتها العامة لسياسات تمثيل الصوفية، فقد تمت دراسة "الرجال المقدسين" الأحياء وإدارتهم بعناية من قبل المسؤولين الاستعماريين. بل على العكس من ذلك، فقد فك رموز الشعر والأدب الصوفي الصوفي من قبل المستشرقين. وبدلاً من رؤية هذه الأشكال المختلفة على أنها تنتمي إلى مجموعة متنوعة من المعتقدات، تم وضعها في أدوار وشخصيات متبادلة.

ولعبت هذه الانقسامات المفاهيمية أيضًا دورًا في توزيع السلطة الدينية خلال عقود الحرب في أفغانستان.قبل بداية الصراع، كانت المطالبات التقليدية بالسلطة الدينية مبنية على المعرفة الدينية أو التدريب الكتابي أو الأنساب الصوفية. وكانت المشكلة بالنسبة لزعماء الأحزاب الإسلامية الذين برزوا خلال الجهاد ضد السوفييت هي أنهم كانوا يفتقرون إلى كل هذه المؤهلات. لقد تطورت الإسلاموية في الوسط الجامعي الحضري في أفغانستان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكان معظم قادة الأحزاب الإسلامية الناشئة في أفغانستان، وجميعهم متمركزين عبر الحدود في بيشاور، رجالاً تلقوا تعليماً جامعياً دون أي تدريب ديني تقليدي أو نسب لجماعة صوفية. وبدلاً من ذلك، أضفوا الشرعية على ادعاءاتهم بالقيادة من خلال حقيقة أنهم كانوا أول من بدأ الجهاد ضد حكومة حزب الشعب الديمقراطي في كابول وكان لديهم إمكانية الوصول إلى الأسلحة والأموال من خلال مساعدة باكستان وقوى أجنبية أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.

في بيئة تتسم بالدمار الفج والتغيير المجتمعي الدقيق، حيث كان الأداء الخارجي للتقوى مرتبطًا إما بمنصب داخل الحرب كمجاهد أو كسلطة يمكن التعرف عليها من خلال اللقب والمنصب،أثبت الحاج صقال أنه الرجل المناسب في الوقت الحالي بطريقتين رئيسيتين: أولاً، منصبه وتدريبه كملا؛ وثانيا، نزعته العملية الشخصية في التعامل مع توقعات سماسرة السلطة. إن منصبه كرجل دين بسيط جعله معروفًا لقادة المجاهدين ومسؤولي طالبان باعتباره عالمًا دينيًا محافظًا محترمًا، وإن لم يكن مهددًا، وشخصًا عرفوا منصبه الرسمي في مسجده، والذي ستميزه رتبته بطريقة ما على أنه "أحد رجال الدين". منهم" – عضو شرعي في سلطة شرعية دينياً.وكان بإمكانه مواجهة المسؤولين عندما يأتون للزيارات للتحقق مما يجري في الخانقاه، وكان بإمكانه تقديم صورة من الاحترام من خلال التأكيد على أن الممارسات الشعائرية تقع ضمن قواعد الشريعة الإسلامية.

يبدو أن مسجد الحي الذي كان يؤمه الحاج سيقال في حي ميكرورايون الذي بناه السوفييت كان مظهرًا ماديًا لهذه المهارة في التمويه الاجتماعي. كان المبنى الخرساني البسيط والجدران المستطيلة والقاعات الفارغة والسجاد الأحمر البسيط بعيدًا كل البعد عن البلاط المبهر والأقواس والقباب المبنية بشكل مثير للإعجاب في العمارة الإسلامية في آسيا الوسطى والعالم الفارسي. كنت أتوقع بطريقة ما مكانًا أكثر جمالًا من الخارج كمقر لزعيم صوفي. ولكن هنا، لم يكن الحاج سيقال يرتدي هذا العباءة، بل كان يرتدي بدلاً من ذلك زي أحد رجال الدين المتواضعين في الحي. وتبين أن المسجد كان عبارة عن مستودع ومركز توزيع تم إعادة استخدامه لأغراض أخرى حيث كان الأفغان يأتون ذات مرة لاسترداد قسائم الطعام الخاصة بهم خلال حكومة حزب الشعب الديمقراطي في أواخر السبعينيات والثمانينيات. وفي وقت لاحق، أصبح واحدًا من المساجد غير المسجلة في أفغانستان والتي يقدر عددها بـ 94000 مسجدا. البيئة التي اختارها الحاج سيقال كقاعدة للتدريس والوعظ مرت دون أن يلاحظها أحد: مسجد واحد من بين العديد من المساجد، وملا واحد من بين المئات.

كان اختيار الحاج سيقال زعيماً لطائفة البهلوانية بمثابة ضربة عبقرية ملاحية. وكان أصحاب السلطة الذين سيطروا على كابول في التسعينيات - سواء كانوا من المجاهدين أو من طالبان لاحقا - يركزون على الامتثال الخارجي للسلوك والألقاب التمثيلية التي تلبي توقعاتهم فيما يتعلق بالمؤهلات الدينية؛ قام الحاج سيقال بتجاوز كل تلك العقبات،  أما بالنسبة لعائلة المحفل البهلواني الصوفية وأتباعهم، فقد تم اختياره لشخصيته وأفعاله. لقد رأوه وهو يكبر، منذ أن كان صبيًا صغيرًا، وكان ينضم أحيانًا إلى والده في زياراته إلى خانقاه بهلوان للذكر. هذه المعرفة بالحالة الداخلية للحاج سيقال طغت على أوراق اعتماده الخارجية عندما قرر المجتمع من سيعهد إليه بمستقبل الخانقاه.

أصبح الحاج سيقال، الملا والبير، رمزًا للتكيف الإبداعي

من جانبه، أظهر الحاج سيقال قدرة بارعة على إدارة البيئة المضطربة. وكان بإمكانه، عند الحاجة، اللجوء إلى شرطة الأخلاق التابعة لطالبان التابعة لوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بفضل معرفته العميقة بالشريعة. يمكنه بنفس القدر من الخبرة تلبية احتياجات المجتمع الصوفي. وعندما اتخذ وزراء مختلفون خطوات لإغلاق المحفل الصوفي، اعتمد على شبكته من طلاب المدارس وعلاقاتهم بمختلف مسؤولي طالبان لإبقاء أبواب الخانقاه مفتوحة. قاد المجتمع الصوفي إلى القرن الحادي والعشرين وأشرف على تحديث المحفل الصوفي على مدى العقدين التاليين في ظل الحكومات الائتلافية، حتى ظهور المزيد من التغييرات داخل النظام.

عندما زرت المحفل الصوفي آخر مرة في شتاء عام 2022، لم تكن حركة طالبان قد استولت على أفغانستان فحسب، بل أغلقت أيضًا جميع المحافل الصوفية في جميع أنحاء البلاد بعد انفجار قنبلة داخل محفل صوفي آخر في كابول في أبريل – نفس المكان الذي حصل فيه الحاج سيقال على إجازته (الإذن بنقل المعرفة). ولم يقتصر الأمر على إغلاق المحافل فحسب، بل تم أيضًا إغلاق المؤسسات الدينية التي كان علماء الصوفية يقومون فيها بتدريس دروس المثنوي الأسبوعية. كان السبب الرسمي هو نفسه في جميع الحالات: التهديد بشن هجمات خطر الهجمات (من المفترض أن يكون ذلك من قبل فرع تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان، على الرغم من عدم إعلان مسؤوليتهم رسميًا عن أي من الهجمات على الأماكن الصوفية). يعتقد أحد علماء الصوفية في كابول أن طالبان استخدمت الهجوم كذريعة مناسبة لإغلاق المحافل لأنها كانت في الواقع ضد الصوفية، بحجة أنه لو كانت طالبان مهتمة برفاهية الجمعيات الصوفية، لكانت قد أعطت المحافل المزيد من الأمن. الموظفين بدلا من إغلاقها تماما. ففي نهاية المطاف، لماذا يريدون إغلاق مكان يقدم الدعم، والتثقيف الروحي، ووجبة دافئة وشاي، وكل مظاهر المساعدة الذاتية المجتمعية في وقت تعرضت فيه أفغانستان لضربة شديدة من الكساد الاقتصادي وكانت العديد من الأسر تغرق في الفقر؟

لم يتمكن الحاج صقال من رؤية هذه التغييرات، فقد توفي بسبب ورم قبل عامين من سيطرة طالبان. وكما هو الحال في السنوات السابقة، حدثت التحولات الداخلية داخل المحفل جنبًا إلى جنب مع التغييرات السياسية العلنية في أفغانستان. وبعد الكثير من النقاش داخل المجتمع، سواء في أفغانستان أو في الخارج، تولى القيادة بائع كابلات الهاتف المحمول الهادئ الحاج تميم، الذي كان يرعى المحفل الصوفي لعقود من الزمن مع الحاج سيقال.

إن قصة رعاية الحاج سيقال والحاج تميم للمحفل الصوفي في كابول القديمة هي مجرد واحدة من قصص عديدة. بمجرد أن نحول أنظارنا من العاصمة إلى مدن أخرى، من قندهار إلى هرات، ومن باميان إلى بدخشان، نجد آخرين، ربما ليسوا الملالي وبائعي كابلات الهاتف المحمول، وربما هذه المرة خطاطون وبائعو كتب، وأساتذة جامعات وأصحاب متاجر يخفون الكتب. وإعادة بناء المراكز المجتمعية والأضرحة، أو الذين يتجادلون مع السلطات. مع تغير الأماكن والأشخاص، تتغير أيضًا استراتيجياتهم التكيفية في التعامل مع العنف والقمع. ما يبقى على حاله هو حياتهم ضمن تاريخ الصوفيين في أفغانستان الممتد لقرون، منغمسين في الأدب والفن والمعتقد والفلسفة والعبادة. إن متابعة رحلة الجماعة الصوفية عبر الزمن، عبر تاريخ أفغانستان الحديث من الحرب وعدم الاستقرار وكفاح الطائفة البهلوية للحفاظ على تقاليدها، يقودنا إلى مكان حيث نبدأ في رؤية الأفغان بشكل مختلف، وليس عنوان الضحايا الذين يحتاجون إلى الخلاص، ولكن أيضًا كضحايا يحتاجون إلى الخلاص. العوامل الفاعلة في الحفاظ على التراث الثقافي الغني والمتنوع لأفغانستان. ومن هذا المنظور، يصبح الحاج سيقال (الملا والبير) رمزًا للتكيف الإبداعي - وهي الروح التي تبناها خليفته أيضًا.

هز الحاج تميم كتفيه عندما سألته عن إغلاق النزل. "لقد كانت الخانقاه هنا قبل ولادتي، وستظل موجودة لفترة طويلة بعد رحيلنا". ومن وجهة نظره، جاءت الحكومات وذهبت، لكن الجماعات الصوفية تمكنت من الصمود - في بعض الأحيان ببساطة عن طريق البقاء على قيد الحياة، وأحيانا من خلال المشاركة والتنقل الذكي. يمكن أن تتغير الحكومات أو الحكام وقوانينهم، لكن الصوفيين لن يتوقفوا عن التجمع.

***

.........................

الكاتبة: أنيكا شميدنج / Annika Schmeding عالمة أنثروبولوجيا ثقافية وباحثة أولى في معهد NIOD لدراسات الحرب والمحرقة والإبادة الجماعية في أمستردام. وهي مؤلفة كتاب "المدن الصوفية: السلطة الدينية والتغيير السياسي في أفغانستان" (مطبعة جامعة ستانفورد، 2023).

* ماونتستيورات إلفينستون FRSE (6 أكتوبر 1779 - 20 نوفمبر 1859) رجل دولة ومؤرخ اسكتلندي، كان يعمل مع حكومة الهند البريطانية. أصبح فيما بعد حاكم بومباي (مومباي الآن) حيث كان له الفضل في افتتاح العديد من المؤسسات التعليمية التي يمكن للسكان الهنود الوصول إليها. وإلى جانب كونه إداريًا مشهورًا، فقد كتب كتبًا عن الهند وأفغانستان. تعتبر أعماله أمثلة وثيقة الصلة بالاتجاه التأريخي الاستعماري.

أولا: الوحدة الإنسانية بين المسخ والاستنساخ البشري

إن التوافق حول مبدأ التوحد الجنسي المقارب والمناسب بين الذكر والأنثى لتحقيق التناسل قد يعتبر قاعدة فقهية وقضائية ملزمة عند المرافعات الاجتماعية،وذلك لكي لا يقع الخلل وتتدخل الإدعاءات وتدرأ الحدود بدعوى رفع الشبهات وملابسات الجن والشياطين ! إذ الإنسان يقابل الإنسان،أي الذكر والأنثى،عند التناسل وتتحدد طبيعته عند التقابل من حيث اعتبار  العنصرين المختلفين شكلا والمتحدين جوهرا، حتى يتم التزاوج الطبيعي الذي يؤدي إلى تأسيس أسرة سليمة، وبالتالي إلى تكون مجتمع متكامل العناصر والتكاتف من أجل تحقيق المصلحة العامة على سبيل اقتسام الأدوار والوظائف والمهام وتنوعها بحسب تنوع حاجيات وضرورات الإنسانية الثابتة والمتغيرة .

من هنا فالتناسل بين الذكر والذكر غير ممكن،كما أنه كذلك بين الأنثى والأنثى، وأيضا فالتوليد الذاتي غير ممكن ولا سليم بيولوجيا وأخلاقيا، كما قد يسمى بالاستنساخ البشري وهو عبارة عن عبث ودعاوى لا تثبت شرعيا وقضائيا عند الإدلاء بالبينة، رغم المزاعم الإعلامية والتمويه والتضخيمات المرصودة لإقحامها إيهاما في مجال البحث العلمي ونتائجه الواقعية .

فعلى فرض أن تلك النتائج المزعومة حول الاستنساخ من خلال الخلية الواحدة قد تكون صحيحة فإن هذا لا يفت في عضد القاعدة العامة التي أسسناها حول التناسل والتوالد السليم والعادي  وهو ما نصوغه بأنه :"عبارة عن تلاقح معين بين عنصرين متحدين جوهرا مختلفين شكلا "إذ الجزء الأول  من القاعدة يبقى قائما مهما استفرد أحد الجنسين بهذه العملية دون الآخر، سواء كان ذكرا أو أنثى، لأن كلا الجنسين يبقيان ذوي ارتباط جوهري ببعضهما إلى مستوى الذكورة والأنوثة، لأن كليهما يحمل عناصر الذكورة والأنوثة على مستوى الهرمونات والخلايا والمورثات .

فالمرأة في الأصل مخلوقة من الرجل، إذ هي جزء من كل وهو كل لجزء، وما عملية الاستنساخ إن تمت فعلا في ظل التضليل الإعلامي والخدع السينمائية ؛ وهو الذي ينحو بنا إلى التشكيك فيه، إلا عبارة عن عبث وسعي إلى تغيير خلق الله تعالى كاقتفاء لتغريرات الشيطان الرجيم الذي أبى إلا أن يسلخ البشرية من قاعدتها السليمة في النشوء والتكون، وتوريطها في مسخ خلقي  وأخلاقي وشكلي ووظيفي كما يقول الله تعالى مبينا أبعاد التغرير الشيطاني"لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم و لأمنينهم و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله،ومن يتخذ الشيطان وليا دون الله فقد خسر خسرانا مبينا" .

فحسب ما يلخص به الاستنساخ المعبر عنه بالاستنساخ الجسدي –اللاجنسي- هو أنه"الذي يستغنى فيه عن الحيوانات المنوية للرجل ويكون بأخذ خلية من ثدي المرأة وتلقح بها بويضة منها أيضا،ويتم وضعها في الرحم لكي تنجب أنثى مشابهة لها تماما، وإذا كان المراد ذكرا فيكون ذلك بأخذ خلية من رجل وتلقح ببويضة امرأة وتوضع في الرحم فيأتي الجنين ذكرا مشابها تماما للرجل الذي أخذت منه الخلية".

هذا التلخيص يبقى في نظرنا مجرد دعوى لأن وجود الشبه بين شخصين ليس بالضرورة يعني أن عملية الاستنساخ بهذه الطريقة قد أدت إلى نتيجة ما،إذ يوجد من الشبه أربعون كما يروى، ومن هنا فمسألة الشبه غير قطعية في إثبات  نجاح الاستنساخ عن طريق الخلايا الجسدية دون الجنسية، كما أن العدالة مفقودة عند الممارسين لهذا الإجراء العبثي في تغيير خلق الله تعالى ؛وهي من شروط إثبات النسب في الشريعة الإسلامية سنعرض له في حينه، بل إن هذا  العمل الاستنساخي إن ثبتت نتائجه فعلا سيكون خروجا عن القاعدة البشرية الأصلية في التزاوج إلى غير جنسها،كما يقال عن تناسل الجن الأول فيما يحكيه ابن عربي بخصوص هذا الموضوع القريب من مآل الاستنساخ البشري " ويقال أنه  لم يفصل عين الموجود الأول من الجان نفسه فنكح بعضه ببعضه فولد مثل ذرية آدم ذكرانا وإناثا ثم نكح بعضهم بعضا فكان خلقه خنثى، وكذلك هم الجان من عالم البرزخ لهم شبه بالبشر وشبه بالملائكة كالخنثى يشبه  الذكر ويشبه الأنثى ".

هذا التعليل سواء صح أم مجرد خيال فإنه مع ذلك ذو ارتباط بالموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه حول مسألة الولادة   والاستنساخ الذي قد لا يأتي إلا شاذا ومرضيا ومحرفا للطبيعة البشرية السليمة .

فمن حيث إمكانه الذهني فالعقل لا يحيل وجوده،أما إذا ظهر في الواقع  فالحكم كما يقول الفقهاء للوجود فيما سنرى،لكن ليس كل ما هو موجود يعتبر مشروعا أو فيه مصلحة أو خير، لأن البلاء يكون بالشر والخير معا،والكل يتم بإرادة الله ومشيئته "و نبلوكم بالخير والشر فتنة " إلا أن المطلوب هو التزام المشروع الذي يضمن سلامة البشرية ومجتمعها، وبالتالي سلامة البيئة والحفاظ عليها من التلوث والعبثية .

من هنا فتبقى الولادة السليمة لكل عنصر من عناصر الكون بحسب جنسه المناسب والموافق له لا غير،كما هي القاعدة التي تعطي للخلف الحق للارتباط بالسلف حماية له من أن يتحول إلى قرد أو شيطان مارد،وهذا ما  دأب على ترسيخه وتأكيده النص القرآني والحديثي بصورة قطعية وبالدلالة الثابتة على أصل النشأة الإنسانية  واستمرارها بالتناسل المقنن والمضبوط شرعا، وذلك باعتبار آدم أب البشر وحواء بعد الفصل والتشكيل المناسب أمهم،وبالتالي تفرعت  الذرية من الشكلين المختلفين  عرضا  والجوهرين المتحدين أصلا إلى صور وأشكال لا تخرجهم عن الطبيعة الأصلية للتكوين الأولي للإنسانية .

هذا التفرع سيعرف بدوره إشكالا لدى بعض المتفرعين الواهمين و المغترين فلم يميزوا بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع فكان بذلك محاولة اختراق المشروع من طرفهم والذي في حد ذاته اختراق للطبيعي والسليم الذي جعله الله تعالى سنة في خلقه،فكانت قصة قابيل وهابيل ومحاولة التطاول على ما لا يدخل في حكم الاستحقاق الشرعي الذي يضمن السليم للطبيعي والخلقي المتزن ويحمي الناتج ومن يصح له الانتساب من الفرع إلى الأصل .

ثانيا: المساواة بين الجنسين وأوهام الشبه الغريزي

إن ما قدمنا له من مسألة وحدة الجنس البشري وحمايته من الاختراقات الوهمية التي قد تخل بواقعه النوعي وارتباط  فروعه بأصوله لابد وأن يفرض علينا توسعا في التدقيق والتحليل وتبيين أحكام المساواة بين الجنسين المتحدين جوهرا والمختلفين شكلا،إذ مفهوم المساواة بين الجنسين قد أخذ بعدا غير سليم لدى كثير من  الفئات المجتمعية وأصبح ذريعة لتجاوز الحقوق وهدر الوحدة المؤسسة للتواصل بين الذكر والأنثى  من جنس واحد!

فالمساواة في نظرنا بين الرجل والمرأة قد تأخذ طابعا المعادلة الجدارية لتأسيس صرح قوي ومتماسك على المستوى الأسري والاجتماعي بصفة عامة، وذلك بتشبيه التداخل  الحقوقي بينهما على شكل الجدار المؤسس والمكون من لبنات قوية ومتداخلة فيما بينها،وهي مع ذلك مهيأة ومحققة للبناء الموحد القوي  الذي يؤهل للتعايش الإنساني السري في حضنه وتحت سقفه، وهذا ما  يقتضيه مفهوم التزاوج المؤدي إلى الولادة المضبوطة والمحصنة،بحيث يكون ما يعتبر حقا للرجل قد يصبح واجبا على المرأة وما يصير حقا للمرأة قد يعتبر واجبا على الرجل أو قد يتساويان في حق وواجب معا .

فبهذا التناوب في الحقوق والواجبات والتساوي المقيد  يتم التكامل والتواصل، وبالتالي التوحد والتولد الذي يكون حاملا للعنصرين معا وعلى مستويات في التشابه مع أحد الجنسين القريبين شكلا ونوعا،كما نقتبس هذا المعنى من الحديث النبوي الشريف لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أسباب الشبه لدى الطفل فقال :" وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له،وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها" .

إن هذا الحديث مؤسس لمبدأ الحقوق الجنسية للمرأة والرجل معا في ظل الحياة الزوجية، وكذلك لمبدأ التوافق الجنسي عند الجماع، ومبدأ توزيع الشبه بين الأب والأم معا،وهذا يقتضي مبدأ الأخلاق الجنسية في ظل الحياة الزوجية لتحقيق المساواة في الاستمتاع وبلوغ الغاية الغريزية من التواصل بين الرجل والمرأة.

فموضوع الشبه بين الأصل والفرع قد يأخذ أحكاما دقيقة وعميقة في الإسلام ؛وذلك بضبط قواعده التي تحققه وتحميه؛ وبالتالي تحمي الطفل وأمه معا،كم يروي البخاري عن أبي هريرة "أن  رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله :ولد لي غلام أسود.فقال:هل لك من إبل ؟.قال :نعم.قال:ما ألوانها؟قال:حمر.قال :هل فيها من أورق؟قال:نعم.قال:فأنى ذلك؟قال: لعله نزعه عرق.قال :فلعل ابنك هذا نزعه"  .

هذا الحديث يتضمن عدة أحكام ومواضيع علمية دقيقة تربط بين الواقع الاجتماعي والأسري وبين علم الأحياء والوراثة الجينية (البيولوجيا)وكذلك علم الأناسة (الأنتروبولوجيا). فهو من جهة يؤسس لمبدأ المساواة  بين الأجناس البشرية واختلافات ألوانها ويرفض العنصرية على أساس اللون والبشرة الخارجية،ومن جهة أخرى يؤسس لمبدأ الوراثة الجينية المتعاقبة في الخلية أو النطفة التي تنتقل بعناصرها وصورها عبر الأجيال من الأصول نحو الفروع،وبالتالي فالشبه لا يؤخذ من مجرد الأصل القريب وإنما قد يمتد إلى أجداد  ضاربين في عمق التاريخ .

إلى جانب هذا نجد حديثا يؤسس للشبه القريب وذلك عند التنازع وتبادل الاتهامات بين الزوج والزوجة  حول أصل  الولد ونوع نزوعه في الحالة غير الشرعية .

فعن ابن عباس أنه ذكر التلاعن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك  قولا ثم انصرف،فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وجد مع امرأته رجلا فقال عاصم:ما ابتليت بهذا إلا لقولي !فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره الذي وجد عليه امرأته،وكان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم سبط الشعر،وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله خدلا آدم كثير اللحم،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :اللهم بين. فجاءت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده،فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ...قال رجل لابن عباس في المجلس هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم :لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه ,فقال:لا،تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام" .

ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم بين "دلالة على أن الشبه قد يبدو واضحا كل الوضوح، ولهذا فهو من جهة قد يكون مدعما للدعوى ومن جهة أخرى قد لا يعتبر حاسما عندها إلا ببينة شرعية قائمة على الإشهاد أو الإقرار.

من هنا فإن الولادة تبقى معطية للشبه قطعا وبنسب مختلفة من حيث الظهور والضمور،قد يدرك على مستوى الرؤية السطحية ويدرك بالتخصص، كما كان الشأن في بعض المناطق من الجزيرة العربية عند إدراك الشبه بالقيافة التي أقرها الإسلام وحكم بها عند التنازع أو وجود تشكيك وتشويش بغير بينة على واقع النسب بين الوالد والمولود من الناحية النسلية والوراثية.إذ ورد في الحديث النبوي عن عائشة رضي الله عنها" أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة و رأى أقدامهما؟إن  بعض هذه الأقدام من بعض" .

هذا الحديث مهم جدا في باب حماية الشبه بين الأصل والفرع وضبط  المواليد قضاء عند التنازع،إذ أن النسب الحقيقي والقطعي يحدده الفراش،أي الزواج الشرعي وما في حكمه مما يؤهل لشرعية التواصل الجنسي بين الرجل والمرأة،وهو في هذا الحديث قائم وثابت،ولا يستطيع أحد أن يؤثر فيه بإثارة الشبهات تحت مبرر اختلاف  اللون أو التباعد الشكلي  للصورة بين الأب والابن .

لكن، حيث أن المنافقين بدءوا يغمزون في نسب أسامة إلى أبيه زيد بسبب اختلاف بين لوني بشرتيهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم استأنس بمبدأ القيافة رغم علمه القطعي بصحة النسب بينهما،لا لإثباته ابتداء وقضاء وإنما لدحض شبهة  يثيرها الخصوم بالرجوع إلى القواعد التي يسلمون بها في مقاضاتهم العرفي والتقليدية وعلى رأسها قاعدة القيافة،والتي كانت بمثابة موهبة أو خاصية تتمتع بها بعض المناطق العربية كبني مدلج خصوصا!والتي ستتحول فيما بعد  إلى مجال للتجربة العلمية وتكرار الإصابة،وسيشترط  في أهلها عناصر العدالة المستخلصة من أهلية الشهادة وهي:التكليف والحرية والإسلام،وعدم الإقدام على كبيرة والإصرارعلى صغيرة، مع اختلاف الفقهاء حول مسألة التوبة وعودة الأهلية...إلخ.

إذ كما يقول الغزالي عن شروط القائف بأنه :"هو كل مدلجي مجرب أهل للشهادة،وفي غير المدلجي إذا تعلم القيافة وجهان،وتجربته بأن يعرض ولد بين ثلاثة أصناف من النسوة ليس فيهن أمه ثم في صنف رابع فيهن أمه،فإن أصاب في الكل قبل قوله بعد ذلك والصحيح أن يشترط في القائف الذكورة والحرية،ولا يشترط العدل" .

كما قد يقترح تجارب على الرجال بمستويات متفاوتة في العدد بينهم لإدراج وجه الشبه بين الطفل وأبيه .

***

د. محمد بنيعيش - المغرب

" إن المسافة الكبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ إليه وما تستره، إلا أن ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلبه من عنت وجهد ومن شك وتساؤل هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فناً من الفنون" (1).

1- مقدمة:

تشكّل "التفاعليّة الرمزيّة" (symbolic-interactionist) أحد التيّارات السوسيولوجيّة الّتي فرضت نفسها نقيضاً مناظراً للاتّجاهات الكبرى في علم الاجتماع، مثل: البنيويّة والماركسيّة. وينظر معظم النقّاد اليوم إلى التفاعليّة الرمزيّة بوصفها نظريّة سوسيولوجيّة متكاملة الأركان رغم حداثتها نسبيّاً. وقد عكف روّاد هذه النظريّة على تحليل الظواهر الاجتماعيّة الصغرى (الميكروسوسيولوجيّ) سعياً إلى فهم العلاقات التفاعليّة الرمزيّة القائمة بين الأفراد في المجتمعات الإنسانيّة، ومحاولة لإدراك معانيها ودلالاتها ومغازيها. وقد ركّزوا على دراسة معطيات الحياة اليوميّة للأفراد وفعاليّاتهم السوسيولوجيّة القائمة في مدارات اتّصالهم، ومسارات تفاعلهم، واعتمدوا منهجيّاً على تحليل الرموز والمعاني والدلالات الّتي تعطي معنى للتجارب الاجتماعيّة في الحياة اليوميّة.

ويرى علماء الاجتماع أنّ نظريّة التفاعل الرمزيّ تشكّل إطاراً عامّاً للنظريّات الّتي تبحث في المجتمع بوصفه نتاجاً للتفاعلات الاجتماعيّة اليوميّة، وتدرس الكيفيّات الّتي تتمّ فيها التفاعلات الاجتماعيّة بين الأفراد الّذين يضفون المعاني والدلالات على الأشياء المحيطة بهم في مسار تفسير تفاعلاتهم مع الآخرين. ويعتمد هذا المنظور على فكرة أساسيّة مفادها أنّ الناس يفهمون عوالمهم الاجتماعيّة من خلال التواصل والتفاعل الاجتماعيّين، أي عبر تبادل المعنى من خلال الرموز واللغة. ويرى أصحاب هذه النظريّة أنّ المعنى الّذي ننسبه إلى العالم من حولنا يعتمد على تفاعلاتنا مع الناس والأفكار والأحداث، وأنّ فهمنا للعالم وكيفيّة تفاعلنا مع مجتمعاتنا يعتمد على ما نتعلّمه من تفاعلاتنا مع الآخرين بدلاً من الحقيقة الموضوعيّة. وعلى هذا الأساس يعتقد التفاعليّون الرمزيّون أنّ مجتمعاتنا مبنيّة على المعاني الّتي نضفيها على التفاعلات والأحداث الاجتماعيّة.

وتشكّل التفاعليّة الرمزيّة أحد أهمّ الاتّجاهات الرئيسيّة الكبرى في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعيّ على حدّ سواء، ويشغل هذا الاتّجاه مكانة مهمّة في الفضاء الواسع للعلوم الإنسانيّة بحثاً في إشكاليّات الحياة الإنسانيّة وقضاياها الوجوديّة. ويشكل البحث في المستتر والغامض والكامن والخفيّ الرمزيّ المجال الرئيس للتفاعليّة الرمزيّة، كما أن التفاعليين الرمزيين يركزون في أبحاثهم على دراسة العلاقة الجدليّة القائمة بين المجتمع والفرد وفق معطيات الرمز والتفاعل الرمزيّ. ويتبنى أصحاب هذا الاتجاه توليفة متبلورة فكرية من العلوم الإنسانيّة في المجتمع والأدب واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن ثم يعتمدونها كأدوات للتحليل من أجل التوغّل في أعماق الحقيقة الاجتماعيّة وفق منهجيّات الاستقصاء الرمزيّ للوجود الاجتماعيّ، وهم في كل ذلك يركزون أهمية استكشاف الغامض والمبهم والخفيّ الرمزيّ الضارب في عمق الحياة الإنسانيّة. ويأخذ مفهوم "التفاعل الرمزيّ" صورة تواصل اجتماعيّ يقوم على التبادل التفاعليّ للرموز والدلالات والمعاني بالطريقة الّتي يتأثّر فيها الفرد، ويؤثّر في عقول الآخرين وتصوّراتهم ورغباتهم ووسائلهم في تحقيق أهدافهم، وفي ممارسة تكيّفاتهم الحيويّة داخل المجتمع(2).

فالرموز والمعاني والدلالات والتصوّرات والكلمات تشكّل في مجموعها أدوات التفاعل الاجتماعيّ، كما تشكّل في الوقت نفسه موضوع البحث والدراسة والتقصّي في مجال النشاط السوسيولوجيّ للتفاعليّة الرمزيّة. وتعمل على استكشاف الكيفيّات الاجتماعيّة الّتي توجد في أصل تكوّن النسيج الاجتماعيّ، وتحديد الفعاليّات الّتي يعتمدها المجتمع في تطوير ذاته، والمحافظة على وجوده من خلال التواتر المكثّف لنشاط الأفراد في سياقات تفاعلهم وتواصلهم عبر المعاني والرموز(3). ويمكن القول بصيغة أخرى، إنّ التفاعل الرمزيّ يشكّل إطار عمل للتفاعليّة الرمزيّة الّتي ترى المجتمع نتاجاً للتفاعلات اليوميّة للأفراد، وهي في أفضل أحوالها تشكل إطاراً مرجعيّاً منهجياً يمكّن الباحثين من فهم أفضل لكيفيّة تفاعل الأفراد مع بعضهم بعضاً ضمن فضاءات رمزيّة مُفعَمة بالمعاني والدلالات.

ويمكن تعريف التفاعليّة الرمزيّة أيضاً بأنّها اتّجاه فكريّ، أو مشروع نظريّة اجتماعيّة توظّف في وصف الكيفيّة الّتي يتمّ فيها بناء الحياة الاجتماعيّة، وفي فهم الطريقة الّتي يتمّ فيها تشكّل المجتمع كنتيجة للتفاعلات الرمزيّة القائمة بين أفراده. وتركّز نظريّة التفاعل الرمزيّ في المقام الأوّل على أهمّيّة الرموز بوصفها حمّالة للمعاني، وجميعها – أي الرموز والمعاني- تشكّل أداة للتفاعل الاجتماعيّ بين أفراد المجتمع، وهو عين التفاعل الّذي يشكّل لحمة المجتمع وجوهر تكوينه. وتأخذ النظريّة بأهمّيّة دراسة التفاعلات الرمزيّة داخل الجماعات الصغيرة، وهي تفاعلات تحدث بين الأفراد بصورة حسّيّة عيانيّة، أي وجهاً لوجه، وتسلّط الضوء على أهمّيّة الرموز كوسيلة للتواصل، ولا سيّما على المستوى الفرديّ دون النظر إلى تأثير المؤسّسات والظواهر الاجتماعيّة الكبرى.

ويمكن تعريفُ التّفاعل الرّمزيّ، مرة أخرى، بأنّه "صيغة تفاعل رمزيّ أصيل يقوم بين الأفراد، ضمن نسق مجتمعيّ معيّن، ويظهر ذلك التّفاعل في مجموعة من السلوكيّات الّتي يقوم بها فاعل ما، في علاقة بالسلوك الّذي يصدر عن الفاعل الآخر. فتصدر عن الذوات المتبادلة مجموعة من الأفعال وردود الأفعال في تماثل مع بنية المجتمع. وتتّخذ هذه الأفعال معاني ودلالات رمزيّة متنوّعة تستلزم الفهم والتأويل"(4).

وتعتمد نظريّة التفاعل الرمزيّ على مفهومين أساسيّين كما يبدو من تسميتها، هما: التّفاعل والرّمز. ويتوسّط هذين المفهومين مفهومُ الإنسان والهويّة الإنسانيّة. وتمثّل هذه النّظريّة إطاراً عامّاً لبناء التصوّرات السوسيولوجيّة الّتي ترى بأنّ المجتمع نتاج للتفاعلات الرمزيّة اليوميّة القائمة بين الأفراد في المجتمع. فتركّز على دور التفاعلات الاجتماعيّة في جعل الأشخاص يعيّنون معانيَ للأشياء من حولهم بناء على تفسير تفاعلاتهم مع الآخرين. وينطلق أصحابها وممثّلوها من فكرة أساسيّة قوامها أنّ الناس يفهمون عوالمهم الاجتماعيّة من خلال التّواصل والتّفاعل الاجتماعيّين القائمين على وسائطيّة التّبادل الرمزيّ إنتاجاً للمعاني والدّلالات. وبصيغة أكثر دقّة، يرون أنّ المعنى الّذي يُسبَغ على مكوّنات العالم من حولنا ينبثق من آليّات التّفاعل الرّمزيّ مع النّاس والأفكار والأحداث. وهذا يعني أنّ فهمنا للعالم والمجتمع الّذي نعيش فيه يعتمد على نواتج التّفاعل الرّمزيّ الاجتماعيّ.

ويشار غالباً إلى عالم الاجتماع البراغماتيّ الأمريكيّ جورج هربرت ميد (George Herbert Mead: 1863-1931) بوصفه الأب المؤسّس للتفاعليّة الرمزيّة، وهو الّذي رسم معالمها في كتابه المشهور "العقل والذات والمجتمع" (Mind, Self, Society) الّذي نشر عام 1934، أي بعد وفاته بثلاث سنوات(5).

ويعدّ عالم الاجتماع الأمريكيّ هربرت بلومر (Herbert Blumer: 1900 - 1987) أوّل من استخدم مصطلح "التفاعليّة الرمزيّة" (Symbolic Interactionism) في مقالة له بعنوان "علم النفس الاجتماعيّ" في عام 1937. ويعود إليه الفضل الكبير في تطوير جوانب هذا التيّار في مختلف مستوياته الفكريّة والنظريّة والمنهجيّة. ويعرّف هربرت بلومر في كتابه "التفاعليّة الرمزيّة" (Symbolic Interactionism)(6) "التفاعل الرمزيّ" بأنّه صيغة فريدة للتفاعل الاجتماعيّ بين الأفراد في المجتمع، والأفراد في سياق تفاعلهم يفسّرون أفعالهم، ويؤوّلونها تأسيساً على المعنى الّذي يسبغونه عليها"(7). ومن الواضح أنّ "التفاعل الرمزيّ" يشكّل أرومة عمليّة للتفاعل الاجتماعيّ ومضمونه، وهو نمط من التفاعل الّذي يتحقّق بالوسائط الرمزيّة الّتي تمكّن الأفراد من تحقيق التواصل الاجتماعيّ في معترك الحياة الاجتماعيّة، وهو التواصل الّذي ينتهي بتحقيق التكامل والتفاعل والاندماج الاجتماعيّ.

وعلى هذا الأساس، يأخذ التفاعل (Interaction) صورته بوصفه نسقاً متواتراً من التواصل الديناميّ المستمرّ بين أفراد المجتمع، فرداً لفرد، وفرداً لجماعة، وجماعة لجماعة أو لفرد، وينطوي هذا التفاعل بالضرورة على مخزون هائل من الرموز (Symbols) الّتي تشكّل أنساقاً متدافعة من إشارات رمزيّة يوظّفها الأفراد في عمليّة تفاعلهم مع الآخرين من أجل توليد التفاهم والتواصل الاجتماعيّ، كما تأخذ هذه الرموز هيئة لسانيّة لغويّة محمّلة بالمعاني ومتشبّعة بالدلالات والانطباعات الذهنيّة المتنوّعة.

والمجتمع، وفق التفاعليّة الرمزيّة، بوتقة يتفاعل فيها الأفراد فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الوسط الّذي يحتضنهم، وهو المدار الّذي تتفاعل فيه الذوات الإنسانيّة، والإطار الّذي يزخر بالدلالات الاجتماعيّة والسيميائيّة. وإذا كان الفعل الإنسانيّ ينتج الرموز، ويبدع المعاني، ويبني الدلالات، فإنّ أصحاب هذا الاتّجاه يميّزون بين نمطين من الأفعال الإنسانيّة: أحدهما، إنسانيّ اجتماعيّ متشبّع بالدلالة؛ والآخر إنسانيّ عفويّ يقع خارج المعاني، ويفتقر إلى الدلالات، وهم في هذا السياق يعتقدون أنّ الأفعال الاجتماعيّة هي فقط هذه الّتي تحمل في ذاتها معاني ودلالات رمزيّة ومقاصد إنسانيّة في أثناء التفاعل الاجتماعيّ، أي: الأفعال الاجتماعيّة الحاملة للقيم والمعاني، وهي القيم والمعاني الرمزيّة الّتي ينهلها الفرد من المجتمع، ويشترك فيها مع الآخرين ضمن أنساق قيميّة وميول ومعايير يشاركهم فيها، ويعتمدها في التواصل معهم، لكي يكون قادراً على التنبّؤ بسلوكيّاتهم وبواعث تصرّفهم (8).

وفي هذا السياق يرى فيكتور تيرنر (Victor Turner) أحد روّاد التفاعليّة الرمزيّة "بأنّ علاقتنا بالأشياء المحيطة بنا تعتمد على تقييمنا لها عن طريق تحويلها إلى رموز، وهذه الرموز قد تكون إيجابيّة أو سلبيّة بالنسبة لنا اعتماداً على خبراتنا وتجربتنا معها، فإذا كانت إيجابيّة، تفاعلنا معها بقوّة"(9). ويتجلّى هذا التأكيد على الطابع الرمزيّ للوجود الإنسانيّ بقوله المشهور: إنّ" الإنسان محاط بغابة من الرموز، فالرمز يأخذ حيّزاً كبيراً في حياتنا اليوميّة، فهو يحضر باستمرار في كلّ تفاعلاتنا الاجتماعيّة وفي مختلف ممارساتنا الطقوسيّة الواقعيّة منها والافتراضيّة التي تتميز بأنها متّخمة بمنظومات رمزيّة تتحدّد كبنيّة لإنتاج الاجتماعيّ، وكآليّة صميميّة لإعادة إنتاجه وبنائه مجدّداً"(10).

واستناداً إلى ما تقدّم يمكن القول: إنّ التفاعل الرمزيّ يشكّل إطاراً نظريّاً لنمط من السوسيولوجيا الّتي تبحث في الطبيعة الرمزيّة للحياة الاجتماعيّة، وتتحرّى الطريقة الّتي يتمّ بها التفاعل الاجتماعيّ من خلال الرموز القائمة في الثقافة الاجتماعيّة السائدة (11).

2- التفاعليّة الرمزيّة في التربية:

يقصر التفاعليّون الرمزيّون تحليلهم للتعليم على ما يلاحظونه مباشرة في الفصل الدراسيّ. ويركّزون على كيفيّة تأثير توقّعات المعلّمين في أداء طلبتهم وفي تشكيل تصوّراتهم ومواقفهم، ويهتمّون بالديناميّات النفسيّة الاجتماعيّة لتفاعل الأفراد في الفصول الدراسيّة، وهم يركّزون أيضا على الرموز الّتي توظّف في تشكيل العقول والمعرفة عند الطلبة من خلال عمليّة التفاعل الرمزيّ في الفصول، وفي داخل الأسرة أيضاً. وغالباً ما يرون أنّ مشاعر الطلبة وهويّتهم وأحاسيسهم وشعورهم بذواتهم يشكّلها التفاعل الرمزيّ في سياق العمليّة التربويّة، وقد لا يبالغون في القول بأنّ تشكيل صورة الذات (Self-Concept) يتمّ من خلال كيفيّة تفاعل الأفراد مع أقرانهم في الوسط الاجتماعيّ والمدرسيّ. كما يؤكّدون على أهمّيّة الرموز ودورها في عمليّة التفاعل التربويّ، إذ الرموز – سواء كانت كلمات أو رموزا غير لفظيّة – لها معان مشتركة بين الأفراد، وتعمل كوسيلة للتواصل والتفاهم بينهم. وعندما يستخدم رمز معيّن ينشأ تفاعل بين المرسل والمرسل إليه فيتمّ تبادل المعاني والمفاهيم الرمزيّة. ويؤدّي هذا التفاعل إلى تكوين معنى مشترك بين الطرفين. فعلى سبيل المثال، عندما تستخدم كلمة "شكراً"، يُدعى لها معنى مشترك معروف لدى الأفراد مثل التقدير والامتنان.

وتعتمد النظريّة التفاعليّة الرمزيّة على فكرة أنّ الرموز لا تحمل معانيَ ثابتة ومحدّدة، بل هي تتغيّر وتتطوّر مع الزمن ومع تطور الثقافة وتغير السياق الاجتماعيّ. لذلك، قد تكون للرموز معان مختلفة لدى أفراد مختلفين، أو في سياقات مختلفة.

وفي المستوى التربوي يقوم التفاعليّون الرمزيّون بتحليل عمليّات التفاعل الرمزيّ بين التلامذة من جهة والمدرّسين من جهة أخرى، كما يركّزون على التفاعل الشامل بين مختلف مكوّنات العمليّة التربويّة في المدرسة (بين الطلبة والطلبة كما بين المعلّمين والطلبة والإداريّين) ويعتمدون في تحليلهم على المنهج السوسيولوجيّ المصغّر أو ما يمكن أن يطلق عليه الماكروسوسيولوجيّ (Macro-sociology) أي المجموعات المصغّرة.

وتشكّل المدرسة عندهم فضاء رمزيّاً للتفاعل بين مكوناتها: طلبة ومعلّمين وإداريّين ومناهج تعليميّة ومضامين ثقافيّة، ويرون بأنّ هذا التفاعل هو البوتقة الّتي يتشكّل فيها التلامذة نفسيّاً وروحيّاً ومعرفيّاً واجتماعيّاً، ويعني هذا أنّ التفاعل القائم على الرموز والمعاني يعطي القوّة الّتي تشكّل الأفراد وتمنحهم هويّتهم وشخصيّتهم الاجتماعيّة. فهم يتشكّلون في عمق التفاعل الرمزيّ، وفي سياق تحوّلاته وديناميّاته المستمرّة.

ويتكوّن الفضاء المدرسيّ من أنساق لا متناهية من الرموز؛ أفعالاً وإشارات وتلميحات وصوراً وألواناً ولغة، كما أنّ المناهج والدروس والمقرّرات تصاغ في رموز، وهذه الرموز حمّالة للمعاني والدلالات الفاعلة في تشكيل الإنسان بوصفه كائناً رمزيّاً. والمدرسة كما العائلة هي أكثر الفضاءات الرمزيّة قدرة على تشكيل هويّة الفرد وعقله ونظرته إلى نفسه وإلى غيره، وتعطيه المعنى لوجوده وحياته.

وقد ركّز الرمزيّون على طبيعة التفاعل بين المعلّمين والتلاميذ، ووجدوا أنّ هذه العلاقة تشكّل المنطلق في نظرة التلميذ إلى نفسه، وفي الصورة الّتي يجب أن يكون عليها. فالمعلّمون يشكّلون المرآة الّتي تحدّد مصير الطالب علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً. فأحكام المعلّمين وتصنيفاتهم وتقييماتهم وتوقّعاتهم وتوصيفاتهم للتلامذة أو الطلبة تؤدّي دوراً خطيراً في تشكيل هويّة الطالب علميّاً وإنسانيّاً؛ إنّها تؤثّر في مستوى تحصيلهم، وفي نظرتهم إلى أنفسهم، وفي مسيرتهم العلميّة. فالتوقّعات المنخفضة والأحكام السلبيّة تؤدّي إلى نتائج سلبيّة في سلوك الطلبة، وفي إدراكهم لأنفسهم. وعلى خلاف ذلك عندما تكون أحكام المعلّمين وتوقّعاتهم إيجابيّة، فإنّها تؤدّي دوراً إيجابيّاً في مستويات أداء الطلبة، وفي نفسيّاتهم. ويؤكد أصحاب هذا الاتجاه أن بيئة الفصل الدراسيّ مليئة بالأنشطة والرموز والأشياء والأحداث، ويجب على المعلّمين الربط بين هذه الرموز ومعانيها والعمل على تطويرها وتعديلها وتغييرها بمراعاة الظروف الاجتماعيّة القائمة.

3- أسطورة بيغماليون – النبوءة المحققة لذاتها:

بيغامليون نحات أسطوري إغريقي فاقت شهرته الآفاق، نحت تمثالا لامرأة فائقة الجمال تدعى غالاتيا، فوجد نفسه أمام آية فنية رائعة الجمال، فصعق بجمالها ووقع في في حبها وهام بها عشقا، ولما أضناه الحب ونال منه جنون العشق، أشفقت عليه إفروديت Aphrodite إلهة الحب والجمال فوهبت محبوبته الحجرية نسغ الحياة، ليتزوجها وينهل من حبها إلى الأبد.

هذه الأسطورة السحرية شكلت موضوعا أثار اهتمام المفكرين وعلماء الاجتماع، وقد تفتق هذا الاهتمام عن تساؤل جوهري حول القيمة الواقعية لما يعتقده الإنسان ولما يفترضه، وعن إمكانية تحويل الطموحات والأحلام والتوقعات الإنسانية إلى وقائع وحوادث وفعاليات ترتسم في نسق الحياة وتستقيم على دروبها.

وقد اثارت هذه الفكرة الأسطورية اهتمام المفكر وعالم الاجتماع المعروف روبيرت ميلتون Robert MELTON الذي أطلق على هذه الظاهرة النبوءة المتحققة ذاتيا (prophétie auto-réalisatrice) واستحضر حدثا واقعيا يتعلق بإفلاس أحد البنوك في عام 1932 على اثر إشاعة مغرضة لي لها أساس من الصحة.

وتتمثل الدلالة التربوية لمعادلة بيغاميليون Pygmalion في تحقيق نتائج تربوية تستند إلى مجرد توقعات وتكهنات تتعلق بالمستقبل التربوي للتلاميذ حيث يتحول الافتراض إلى حقيقة تفرض نفسها في مجال الواقع التربوي. فالإنسان يحاول دائما أن يتجلى على منوال الصورة التي يرسمها الآخرون حوله، وتصورات الآخرين قد تفعل فعلها المكين في نفوسنا وعقولنا، فآراء الآخرين حولنا يمكن أن تدمي قلوبنا ويمكن أن تحيينا، وإذا كان الأمر على هذه الدرجة من الأهمية فكيف يمكن أن يكون الأمر بالنسبة لأطفال على مقاعد الدراسة في مواجهة أحكام المعلمين وتقديراتهم التي قد تكون مفرغة من حكمة الصواب. فأحكام المعلم ونواهيه حول المتعلم تمتلك قدرة سحرية تؤثر في شخصية التلميذ وقد تدفعه إلى تحقيق النجاح أو إلى كارثة العدم التربوي إذا كانت مجحفة وقاسية. وما تأثير بيغاميليون إلا صورة لهذه العلاقة التربوية المتشبعة بالأحكام التي يطلقها المعلم على تلامذته وطلابه في داخل الفصل وفي خارجه.

4- دراسة روزنتال وليونور جاكوبسون:

لقد بينت التجربة في المجال المدرسي أن التنبؤ المدرسي للمعلمين يتحقق بصورة عفوية وذاتية: ففي الصفوف المدرسية التي تكون فيها توقعات المعلمين إيجابية حول مسيرة بعض الطلاب فإن هذه التوقعات غالبا ما تتحقق هذا الأمر وغالبا ما يحقق التلامذة المعنيون بهذه التوقعات الإيجابية نجاحا كبيرا وملحوظا يوازي توقعات معلميهم. وهذا ما أفادت به الدراسة التجريبية التي أجراها طل من روبرت روزنتال ولينور جاكوبسون (12) في مدرسة أويك الحكومية الابتدائية. حيث تم توزيع التلاميذ في هذه المدرسة إلى ثلاثة مجموعات صنفت وفقا لثلاثة تقديرات من الذكاء: مرتفعو الذكاء، متوسطو الذكاء، ضعيفو الذكاء.

استخدم فريق روزنتال البحثي اختبارا نفسيا لقياس ذكاء التلاميذ في المدرسة، وقد أخفى الباحثون الغرض الأساسي لدراستهم الخاص بعملية اختبار تأثير بيغامليون، وزعموا أنهم يختبرون تقنية جديدة تتعلق بتحسين بقياس معدلات الذكاء لدى الأطفال وعلاقة ذلك بمستوى نجاحهم في المدرسة.

في البداية قام الباحثان بتطبيق اختبار الذكاء الأولي القبلي مع بداية العام الدراسي على جميع التلاميذ في جميع الصفوف المدرسية في مدرسة أويك. وكان الهدف من هذه التجربة العلمية قياس معدلات ذكاء الأطفال من جهة واختبار ما أطلق عليه تأثير بيغامليون من جهة أخرى.

وعندما أنجز الباحثون اختبار معدل الذكاء الأولي أو القبلي قاموا بانتخاب 20% من عدد التلاميذ عن طريق القرعة زُعم الباحثون أنهم حققوا نتائج عالية في معدلات ذكائهم، وقدمت لائحة بأسمائهم إلى معلميهم. وهنا يجب أن نؤكد بأن أسماء هؤلاء التلاميذ قد اختيرت بطريقة القرعة بصورة عشوائية وليس بناء على أي اختبار حقيقي لذكائهم. وقد شكلت الجماعة التجريبية للطلاب مزعومي الذكاء (وفقا للقرعة) نسبة 20% من عدد الطلاب في المدرسة، أما الجماعة الضابطة فهي ما تبقى من الطلاب في المدرسة حيث لم تقدم اية معلومات عن مستوى ذكائهم وفقا للاختبار. وقد طبق اختبار الذكاء نفسه البعدي في نهاية العام الدراسي الأول وفي نهاية العام الدراسي الثاني أي بعد أن تغير المعلمون الذين شاركوا بالتجربة دون دراية منهم بأغراضها الحقيقية.

ومن المهم الإشارة والتكرار أيضا أنه في العام الدراسي الثاني قد تغير معلمو التلاميذ المعنيين بالتجربة وهذا سيسمح بالتعرف على ما إذا كانت الأحكام المسبقة للمعلمين قد فقدت تأثيرها في مستوى تحصيل التلاميذ المتفوقين حسب القرعة. وأخيرا تمّ حساب الفروق في الدرجات بين الاختبار الأول وبين الاختبار الثاني بالنسبة للجماعة التجريبية والجماعة الضابطة.

لقد بينت التجربة أن طلاب المجموعة التجريبية (الطلاب الذين صنفوا بالقرعة على أنهم أذكياء) قد حققوا تقدما كبيرا في مستوى ذكائهم ونجاحهم المدرسي على طلاب المجموعة الضابطة وذلك في نهاية العام الدراسي الأول. وبعد مضي عامين أي في نهاية العام الثاني بين الاختبار الثاني أن تلامذة المجموعة التجريبية قد خسروا تقدمهم مع انقطاع علاقتهم بمعلميهم الذين كانو يحملون تصورا إيجابيا عنهم.

ويتعين علينا في مستوى التحليل أن نتساءل ما إذا كان التقدم الذي حققه أطفال المجموعة التجريبية في معدلات الذكاء قد تحقق على حساب المجموعة الضابطة؟ وهنا يمكن التصور بأن المعلمين كانوا قد اعطوا مزيدا من الاهتمام والعناية بالتلاميذ الذين قدمو على أنهم مبدعين وأذكياء بالمقارنة مع الآخرين. وهذا يعني أن التقدم الذي حققه الأطفال في المجموعة التجريبية لم يكن مفاجئا وكان نتيجة طبيعية لاهتمام المتعلمين المتزايد بهم.

ولكن روزنتال يستبعد هذا الاحتمال ويرى بأن المعلمين وعلى عكس ما هو متوقع منهم كرسوا وقتا أقل لتلاميذ المجموعة التجريبية، وعلى خلاف ما هو متوقع أيضا يرى روزنتال بأن تلامذة المجموعة الضابطة قد استفادوا من تقدم زملائهم في المجموعة التجريبية: ففي الصفوف التي حقق فيها أطفال المجموعة التجريبية أعلى مستويات التقدم في التحصيل المدرسي حقق أطفال المجموعة الضابطة أيضا ما يوازي هذا التقدم في اختبار الذكاء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يستطيع المعلمون إستنهاض مستوى ذكاء الطلاب استنادا إلى توقعهم بحدوث هذا التقدم. ومما لا شك فيه الموقف يلعب دورا هاما ومركزيا في هذه العملية، فموقفنا وسلوكنا إزاء الآخر يتحدد بالصورة التي نمتلكها عنه وبعلاقتنا به. وهنا يفترض في مدرسة إويك أن المعلمين قد تصرفوا بطريقة ودية مع الأطفال الذين حققوا تقدما في معدلات ذكائهم (أطفال المجموعة التجريبية) وبالتالي فإن هذا الموقف أحدث آثارا إيجابية فيما يتعلق بنشاط الطلاب ومستوى تقدمهم. وضمن هذا الافتراض فإن المعلمين وجهوا مزيدا من عنايتهم واهتمامهم إلى التلامذة المتوقع منهم تحقيق تقدم في التحصيل والذكاء. ووفقا لهذا التصور فإن المعلمين كانوا أكثر اهتماما بالمبادرات الإيجابية لهؤلاء الأطفال وأكثر نزوعا إلى تعزيز استجاباتهم وتشجيعهم بالمقارنة مع الوضعية العادية.

ولأن المعلمين قد تلقوا إشارة بأن هؤلاء الأطفال (المجموعة التجريبية) سيكونون متألقين أكثر من الآخرين فإن المعلمين أعطوا لهذه الفئة من التلاميذ اهتماما خاصا حيث عملوا على تعزيز مسار تحصيلهم وتفوقهم ومن ثم المواظبة على تقييمهم إيجابيا بطريقة تؤدي إلى تحسين مستوى التطور العقلي لديهم. وبالتالي فإن التفاعل الإيجابي بين المعلمين وطلابهم من المجموعة التجريبية قد شكل عاملا أساسيا من عوامل تقدم طلابهم ذهنيا عقليا.

لقد تعرضت تجربة روزنتال للنقد الحاد من قبل ثورندايك Thorndike وسنو Snow في الولايات المتحدة الأمريكية ومن قبل كارلييه Carlier و كودستيينر Gottesdiener في فرنسا. وقد تمركز النقد حول نوع الاختبار الذي لم يكن مكيفا لقياس مستوى ذكاء الأطفال، وأن هذا الاختبار قد أعطى نتائج خاطئة. ويرى كارلييه في هذا السياق بأن روزنتال لم يقدم برهانا منهجيا على مصداقية تحليله لأبعاد هذه الظاهرة المدروسة. وقد أعرب عن خشيته من تأثر منهجية الباحثين برغبتهم في إثبات الحقيقة التي تدور في رؤوسهم عن تأثير بيغامليون، ويلاحظ بالتالي بأن هذه الرؤية لم تتحقق مصداقيتها إلا فيما يتعلق بمجموعة صغيرة من التلاميذ. فتأثير بيغامليون يمكن ملاحظته في المدرسة من خلال عملية التمييز الاجتماعي التي تتم بين جدران المدرسة، وفي هذا السياق يلاحظ بأن صفوف التقوية التي أنشئت كمعابر مدرسية للطلاب الضعفاء تتحول في النهاية إلى صفوف تكرس الإخفاق والتراجع المدرسي حيث تتنامى الهوة بين الأقوياء والضعفاء. وهذا يعزى جزئيا أو كليا إلى تقديرات المعلمين الذين يعرفون جيدا المستوى العام للصف الذي يقومون بتدريسه. وعلى أساس معطيات دراسة روزنتال ظهرت مقالات كثيرة في الصحافة الشعبية لتطرح عددا من الأفكار خارج السياق لدراسة روزنتال، حيث ذهب كتاب هذه المقالات إلى القول بأن الطفل الذي لا يستطيع القراءة بشكل جيد نتاج لإهمال وتقييم سلبي من قبل المعلم.

5- دراسة راي ريست:

أجرى راي ريست (Ray Rist) بحثًا مشابهًا لدراسة Rosenthal ‐ Jacobson في عام 1970. في فصل رياض الأطفال حيث كان كل من الطلاب والمعلمين أمريكيين من أصل أفريقي، قام المعلم بتعيين الطلاب على طاولات بناءً على القدرة؛ جلس الطلاب "الأفضل" على طاولة قريبة منها، وجلس الطلاب "المتوسطون" على الطاولة التالية، وجلس الطلاب "الأضعف" على الطاولة الأبعد. اكتشف ريست أن المعلم خصص الطلاب لقاعدة طاولة على تصور المعلم لمستويات مهارات الطلاب في اليوم الثامن من الفصل، دون أي شكل من أشكال الاختبار للتحقق من التنسيب. كما وجد ريست أن الطلاب الذين ينظر إليهم المعلم على أنهم متعلمون "أفضل" جاءوا من طبقات اجتماعية أعلى، في حين أن الطلاب "الضعفاء" كانوا من طبقات اجتماعية أقل.

من خلال مراقبة الطلاب خلال العام، وجد ريست أن الطلاب الأقرب إلى المعلم تلقوا قدرا أكبر من الاهتمام وكان أداؤهم أفضل. ولاحظوا أنه كلما جلس الطالب بعيدًا عن المعلم كان أداؤه أقل وأضعف.

بعد السنة الأولى، واصل ريست مراقبة هذه المجموعة من الطلاب أثناء تقدمهم في المدرسة. تبعتهم سمعة الأطفال إلى الصف الثاني، حيث راجعت معلمة أخرى درجاتهم وقسمت فصلها أيضًا إلى ثلاث مجموعات، "النمور" و "الكاردينالات" و "المهرجون". تم تشكيل هذه المجموعات بالطريقة نفسها بالضبط، وبنفس التقسيم، مثل الجداول الأول والثاني والثالث. من هذا البحث، توصل ريست إلى نتيجة مذهلة مفادها أن رحلة كل طفل في المدرسة قد تم تحديدها بحلول اليوم الثامن من الروضة. وفقًا لريست، فإن التسميات التي أعطاها معلمو رياض الأطفال للأطفال تضعهم في مسار عمل يمكن أن يؤثر على بقية حياتهم.

من خلال مراقبة الطلاب على مدار العام، وجد ريست أن الطلاب الأقرب إلى المعلم حصلوا على أكبر قدر من الاهتمام وكان أداؤهم أفضل. كلما جلس الطالب بعيدًا عن المعلم، كان أداء الطالب أضعف. واصل ريست دراسته خلال السنوات العديدة التالية، ووجد أن التسميات المخصصة للطلاب في اليوم الثامن من روضة الأطفال اتبعتهم طوال فترة دراستهم.

6- دراسة جيرمي إيفرسون:

ويقدّم لنا جيريمي إيفرسون (Jeremy Iverson) تحليلاً عميقاً وطريفاً لمسائل التصنيفات والحكّام الّتي يوظّفها المعلّم في توصيف طلبته والحكم على قدراتهم، ويسرد لنا في كتابه الموسوم "المدرسة الثانويّة" (High School) تجربته النادرة في الانتساب متنكّراً كطالب في مدرسة ثانويّة في كاليفورنيا مع أنّه كان قد تخرّج من جامعة ستانفورد الشهيرة. ومن المشكلات الّتي حدّدها في بحثه مشكلة المعلّمين الّذين يطلقون أحكامهم وتصنيفاتهم وتقييماتهم على الطلبة، وقد وجد بأنّ هذه الأحكام السلبيّة تؤدّي دوراً تدميريّاً في حياة الطالب، وتبقى ملازمة له على مدى الحياة. ومن الطرائف العجيبة والنوادر المضحكة أنّ أحد المدرّسين أفاده بأنّه لن يحقّق أيّ نجاح، وأنّ إمكاناته المعرفيّة والعقليّة متدنّية، دون أن يدري أنّه خرّيج لامع من إحدى الجامعات المرموقة في أمريكا. ومن الواضح أنّ إيفرسون لم يأخذ التقييم الخاطئ لهذا المعلّم على محمل الجدّ، إذ يرى أنّ مثل هذه الأحكام السلبيّة قد تكون قاتلة ومدمّرة بالنسبة إلى الطلبة الجدد المبتدئين الّذي يكونون عادة في مقتبل العمر، والّذين يرون في معلّميهم القدوة، ويعتقدون أنّهم أهل الحكمة والمعرفة، وأنّ تقديراتهم وأحكامهم لا بدّ أن تكون صحيحة لا يداخلها أيّ شكّ أو ريبة.

7- تأثير التوقعات التربوية:

لقد كشف كل بروكوفير في عام 1982 وكوبر في عام 1984 وكودون في عام 1987 عن مجموعة من العوامل والمتغيرات التي تؤثر في موقف المعلمين من التلاميذ وتدفعهم إلى تشكيل توقعات محددة حول مستواهم التحصيلي، ومن هذه العوامل يشار إلى متغير جنس التلاميذ فعلى سبيل المثال لا يضع المعلمون توقعات جيدة للإناث في هذا المقرر ولاسيما للطالبات الأكبر من حيث العمر. وهناك متغيرات أخرى مؤثرة في عملية بناء التوقعات مثل: الوضع الاقتصادي والاجتماعي للتلميذ، متغير الانتماء إلى جماعة إثنية، نمط المدرسة ومكانها، مظهر الطالب والطريقة التي يرتدي بها ملابسه، اللغة التي يستخدمها التلميذ ولاسيما عندما يكون المستوى اللغوي للطفل محدودا أو ضعيفا، طريقة الطالب في تنظيم شؤونه، نزعة المبادرة لدى التلميذ، فعدم نضج الطفل أو ضعف خبرته قد تتشاكل مع قدرته على التعلم وبالتالي فإن هذا المتغير يؤثر على تقدير المعلم وتوقعه بمستوى تحصيل الطفل ومن العوامل الأخرى المؤثرة يشار أيضا إلى: الانطباع العام للمعلم: بعض المعلمين يعممون بعض التصورات العامة حول التلميذ وهي تصورات قلما تستند إلى معطيات واقعية وحقيقية تتعلق بإمكانيات التلميذ وقدراته وإمكانياته الحقيقية، ثم متغير مكان جلوس الطالب في الأمام أو في الخلف أو في الوسط، متغير التعليقات السلبية التي توجه إلى التلميذ، متغير تصنيف التلميذ في مجموعات جيدة أو ضعيفة يمكنها أن تجر توقعات سلبية أو إيجابية لدى المعلم. تلك هي المعايير والمتعيرات التي يعتمدها المعلمون بطريقة عفوية لبناء توقعاتهم وتصوراتهم المتعلقة بمستوى نجاح التلميذ ومستوى تحصيله المدرسي. وهنا تبذل الجهود لمساعدة المعلمين على تجنب هذه النمط من الأحكام المسبقة حيث يتم العمل على تبصير المعلمين بخطورة هذه الأحكام المسبقة والتوقعات الأولية وكيفية تأثيرها لا شعوريا في علاقة المعلم بالأطفال والتلاميذ. في هذا السياق يعتقد روزنتا أن هذا المنطق السلبي يمكن أن يفهم بصورة خاطئة إذا اعتقد المعلم بأن الأحكام المسبقة والتوقعات الإيجابية أو السلبية التي تتعلق بالتلميذ يمكن أن تجعل منه ما يتوافق مع توقعاته بصورة عفوية.

وينوه الباحثون في هذا السياق أن إعطاء مصادر المعلومات أهمية كبيرة مثل نتائج الاختبارات والملفات المدرسية يمكنها أن تؤدي إلى نتائج غير مرغوبة. وهم يعلنون بأن هذه المعلومات المتعلقة بالتلاميذ يجب ألا تؤخذ على أنها حقيقة نهائية مطلقة بل يجب أن ينظر إلها وأن يستفاد منها في مسار اتخاذ القرارات المستقبلية التي تتعلق بالتلميذ. وهنا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كيف يمكن للتلاميذ أن يتفاعلوا مع تقديرات وتوقعات عالية المستوى من قبل معلميهم.

ويرى الباحثون أن التوقعات الكبيرة والتقديرات العالية للتلاميذ تشكل عنصرا أساسيا في المكونات الضرورية لتحقيق نجاح أكبر في المدرسة. وهذا العامل يجب أن يتضافر مع عوامل أخرى مثل العناية الإدارية، والمناخ المدرسي المنظم الآمن، والتقويم المستمر لمستوى الطالب. وهذا العوامل يجب أن تتكامل أيضا مع عوامل أسرية منها ما يتصل بأوضاع التلميذ في المنزل ومواظبته على الدراسة وحصوله على الدعم الأبوي والعائلي حيث يجب على الأبوين أن يسمحا للطفل بالمشاركة في النشاطات الخارجية ولاسيما التلاميذ الذين يحتاجون إلى دروس تقوية تهدف إلى رفع سويتهم العلمية.

وغالبا ما يعزى انخفاض المستوى التحصيلي للتلاميذ إلى ضعف مستوى التلاميذ أنفسهم، وقلما يعزى هذا الضعف في التحصيل إلى الممارسة التربوية نفسها في المدرسة. ومن يتأمل في الأمر يجد أحيانا بأن المعلمين غالبا ما يضعون توقعات متدنية للتلاميذ وهذه التوقعات تؤثر في خفض مستوى تحصيلهم. فالأطفال الذين يصنفون ضعفاء في صفوفهم يتلقون معرفة واهتماما أقل إثارة والمعلمون لا ينتظرون شيئا مهما من قبل هؤلاء التلاميذ. ومن الطبيعي أن يتلقى هؤلاء الأطفال عددا كبيرا من الإشارات والتلميحات السلبية غير المباشرة التي تخفض لديهم دافعية العمل والإنجاز المدرسي وبالتالي فإن نتائجهم تكون على منوال التوقعات التي يرسمها معلموهم بصورة مسبقة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية العلاقة التي تربط بين المعلم والطالب حيث تكون هذه العلاقة في منتهى الخطورة والأهمية من حيث تأثيرها في مستوى نجاح الطالب أو مدى تحصيله المدرسي. فالعلاقة بين المعلم والتلميذ قد تكون حاسمة في تحديد مسار نجاح التلميذ، لأن هذه العلاقة تنطوي على جوانب ذاتية متنوعة ومتعددة تتجاوز حدود التجربة المدرسية ذاتها. فالعلاقة الإيجابية مع المعلم تمكن الطفل من أن يثق بنفسه وأن ينطلق وأن يشعر بالأمن التربوي وأن يشعر بالقدرة على المواظبة. وعلى خلاف ذلك إذا كانت هذه العلاقة سلبية فقد تؤدي إلى نتائج مدمرة في شخصية الطفل ومسار حياته المدرسية برمتها. وفي هذا السياق يلاحظ أن المعلم غالبا ما يبني علاقات أقوى وأعمق مع التلاميذ الذين يبدون مشاركين وفاعلين وواعدين وأن هذه العلاقة غالبا ما تكون سلبية مع الطلاب ذوي المستويات التحصيلة المتدنية.

وغالباً ما يخمّن الطلبة توقّعات معلّميهم المتعلّقة بهم، ويتمثّلونها ثمّ يتماهون مع أحكامهم وتصوّراتهم، وعلى هذه الصورة يكون المعلّم المرآة الّتي يجد فيها الطالب صورة نفسه، فيعمل على محاكاتها. وهو ما يعني أنّ كلّ الأحكام والتصوّرات والتصنيفات والتقييمات المسبقة الّتي يعتمدها المعلّمون تتحوّل إلى قوّة فاعلة في تشكيل هويّة الطلبة ومستويات أدائهم، ويطلق على هذه العمليّة: النبوءة ذاتيّة التحقّق أي الّتي تتحقّق ذاتيّاً (Self-Fulfilling prophecy)، ومثال ذلك الطالب الّذي يكون عرضة للأحكام والتقييمات السلبيّة من قبل المعلّم كأن يوحي له بأنّه فاشل وكسول، وغير قادر على النجاح، وعندها نجد أنّ الطالب يتمثّل هذه الفكرة عن ذاته، ويشعر بالضعف، ويطغى عليه إحساس بالقصور والعجز، فيتكاسل ويصاب بالإحباط، ولا يبذل أيّ جهد في سبيل النجاح. وعلى خلاف ذلك عندما يبدي المعلّم أحكاماً إيجابيّة بشأن طالب آخر كأن يصفه بالذكيّ والناجح، ويتوقّع له النجاح والتفوّق، فإنّ الطالب المعنيّ سيبذل قصارى جهده ليؤكّد صورته الإيجابيّة الّتي رسمها المعلّم على نحو مسبق.

وغالباً ما يصنّف الأطفال في المدرسة ضمن مستويات علميّة قد تأخذ أبعاداً سيكولوجيّة، كأن نصنّف الطلبة في الفصل إلى ثلاثة مستويات: المستوى الأوّل الّذي يتضمّن التلاميذ الأضعف في مستوى التحصيل، ويتضمّن المستوى الثاني الأطفال الّذين يوصفون بأنّ تحصيلهم متوسّط، وفي المستوى الثالث يوضع الطلبة الأكثر نجاحاً وتفوّقاً. وقد لاحظ الباحثون أنّ هذه التصنيفات تعزّز إيجابيّاً الطلبة الأقوياء، وتزيد في ضعف الأطفال الضعفاء. ووجدوا أيضاً أنّ هذه التصنيفات تضرّ ببعض التلامذة، وترفع من معنويّات الآخرين، كما وجدوا أنّ هذه التصنيفات والأحكام تؤثّر في البنية النفسيّة للأطفال. فالأطفال في المستوى الأوّل أي الضعفاء ينتابهم شعور بأنّهم أغبياء ومقصّرون، وهذا يؤثّر في صورتهم الذاتيّة عن أنفسهم؛ ومن ثمّ يتمثّلون هذه الصورة الغبيّة لوجودهم مع استمرار هذا النمط من التصنيف.

وفي سياق آخر، عندما يقلّد التلاميذ مراكز قياديّة في الصفّ أو في الملعب، فإنّ هؤلاء الطلبة يمتلكهم شعور الثقة بالنفس والقدرة على ممارسة الفعل القياديّ بتفوّق ونجاح، وذلك على خلاف التلامذة الّذين يحرمون من أداء هذه الأدوار القياديّة في الصفوف وفي الملاعب، وفي نهاية المطاف، فإنّ الطفل الّذي لا يمنح هذه الفرص القياديّة سيكون عادة أقلّ قدرة على القيادة من الأطفال الآخرين الّذين يمنحون مثل هذه الفرصة، حتّى لو كانت قدرات الجميع الفطريّة متساوية.

وفي سياق آخر وجد بعض الباحثين المعلّمين يمارسون دوراً خطيراً في التأثير في ذهنيّة الطالب وقدراته، وقد لاحظوا أنّ المعلّمين يميلون إلى الانتظار لفترة أطول للحصول على إجابات من الطلبة الّذين يعتقدون أنّهم متفوّقون في الإنجازات، وهم أكثر استعداداً لمنح هؤلاء الطلبة فرصاً متعدّدة، وهم بالمقابل يضنّون بالفرص على الطلبة الّذين يعتقدون أنّهم أقلّ إنجازاً ونجاحاً. وقد أثبتت الأبحاث أنّ هذا لا ينطبق فقط على الموادّ الأكاديميّة الّتي تتطلّب مهارات وقدرات عقليّة، بل يغطي الموضوعات الّتي تتطلب قدرات بدنيّة وعقليّة وأخلاقيّة أيضاً.

8- دروس مستفادة:

وفي مقابل هذه الجوانب السّلبيّة الموجودة في الممارسة يمكن أن نرى أنّ التفاعليّة الرمزيّة تُعدّ منهجيّة حديثة تستخدم على نطاق واسع في التعليم، إذ يمكن توظيفها في عمليّة تحسين جودة التعليم وزيادة فاعليّته، كما في تسريع إدماج الطلبة جميعهم. وهي تقدّم العديد من الفوائد الهامّة في التعليم ومنها:

1- تعزيز التفاعل بين المتعلّم والمحتوى التعليميّ: يمكن للتفاعل الرمزيّ العمل على تعزيز التعلّم التعاونيّ بين الطلبة؛ إذ يمكن للطلبة التواصل والتعاون فيما بينهم من خلال الأدوات والمنصّات التفاعليّة التي تساعدهم كثيرا في هذا المجال.

2- تحفيز الطلبة على المشاركة والتفاعل في العمليّة التعليميّة: يمكن للتفاعليّة الرمزيّة أن تسهم في زيادة مستوى المشاركة والتفاعل في الصفّ. ويمكن للطلبة الآن أن يشاركوا في نقاشات جماعيّة، ويتعاونوا في حلّ المشكلات وتعزيز التعلّم المتبادل.

3- زيادة تركيز الطلبة وتحفيزهم على الاستمرار في التعلّم وزيادة التشويق والاهتمام: يمكن أن تجذب انتباه الطلبة، وتزيد شغفهم واهتمامهم بالموضوعات المعرفيّة. فعندما يشارك الطلبة في العمليّة التعليميّة بنشاط يصبحون أكثر استعداداً للتعلّم والمشاركة. كما يساعد هذا على إثراء المحتوى التعليميّ وجعله أكثر تنوّعاً وتشويقاً.

4- تحسين التركيز والانتباه: يمكن استخدام التفاعلات الرمزيّة لجذب انتباه المتعلّمين وتحفيزهم على المشاركة في التعلّم وتحسين التركيز والانتباه. كما يمكن توظيفه في تعزيز الذاكرة والتفكير الناقد وتحسين المهارات الإبداعيّة للطلبة.

5- توفير بيئة تعليميّة تفاعليّة وممتعة للطلبة، وتعزيز التعلّم التشاركيّ: تساعد التّفاعليّة الرمزيّة على تعزيز التعلّم التشاركيّ، وذلك من خلال السماح للمتعلّمين بالتواصل فيما بينهم وتبادل الأفكار والمعرفة.

6- تعزيز التفكير النقديّ والإبداع: يمكن للطلبة – من خلال استخدام التّفاعليّة الرمزيّة – أن يطرحوا أسئلة، ويحلّلوا المعلومات ويفكّروا على نحو نقديّ.

7- تعزيز التعلّم الذاتيّ: يمكن للتفاعليّة الرمزيّة أن تساعد الطلبة على تطوير مهارات التعلّم الذاتيّ، فتتيح لهم الوصول إلى الموارد والمعلومات بسهولة والعمل على نحو مستقلّ في وقتهم الخاصّ ووفقاً لوتيرتهم الخاصّة.

8- استثارة ردود فعل فوريّة: يمكن للتفاعليّة الرمزيّة أن توفّر ردود فعل فوريّة للطلبة، بما يساعدهم على معرفة مدى تقدّمهم وفهمهم. ويمكن للطلبة من ثمّ ضبط أدائهم وتحسينه وفقاً للملاحظات المتسلمة من التفاعليّة الرمزيّة.

9- تعزيز التفاعل الاجتماعيّ: يمكن للتفاعلات الرمزيّة أن تساعد على تعزيز التفاعل الاجتماعيّ بين المتعلّمين، والّذي يمكن أن يؤدّي إلى تحسين تجربة التعليم.

10- تقديم تجربة تعليميّة شاملة: يمكن استخدام التفاعلات الرمزيّة لتعزيز تجربة التعليم الشاملة، إذ يمكنها توفير العديد من المصادر والأدوات التعليميّة المتنوّعة الّتي تساعد على تحقيق أهداف التعلّم.

11- تشجيع الإبداع: يمكن للتفاعلات الرمزيّة أن تشجّع الإبداع، وتحفّز المتعلّمين للتفكير خارج الصندوق والقوالب الجامدة، من أجل العثور على حلول جديدة ومبتكرة للمشكلات.

12- تحسين مهارات الاتّصال: يمكن استخدام التفاعلات الرمزيّة في تحسين مهارات الاتّصال لدى المتعلّمين، وذلك من خلال السماح لهم بالتعبير عن أفكارهم وآرائهم بطريقة فعّالة وجذّابة.

ومن ناحية أخرى، يرى مناصرو هذا التّيّار أنّ التفاعل الرمزيّ يساعد على تطوير التعليم في المؤسّسات التعليميّة على النحو الآتي:

1- تحليل النتائج: يتمّ تحليل النتائج المتحصّل عليها من استخدام التفاعليّة الرمزيّة في التعلّم ومقارنتها بالنتائج التقليديّة لتحديد ما إذا كانت التفاعليّة الرمزيّة أكثر فعّاليّة في تعزيز المفاهيم والمهارات المطلوبة.

2- ملاحظة الطلبة: يمكن للمعلّمين ملاحظة تجاوب الطلبة مع التفاعليّة الرمزيّة وتقييم إجاباتهم وتطبيق المهارات المكتسبة من خلال الأنشطة التفاعليّة.

3- تقييم الطلبة: يمكن استخدام الاختبارات والتقييمات لقياس نجاعة التفاعليّة الرمزيّة في تعلّم الطلبة. ويمكن تقييم النتائج لتحديد ما إذا كان الطلبة يتمتّعون بمهارات التفكير الناقد وحلّ المشكلات والتواصل الفعّال على نحو أفضل.

4- مراجعة التفاعل بملاحظات الأطراف المعنيّة: يمكن الحصول على ملاحظات من المعلّمين والطلبة والعائلات والمستخدمين الآخرين حول جدوى التفاعليّة الرمزيّة في التعلّم. كما يمكن التحقّق من مدى رضا الطلبة والمعلّمين عن التفاعل الرمزيّ، ومعرفة ما إذا كان يحقّق المنافع التعليميّة المرجوّة.

ومن التوصيات الّتي يجب مراعاتها في التعلّم داخل الفصل الدراسيّ لتحسين الأداء التربويّ:

1- يجب على المعلّمين الحذر من إطلاق الأحكام على عواهنها، ويفضّل أن تكون أحكامهم إيجابيّة لا سلبيّة، وهذا ما يؤكّده كلّ من روزنتال وجاكوبسون (1980)(13) في نظريّتهما حول النبوءة المحقّقة لذاتها. وتكمن الخطورة في أنّ التصنيفات والأحكام السلبيّة تؤدّي إلى تشويه فكرة الهويّة الذاتيّة عند المتعلّمين (14).

2- يجب على المعلّمين تأكيد الالتزام بالقيم الثقافيّة دون تحيّزات شخصيّة، ويعني هذا أنّه يُنتظر من العمليّة التربويّة أن تعكس القيم والفضائل الثقافيّة في المجتمع، وأن يبتعد المعلّم عن الأحكام الشخصيّة والذاتيّة الّتي يطلقها حول المتعلّم، وفي الأحوال كلّها يجب على المعلّم تجنّب الإشارات السلبيّة والأحكام الأخلاقيّة كما يجب عليه تجنّب إطلاق أحكام على القدرات النفسيّة والسيكولوجيّة عند التلامذة.

3- عدم اللجوء إلى العنف: يرفض كثير من التفاعليّين الاستبداد السائد في المدارس، ويرون أنّه يعيق عمليّة التعلّم، ويشجّع على السلوك غير الديمقراطيّ في المستقبل.

4-أهمية التفاهم: التعلّم وفقاً لأنصار التفاعليّة الرمزيّة نتاج للتفاهم والتفاعل الإيجابيّين داخل الصفوف، ويرى أصحاب هذا التوجّه أنّ التفاعل الاجتماعيّ الإيجابيّ يعزّز قدرة التلاميذ على التحصيل، ويدعم تكوينهم، ويُحسن إعدادَهم لخوض الحياة العمليّة.

9- خاتمة:

لقد بينت أعمال روزنتال وجاكوبسون بأن التوقعات التي يرسمها المعلمون حول المسار الدراسي للتلاميذ مؤثرة جدا، وغالبا ما تُتَرْجم هذه التوقعات إلى واقع مدرسي. ومن الواضح أن تأثير بيغامليون يشكل إطارا منهجيا لتحليل وتفسير الجوانب المختلفة للحياة التربوية التي تتعلق بالتحصيل المدرسي للتلميذ. فالتقييم المدرسي الذي يجريه المعلم وتوقعاته حول مستوى التلميذ يلعب دورا كبيرا في عملية توجيه المسار المدرسي للطفل. ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تأثير بيغامليون يبقى نتاجا لفكرة أسطورية في الأصل والجوهر، وهي فكرة يمكن اعتمادها في تفسير وتطوير الفعاليات المدرسية المتعلقة بعملية التنبؤ والتوقع والتطوير في مجال التحصيل المدرسي.

ومهما يكن الأمر فإن البعد التربوي للتفاعل الرمزي يمكنه أن يوظف فعليا في توجيه السلوك التربوي للمربي الذي يجب عليه أن ينطلق في عمله من الإيمان بأهمية التعزيز الإيجابي للطفل عبر توقعات إيجابية، فالتوقعات السلبية والصورة السلبية غالبا ما تكون كارثية على التلميذ، وهذا يعني أنه يجب علينا أن نعمل تربويا وفقا للحكمة التي تقول توسموا الخير تجدوه، أو هذه التي تقول كن جميلا ترى الكون جميلا، فكم يجب علينا أن نتوسم خيرا بأطفالنا وتلامذتنا من أجل خيرهم ومستقبلهم، وكم يتوجب علينا أن ننظر بعيون جميلة إلى أطفالنا وفلذات أكبادنا ليتألق الجمال لوحة أصيلة في قلوبهم وعقولهم.

***

أ. د. علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

....................

مراجع الدراسة وهوامشها:

(1) عبد العزيز العيادي: ميشال فوكو، المعرفة والسلطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1994. ص7.

(2)- غي روشيه، علم الاجتماع الأمريكي: دراسة لأعمال تالكوت بارسونز، ترجمة: محمد الجوهري وأحمد زايد القاهرة، دار المعارف، 1081، ص 13- 14.

(3)- M. J. Carter & C. Fuller, Symbolic interactionism. Sociopedia. ISA, 1(1), 1- 17, 2015.

(4)- جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، الألوكة، الطبعة الأولى، 2015ص 92.

(5)- G. H. Mead, Mind, Self and Society, Chicago, University of Chicago Press, 1984.

(6)- H. Blumer, Symbolic interpretationism: Perspective and method. Englewood Cliff N. J. Prentice- Hall, 1969.

(7)- فاطمة الزهراء كشرود،والعربي بو عمامة، نظرية التفاعلية الرمزية ونظرية الحتمية القيمية حدود الانتقاء ونقاط الالتقاء، مجلة الحكمة للدراسات الإعلامية والاتصالية، العدد 24، (2021) صص 154- 167. ص 157.

(8)- جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، الألوكة، مرجع سابق . ص 93.

(9)- نقلا عن: كشرود، فاطمة الزهراء وبو عمامة العربي، نظرية التفاعلية الرمزية، مرجع سابق، ص 163.

(10)- عبد الرحيم العطري، سوسيولوجيا الحياة اليومية: الرمزي أفقا للتفكير، دفاتر العلوم الإنسانية، الرباط، الطبعة الأولى، 2018. ص11.

(11)- Nilgun Aksan, Buket Kısac, Mufit Aydın, & Sumeyra Demirbuken, Symbolic Interaction Theory, Procedia, Social and Behavioral Sciences 1(1):902- 4, 2009.

(12) - Rosenthal, E & Jacobson, R.L. (1980). Life in classroom. New York: Holt Rinehart Winston.

(13)- Nilgun Aksan, Symbolic Interaction Theory, Ibid.

(14)- M. Haralambos & H. Heald, Sociology: Themes and perspective: London: University Tutorial Press, 1980.

 

أعتقد أننا في حاجة لتأمل دلالة مصطلح المدينة الفاضلة في الثقافتيّن الغربيّة ثم العربيّة قبل الشروع في مناقشة بنيّة مضمونه والمحاولات الجادة لتصوره على اعتبار أنه مشروع مستقبليّ أو واقع يجب إصطناعه أو تطبيقه في الحياة والثقافة المعيشة. وقد دفعني إلى ذلك في سيّاق حديثي عن فلسفة “الطاهر بن عاشور” هو تأثره الواضح بالمحاولات السابقة على مناقشته فكرة (الكمال الإنساني) وكيفيّة بناء المدينة الفاضلة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة الحديثة، أي أنه أنطلق من مراجعات نقديّة للتصورات الغربيّة للمدن الفاضلة بدايةً من الطور الكلاسيكي إلى الطوّر اللاهوتي المسيحي وإنتهاءً بعصر النهضة، ثم أنتقل إلى الفكر العربي من منابت الفكرة حيث أحلام الشعراء ثم تصورات الفلاسفة وإنتهى به الأمر إلى مقاصد الشريعة الإسلاميّة التي استنبط منها دعوته الجادة لتقديم النموذج الإسلامي في تطبيق ذلك التصور الغائب على أرض الواقع مُقتديّاً بعصر النبؤة ومدينة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وذلك للبرهنة على إمكانيّة تَحقُقّ ذلك المثال الذي طالما وُصف بأنه الفردوّس المفقود في زمان ومكان ومجتمع وحكومة ورئاسة وكيان اقتصادي وسياسي واجتماعي وأخلاقي وعقديّ وسط عالم من الأغيار الشاغل بالممالك المتبايّنة بالمعنى الحديث.

فقد عبرت الكتابات الغربيّة عن إستشراف الأدباء للعالم المثالي إنطلاقاً من شعور جمعي بتراجع قيمة الخيّر، السلم، العدالة، المساواة، الكرامة الإنسانيّة، الحُبّ، التعاون وغير ذلك من القيّم التي شعر بها الإنسان على أنها حقوق قد سُلبت منه أو حُرم منها رغم وجودها، وظهر ذلك في صور عديدة أبسطها القَصص والملاحم والأشعار التي تُعبر عن الشعور بالإغتراب ورفض الواقع المعيش أو الثورة على الأوضاع القائمة.

أمّا مصطلح (يوتوبيّا) فهو يُرد إلى أصل لاتيني يرجع إلى كلمتيّن إغرقيتيّن هما (Utopia) (أُو) و (طُوبوس) ويُقصد بهما مكان غير موجود (أي خيالي) وقد أُستخدم في المعاجم العربيّة بمعنى (مدينة أُسطوريّة) وعُبر عنه بـ (الطوباويّة أو أوطوبيّا أو الفردوّس)، أمّا في العصر الحديث فيُعد “توماس مور ١٤٧٨م – ١٥٣٥م ” أول من استخدمه في مطلع القرن السادس عشر بمعنى مدينة خياليّة نموذجيّة.

ويُعد “أفلاطون” أول من وضع تصوراً لبنيّة المدينة الفاضلة، باعتبارها المدينة المثاليّة في بنائها وبنيّة سكانها من كل النواحي المعيشيّة وذلك في (محاورة الجمهوريّة)، ثم هذبها في (محاورة القوانين) ولم يُحاكي هذا النموذج من الفلاسفة في الثقافة الغربيّة – على حد معرفتنا – سوى “القديس أوغسطين ٣٥٤ م – ٤٣٠ م” الذي ينتمي تصوره إلى الثقافة الرومانيّة، وذلك في كتابه (مدينة الله نحو ٤٢٦م) ثم جاء “توماس مور” وذلك في كتابه (يوتوبيّا ١٥١٦م)، وتلاه “توماس كامبنيلا ١٥٦٨ م – ١٦٣٩ م” في كتابه (مدينة الشمس ١٦٢٣م)، ويُعد “فرانسيس بيكون (١٥٦١ م – ١٦٢٦ م) آخر الفلاسفة المُحدثيّن الذين حاكوا المدينة الفاضلة الأفلوطنيّة، من حيث هي مجتمع يسعى إلى تحقيق السعادة والكمال لمواطنيه، وقد أستبدل مؤلفه المزحة الفلسفيّة المثاليّة التي أنتحلها “أفلاطون” والنَحلّة اللاهوتيّة التي أنتحلها “القديس أوغسطين”؛ والوجهة الإصلاحيّة الأخلاقيّة والسياسيّة التي أنتهجها “توماس مور”، و” توماس كامبنيلا” بوجهة علميّة لا سُلطة فيها إلا للعلم والواقع التجريبي والحياة المنطقيّة التي تُحقق السعادة الأرضيّة، وذلك في روايته الغير مُكتملة (أطلانطا الجديدة  ١٦٢٧م)، ولا غَروّ في أن “ابن عاشور” قد أطلع على هذا التراث الغربي وقد كشفت كتاباته الموسوعيّة عن ذلك.

أمّا بنيّة مصطلح المدينة الفاضلة في الثقافة العربيّة فقد ظهر في صورة ثورة من المُستغربين والمُتمردين والرافضين للجُوّر الذي يلاقونه من مجتمعاتهم، وقد عبرت أشعار إمرؤ القيّس (٥٠١ م – ٥٤٤م) وحديثه عن (مملكة كِندة) المُتوّهمة التي يسودها الحب والعدالة والمساواة والخير والتسامح بين قبائلها، ثم في حكايات “أُميّة بن أبي الصَلتّ، المتوفى (عام ٦٢٦م) الذي تخيّل مدينته تَنعّم بالسلم والأمان والرحمة والتآخي في ظل (الديّانة الحنيفيّة) بمنئ عن الفُحشّ وعبادة الأوثان والإنحطاط الأخلاقي والظلم الإجتماعي،كما نَلمحّ تَصوّر تلك المدينة الخياليّة في أشعار زُهير بن أبي سُلمى (٥٢٠م – ٦٠٩م ) حيث المجتمع المثالي والفضائل الأخلاقيّة التي تُشكل دستور المواطنين في تلك المدينة.

أمّا أشعار الصعاليك التي انتشرت في الثقافة العربيّة نحو مطلع القرن السادس الميلادي فلم تخلُ هي الأخرى من الحديث عن الروح الثوريّة والصرخات النقديّة المُتمردة على إهدار حقوق الإنسان الوجوديّة في الحياة الكريمة المُطمئنة والمُطالبة بالعدالة والمساواة والحريّة من قيّد العبوديّة.

أمّا الأعمال ذات الطابع الفلسفيّ التي تأثرت بطريق مباشر أو غير مباشر بالتصور الأفلاطوني فنجدها عند (وهب بن منبه ٦٥٥م – ٧٣٨م ) في كتابه (المُلوك المُتوجّة من حميّر وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم) وقد انصبت حكمه وأقاصيصه وأمثاله وحكاياته حول أخلاقيّات تلك الممالك وعوائدهم ونُظمهم ومُعتقداتهم التي تُشكل مجتمعاتهم تَصوّراً للمدن الفاضلة.

أمّا أبو نصر الفارابي (٨٧٠ م – ٩٥٠ م) هو أول فلاسفة الحضارة العربيّة الإسلاميّة الذين حاولوا الجمع بين الرؤيّة الفلسفيّة والمدينة الفاضلة التي يرأسها الفيلسوف ويحكُمها العلماء في (جمهوريّة أفلاطون) والمدينة الإسلاميّة التي تَدينّ بالولاء والطاعة للنبيّ (صلى الله عليه وسلم) ثم من يَحذُوا حذوه ويسير على دربه من الحُكماء والعلماء والأتقيّاء، وقد حاول فيها الجمع بين كل محاسن المعقول الفلسفي بجانب المنقول الإسلامي الذي ينقل التصور من طوّر أحلام الفلاسفة إلى المدينة الإسلاميّة التي يَحكُمَها الدستور السماويّ، وسار على نهجه أبو العلاء المَعريّ (٩٧٣ م – ١٠٥٧ م) في (رسالة الغفران نحو ١٠٣٣م ) ثم “ابن سينا (٩٨٠ م – ١٠٣٧ م) في قصة (حيّ بن يقظان) التي كتبها في سنين الشباب، متأثراً بكتابٍ يونانيٍ مغمورٍ بعنوان (إيمن ذريس أي حافظ الناس) ويحويّ حكايات ومواعظ شعبيّة، ويبدو فيه ثقافة مؤلفه الجامعة لثقافتي الأفلوطنيّة والهرمسيّة، ثم “ابن طفيل حوالي (١١٠٥م – ١١٨٥م ) وقصته المعروفة (حي بن يقظان) وقد حاكى كلاهما (مدينة الفارابي) من حيّث تقديم الورّع على العلم والجمع بين الحكمة العقليّة والشريعة السماويّة.

ولعلّ الجامع بين الكتابات الفلسفيّة في الثقافة الإسلاميّة هو العنايّة ببناء الإنسان وقيّمه، وإعادة تشكيل عقله على نحو نقدي يُمكَنّه من السيّر وفق مشاعره الإيمانيّة وإستدلالته العقليّة وإحتياجته الماديّة، وجعل كُتاب المدن الفاضلة (الإنسان الكامل) على رأس المدينة التي تنشُد العدالة بأوسع معانيها والسلم بين سكانها وجيرانها، وتسعى للخيّر الأعم وتحقيق السعادة الأرضيّة والنعيم والخيّر الأبقى في الحياة الأُخرويّة.

وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث لا نكاد نلمح من بين رواد النهضة العربيّة الإسلاميّة من تأثر بفكر “الفارابي” في اختلاق مدينة فاضلة تُعبر عن إغترابه الذي يُعاني من غيّبة الحريّة والعدالة والإنصاف والمساواة، فضلاً عن القيّم الأخلاقيّة والروحيّة سوى عمليّن كُتباً تحت مظلة الرمزية الأدبيّة أو إن شئت قُل فلسفة المقاومة أو الأحاديث المسكوت عنها بالتصريح، فأرتكنت إلى التلميح وإرتداء ثوب أدبي يخفي أغراضها أو مقاصدها الحقيقيّة، والعمليّن هما (مغامرات تِليماك ١٦٩٩م) لمؤلف فرنسي هو القس فينيلون (١٦٥١م – ١٧١٥م )، وقد عَربها رفاعة الطهطاوي (١٨٠١م – ١٨٧٣م) بين (١٨٥١م – ١٨٥٤م) أثناء نفيّة في السودان، وقد غيّر عنوانها إلي (مواقع الأفلاك في وقائع تِليماك) إمعاناً منه في الإخفاء والتعميّة حتى لا يُفطن المتربصون به لمِا تحتويه من أفكار وآراء ثوريّة ناقمة على سياسة الخديوي عباس حلمي الأول (١٨١٣م – ١٨٥٤م) وسكب فيها دوافع إغترابه وإنتقاداته للواقع المعيش في مجتمعه وأحلامه بِغَدٍ أفضل يَنعّم فيه البشر بالعدالة والإنصاف.

ومن أقوال “رفاعة” المسكوت عنها في هذا السيّاق: (إنه دوَّن كل كتاب مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكيّة، وتدابير السياسات الملكيّة.. وعن الآداب اليونانيّة التي أنتجت هذه الملحمة يقول: أن الميثولوجيّا عند اليونان إنّما هي على بعض الآراء لها ظواهر وبواطن، فربما اشتملت على بعض إشارات ورموز.. وفيها من المعاني الحَسنّة مما هو نصايّح للسلاطين والملوك، وبها لساير الناس تحسين السلوك، تارة بالتصريح والتوضيح وأخرى بالرمز والتلويح.. وإن كان بحر جواهر ألفاظ هذا الكتاب لا يُدرك له في لغته الأصليّة قراراً إلا أنه معلوم عند أهل الصناعة أن بحر اللغة العربيّة يقطع على محيط بحار اللغات الأخرى التيّار، وإنه لدررها ولأليها غواص، ولسماء غيثها مدرار ولأدابها ومعارفها ميزان ومعيار، وكل شيء عنده بمقدار.. وليس كل من غَربّ أعربَ وأغربَ وأورد النفوس الزكيّة أعذب مشرب).

وإذا ما انتقلنا للعمل الثاني الذي حاك اليوتوبيّات الغربيّة في الإلغاز والرمزيّة والتعميّة والتعبير عن النقود التي عجز الكاتب عن البوّح بها هو عمل أدبيّ كتبه أحد تلاميذ “رفاعة الطهطاوي” وهو “عبد الله فكري ١٨٣٤م – ١٨٨٩م ” بعنوان (المقامة الفكريّة في المملكة الباطنيّة ١٨٧٢م) وهو عمل مُعرَّب أيضاً عن التركيّة لمؤلف مجهول ومضمونها غير معروف، وما جاء به ليس له مسئول – وذلك على حد تعبير المُعرب – وقد جاء فيها مضمونها أن المؤلف قد ساح وراح يتجوّل في مملكة في الواقع الإفتراضي يحكمها العقل الواعي المستنير وتدين بالأخلاق والدستور الروحي الورّع والمَكيّن، وقد صَوّر القيّم الماديّة والروحيّة في صورة بشريّة جمعها العقل الذي يُمثل حاكم المدينة للتشاور في تسييّس المدينة؛ وذلك لتبدو في صورة كاملة وفاضلة.

وحسبنا أن لا نستفيض في شرح هذيّن النموذجيّن فقد أفردنا له في مؤلفاتنا المكان المناسب، وذلك في كتاب (خطابات فلسفيّة في ثياب أدبيّة ٢٠١٩م ).

فالذي يعنينا من ذِكر المحاولات الرائدة لكتابة اليوتوبيّات أو المُدن الفاضلة في الثقافتيّن الغربيّة والعربيّة هو تأثر مُفكرنا “الطاهر بن عاشور” بنهوجها في صيّاغته لما أبدعه في هذا السيّاق.

فقد وضع “ابن عاشور” تصوراً للمدينة الفاضلة الإسلاميّة، فبدأ حديثه عنها بالإنسان وسماته وخِصاله وإستند في ذلك إلى ما ورد عن المُصطفى (صلى الله عليه وسلم) مُبيّناً أن أولى سمات هذا (الإنسان الكامل) الذي يستوطن المدينة الفاضلة هو المُستقيم الخالي من العوّج والإنحراف في سلوكه وأخلاقه أي برانيّه وجوانيّه، وهي الفِطرة التي جَبَلّ الله الأخيّار عليها، وأوائل المُصطفيين من البشر هم الرُسل الذين توالت بعثاتهم لأقوامهم مُرشدين وهادييّن ومُقومِين ما فسد ومُصلحين ما تلف، ومُبيّنين السبيل للتوبة والإستقامة بعد عصيان ونسيان؛ فالرجوع عن المعصيّة من أزكى خصال الفضلاء، وعليه يؤكد مُفكرنا أن المُؤمنين الطاعييّن هم المُزكون دوماً لسُكنّة المدن الفاضلة.

ولا يُنقص مُفكرنا من فضل الأنبيّاء والرُسل الذين اجتهدوا في تربيّة إنسان هذه المدن وجدانياً وأخلاقياً، ثم تهذيب سلوكه وتحليّة عوائده وتخليّة أعرافه من عَطب مُحاكاة الحيوانيّة والجَهَالة، وذلك كله بقدر طاقة الدُعاة وإستجابة المُكلفين.

والجدير بالإشارة في هذا السيّاق أن “ابن عاشور” قد وضع العلماء والفلاسفة في مصاف الأنبيّاء والمُصلحين، فذكر “هرميس (إدريس النبيّ) حوالي الألفيّة الرابعة قبل الميلاد”، و الحكيم اليوناني “بيّاس حوالي (٦٠٠ ق م – ٥٣٠ ق م ) الذي أُشتهر بالورعّ والإنتصار للحق، و”سولون حوالي (٦٤٠ ق م – ٥٦٠ ق م ) الأثيني صاحب التشريعات الشهير الذي يُرد إليه القواعد القانونيّة الغربيّة العادلة ونظام الشورى، ومن الفلاسفة الأكابر “سقراط” وتلميذه أفلاطون.

وقد صرح مُفكرنا بأنه قد حاكَ في ذلك الإنتقاء ما إرتائه “يحيي السهرورديّ (١١٥٤م – ١١٩١م )، و “قُطّب الدين الشيرازي (١٢٣٦م – ١٣١١م) في كتابتهم عن أفاضل الحكماء والعلماء، ولم يجد في ذلك حرجاً إستناداً على وصف الله للحكماء والعلماء بأنهم ورثة الأنبيّاء، ونستنبط من ذلك أن مُفكرنا قد رَغِب عن النموذج الثيوقراطي الذي جعله كهنة اليهود وقساوسة المسيحيّة نموذجاً للمدينة الفاضلة أي أنه رفض النموذج (الأوغسطيني) وفضل عليه عالم المُثل البشري (الأفلاطوني) الذي تحدث عنه في محاوراتي (الجمهوريّة والقوانين).

ثم يعود “ابن عاشور” ويؤكد أنه مع إعترافه بعِظم إجتهاد أولئك المُصلحين من أنبيّاء وعلماء وحُكماء في إيجاد المدينة الفاضلة على النحوّ الذي يليق بالمقاصد الإلهيّة من خلق البشر، فيرى مع ذلك أن جميعهم قد أخفق لصلف وقسوة قلوب عُمار المدن الذين حاولوا هدايتهم فكذبوهم وآذوهم ونسيّ القليل منهم ما تَعَلَمُه من الأتقيّاء والمُصلحين وراق لبعضهم تجديف شِرعة الله وتحريف رسالاته ومن ثم ضاع الدستور الحاكم لذلك (الإنسان الكامل) المرجو إعداده لتكوين مجتمع المدينة الفاضلة، ومن أقواله في ذلك (بقيّت المدينة الفاضلة مُرتسمة في خيّال الحكماء، فلم يزالوا يدعون إليها ويبتغون تأسيسها، ولكنهم لم يحصلوا على حاجاتهم المنشودة، ذلك أن المدينة الفاضلة يُلزم أن يكون رئيسها حكيماً صالحاً عارفاً وأن يكون أصحابه – أهل الحَلّ والعقّد فيها – حكماء مثل رئيسهم، وأن يكون سكانها أفاضل قابلين لسيّاسة الحكيم مُطيعين له، غير مُفسدين لما يُصلحه.. وإضطرب العالم عقب ذلك إضطرابات عامة في كل مكان، فلم يتأت إيجاد المدينة الفاضلة حتى جاء الإسلام).

وحسبي أن أوضح أن “ابن عاشور” لم يكن مُتحيّزاً للنبيّ الخاتم إذ وصف إياه بأنه ذلك النبيّ الحكيم الكامل الذي قَدَرّ بإجتهاده في تأسيس عُمد المدينة الفاضلة، وبدأ بإجتذاب الأتباع في أول الدعوة بمكة ثم أرسل من يحمل رسالته إلى جيرانه الذين مالت قلوبهم إلى دعوته، ولما تهيأت الظروف انتقل إليها وإعتَليّ مكانة الحكيم المُصلح الهادي، الذي أقنع بكمال حكمته عقول مؤيديه وطَبع في قلوبهم حبه وإخلاصهم له، لجميل طباعه ورحمة خصاله، فتأسست بذلك اللَبنّة الأولى لتلك المدينة الفاضلة المرجوّة التي تأسس دستورها على البِرّ والتعاون وإحترام القانون الإلهي الذي تَنَزّل في آياته بوحيّ يمتنع بطبيعته عن التبديل والتحريف، ومبدأ الشُورة الذي رَدّ لمواطن تلك المدينة حقه في البوّح والإختيّار والتقويم؛ وذلك ليتمكن من حمل الرسالة من بعده بوصفه مواطناً مُسلماً في خيّر أمة أُخرجت للناس فعالاً للبِرّ والمعروف دوماً وراغِب عن المُنكر والشرور بإرادة حُرة وبإلتزام جُوانيَّ وبإلزام عادل في قرآن محفوظ، وكيف لا وقد عُنيّ رسول الله بتربيّة البشر وتقويم خصالهم وتثقيف أفعالهم قبل تدبير الحَجّر و بناء الأسوار وتشييّد الحصون، فلم تكن عنايته بتصوّر مدينة بعيّنها، بل إيجاد أمة حريصة على حمايّة الحُبّ في قلوب أفرادها أكثر من حُب القوة الذي يُمكنّها من حمايّة الممتلكات والحدود.

وللحديث بقيّة عن تَصوّر “ابن عاشور” للمدينة الفاضلة الإسلاميّة الحديثة.

***

بقلم: د. عصمت نصَّار

 

أولا: سر وحدة الشخصية في مركب الثنائية العنصرية

حينما نقرأ القرآن الكريم والأحاديث النبوية نجد أن النصوص المحددة لطبيعة الشخصية الإنسانية قد تنحو إلى اعتبار الإنسان كائنا مركبا من عنصرين مختلفين في طبيعتهما: أحدهما يغلب عليه الارتقاء والتطلع إلى الآفاق، بل إن وجوده قد تم علويا في عالم ليس من جنس عالم الحس والمرئي من الكائنات الدنيوية، وهذا هو الذي يسمى بالروح.

أما العنصر الثاني: والمسمى بالجسد فهو ذلك الذي يغلب عليه طابع التثاقل إلى الأرض والركون نحو الأسفل ارتباطا بمادتها وانجذابا نحو عنصرها، لأنه مخلوق منها ولا يستطيع مبارحتها إلا عرضا وبواسطة تطلع العنصر الأول الذي من طبعه التطلع إلى الأعلى، ولهذا يلاحظ عند مفارقة الروح للجسد بالموت أن هذا الأخير قد يتشبث بالأرض التصاقا بل تحللا وذوبانا بعناصرها.

ولقد صرح القرآن الكريم بثلاث صور يمكن أن نعتبرها عناصر أساسية لتحديد مناهج معرفة النفس: وهي عنصر الروح وعنصر الجسد، وعنصر الروح متصلا بالجسد.

فالعنصر الأول وهو اعتبار الجوهر الإنساني المعبر عنه بالروح، قد يدخل في حكم استحالة أو صعوبة معرفته من جهة ماهيته، وذلك للإضافة الخاصة التي يتميز بها وجوده وخلقه.

ويتجلى هذا الحكم في قول الله تعالى: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا "1. وكذلك قوله تعالى: " مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا "2 .

فالآية الأولى كما يروي البخاري عن أسباب نزولها في صحيحه: "عن علقمة عن عبد الله قال: بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خربة المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه لا يجيء بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسأله.فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم: ما الروح ؟ فسكت فقلت: إنه يوحى إليه، فقمت. فلما انجلى عنه فقال: "ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتوا من العلم إلا قليلا" قال الأعمش هكذا في قراءتنا "3 .

وهذا الحديث المبين لأسباب نزول الآية يحدد لنا المقصد منها وبعدها، إذ أن السؤال الذي طرحه اليهود عن الروح قد جاء في معرض الاستفزاز والتعجيز بأسئلة ليست من جنس التعريف اللغوي والصياغة اللفظية، وذلك لأنهم سألوا معرفة الماهية الروحية، إذ استعملوا "ما "كأداة استفهام، ومعلوم أن الماهية قد يسأل عنها في غالب الأحيان بما، وإذا كانت (ما) تفيدها فسيكون من اللازم توصيلها إلى المستفسر، وهذا يتطلب الاندماج بالماهية اندماجا ذاتيا قد يصير معها المدرِك هو عين المدرَك!وهذا لا يتم إلا إذا كانت الذات المدركة مستقلة عن أية إضافة أو تركيب أو ما إلى ذلك.

وبما أن الروح مركبة مع البدن بالعطف والإضافة، وبما أنها محدثة بالإضافة العليا وهي قول الله تعالى: "قل الروح من أمر ربي" فإن إدراكها لا يتم إلا عن طريق الإضافة العليا -أي بإلهام من الله تعالى وتحقيق منه مباشرة-أو عن طريق قنوات الجسد الحسية والعقلية والتي هي دون مستوى الإدراك الروحي الأرقى والأدق!.

ولهذا فقد جاء الخطاب صريحا ليبين هذا الافتقار الذاتي للإنسان إلى تحصيل العلم بالماهية، لأنه مفتقر أصلا إلى تعليم من الله تعالى الواهب للإدراك والمعرفة الصحيحة، كما أنه إذا وكل الإنسان إلى ذاته المركبة بالإضافة والعطف، حيث يمتزج فيها الروحي بالجسدي، فإن قنوات الإدراك عنده لن تكون على مستوى التجريد الذي يفسح المجال للروح بأن تدرك ماهية ذاتها بذاتها.

ولهذا فلو كانت الروح مدركة لماهية ذاتها لما كان هناك سؤال في الماهية أصلا، فيكون أن تحصيل العلم بها يبقى من اختصاص الله تعالى الذي يهب علمه لمن يشاء بحسب استعداده له وتأهله لتقبله "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".

ثانيا: التكوين الإنساني ومراحل الشعور بالذات

هذا الافتقار إلى تحصيل إدراك ماهية الذات ستبينه الآية الثانية في قول الله تعالى، "ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا"، والتي فيها الدليل القاطع على أن الإنسان لا يمكن أن يسبر حقيقة ذاته إلا بأمر من الله تعالى وإذن منه لأنه أعلم بخلقه " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ".

كما أن الآية ستركز أساسا على واقع الإنسان الوجودي والتكويني لأنه في الحقيقة لم يدرك مراحل تطوره ولا متى تكونت الخلية الأولى لذاته الجسدية بله عنصره الروحي الوارد بالأمر الإلهي المباشر!

وبما أنه قد كان غائبا وجوديا شعوريا وإدراكيا عن مراحل تكوينه فإنه سيكون عاجزا عن معرفة كنه ذاته وتقلباتها في مراحل النمو والتذكر والنسيان وما إلى ذلك، ولهذا فالمرحلة ما بعد وعيه تبقى دائما خاضعة لما قبله في عدة أشياء وقد تتحكم في سلوكه لا شعوريا سواء روحيا أو جسديا، لكنه مع ذلك قد يكون مسئولا عن نتائجه للخصوصية الإدراكية النسبية التي وهبها الله للإنسان في طوره العادي.

وكصورة لهذه المراحل التي لا يعرف الإنسان منها شيئا سوى ما يقرره الشرع من حقائق، سيكتشف بعضا منها فيما بعد، ما يدل عليها قول الله تعالى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) "4 .

وكذلك ما نجده في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله (بن مسعود) قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فوالله إن أحدكم -أو الرجل- ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراعين أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها "5.

فالمراحل التكوينية المتضمنة في القرآن والحديث لا يدرك الإنسان أثناءها شيئا، فهو من حيث تكوين بدنه لم يعرف كيف جمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم صار علقة ثم مضغة مثل ذلك.

أما تكوينه الروحي فالنفخة هي بدورها سر لا يعلمه إلا الله تعالى، وظاهر النص الحديثي يشير إلى أن الوجود الجسدي هو المفتقر إلى الوجود الروحي وليس العكس، لأن تكوين الجسد قد تم على مراحل مركبة خاضعة للزمان والمكان، بينما التكوين الروحي ليس فيه سوى مرحلة واحدة قد تمثلت في نفخ الروح، الله أعلم بسره .

وأمام هذا التقرير القرآني والحديثي عن مراحل التكوين الإنساني يطرح سؤال وهو: أيهما أسبق إلى الوجود هل الروح أم الجسد؟ ثم هل الروح يمكن أن توجد مستقلة عن الجسد مع احتفاظها بالإدراك والشعور أم العكس، أي: هل يمكن للجسد أن يستمر في الحياة مع غياب الروح ؟.

ففيما يخص الجسد نجد الدلائل قطعية على أنه لا استمرارية لحياة جسد دون روح، بدليل وجود الموت الذي يلاحق كل المخلوقات الحية بما فيها الإنسان المركب من روح وجسد.

فالجسد قد يكون موجودا بكل عناصره المؤهلة له للحياة، غير أنه لا يستطيع أن يقوم بوظائفه إلا بوجود الروح، مصداقا لقول الله تعالى: " إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)"6 .

فلا قيمة لجسد رغم ما يحتويه من أعضاء وغرائز وظيفية إلا بوجود الروح المعطي الرئيسي للشعور بوحدة الذات وبالإنِّية المصرفة للبدن .

وحينما نقول بوحدة الذات ففيه الإشارة إلى عدم قابلية التركيب في الماهية الروحية المجردة، وبهذا تخالف طبيعة الروح طبيعة الجسد الذي تم خلقه على مراحل مضافة ومتراكبة .

فقد يبتر عضو جسدي من الإنسان ومع ذلك يبقى الإنسان ذاتا واحدة لا ينقص من شعورها بذاتها شيء، بينما الجسد من حيث النظر يكون قد بتر.

أما فيما يخص الروح، فإننا نجد الأدلة القرآنية والحديثية تبين، حسب ما يفهم من ظاهر نصوصها، أن الأرواح قد تعرف وجودا مستقلا عن الجسد قبله وبعده.بحيث يستمر بقاء الروح رغم تلاشي أعضاء الجسد وتحلله إلى تراب ورفات.

ومن بين هذه الأدلة القرآنية التي تشير في ظاهرها إلى أن الأرواح قد وجدت قبل الأجساد وكمال تكوينها ما نجده في قول الله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)"7.

فوجود هذه الأرواح وطريقة أخذها من الظهور تبقى في حكم الغيب الذي يختص النص الديني بتقرير حقائقه، لكنه مع ذلك سيفتح المجال في الفكر الإسلامي للاستدلال عليه ومحاولة ملامسة حجبه بدقة علمية موضوعية كمعرفة جزئية لأبعاد هذه العملية وارتباط السلوك الإنساني وخلفياته بها، معتمدين في ذلك على ما عرضه القرآن والحديث من ظواهر نفسية ترتبط وجدانيا وسلوكيا بهذه المرحلة السابقة في تكوين الإنسان .

ولهذا فمعرفة النفس في الإسلام ومناهجها قد ترتكز أساسا على تحديد طبيعة الكينونة الإنسانية أولا وذلك من خلال تحديد مناطق الفصل بين عناصرها، والتدليل على خصوصية كل عنصر فيها لكي يتسنى تحديد السلوك بحسب انتمائه إلى هذا أو ذاك.

لأنه إذا كان السلوك ذا طابع روحي محض فإن التجاوب معه يبقى في إطاره الروحي لا غير ويعالج بالأدوات الروحية.

أما إذا كان السلوك ذا طابع يغلب عليه الجانب المادي في أهدافه وغاياته فإن التعامل معه يكون أيضا من جنس عنصره، أي يعالج بالوسائل المادية، غير أن الجانب المادي في الإنسان لا يمكن أن يكون ذا طابع حركي وإدراكي إلا بوجود العنصر الروحي.

ولهذا فالعمل المادي عند الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن العمل الروحي مهما غالى في الانغماس والارتباط بالمادة تلبسا كليا، وسيلة وهدفا وغاية .

***

الدكتور محمد بنيعيش

أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة

........................

1- سورة الإسراء آية85

2- سورة الكهف آية 51

3- رواه البخاري في كتاب الإيمان

4- سورة المؤمنون آية 12-14

5- رواه البخاري

6- سورة ص آية 71-72

7- سورة الأعراف آية 172-173

 

1 - المجتمع الإسلامي مجتمع النسب و الصلة والرحمة والمحبة، مجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مجتمع الولاية والحماية، مجتمع التزكية والطهارة، مجتمع الوحدة والتوحيد، ومن هنا كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. فالنسب في الإسلام هو محور هذه الفضائل وهو المؤسس والمعطي لها أبدا، لأنه رمز الاستمرارية والحفاظ على صحة الهوية والمحقق للعصبية التي يكون بها التعاضد والتكاتف والإمارة والملك.

وحينما يقع خلل في هذا العمود المركزي، للمجتمع أيا كان، فإنه قد ينذر بالأفول والتقاطع و التدابر حتما، ويؤدي لا محالة إلى صدامات لا سبيل إلى إيقاف زحفها أو التقليل منها، لأنه يكون قد دخل في مرحلة اختلاط الأنساب وشيوعها وانقطاعها وهي في مكانها وزمانها، لكنها مجهولة عند تحديد أصلها، على نمط الجمهورية الوهمية الفاسدة التي خطط لها أفلاطون، وانتحلها الغرب المعاصر باسم العلمانية والحرية والديمقراطية وما إلى ذالك من المصطلحات البراقة والمهلكة للمجتمع الإنساني، مآلا عند التأمل في الواقع وتحليل مساره وتسلسل انحداره.

فلا مجال إذن، وواقعا، للتواصل والتعاضد على قواعد ثابتة وموضوعية بين مجتمعات حالها شيوعية الأطفال والنساء في التداول والانتساب، ولا أمل لها في تبادل المنافع أو اجتناب المضار على قاعدة الشعور المشترك ونكران الذات من أجل الآخر باعتباره صورة لها وامتدادا لقوتها وحياتها، وإنما سيصبح مجتمعا أنانيا لا يهمه سوى نفسه ولا يطمح إلا إلى رغباته الذاتية وإشباعها الغريزي الحيواني المحض أو ذات التحليل الشيطاني الماكر، لاقتناصها على حساب الآخر المغرر به سواء كان يبدو قريبا أم بعيدا، متحدا جوهرا و مختلفا شكلا، وإنما حاله العام هرع وجزع وهروب ونفور، وترقب وترصد واحتكار واحتقار، واستدراج  وخداع وانتهازية واستغلال، إلى غير ذلك من المظاهر السلبية السلوكية التي بدأت تظهر على المجتمعات الإنسانية منذ زمن بعيد واستشرت في زماننا، منذرة بقيام الساعة قبل أوانها كما يقول الله عز وجل عن مصير الإنسانية في يوم الجزع :

"ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون"1.

في حين قد كان الأصل بخصوص النسب هو المنة والفضل من الله تعالى الذي خص به البشرية لتحقيق الامتداد في التواصل حتى يوم الفزع الأكبر وما بعده من خلال قوله تعالى "وهو الذي خلق من الماء بشرا وجعل منه نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا"2.

كما نجد في نفس السورة الدعوة إلى التواصل الأسري بين الأب والأم والطفل على قاعدة النسب و خصائص المحبة في ظله عند عباد الرحمان " الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما"3 "والذين آمنوا واتبعتهم ذريا تهم بإحسان ألحقنا بهم ذريا تهم وما ألتناهم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين"4.

2-  من هذه الثوابت الرئيسية المحددة لقيمة النسب في الإسلام وأبعاده في تحقيق سعادة الإنسان  على امتداد لانهائي كان لابد من التركيز المكثف على هذا الموضوع،  دراسة وتحليلا علميا لبيان قيمة هذا الركن من المجتمع الإنساني عموما، والتذكير بمحوريته قبل الإسلام وعند مجيئه وذلك بإرسائه لقواعده و كماله وضمانه لاستمرار يته قبله وعنده، وبالتالي سد الأبواب على المتلاعبين والمتهاونين بأمره لأن المسالة ليست قضية أسرية محضة أو اجتماعية وسياسية، وإنما هي ذات ارتباط بالسنن الكونية في وحدة تواصلها وذات أسس عقدية تضمن الاستمرارية والتكامل بين عناصر الوجود الكوني والإنساني على وثيرة متناغمة ومتناسبة تتضمن عندها الحقوق والواجبات وتحدد بها المصالح والمضار ويستأمن بها المآل والمصير.

ولقد كثرت الآراء والنظريات والمشاريع لحماية الطفولة والأمومة تحت أبواق التكافل الوهمي الاجتماعي وبوسائل هي نفسها الممهدة لإهدار الأنساب والإضرار بالحقوق، لأنها من جهة غير نقية ولا صافية المصدر والمنبع والنوايا، ومن جهة لا تحل المشكل من جذوره وأعماقه، وكيف يستدرك الدواء بعين الداء والمسبب له؟ كمن يريد أن يبيض الورقة المسودة بيد ملطخة بالزفت أو الفحم المحترق !خاصة وقد استشرت مظاهر الإفساد الأخلاقي بوازع الثقافة والإعلام والحداثة والحرية المضللة بوهم الأثرة الشخصية، كما كثرت مظاهر الأطفال المتخلى عنهم واللقطاء ومنقطعي النسب بشتى الأسباب والدوافع، منها السلوكية والنفسية، ومنها المادية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومنها العقدية والمنحرفة، لغاية أن دولت هذه المظاهر وأصبحت تقض مضجع الإنسانية عموما سواء منها المتدينة وغير المتدينة، الإسلامية وغير الإسلامية، ومن ثم هرع الجميع إلى التشبث بمواثيق وهمية مصاغة في أروقة مؤسسة مختلة في أصلها وكينونتها، ألا وهي منظمة الأمم المتحدة والمتفرقة في آن واحد، لأنها مبنية على الهيمنة والإرهاب بالقوة وصياغة الفضيلة المزاجية وإرغام الضعفاء على اتباعها والوقوع في شبهاتها وتناقضاتها بالتوقيع على معاهداتهاً، فكانت بذلك بئس المرضعة و بئس الفاطمة.

ومن هنا فمهما غيرت المدونات أو عدلت القوانين جزئيا أو ظرفيا، فإنها تبقى قاصرة عن حل المشكلات الأسرية المعاصرة في ظل هذه التبعيات العمياء والمكرهة للواقع المصطنع والغريب عن بيئة المسلمين، وكذلك المناقضة للأصول والنصوص الدينية المحددة لنسبهم وضوابطه الشرعية والكونية، طالما لم تؤخذ بعين الاعتبار كل الجوانب المتكاملة والمتعاضدة بين النص والواقع وتغيرات الزمان والمكان والحاضر والمستقبل، وطرق الوعظ والتأديب والزجر والترغيب...إلخ.

***

الدكتور محمد بنيعيش - وجدة، المغرب

...........................

1- سورة المؤمنون آية  102

2- سورة الفرقان آية   45

3- سورة الفرقان آية  74

4- سورة الطور آية  19

 

بقلم: جافين إيفانز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف يمكن لزعيم طائفة أن يجذب الحشود، ويلهم التفاني، ويموت مصلوبا دون أن يترك أي أثر في السجلات المعاصرة؟

يتفق معظم علماء العهد الجديد على أنه منذ حوالي 2000 عام، تم إعدام واعظ يهودي متجول من الجليل على يد الرومان بعد عام أو أكثر من التحدث إلى أتباعه عن هذا العالم والعالم الآتي/الآخر. هذا قول أغلب العلماء، وليس كلهم.

لكن دعونا نلتزم بالتيار السائد في الوقت الحالي: مؤرخو الكتاب المقدس الذين ليس لديهم أدنى شك في أن حذاء يشوع بن يوسف ترك بالفعل أثرًا بين الناصرة والقدس في أوائل العصر الميلادي. وهم ينقسمون بشكل كبير إلى ثلاث مجموعات، أكبرها تضم اللاهوتيين المسيحيين الذين يخلطون بين يسوع العقيدة والشخصية التاريخية، مما يعني عادة أنهم يقبلون الولادة العذراوية، والمعجزات، والقيامة؛ على الرغم من أن القليل منهم، مثل سيمون جاثركول، الأستاذ في جامعة كامبريدج والإنجيلي المحافظ، يتعاملون بجدية مع الأدلة التاريخية.

ويأتي بعد ذلك المسيحيون الليبراليون الذين يفصلون الإيمان عن التاريخ، وهم على استعداد للذهاب إلى أي مكان تقوده الأدلة، حتى لو كان ذلك يتعارض مع المعتقدات التقليدية. وممثلهم الأعلى صوتًا هو جون بارتون، وهو رجل دين أنجليكاني وباحث في جامعة أكسفورد، والذي يقبل أن معظم أسفار الكتاب المقدس كتبها مؤلفون متعددون،غالبًا على مدى قرون، وأنها تختلف عن التاريخ.

وهناك مجموعة ثالثة، ليست بعيدة عن آراء بارتون، وهم علماء علمانيون يرفضون العناصر المعجزية في العهد الجديد بينما يعترفون بأن يسوع كان مع ذلك شخصية متجذرة في التاريخ: فهم يزعمون أن الأناجيل تقدم دليلاً على الدوافع الأساسية لحياته الوعظية. العديد من أعضاء هذه المجموعة، بما في ذلك العضو الأكثر إنتاجًا، بارت إيرمان، مؤرخ الكتاب المقدس في جامعة نورث كارولينا، هم ملحدون خرجوا من المسيحية الإنجيلية. من أجل الوضوح الكامل ، يجب أن أضيف أن وجهة نظري الخاصة مشابهة لوجهة نظر ايرمان: لقد نشأت في عائلة مسيحية إنجيلية، ابن لأسقف أنجليكاني يهودي المولد، "مولود من جديد" ويتكلم اللسان؛ ولكن منذ أن كنت في السابعة عشرة من عمري، بدأت أشك في كل ما كنت أؤمن به. ورغم أنني بقيت مفتونًا بالديانات الإبراهيمية، إلا أن اهتمامي بها لم يكن كافيًا ليمنعني من الانجراف نحو الإلحاد من خلال اللاأدرية.

هناك أيضًا مجموعة رابعة أصغر تهدد الخلافات السلمية إلى حد كبير بين الملحدين والربوبيين والمسيحيين الأكثر تشددًا من خلال الإصرار على أن الأدلة على وجود يسوع التاريخي واهية للغاية لدرجة أنها تلقي بظلال من الشك على وجوده الأرضي بالكامل. تشير هذه المجموعة - التي تضم نصيبها من المسيحيين غير المؤمنين - إلى أن يسوع ربما كان شخصية أسطورية، مثل رومولوس في الأسطورة الرومانية، سُجلت لاحقًا.

ولكن ما هو الدليل على وجود يسوع؟ وما مدى قوته وفقًا للمعايير التي قد ينشرها المؤرخون - وهذا يعني: ما مقدار قصة الإنجيل التي يمكن الاعتماد عليها كحقيقة؟ إن الإجابات لها آثار هائلة، ليس فقط بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية والدول المهووسة بالإيمان مثل الولايات المتحدة، ولكن بالنسبة للمليارات من الأفراد الذين نشأوا مع الصورة المطمئنة ليسوع المحب في قلوبهم. وحتى بالنسبة للأشخاص من أمثالي، الذين تخطوا الحديث عن الله والروح والجنة والجحيم، فإن فكرة أن هذا الشكل من الإخلاص في مرحلة الطفولة لم يكن من الممكن أن يكون موجودًا، أو، إذا كان موجودًا، فقد نعرف القليل جدًا عنه، تحتاج إلى بعض القبول. فهو ينطوي على خسارة مؤلمة ــ وهو ما ربما يفسر السبب وراء احتدام المناقشة، حتى بين العلماء العلمانيين.

333

عندما ناقشت هذا المقال مع أشخاص نشأوا كملحدين أو ينتمون إلى ديانات أخرى، كان السؤال المطروح دائمًا كالتالي: لماذا من المهم جدًا بالنسبة للمسيحيين أن يعيش يسوع على الأرض؟ ما هو على المحك هنا هو الجانب الفريد من إيمانهم – وهو الشيء الذي يميزه. لأكثر من 1900 عام، حافظت المسيحية على اقتناعها بأن الله أرسل ابنه إلى الأرض ليعاني من الصلب البشع ليخلصنا من خطايانا ويمنحنا الحياة الأبدية. إن ميلاد يسوع على الأرض، وحياته، وخاصة موته، الذي بشر بالفداء، هو أساس إيمانهم.إن هذه الآراء راسخة بعمق، حتى بالنسبة لأولئك الذين خففوا قبضة الإيمان، فإن فكرة أنه ربما لم يكن "حقيقيًا" يصعب استيعابها.

قد تعتقد أن زعيم الطائفة الذي اجتذب الحشود وألهم الأتباع المخلصين وتم إعدامه بأمر من الحاكم الروماني سيترك بعض المسافة البادئة في السجلات المعاصرة. كتب الأباطرة فيسباسيان وتيطس والمؤرخون سينيكا الأكبر والأصغر الكثير عن يهودا في القرن الأول دون ذكر يسوع على الإطلاق. قد يعني هذا ببساطة أنه كان ممثلًا أقل أهمية مما يريدنا الكتاب المقدس أن نعتقده. ولكن، على الرغم من حجم السجلات التي بقيت من ذلك الوقت، لا يوجد أيضًا أية إشارة إلى الوفاة (كما كان هناك، على سبيل المثال، 6000 من العبيد الموالين لسبارتاكوس الذين صلبوا على طول طريق أبيان في 71 قبل الميلاد)، ولا يوجد ذكر في أي من هذه السجلات ،أو في أي وثيقة:  تقرير رسمي أو رسالة خاصة أو شعر أو مسرحية باقية.

قارن ذلك بسقراط، على سبيل المثال. على الرغم من عدم وجود أي من الأفكار المنسوبة إليه مكتوبة، إلا أننا نعرف أنه عاش (470-399 قبل الميلاد) لأن العديد من تلاميذه والنقاد المعاصرين كتبوا عنه كتبًا ومسرحيات لكن مع يسوع هناك صمت من جانب أولئك الذين كان من الممكن أن يروه شخصيًا، وهو أمر غير مريح للتاريخيين مثل إيرمان؛ وكتب في عام 1999: "على الرغم من أن الأمر قد يبدو غريبًا، إلا أنه لم يُذكر اسم يسوع في أي من هذه المجموعة الهائلة من الكتابات الباقية". في الواقع، هناك ثلاثة مصادر فقط للأدلة المفترضة للحياة. - جميعها بعد الوفاة: الأناجيل، ورسائل بولس، والأدلة التاريخية من خارج الكتاب المقدس.

يبني المؤرخون المسيحيون ادعاءاتهم بوجود يسوع تاريخيًا على إشارات ضئيلة للمسيحيين الأوائل من قبل السياسيين الرومان بليني الأصغر وتاسيتوس ( اللذان يكتبان عن المسيحيين الذين أجريا مقابلات معهم في أوائل القرن الثاني - في حالة بليني، الشماسة المعذبة - جميع أتباع "الطريق" الذين تحدثوا عن يسوع) وبواسطة فلافيوس جوزيفوس، مؤرخ يهودي روماني. يحتوي كتاب يوسيفوس المكون من 20 مجلدًا بعنوان "آثار اليهود"، والذي كتب حوالي عام 94 م، في عهد دوميتيان، على إشارتين إلى يسوع، بما في ذلك إحداهما تدعي أنه المسيح المصلوب على يد بيلاطس البنطي. سيكون لهذا بعض الوزن إذا كتبه يوسيفوس بالفعل؛ لكن الخبراء، بما في ذلك الإنجيليين مثل جاثركول، يتفقون على أن هذه الإشارة ربما تم تزويرها من قبل الجدلي المسيحي في القرن الرابع يوسابيوس. والإشارة الأخرى هي "أخ يسوع الذي يدعى المسيح واسمه يعقوب". يقول بعض العلماء أن الجزء "المسمى المسيح" كان إضافة لاحقة، ولكن لا يهم كثيرًا عندما اعتمد يوسيفوس على القصص التي رواها المسيحيون بعد أكثر من ستة عقود من صلب يسوع.

إذا كان الصلب متنبأً به، فكيف يمكن أن يكون الأمر محرجًا؟

أقرب دليل على وجود شخصية تاريخية لا يأتي من السجلات المعاصرة، ولكن من رسائل بولس، التي يرجع تاريخها عمومًا إلى ما بين 50 و 58 م (من بين الرسائل الـ 14 المنسوبة في الأصل إلى بولس، يعتبر نصفها فقط الآن من كتاباته بشكل أساسي، أما الباقي يعتقد أنه قد كتب في وقت ما القرن الثاني). مشكلة بولس بالنسبة للباحثين عن الإثبات هي قلة ما يقوله عن يسوع. إذا عاش يسوع ومات في حياة بولس، فقد تتوقع أنه سيشير إلى خدمة يسوع على الأرض - إلى أمثاله ومواعظه وصلواته -وأن قراءه سيرغبون في الحصول على قصة الحياة الحاسمة هذه. لكن بولس لا يقدم شيئًا عن يسوع الحي، مثل القصص أو الأقوال التي تظهر لاحقًا في الأناجيل، ولا يقدم أي معلومات من مصادر بشرية، مشيرًا فقط إلى التواصل الرؤيوي مع يسوع وإلى الاقتباسات المسيانية من العهد القديم.

وهذا يقودنا إلى الأناجيل المكتوبة لاحقًا، وليس بواسطة أولئك الذين تحمل أسماءهم (وهذه أضيفت في القرنين الثاني والثالث). إنجيل مرقس، المقتبس من بولس، جاء أولاً وشكل نموذجًا للأناجيل التي تلته (متى يستند إلى 600 آية من آيات مرقس البالغ عددها 661 آية، في حين أن 65% من آيات لوقا مبنية على مرقس ومتى). النسخة الأولى من مرقس يرجع تاريخها إلى ما بين 53 و70 قبل الميلاد، عندما تم تدمير الهيكل الثاني، وهو الحدث الذي يذكره. أما الإنجيل الأخير، يوحنا، الذي يحتوي على لاهوت وقصص مختلفة تتناقض مع الأناجيل الثلاثة "الإزائية"، فيعود تاريخه إلى حوالي عام 100 ميلادي. تتضمن الأناجيل الأربعة أقسامًا مكتوبة في القرن الثاني (من بينها روايتان مختلفتان عن ميلاد العذراء في متى ولوقا)، ويضع بعض العلماء الآيات الـ 12 الأخيرة من مرقس في القرن الثالث. يفترض العديد من المؤرخين أن متى ولوقا كان لديهما مصدر سابق يسمونه Q. ومع ذلك، لم يتم العثور على Q مطلقًا ولا توجد إشارات إليه في أي مكان آخر. يقترح بارتون أن الإيمان بـ Q قد يخدم "أجندة دينية محافظة" لأن القول بأن هذه الأناجيل مستمدة من مصدر سابق "هو إنكار ضمني أنهما اختلقا أيًا منها بأنفسهما".

ماذا يمكن أن تقول لنا الأناجيل مجتمعة عن يسوع التاريخي؟ يتفق العلماء العلمانيون على أن الكثير من محتواها خيالي، ويشيرون، كما يقول إيرمان، إلى أن "هذه الأصوات غالبًا ما تكون على خلاف مع بعضها البعض، وتتناقض مع بعضها البعض في التفاصيل الدقيقة وفي القضايا الكبرى". ومع ذلك فإن إيرمان مقتنع بوجود يسوع؛ ويؤكد أن كتبة الأناجيل سمعوا تقارير عن يسوع و"قرروا كتابة نسخهم الخاصة". بعض الحقائق الأساسية، مثل تواريخ ميلاد يسوع ووفاته (المستمدة من ذكر حكام مختلفين)، مقبولة على نطاق واسع، ويقال إن العديد من أقوال يسوع قريبة من كلماته الحقيقية. ولفصل القمح الحقيقي عن التبن الخيالي، يستخدمون "معايير الأصالة" - القصص والكلمات الحقيقية. المعايير الثلاثة الرئيسية هي: الإحراج (هل هذه التفاصيل لا تتماشى مع اليهودية في القرن الأول، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يخترع كتبة الأناجيل أشياء من شأنها أن تسبب مشاكل؟)؛ عمليات التحقق المتعددة (كلما زاد عدد المصادر، كان ذلك أفضل)؛ والتماسك (هل التفاصيل متسقة مع ما نعرفه؟)

ومع ذلك، هناك سبب وجيه للتشكيك في هذا النهج. فيما يتعلق بمعايير المصادر المتعددة والتماسك/ السياق، فنحن نعلم أن كتبة الأناجيل استعاروا من بعضهم البعض، لذلك نتوقع منهم أن يتضمنوا نفس الأشياء. على سبيل المثال، استعار إنجيل لوقا عبارة متى "تأمل زنابق الحقل"، ولكن إذا كانت قصة متى ملفقة، فإن تكرار لوقا لا يضيف مصداقية. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد "معيار الإحراج"* على معرفتنا لما حدث عكس التيار. لكن الكنيسة كانت متنوعة عندما كتبت الأناجيل، ولا يمكننا التأكد مما قد يحرج مؤلفيها. على سبيل المثال، غالبًا ما يُزعم أن الإنجيل ذهب إلى حد إظهار أن الصلب تم التنبؤ به في الكتب المقدسة العبرية من أجل جعله مستساغًا لجمهور مقتنع بأنه لا يمكن إذلال أي مسيح حقيقي. لكن هذه الحجة يمكن أن تنقلب رأساً على عقب إذا قبلنا أن قصة الصلب قد أدرجت لأن كتبة الأناجيل – بدءاً ببولس – شعروا أنها ضرورية لتحقيق النبوءة. إذا كان الصلب قد تم التنبؤ به، فكيف يمكن أن يكون محرجا؟

فيما يتعلق بالصلب، تجدر الإشارة إلى أنه في حين أن الأناجيل الأربعة المقبولة قد حكمت على يسوع بالموت من قبل بيلاطس البنطي، فإن هيرودس أنتيباس في إنجيل بطرس غير القانوني هو الذي قام بهذا الفعل. لكن في إنجيل توما، لا يوجد ذكر لموت يسوع أو قيامته أو ألوهيته. ووفقًا لللاهوتي أبيفانيوس الذي عاش في القرن الرابع، يعتقد المسيحيون الناصريون الملتزمون بالتوراة (يُعتقد أنهم ينحدرون من المجموعة الأولى من المؤمنين) أن يسوع عاش ومات في عهد الملك ألكسندر جانيوس (10-76 قبل الميلاد) - قرن من الزمان.قبل بيلاطس البنطي. ويوافق التلمود البابلي على ذلك، مشيرًا إلى أن يسوع أُعدم رجمًا و"شنقًا" في مدينة اللد (وليس القدس) بتهمة "الفجور والشعوذة وعبادة الأوثان". ولذلك، حتى عندما يتم استيفاء "معايير الأصالة"، فمن الصعب التوصل إلى إجماع تاريخي.

بدأت المحاولات الأكثر تضافراً لفصل الحقيقة عن الخيال في عام 1985، عندما جمع عالم اللاهوت الكاثوليكي الراحل بوب فانك مجموعة من الباحثين العلمانيين في أغلبهم. حيث تجتمع "ندوة يسوع" لفانك مرتين سنويًا لمدة 20 عامًا "للبحث عن يسوع التاريخي". عند إطلاقها، قال فونك إن المجموعة "ستقوم ببساطة وبدقة بالتحقيق في صوت يسوع وما قاله حقًا". استخدم هؤلاء العلماء (الذين بلغ عددهم أكثر من 200) "معايير الأصالة" لتقييم أفعال يسوع وكلماته كما رويت في الأناجيل.وبعد العديد من الندوات، وبعد الكثير من النقاش، خلصوا إلى أن يسوع كان واعظًا يهوديًا هلينستيًا متمردًا، والذي روى القصص في الأمثال وتحدث ضد الظلم؛ أنه كان لديه أبوان أرضيان؛ وأنه لم يصنع معجزات، ولم يمت من أجل خطايا الناس، ولم يقم من بين الأموات. تم تحديد صحة أقواله وأفعاله من خلال تصويت جماعي. تمت دعوة العلماء لوضع خرزات بلاستيكية في صندوق: حمراء (ثلاث نقاط) إذا قالها يسوع؛ الوردي (نقطتان) إذا كان من المرجح أن يقول ذلك؛ الرمادي (نقطة واحدة) إذا لم يفعل ذلك، لكنه يعكس أفكاره؛ أسود (صفر) إذا تم اختراعه. وعند حسابها، كانت هناك خرزات سوداء أو رمادية تمثل 82% من أقوال يسوع الكتابية، و84% من أفعاله.

تعتبر هذه الأساليب غريبة في أحسن الأحوال من قبل العلماء الذين يبحثون عن شخصيات تاريخية غير كتابية. أحد الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات كانت كاثرين إدواردز، أستاذة التاريخ القديم والكلاسيكي في بيركبيك، جامعة لندن، التي قالت إن بعض مؤرخي العالم القديم يميلون نحو الشك: - "على سبيل المثال، لا يمكننا أن نعرف حقًا أي شيء عن المرحلة الأولى من التاريخ الروماني بما يتجاوز ما تم استخلاصه من الأدلة الأثرية" - بينما يميل آخرون نحو "المصداقية القصوى". ولكن، حتى بين تلك المعايير، فإن "معايير الأصالة" ليست أداة مألوفة. وأضاف أن أسلوب الخرز الملون "يبدو ساذجًا وساذجًا إلى أقصى حد حيث يضع العلماء افتراضات حول شخصية فرد قديم معين وعلى هذا الأساس يقررون ما يعتقدون أنه (دائمًا) ربما قاله أو لم يقله".

قال هيو بودين، أستاذ التاريخ القديم في كلية كينغز كوليدج في لندن، إن هناك أدلة على وجود سقراط وبريكليس أكثر من وجود يسوع، ولكن "هناك أدلة أقل بكثير". إن التركيز على يسوع التاريخي "ليس له نظير حقيقي في مجالات أخرى، لأنه متجذر في المفاهيم الطائفية المسبقة (المسيحية المبكرة مهمة لأن المسيحية الحديثة مهمة) حتى عندما يدعي العلماء أنهم لا يتأثرون بالمعتقدات الدينية الشخصية". لن يجد المؤرخون في المجالات الأخرى هذا السؤال مهمًا جدًا.

يعتقد المتشككون أن يسوع كان شخصية أسطورية تم تأريخها فيما بعد إذا استبعدنا هذه المفاهيم المسبقة، فيبدو من الحكمة أن نتعامل مع تاريخ الأناجيل بحذر وندع الشك يوجه تساؤلاتنا. بدأ الإنجيل الأول، إنجيل مرقس، بعد ما يقرب من نصف قرن من خدمة يسوع (وآياته الأخيرة بعد ذلك بكثير). ربما كان أتباع يسوع الناطقون بالآرامية أميين، ولم يكن هناك مراسلون يدونون الملاحظات. إن احتمال أن تكون كلمات يسوع قد دُوّنت بدقة من قبل كتاب لم يلتقوا به قط والذين ألفوا قصصًا خيالية بشكل متزايد مع مرور العقود تبدو بعيدة.

أحد العلماء الذين حضروا ندوة يسوع ومع ذلك كانت لديه مثل هذه الشكوك هو روبرت برايس، وهو أستاذ محترم للعهد الجديد وحاصل على دكتوراه في "لاهوت النظام" وقس معمداني سابق تحول إلى ملحد. شكك برايس في المنهجية المستخدمة في إثبات التاريخ، مما دفعه إلى التساؤل عما إذا كان يسوع قد عاش على الإطلاق. وقال: "إذا كان هناك يسوع تاريخي، فهو لم يعد موجودًا"، وكتب لاحقًا، "ربما كانت هناك شخصية حقيقية هناك، ولكن لم تعد هناك طريقة للتأكد بعد الآن".

أصبح برايس رمزًا لمجموعة هامشية من المتشككين في "أسطورة المسيح" - المؤرخين الذين يقترحون أن المسيحيين الأوائل، بما في ذلك بولس، آمنوا بمسيح سماوي، وأنه تم وضعه في التاريخ من قبل كتبة الأناجيل في الجيل التالي. لذلك، في حين أن معظم المائتين يعتقدون أن يسوع كان شخصية تاريخية أسطورية من قبل كتبة الأناجيل، فإن المتشككين يعتقدون عكس ذلك: لقد كان شخصية أسطورية تم تأريخها لاحقًا.

كانت مثل هذه الأفكار موجودة منذ قرون. كان توماس باين من أوائل المتبنين لهذه النظرية، لكن الفيلسوف الألماني برونو باور في القرن التاسع عشر هو الذي قدم النظرية بأكبر قدر من الجدية. اعترف باور، وهو ملحد، بأن موضوعات الإنجيل هي أدبية وليست تاريخية، بحجة أن المسيحية لها جذور وثنية وأن يسوع كان مخلوقًا أسطوريًا.

في العقود الأخيرة، أصبح من المقبول على نطاق واسع من قبل العلماء العلمانيين أن الكتاب المقدس العبري (العهد القديم) هو أسطورة أكثر منه تاريخ. على وجه الخصوص، كتب عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فينكلستين وزميله الأمريكي نيل آشر سيلبرمان في كتابهما "كشف الكتاب المقدس" (2002) أنه لم يكن أي من البطاركة، من موسى ويشوع إلى الوراء، موجودًا كشخصيات تاريخية؛ وأنه لا يوجد سجل عن استعباد اليهود في مصر (بدلاً من ذلك، ينحدرون من الكنعانيين)؛ وأن داود وسليمان كانا أمراء حرب وليسا ملوكًا؛ وأن الهيكل الأول بني بعد سليمان بثلاثة قرون. ولكن الرأي القائل بأن الكتاب المقدس المسيحي يفتقر على نحو مماثل إلى المصداقية كان، حتى وقت قريب، موضع خنق من قِبَل أولئك الذين يدعمون يسوع من لحم ودم. قد يكون أحد أسباب جوقة الإجماع مرتبطًا بحقيقة أن المناصب الثابتة في الأقسام التي تتعامل مع تاريخ الكتاب المقدس لا يتم تقديمها لأولئك الذين يشككون في أن يسوع كان حقيقيًا. ومن ثم فإن إحياء معسكر "الشك" يدين بالكثير إلى شبكة الإنترنت، فضلاً عن الحماسة التبشيرية التي يتمتع بها مؤيدوه الأساسيون.

بدأ الزخم يتكاثف في التسعينيات مع سلسلة كتب لإيرل دوهرتي، وهو مؤلف كندي أصبح مهتمًا بالكتاب المقدس أثناء دراسته للتاريخ القديم واللغات الكلاسيكية. جادل دوهرتي بأن بولس وغيره من الكتاب المسيحيين الأوائل آمنوا بيسوع ليس كشخصية أرضية، بل ككائن سماوي صلبته الشياطين في العوالم السفلية من السماء ثم قام الله بإحيائه. تم رفض وجهات نظره (ومن المفارقات أنها كانت الأكثر دينية في الظاهر لأنها كانت روحانية تمامًا) من قبل علماء يسوع التاريخيين الذين زعموا أن دوهرتي يفتقر إلى الفطنة الأكاديمية لفهم النصوص القديمة. لكن الموجة التالية، والتي شملت برايس، كانت أكثر رسوخًا في الأوساط الأكاديمية.

يعتقد برايس أن المسيحية المبكرة تأثرت بأساطير الشرق الأوسط حول الموت وقيام الآلهة التي نجت حتى العصرين اليوناني والروماني.إحداها كانت أسطورة سومرية، "نزول إنانا"، والتي تحكي عن حضور ملكة السماء جنازة في العالم السفلي، ليتم قتلها على يد الشياطين وتعليقها على خطاف مثل قطعة اللحم. ولكن بعد ثلاثة أيام، تم إنقاذها، وقامت من بين الأموات، وعادت إلى أرض الأحياء.

بالنسبة لعلماء "أسطورة المسيح"، فإن قصة يسوع تناسب الخطوط العريضة للنموذج الأصلي للبطل الأسطوري.

والأخرى هي الأسطورة المصرية عن الملك الإله أوزوريس المقتول. وجدت زوجته إيزيس جسده، وأعادته إلى الحياة، ومن خلال وميض البرق في إحدى النسخ، حملت بابنه حورس الذي يخلفه. يستمر أوزوريس في حكم الموتى. في النسخة اليونانية لبلوتارخ، تم خداع أوزوريس ليقع في تابوت يطفو في البحر قبل أن يجرفه الماء في مدينة جبيل. وهناك تقوم إيزيس بإزالة جسد أوزوريس من الشجرة وإعادته إلى الحياة.

عززت العديد من النصوص اليهودية المتداولة في ذلك الوقت الجوانب المسيحانية لهذه الروايات. على سبيل المثال، يشير سفر أخنوخ الأول (كتاب كتب بشكل رئيسي في القرن الثاني قبل الميلاد، ويحظى باحترام كبير بين الأسينيين، ويعتبر مسؤولاً عن مخطوطات البحر الميت) إلى "ابن الإنسان" (عبارة تستخدم للإشارة إلى يسوع في الإنجيل) والذي سيبقى اسمه وهويته سراً لمنع الأشرار من معرفته حتى الوقت المحدد.

المصدر المفضل لأسطورة المسيح هو صعود إشعياء، المكتوب في أجزاء في القرنين الأول والثاني. يتضمن قسمًا يتناول رحلة عبر السماوات السبع ليسوع غير البشري الذي صلب في سماء سفلى على يد الشيطان و"آرشون" الشيطانيين اللذين يحكمان هذا العالم ولا يعرفان بعد من هو. ومرة أخرى تنتهي القصة بقيامة يسوع من بين الأموات.

يعتقد علماء "أسطورة المسيح" أن الروايات القديمة عن الموت والقيامة أثرت على مؤلفي الأناجيل، الذين استعاروا أيضًا من هوميروس ويوريبيدس والكتاب المقدس العبري. بالنسبة لهم، تناسب قصة يسوع النموذج الأصلي للبطل الأسطوري في ذلك الوقت: المنقذ الروحي الذي قتل على يد "آرشون" قبل أن يقوم منتصرًا. ويزعمون أن المسيحيين اللاحقين أعادوا كتابة يسوع كشخصية تاريخية عانت على أيدي الحكام.

يتمتع  نجم الروك المتشكك ريتشارد كاريير- وهو باحث في الكتاب المقدس - بقدرة حديثة للغاية في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي (بعض مقاطع الفيديو الطويلة على موقع يوتيوب اجتذبت أكثر من مليون مشاهد). ويدخل في مناظرات ساخنة مع منافسيه، ويلقي محاضرات ويؤلف كتباً حادة وسريرية ومليئة بالحقائق. وعلى الرغم من  حصوله على درجة الدكتوراه في التاريخ القديم من جامعة كولومبيا وسجله الحافل بالنشر في المجلات الأكاديمية، فإن رفض أوراق اعتماده أقل سهولة من رفض أوراق اعتماد دوهرتي. على سبيل المثال، يدرك إيرمان أن كاريير وبرايس هما باحثان جادان في العهد الجديد.

في وقت من الأوقات، قبل كاريير تاريخية يسوع، لكنه أصبح يحتقر الموقف السائد بسبب ما اعتبره الحالة العلمية السيئة التي تدعمه. استخدم هو ومؤرخ الكتاب المقدس الأسترالي رافائيل لاتاستر نظرية بايز، التي تأخذ في الاعتبار الاحتمالات التاريخية بناءً على توقعات معقولة (مقارنة الأدلة وربط الاحتمالات الرياضية بها)، للتوصل إلى أنه "من المحتمل" أن يسوع لم يوجد أبدًا كشخص تاريخي. على الرغم من أنه "معقول" أنه وجد.

يحصل المدافعون عن "أسطورة يسوع" على قدر كبير من البث، لكن التسمية الهامشية ظلت عالقة، وليس فقط لأن أقسام الدراسات الدينية جمدتهم. وقد تعرضت منهجيتهم الخاصة للانتقادات، وليس أقلها استخدامهم للطرق البايزية ومن الغريب أن كارير قدم ترجيحات لقرائه، وخلص إلى أن احتمال وجود يسوع في الحياة الحقيقية لم يكن أفضل من 33 في المائة. (وربما تصل إلى 0.0008 في المائة) اعتمادًا على التقديرات المستخدمة في الحساب، مما يوضح مدى صعوبة هذا الاستخدام لنظرية بايز.

يقوم كارير ورفاقه بعمل جيد في إحداث ثغرات في أساليب التاريخيين، لكن ما يقدمونه في المقابل يبدو ضئيلًا. وعلى وجه الخصوص، لم يجدوا أي دليل واضح من العقود التي سبقت الأناجيل على أن أي شخص يعتقد أن يسوع ليس إنسانًا. يمكن تفسير كل إشارة في الرسائل على أنها تشير إلى مخلص سماوي، لكن الأمر برمته يبدو وكأنه مبالغ فيه بعض الشيء. يشير بولس كثيرًا إلى الصلب ويقول إن يسوع "وُلد من امرأة" و"جُعِل من نطفة داود حسب الجسد". ويشير أيضًا إلى يعقوب "أخ المسيح". باستخدام هذه الأمثلة، يقول إيرمان أن هناك "دليل جيد على أن بولس فهم يسوع كشخصية تاريخية". وهذا بالتأكيد هو رأي كاتب/كتاب مرقس، وهو إنجيل بدأ بعد أقل من عقدين من كتابة رسائل بولس.

مثل حبة الرمل التي أنجبت روبن هود، طورت قصة يسوع طبقات جديدة مع مرور الوقت

إذا قبلنا هذا الاستنتاج، ولكننا قبلنا أيضًا أن الأناجيل هي سيرة ذاتية غير موثوقة، فإن ما يتبقى لنا هو قشرة تاريخية باهتة لا يمكن تمييزها. إذا كان يسوع قد عاش في الوقت المقبول عمومًا (من 7 إلى 3 قبل الميلاد إلى 26 إلى 30 م) وليس قبل قرن من الزمان كما يعتقد بعض المسيحيين الأوائل، فيمكننا أن نفترض أنه بدأ حياته في الجليل، واجتذب أتباعًا بوصفه واعظا ثم أُعدم. وكل ما عد ذلك  هو اختراع أو غير مؤكد. بمعنى آخر، إذا كان يسوع موجودًا، فإننا لا نعرف عنه شيئًا تقريبًا.

إحدى الطرق للنظر إلى الأمر هي أن نتخيل لؤلؤة تبدأ كحبة رمل، تتشكل حولها طبقات من كربونات الكالسيوم كاستجابة مناعية للمهيج، حتى لا تعود اللؤلؤة تشبه الحبة التي خلقتها. وقد تطورت العديد من الأساطير بهذه الطريقة، بدءًا من أسطورة الشاعر الأعمى هوميروس.

لقد غُرم اللص الخارج عن القانون روبرت هود عام 1225 لعدم مثوله أمام المحكمة في يورك، وبعد مرور عام ظهر مرة أخرى في سجلات المحكمة، وهو لا يزال طليقًا. قد تكون هذه هي حبة الرمل التي أنجبت روبن هود، الذي افترض الكثير من الناس أنه شخصية تاريخية نمت أسطورتها على مر القرون. بدأ روبن كعامل في الغابة لكنه تحول إلى رجل نبيل. تم إدراجه لاحقًا في تاريخ القرن الثاني عشر مع الملك ريتشارد قلب الأسد والأمير جون (الإصدارات السابقة كانت تحتوي على إدوارد الأول)، جنبًا إلى جنب مع مجموعته المتزايدة باستمرار من الخارجين عن القانون. بحلول القرن السادس عشر، كان هو ورجاله المرحون قد تحولوا من الأوغاد المحبوبين إلى المتمردين بقضية "تأخذ من الأغنياء لتعطي للفقراء".

وبالمثل، تطورت قصة يسوع بطبقات جديدة مع مرور الوقت.في بداية العصر الميلادي، ربما كان هناك العديد من الدعاة اليهود المتمردين، وواجه أحدهم الرومان فقتلوه. وسرعان ما نمت أسطورته.نُسبت إليه سمات ووجهات نظر جديدة حتى أصبح أخيرًا الشخصية البطولية للمسيح وابن الله مع مجموعته المكونة من 12 رجلاً غير مرحين. إن حبة الرمل الأصلية أقل أهمية مما يفترضه معظم الناس. المثير للاهتمام هو كيف نمت.

***

.......................

الكاتب: جافين إيفانز/Gavin Evans  كاتب مقيم في لندن، نُشرت أعماله الأخيرة في صحف The Guardian وDie Zeit وThe Conversation وThe New Internationalist وغيرها. تشمل كتبه قراء الخرائط ومهام متعددة: الرجال والنساء والطبيعة والتنشئة (2016)، وقصة اللون (2017)، وعمق الجلد: رحلات في علم العرق المثير للخلاف (2019) وأحدث كتاب له، التفوق الأبيض: من تحسين النسل إلى "الاستبدال العظيم" سيتم نشره هذا العام.

* معيار الإحراج أداة يستعملها علماء الكتاب المقدس للمساعدة على تحديد ما إذا كانت أقوال وأفعال معينة ليسوع في العهد الجديد قد صدرت منه أو من الكنيسة اللاحقة.

ولد جافين إيفانز في لندن لكنه نشأ بشكل رئيسي في كيب تاون. وبعد عام من الدراسة في تكساس، عاد إلى جنوب أفريقيا لينخرط بشكل مكثف في النضال ضد الفصل العنصري في مناصب مختلفة. وعلى طول الطريق، درس التاريخ الاقتصادي والقانون قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه. في الدراسات السياسية. عمل كصحفي في العديد من صحف جنوب إفريقيا ومراسلًا أجنبيًا لوكالة أنباء مقرها روما. على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، ألقى محاضرات في قانون الإعلام ونظرية الإعلام والصحافة في قسم الثقافة والإعلام في كلية بيركبيك بجامعة كارديف وفي كلية لندن للصحافة.

 

أو "مقوّمات العيش المشترك" من خلال النص القرآني

يمثل النص القرآني بالتأكيد نصّا كونيا يتجه إلى الإنسانية جمعاء ويخاطب الإنسان في كل أحواله، وحتى إن قصد في بعض آياته فئة المؤمنين، فإنّه يقصدهم كبشر لا يميزهم عن غيرهم سوى الموقف " الإيماني"(وإن كان أصلا لأفضلية قيمية في منطوق النص) ولا يختلفون في البشرية عن غيرهم في شيء. من هنا فإنّ المطلب الأسمى للنص القرآني هو مستمع كوني، هو الإنسان في كليته. يخترق النصَّ القرآني إذن تصور للإنسان أو رؤية " إنسانوية" تتحدّد معالمها في النص ككلّ. ويمكن أن نتقصّى هذه الرؤية من خلال فكرة ناظمة هي " الاستخلاف. يتحدّث النص القرآني عن الإنسان بوصفه " خليفة في الأرض" (" إني جاعل في الأرض خليفة" الآية 30- البقرة) ويقرن "الاستخلاف " بالإنسان في جميع مستويات وجوده. محدّدا شروط هذا الوجود وغاياته ومسار تحقّقه .

ماذا يعني الاستخلاف؟

الاستخلاف لغة " الوكالة والنيابة " أي " إقامة الغير مقامه ليقوم بعمله نيابة عنه.". أما اصطلاحا فهو:" إظهار الإنسان لربوبية الله تعالى في الأرض بالعبودية والعبادة، يقول الماتريدي في تأويلات أهل السنة ج1 "ّوجائز أن يكونوا خلفاء في إظهار أحكام الله ودينه". (صبري محمد خليل" الأبعاد السياسية لمفهوم الاستخلاف).

مقومات الاستخلاف وشروطه:

لا يستقيم الاستخلاف في الأرض إلا وفق شروط. وهو ما يعني أنه ليس مجرّد " الوجود" أو حدثا أنطولوجيا فحسب، بل هو" تكليف" أو " مسؤولية" تلقى على عاتق الإنسان، أو كما جاء في القرآن " أمانة " تودع لدى الإنسان أو يُحمّلها الإنسان، ليضطلع بها بوصفه كائنا ليس قادرا على ذلك فحسب، بل جديرا به. من هنا كان الاستخلاف " مهمّة" أو " مشروعا " أعدّ الإنسان " لأجله، ويفترض مسلمات ويقتضي بحكم كونه " مبنيا منشأ لا " معطى" شروط إمكان وأسبابا كي يتحقّق وهي:

- كمال القدرة و المعرفة للمُستخلِف:

" إنّي جاعل في الأرض خليفة.." الآية): إرادة المُستخلِف المطلقة في " إيجاد " الإنسان خليفة في الأرض. وتمام معرفته بالاستخلاف (كنها ومعنى وغاية) و بحقيقة الإنسان المستخلَف (ماهية وقدرة). جاءت الآية " إني جاعل في الأرض خليفة" بصيغة تقريرية. لتثبت حقيقة الاستخلاف كأمر إلهي نابع من إرادته اللامتناهية ومن معرفته التامّة. فالاستخلاف قول إلهي مطلق وقول إنجازيّ كينوني " كن". ولذا ورد القول الإلهي للملائكة("وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل ..") في صيغة الإخبار بـ"القرار" الإلهي المطلق. تنبيها إلى لزوم الامتثال للأمر وترجمته بالسجود " فخروّا له ساجدين"، اعترافا بالربوبية، وتكريما للخلق الإلهي، "الإنسان" بعضا من روح الإله " ونفخت فيه من روحي "..(الآية 29 سورة " الحجر: ").

- جدارة الإنسان المستخلَف بالخلافة (الإنسان كقيمة):

الاستخلاف أمر إلهي نابع من أصل مقدّس للتشريع أو التأسيس، لتأسيس الوجود والقيمة، وجود المستخلف ولجدارته بالاستخلاف. وهذا يعني أن الإنسان/ الخليفة جدير بالخلافة في معرفة الله التامة . فهو أعلم بمن خلق.("ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض." الآية 33 البقرة) ولا يصدر عن كامل إلاّ ما تجدر نسبته إليه. ولا يكون المستخلَفُ إلاّ قيمة من صنع المستخلِفِ. الإنسان بوصفه خليفة، قيمة في حد ذاته وهو بالتالي غاية قصوى للاستخلاف. يستتبع هذا سموّ المنزلة الإنسانية عن سائر الموجودات. واعتبار الاستخلاف تشريفا و تكليفا للإنسان في آن واحد. بموجب كونه وسيلة وغاية في ذات الوقت.

- امتلاك المستخلَف مؤهلات الاستخلاف أو شروطه: العقل (الوعي) والحرية:

استحقاق الخلافة تقوم على امتلاك الإنسان العقل كقدرة على الاستكشاف وإرادة امتلاك الحقيقة والمعرفة. امتلاك العقل، تحمّل الإنسان مسؤولية " المعرفة" بوصفها أصلا للقدرة على الفعل والإنجاز وبالتالي على " تحقّق "الاستخلاف واستكماله. لا يكون الاستخلاف إلا لعاقل قادر على المعرفة والفعل والقول حتى يستطيع إعمار واستعمار الكون والتصرف فيما استخلف فيه، وهو قادر على السيطرة على " الموجودات"، لأنّه بامتلاكه العقل يقدر على " التسمية"، أي تمثّل الأشياء وكل الموجودات بالاستعاضة عن وجودها الحسي المباشر بـ"أسماء"، هي علامات ورموز، وحده الإنسان قادر على ابتكارها لامتلاكه " القدرة على التخيّل " وهي إحدى ملكات " العقل" (" وعلم آدم الأسماء كلها " الآية 31 البقرة). غير أنه لا يمكن أن يكون العاقل قادرا على الفعل والإنجاز إلاّ إذا سلمنا بحريته بوصفها امتلاك الإنسان إرادة الفعل أو عدمه والقدرة على إنجازه أو الامتناع عنه. فالمستخلَف بالضرورة واع وحرّ. ويشكّل الوعي (أو العقل) والحرية مقوّمَا "إنسانيته الاستخلافية" والأصل الإنساني في استحقاقه الخلافة في الكون. يفترض الاستخلاف استئمان الإنسان على العقل والحرية وبالتالي على ماهية" الإنساني" فيه كإنسان. فالإنسان أمانة نفسه وهو مسؤوليته التامّة التي قَبِل تحمّلها وبها تميّز عن سائر الخلق " إنا عرضنا الأمانة على الأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان .." (الآية 72 الأحزاب.).من هنا فإنّ ماهية الإنسان أو الإنساني في الإنسان يتمثّل في " استخلافيته". إن تحقق الإنسانيّ واستكماله إذن، يطابق تحقّق و استكمال خلافته في الأرض. يعني الاستخلاف بهذا، مسؤولية العمل و " السعي " والكدح" (" أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الآية 6 الانشقاق)، و" أن ليس للإنسان إلا ما سعى " الآية 39 النجم)، وأنّ تاريخ الإنسان على " الأرض" ليس سوى مسار استخلافه فيها. مسارا تتحدّد بدايته ونهايته من جهة " الاستخلاف"، بوصفهما بداية تجسد الاستخلاف و استكماله (نهاية التاريخ الإنساني). يبني الإنسان إذن بالعقل والحرية مسار استخلافه أي مسار تاريخه ككائن إلهي الأصل أو ككلمة إلهية نافذة لإرادته المطلقة. " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" (الآية.40 النحل). ولا ينفي الاستخلاف للإنسان مسؤوليته التاريخية في " الوجود في العالم" ككائن قادر على الفعل والتغيير فيه على الوجه الذي يجعله مستكملا لإنسانيته كخليفة جديرا بما حمل من أمانة العقل والحرية. فضلا عن أنّ استئمان الإنسان على نفسه والعالم إذ يفترض وعيا وحرية، فإنّه يحتمل إمكان " خيانة المؤتمن" بقدر ما يحتمل أداءه لحقها." قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " (الآية 30 البقرة). ومن هنا كانت مسؤولية الاستخلاف ومشروعية " الحساب"، أي تقدير نتيجة المسار التاريخي للإنسان كخليفة في الأرض ممّن كان الأصل في الاستخلاف للإنسان و" استحقاقه" لذلك، وممن يمتلك بالتالي جدارة " المحاسبة" أي المستخلِفُ. جاء في القرآن قوله تعالى:" ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" (الآية 129 من الأعراف) وهو ما يفيد أن الاستخلاف امتحان للإنسان، " هبة " وفرصة " رهانها إثبات جدارة الإنسان "بالخلافة " على الأرض.

- مجال استخلاف: "الأرض" بوصفها فضاء الاستخلاف وشرط إمكانه " المادّي" " إني جاعل في الأرض خليفة" (الآية).

وتتحدّد الأرض هنا بوصفها " العالم الكوسمولوجي الفيزيائي" الذي اختاره المستخلِف عالم حضور للإنسان ومجال تجسيد " الخلافة" . إنّ اختيار " الأرض" تعيين للمقوّم المادّي للفعل، الفعل في الأرض " وإذا ضربتم في الأرض.."(الآية 101 النساء)، أي سافرتم أو انشغلتم بما يفيد تعمير الأرض وتغييرها على نحو يجسد فيه الإنسان قدرته كذات وبالتالي جدارته كخليفة، ويجعل " الأرض" عالما ملائما" للعيش" والبقاء ضمن حدّي المكان والزمان بوصفهما شرطين فيزيائيين للوجود الحسّي. وكون " الأرض" فضاء للاستخلاف، يفترض أنها " مهيأة " بخلق إلهي مسبق لاحتوائها أو لاستقبالها حضور هذا "الخليفة". مهيأة في معنى كونها تتضمن الشروط الحيوية للبقاء المادّي للإنسان وقابليتها لاحتواء الفعل والتغيير والخلق والابتكار بوصفها موضوع "تسخير"، موضوع "ائتمان" لدى كائن مريد وواع يملك القدرة على التصرّف فيها وفق ما لديه من ملكات ذهنية وجسدية ووجدانية. جاء في القرآن: " وهو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها " (الآية 61 هود)،" هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها" (الآية 15 الملك) ينتج عن هذا ضرورة أن تكون "الأرض" بمعنيين: " الأرض" بوصفها العالم الكوسمولوجي، شرطا ماديا للاستخلاف، و" الأرض" بوصفها " العالم الإنساني " أي " عالم تحقّق الاستخلاف" (" الأرض" كفضاء لصنع الإنسان وابتكاراته من " الأشكال الرمزية" المتعدّدة والمتنوّعة، والتي " يعيش ضمنها وبها، بوصفه " إنسانا" ويحضر من خلالها حضورا متميّزا عن سائر " الموجودات "(من حيوان ونبات الخ) التي تشاركه الوجود في العالم ولكن لا " تسكنه"، أي لا تحضر فيه حضورا رمزيا ذي دلالة. تشير الأرض" إلى العالم في ازدواجيته: عالما نوجد فيه وعالما " نعيش فيه"، عالما حسيّا نحسّه ونفعل فيه وننفعل به وعالما رمزيا نتذهّنه ونقيم فيه (عالم الثقافة والحضارة). إنّ " الأرض" هي (العالم) محل إقامة الإنسان " الخليفة"، فيها يجسّد " إنسانيته" في أبعادها " الوجودية والمعرفية والعملية والنفسية الخ وفيها يحقّق رمزيا حضور " المستخلِفِ" ويتحقّق معنى الاستخلاف عبر ما يصنعه هذا الإنسان بوصفه " إلهيّ" الأصل و إلهي المنتهى " أيها الإنسان إنك كادح إلى رب كدحا فملاقيه" . (الآية). يستتبع هذا، أي اعتبار الأرض مستقرّا للمُستخلف:

- عرضية الاستخلاف أي كونه منته، ينتهي بانتهاء موجباته ويزول بزوال شروط تحقّه:

حلول الساعة، حيث تطوى الأرض طيا، ويصير عاليها سافلها، أي حينما تبدل الأرض غير الأرض وينتهي التاريخ ويحلّ موعد " الحساب" أي التقييم لمسار الاستخلاف ومسؤولية الإنسان فيه.

- فسح المجال للأبدية:

الوجود المطلق والمقام الأبدي (جنة الخلد أو الجحيم الأبدي) وهو ما يعني العود إلى " الله"، الوكيل صاحب قرار الاستخلاف.

- مضمون رسالة الاستخلاف:

 الاستخلاف مهمّة الإنسان في العالم ورسالة عليه أداءها بتجسيد مضمونها أي مقاصدها بما هي:

- إعمار الأرض، إقامة " العمران البشري" وصناعة التاريخ الإنساني: إثباتا لاستحقاقية الإنسان للاستخلاف ونفاذ الإرادة الإلهية في الوجود بتجسيدها عبر الفعل البشري في العالم .أي تغيير وجه الأرض إلى الأفضل، أي على نحو يجعلها " مقاما حسنا للإنسان ولسائر الخلق" وذلك بالتصّرف فيما تهيّأ فيها من خلق وفق سنن الكون وعلى أساس ما استكشفه الإنسان منها وما حصّله من معارف عنها وعن نفسه.

- العبادة: في مستوى علاقة المستخلِف بالمستخلَفِ (الإنسان بالإله):عبادة الإله " وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين" (الآية 5 البيّنة) " وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون" (الآية 56 الذاريات) . وتعني العبادة هنا اعتراف المخلوق للإله الخالق بكمال قدرته ومعرفته وتكريمه الإنسان وتشريفه وتكليفه بمهمّة الاستخلاف. وترجمة هذا الاعتراف بطاعته.(بعبادته).

- التعارف: بما هو مقصد الاستخلاف في مستوى علاقة الإنسان بالإنسان: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الآية 13 الحجرات). ويعني التعارف " لقاء الإنسان بالإنسان " على صعيد المشترك وهو " الإنسانيّ" بوصفه ماهية أو كليةّ أو كونية جامعة تصل الإنسان بالإنسان بغضّ النظر عن اختلافه وتنوّعه. يعني التعارف بهذا المعنى تواصلا إنسانيا على جميع الأصعدة " الأنطولوجية والثقافية والنفسية والمعرفية الخ، أي على جميع أصعدة الإنساني . يقتضي التعارف اعترافا أي قبول الإنسان لشبيهه في الإنسانية وقبوله " اختلافه عنه" وربما غرابته أو بالأحرى " غيريّته" . ومعنى القبول هنا (التعارف) هو " التسامح" مع الآخر المختلف والمغاير.

- الارتقاء بالإنساني قيميا وروحيا: " إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (الآية 13 الحجرات) وهو ما يعني تحقيق " الكرامة الإنسانية " كقيمة على أساس " التقوى" أي " خشية الله" والتقرب إليه بـ"العبادة" ووجه التقرب هنا لا ينحصر في أداء " الفرائض" (من صلاة وغيرها..)، بل يتعدّاه إلى " الإحسان" لخلق الله (من سائر الموجودات) أو " الاستقامة"، "إن الذين قالوا رّبنا الله ثمّ استقاموا.." (الآية30 فصلت). وتعني الاستقامة التصرّف (مع الذات وسائر الخلق) وفق ما تقتضيه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، أي وفق " مستطاع" البشر وما يحفظ "كرامتهم" كبشر، أي وفق " قيم" إنسانية، هي على وجه العموم " الحقّ والعدل والخير " (أسس الكرامة الإنسانية) وما يتفرّع عنها أو يدور في فلكها من قيم جامعة هي غايات قصوى للفعل البشري(من قبيل المساواة و الإحسان والإخاء الخ)، يرتقي بها الإنسان إلى " الإلهي" ويحصّل بمقتضاها " جدارته كخليفة في الأرض" وكمخلوق إلهي.

-  الحفاظ على " النوع البشري"، بل الحفاظ على سائر " المخلوقات" (" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين" (الآية 83 القصص) " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" (الآية 85 الأعراف) ..وهذا يعني " احترام" " الموجودات، " الكائن الحيّ" (نباتا وحيوانا) وتقديس " الحياة" على الأرض على أساس " اعتبار الوجود أو الخلق أو الكون " فضلا إلهيا أو " نعمة" على الإنسان خاصّة، تستوجب " الشكر" على وجه " التمتّع" بها بقدرٍ لا يلحق فيه أذى للذات والآخرين، بل يحفظ البقاء ويحسّنه ("وأما بنعمة ربك فحدّث " الآية 11 الضحى)، والحفاظ عليها ورعايتها، (على وجه الأمانة) اعترافا بعلوّ مانحها وقدسيته والخشية من " نقمته" على العابث بها (كفرا بالنعمة وظلما لصاحبها) .

الاستخلاف والاختلاف:

لا يستقيم القول بالاستخلاف دون التسليم بالاختلاف مقوّما رئيسيا له. فالاختلاف خاصية الخلق " يا أيها الناس إنا خلقناكم ..." الآية " وقوله:" ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". (الآية 118- 119 هود) . ولما كان الاستخلاف يفترض وجود المستخلَف، مخلوقا مؤهّلا بخلقه بالذات على هيئة مخصوصة، وفق ما شاء خالقه، لاستخلافه على الأرض، كانت العلاقة بين الاستخلاف والاختلاف علاقة " تأسيسيّة"، علاقة الشرط بالنتيجة. فلأنّ الإنسان كائن متكثّر، مختلف " في اللون واللسان" (واختلاف ألسنتكم وألوانكم.. الآية)، اختلافا فيزيولوجيا وثقافيا أو طبيعيا وثقافيا، كان بالإمكان أن يُستخلف على الأرض التي يفترض ضرورة أن تكون هي الأخرى مناسبة لهذه المهمّة باختلاف وتنوع خلقها ... أي فضاء أو مجالا يتميّز بالتنوّع الكوسمولوجي والفيزيائي أو الطبيعي مهيئا على نحو يمكنه من أن يستقبل الاختلاف والتنوّع البشري فيتحقّق شرط إمكان الاستخلاف. تحكم العلاقة بين الاستخلاف والاختلاف إذن معقولية أو منطق خاص، منطق توافق الغاية والوسيلة أو منطق تطابق الوجود والمعنى. فالاختلاف بوصفه خاصية الخلق أو سمة الموجود الأرضي وغيره الحامل للمعنى. " ربنا ما خلقت هذا عبثا" (الآية 191 آل عمران). وهذا يعني أن الاختلاف ليس غاية في ذاته، من جهة الوجود، بل هو شرط للاستخلاف. والمشاركة لغويا، للاختلاف والاستخلاف " في جذر " خَلَفَ"، دليل على وحدة الانتماء المفهومي (للاستخلاف والاختلاف) إلى حقل مشترك ضمن مفاهيم أخرى مجاورة كالتنوع والخصوصية والكثرة الخ ومفاهيم أخرى نقيض كالوحدة والتماثل والتطابق والتماهي الخ. وقد جاء في القرآن استخدام اشتقاقات الجذر " خَلَفَ " في صيغ عديدة بحسب السياقات: بصيغة الفعل " خلف" واسم الفاعل والمفعول، فردا وجمعا الخ (خَلَف واستخلف ومستخلف وخليفة وخلْف خلائف ومستخلفين الخ). بدلالات مختلفة حسب السياق.غير أن جميعها يعني الإنسان بوصفه الكائن الوحيد (الواعي والحرّ) و" المكلّف" الذي ينطبق عليه " معنى الاستخلاف" بما هو "تكليف".

يبدو الاختلاف إذن شرط إمكان الاستخلاف. من حيث هو خاصية " الخلق". فالمخلوق متكثّر مختلف بالضرورة قبالة " الخالق" واحدا أحدا. فمن " الواحد" يصدر المتعدّد المختلف. والإنسان مخلوق كسائر المخلوقات متكثر متعدّد بحكم أنه خلق إلهي، خلق الواحد". وإذا كان الإنسان قد بدأ " فردا"، "وحدة"(آدم)، فقد كان " وحدة متكثّرة"، يحمل في ذاته تعدّده "وهو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها (أي النفس) زوجها (التعدّد)"(الآية 89 الأعراف). " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" (الآية 19 يونس). من هنا فالأصل في الإنسان كونه وحدة " متفرّدة" تتعدّد وتختلف تتماثل وتتشابه (الزوج: آدم وحواء ثم البشرية أزواجا متكثرة، متنوعة متشابهة متفردة الخ). هي الوحدة والتماثل إذن و التعدّد والاختلاف.. في علاقة جدلية، "مركّبة" تجعل الوحدة متكثرة والمتكثّر وحدة. ولأنّ الأصل في الخلق البشري الاختلاف والتنوّع كان " التوحيد " مطلب الإنسان. لكن، لا توحيدا بمعنى " تجميعا" بل بمعنى " مشاركة" على أساس " التجانس" في الخلق (الانتماء إلى الجنس الواحد، الجنس البشري)، والتجانس الثقافي (الانتماء إلى خصوصية ثقافية، إلى ثقافة مشتركة: لغة ودين ومعرفة ...). يقوم " التوحيد" على معنى " الاختلاف"، توحيد " المختلف، المتعدّد والمتكثّر، ويشرط " الاختلاف إذن فعل " المشاركة" و" التقاسم"، تقاسم " المشترك" الذي لن يكون ممكنا إلا بما هو فعل كائن مختلف بالضرورة. وإلاّ كانت الوحدة المطلقة والثبات المطلق وهي صفة " الواحد"، مطلق الوحدة وهو " الإله"، الذي لا يُشارك ولا يشترك ولا يقبل أن يشرك به. أمّا الإنسان، مخلوقا يتسم بالاختلاف والتنوّع والتعدّد، فلن يكون إنسانا، ومن باب أولى لن يكون " إلهي النسبة"، إلا " بالمشاركة"، مشاركة " الإنسانيّ أي ما يميّزه كإنسان. ذلك أنّه يحمل في ذاته كفرد، "كوحدة" أو هوّية، وحدة بيولوجية (نظام عضوي") ووحدة نفسية (بنية نفسية) ووحدة " أنطولجية (موجودا وكيانا ومنزلة خاصّة) ووحدة اجتماعية (فردا، عنصرا ضمن جماعة) ووحدة ثقافية (هوية ثقافية فردية)الخ ...، فردا يحمل في ذاته موجب " المشاركة" أو " الحاجة" إليها وهو " النقصان": متمثّلا في " الرغبة" والحاجة وفي " الميل إلى " والنزوع إلى " أو الهوى ...أي عناصر غريزية " طبيعية"، تعبّر عن " الجسد "، جسد الفرد " الواعي"، يعقل ويتعقّل ويتحكّم بعقله وإرادته في هذه " العناصر"، التي " تقاوم " بدورها، جهده" هذا بفعاليتها الذاتية التي تستمدّها من نظامها الغريزي الخاص. بهذا المعنى ينكشف الإنسان كائنا يتّسم " بالقصور" والمحدودية، بالنقصان". ولأجل هذا يسعى " لكماله"، أو بالأحرى " لاكتماله "، على صعيد " منزلته الإنسانية " من جهة الفكر والقول والفعل والوجود والقيمة. غير أنّه لن ينال هذا " الاكتمال " بمفرده، مهما كانت قدرته واستعداداته، بحكم عدم التناسب مبدئيا بين " النقصان والكمال"، وبحكم كون " الفردية " هي مسار " تفرّد " لا محدود هو " دوما في حاجة إلى ..الآخر، فلئن كانت  الفردية "وحدة" كما أسلفنا، فهي تحمل في ذاتها " ميلا" إلى الانقسام والتكثّر وبالتالي، ميلا " إلى " آخر غيرها، إلى الآخرين. في هذا المعنى قيل عن الإنسان " بأنه مدني بالطبع" (أرسطو). يميل إلى الاجتماع بغيره، إلى الأنس والتآنس والعيش مع الآخرين وبالتالي إلى " المشاركة "، سعيا إلى تحقيق، لا " حاجته" المادية فحسب بل اكتماله " الأخلاقي "، أي " إنسانيته " بأبعادها المادية والروحية . من هنا، كانت العلاقة بين " الاختلاف" و" المشاركة" وبالتالي بين " بين " الاستخلاف " و" المشاركة": فلا يستقيم " الاستخلاف" دون " مشاركة " المستخلفين فيما استخلفوا "عليه" و" فيه "، أي دون " تقاسم" المشترك بينهم جميعا وهو " الأرض" أو الفضاء أو المُقام آو " الكون" بما فيه من "موجودات "، ثم " المشترك" الإنساني" ممّا يملكه الإنسان بوصفه " موجودا" ذي خصوصية يختلف بموجبها " ذاتياّ " ويتنوع في" ذاته"(ويتعدّد كفردية ..) ويختلف عمّا دونه من سائر المخلوقات. تتحدّد المشاركة بوصفها مقصدَ" الاستخلاف" أو غايته، أي بوصفها شرط تحقّق الدلالة الإنسانية للاستخلاف، من حيث هي " الجهد في العيش معا" أو في " التعايش" (التعارف في الآية)، أي في السعي إلى جعل " الاختلاف" "رحمة" كما جاء في القرآن والسنة " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك" (هود. الآية 118 -119) (" اختلاف أمتي رحمة" – حديث) . وتتجسّد "الرحمة" هنا أوّلا في حفظ " النوع الإنساني" على الأرض بتحريم " قتل النفس" والدعوة إلى " الفعل والسعي والجهد والحركة .." أي الجهد في حفظ الكائن لوجوده "، إلى " الحياة " التي لن تكون ممكنة إلاّ بما هي " اختلاف" يجهد في أن يدرك " التوحيد" بفعل " المشاركة " و" التقاسم" الخ. كما تتجسّد " الرحمة " ثانيا في "خلق شروط تحقق " الإنساني" والحفاظ عليها ورعايتها وهي " التعارف" و" التقوى": - التعارف بين البشر ("يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" الآية) . والتعارف كما أسلفنا يعني التقاء الإنسان بالإنسان في اختلافه الثقافي والحضاري؛ التقاء لن يكون ممكنا إلاّ بالاعتراف " بالاختلاف" واقعا وحقّا وحاجة إنسانية بالذات. وانتفاء هذا الاعتراف الذي يعني تحوّل " الاختلاف " إلى " خلاف"، إلى نزاع، إلى علاقة عنف تقصي " الحق" وتحل محلّه " القوّة" أو بالأحرى العنف كعلاقة بين البشر وخاصّة " كمعيار " أو أساس " للحق"، ليصبح " الحقّ للأقوى". حينها تنتفي أسباب " التعايش " و " التعارف" واللقاء عبر " الحوار " والتعاطف الخ. أي تنتفي شروط إمكان تحقّق " الاستخلاف" بوصفه " مقوّما " لتحقّق الإنساني الكوني، أي انتهاج سبيل" الفساد" أو الإفساد في الأرض الذي أشارت إليه الملائكة (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء .." الآية) – أما التقوى: فتعني " الوقاية" والتوقّي " مما يسلب الإنسان إنسانيته " فيحوّله إلى ما دونه " أي شيئا" أو " حيوانا"..(إنهم كالأنعام..."الآية44 الفرقان) . وذلك بتجسيد " الاعتراف " أو بالأحرى " الشهادة" ّ بوحدانية الخالق وربوبيته عبر " العبادة" سلوكا أو فعلا (أي " الإيمان والعمل ") دون التأكيد على شكل" الطقوس" كممارسة تجسّد هذا " الاعتراف"، مادام يعني " إقامة علاقة بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان وسائر المخلوقات على أساس هذا الاعتراف والشهادة؛ علاقة ترد " الاختلاف" إلى " الواحد "، إلى " الخالق" (أيها الناس إنّا خلقناكم... الآية)، إلى أصل واحد للوجود و " للشرعية " والجدارة والحكم بمعنى التقييم ..(فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول..." الآية 59 النساء). هذا المعنى الجامع "للتقوى" لا يجعلها بالضرورة مقتصرة " على العبادة في دلالتها الدينية " فحسب، (فهذا معنى جزئي) بل يتعدى إلى دلالة كونية كلية تعني " الإحسان" في كلّ شيء، أو إن شئنا " فعل الخير" الذي لا يقدر عليه سوى الإنسان ولن يكون إنسانا بدونه . من هنا كان شرطا " لكرامته"، لحرمته الذاتية كإنسان (إن "أكرمكم عند الله أتقاكم" الآية). فالتقوى معيار الكرامة، أي لا يكون الإنسان كائنا جديرا بالانتماء إلى الإنسانية كقيمة إلاّ بقدر جهده في حفظ " الخلق" والحفاظ على " ما استخلف فيه وعليه " أو بجهده في إثراءه وتنميته وحسن بقاءه لا مجرد بقاءه فحسب.أي في النهاية في " الامتثال " للإلهي والاعتراف به لا من جهة ما استقر في القلب أو الإيمان فحسب بل من جهة ما يصدقه الفعل، أي من جهة تجسيد الاعتراف عبر " الإحسان للخلق" ومن باب أولى " للإنسان" الذي تميّز وتفاضل في الخلق والمشقة في ذلك(" لقد خلقنا الإنسان في كبد " الآية 4 البلد) وكان بالتالي الأجدر " بالخير " والإحسان . وهذا هو جوهر " التقوى".

الاستخلاف والتآنس والحاجة إلى العيش المشترك:

لقد أشرنا إلى كون " التعايش " غاية " الاستخلاف" في معنى أن" التعارف" بين البشر هو ما من أجله " استخلفوا " في الأرض (" ...وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" الآية). وهذا يفضي بالضرورة إلى تناسب وتلاؤم بين شروط أو مقوّمات الاستخلاف كما عددنا وبين شروط التعايش. فما يجعل الاستخلاف ممكنا هو ما يمكن البشر من التعايش. ذلك أن " قبول " الاختلاف" بين الناس والاعتراف في ذات الوقت بوحدة وكونية " المشترك الإنساني"، هو ما سيفضي إلى تجسيد إمكان " التعايش " بينهم . إنّ قبول " الاختلاف"، اختلاف" الرحمة لا " النقمة " أي الاختلاف لا " الخلاف"، أي الحوار لا النزاع، الحوار الذي لا ينفي " التفاعل " و" التدافع" بل والصراع " بوصفه احتكاك القوى "الإنسانية" المتضادة و المختلفة أصلا، بل يؤكّده بما هو عنصر حركيتها ونموّها وتقدّمها وبالتالي شرط إدراكها مبتغاها في أقصى وجوهه، وهو " تجسيد الاستخلاف واكتماله" على الوجه الذي " أراده المستخلِف وفي حدود مستطاع " المستخلَفِ" (" لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها" الآية 286 البقرة). إن قبول الاختلاف يعني " التسامح" ويعني " العفو " والصفح" (في مستوى علاقة المستخلفين ببعضهم بعضا، أي على صعيد " إيتيقي") عمّا يمكن أن يحدثه هذا التدافع والصراع، في مسار التحقق التاريخي لرهانات الاستخلاف، من ضررٍ و تأذية الإنسان للإنسان عن قصد وعن سوء استخدام لآليات " الصراع" الإيجابي من فكر وقول وفعل الخ ... ولا يستقيم التسامح طبعا دون اعتراف بكرامة الإنسان وعلوّ مقامه بين الموجودات، بوصفه غاية الغايات وبالتالي مراعاة " العدل " في معاملته، بضمان " حقوقه" كإنسان (من حرية ومساواة وعمل الخ...)، في ذات الوقت الذي يلتزم فيه الجميع بمراعاة " الحدود" والمقتضيات أو الإلزامات أو " القوانين " والقواعد التي تضعها " الجماعة " على صعيد حياتها " المدنية " السياسية والاجتماعية و الاقتصادية والأخلاقية... بغرض ضمان " العيش المشترك " وتنمية جهد الإنسان من أجل اكتمال وجوده الاجتماعي والأخلاقي. تعبّر الفلسفة (الفلسفة التعاقدية بالذات) عن هذا الذي أسميناه هنا بالاعتراف وقبول الآخر، المغاير، بفكرة " التعاقد" وهي فكرة لم تغب عن النص القرآني الذي عبّر عنها فيما أرى بـ" الكلمة السواء". فقد جاء في القرآن قوله تعالى:" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضا أربابا من دون الله." (آل عمران الآية 64). وبين هنا أن الدعوة إلى " الكلمة السواء" هي دعوة إلى " الحوار" (تعالوا إلى ...)، حوارا يقوم على " المشترك بين البشر " وحدة الأصل" البشري (سواء بيننا وبينكم) وهو " الكلمة" وتعني هنا فيما أرى " كلمة الله" وهي " الكتاب" بوصفه لا نصّا جامعا بحكم وحدة " منزّله" (بعبارة القرآن) فحسب، بل بوصفه " رسالة " جامعة تشترك برغم تنوّعها (كتب وألواح ومزامير الخ .." قل يا أهل الكتاب.." (الآية) وتعدد الرسل المكلفين بتبليغها، في كونها " كلمة الله (" وكلمة الله هي العليا " الآية 40 التوبة) أي فوق " الاختلاف"، أي " المتعالي" الذي يتجه صوبه الجميع) . هذه الكلمة التي تلزم " الجميع والمعبّر عنها " بـشهادة " و" اعتراف " بالوحدانية " (" ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا.." الآية). هذه الشهادة المعبّر عنها في " كوجيتو" كوني، وقول جامع يشهد بوحدانية الربّ: " أشهد أن لا إله إلاّ الله"، مقترنة بشهادة بوحدة " الرسالة " والرسل (على تعددهم وتنوع رسالاتهم): وأن محمّد رسول الله" (رسولا خاتما مكمّلا (" اليوم أكملت لكم دينكم..." الآية) . هذه " الكلمة السواء " هي مضمون " التعاقد" في صيغته " الكونية " بين البشر على اختلافهم، تعاقدا من أجل " وحدة الإنسان بالإنسان وبالتالي بالألوهي " وإذن " وحدة الإنساني " في " الألوهي". تعاقدا يمكّن البشر من " الإنصات "(كمستمع كوني) لمتكلّم جامع واحد والامتثال لأوامره ونواهيه وتجنّب " الخلاف والجدال و النزاع والخصومة والحرب..." حول ما هو " مشترك"، الأصل فيه أن " يجمع "لا أن يفرّق وأن يوحّد لا أن يشتّت، ولكن شريطة أن يقع تقاسمه، فيكون " سواء" بين الجميع. يبدو أن "شهادة الإيمان" بوصفها " اعترافا" بوحدانية الخالق، الربّ "سيدا" مطلقا ("أن لا يجعل بعضنا بعضا أربابا من دون الله" (الآية)، أي رفض تعدد الإلهي وتشظّي " السيادة " (أربابا ..) واستبدالها بربوبية بشرية متعددة، هو مقوم " التعاقد " بين البشر، بما هو " الاتفاق على " العودة إلى المشترك في كل حال والاحتكام إليه عند الخلاف أو التنازع.(فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول " الآية) وفي حال رفض هذا "التعاقد " الكوني الإنساني، فإن " اختيار " النزاع والفرقة .." هو المصير لا محالة . وهو مصير يتحمّل الإنسان مسؤوليته كاملة بحكم " قرار " الاختيار الذي يفترض " الحرية " طبعا(" فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .." الآية 64 آل عمران.) " وسابقية " الإنذار"،وبالتالي مسؤولية المعرفة (.."قد تبين الرشد من الغيّ " الآية256 البقرة)، وقوله تعالي: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء"... (الآية). مسؤولية يتحمّلها الإنسان في كل حال، منذ بدء الخلق (مسؤولية آدم في عصيان كلمة الرب (" فعصى آدم ربّه وغوى ..." الآية.121 طه) و(" ناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكم الشجرة .." الآية 22 الأعراف) ثم مسؤولية البشر جميعا وقد حمّلوا " أمانة العقل" ومسؤولية "الاستخلاف " في الأرض ولم يتركوا لشأنهم بل حمّلوا العقل قدرة على التمييز، وحمّل بعضهم مسؤولية " المنذر " و"المعلّم"، والمرشد" الخ، وهم الرسل والأنبياء والشخصيات الممتازة حتى من العلماء والعارفين الخ، كي يرشدوا البشر بما أوتوا من المعرفة والحكمة .. إلى سبيل الحق البيّن في أصله لمن حكّم عقله (" إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" الآية 3 الإنسان). وإذا كان هذا التعاقد الذي أشرنا إليه كوني المعنى(تعاقد بين ملل ونحل)، فإنه نموذج لكلّ " تعاقد " بشري، اجتماعي وسياسي الخ . وهو ما يعني أن " التعاقد" مبدأ " للتعايش بين البشر". يمكننا إذن أن نقيم الصلة دون وجل بين " فكرة الاستخلاف" والاختلاف من جهة وبين فكرة الاستخلاف والتعاقد، وبالتالي بين الاستخلاف والتعايش أو"التآنس" أو إرادة العيش المشترك ومبدأ التعاقد من حيث أن " التعاقد" هو شرط إمكان "التعايش" وانه بالتالي آلية لتجسيد " الاستخلاف". وهو ما يعني أنّ النص القرآني يتضمّن الدعوة إلى التعايش" وقبول " الاختلاف " ويقترح " التعاقد" آلية لذلك، ويجعل "الاستخلاف " مبدأ جامعا لكل ذلك. إذ لا معنى للتعايش و"الاتفاق" (التعاقد) بين البشر على قبول بعضهم بعضا إلاّ من حيث هم " خلفاء " في الأرض، أي بشرا "مكلفين " بمهمّة تحقيق إنسانيتهم بوصفها " خلقا " إلهيا ومسؤولية إنسانية، وهو " المشترك بينهم" .

غير أنّ الدعوة إلى " قبول الاختلاف" وإرادة التعايش" بين البشر لا تكفي لوحدها لضمان تحققه فعلا كأساس للحقّ والمشروعية. إذ لابدّ من معاضدته بعنصر " القوّة" المادية التي لم يغفل النص القرآني عن الإشارة إليها بل وتفصيل القول فيها في مواضع كثيرة وعلى عدة أصعدة:

أ - الصعيد السياسي:

قوّة " السلطة" ممثلة في كيان سياسي هو " الدولة" أو السيادة العليا التي تحتكم إلى " قوة القانون" (الحكم) ("وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .. الآية"58 النساء). يؤكّد النص القرآني على معنى " العدل" غاية " للحكم ومعيارا لجدارته. ولتحقيق هذا نبه إلى معنى " المشاركة" التي يقتضيها " الاستخلاف"، أي المشاركة في " الحكم" ("وأمرهم شورى بينهم " الآية 38 الشورى) و" شاورهم في الأمر" الآية 159 آل عمران). وترك للناس ابتكار أشكال تحقيق هذا المبدأ الجوهري للفعل السياسي. وهنا قد تطرح فكرة " التعاقد" (الكلمة السواء") أحد أشكال تجسيد هذا المقصد (التعاقد الاجتماعي بالدلالة التي فصلها فلاسفة التعاقد" " كفكرة"،مثلا). وللتأكيد على خطورة غائية الفعل السياسي بما هي العدل والحقّ والحرية، نبّه إلى ضرورة تجنب ما يحول دون تحقيقها أعني " الظلم والاستبداد أو الطغيان.." أي التعدّي على الحقّ، على المشترك أو " المتعاقد عليه " والتفرد به دون " الآخرين" والتصرف فيما استخلف فيه الإنسان عموما على وجه " الاستئثار"، وهو معنى " الاستبداد والظلم.

- الاحتكام إلى " المشترك" أو الجامع في حال " الخلاف" أو النزاع:

" وإذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول ..." الآية). والتأكيد على أهمية " القضاء " والحاجة إلى التقاضي في حال " النزاع " على الحقّ ضمانا للعدالة:(" فاحكم بيننا بالحق ولا ُتْشِطْط"..الآية 22 سورة "ص")،(" .. فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " الآية 35 النساء).، ("وليشهد بينهما حاكم بالعدل " الآية 282 البقرة) .

- التأكيد على مبدأ الحقّ " الإنساني " وبالأساس حق الحرية في الاعتقاد والتفكير والممارسة:

(" أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" الآية 99 يونس) "، (" لا إكراه في الدين .." الآية 256 البقرة)،(" لكم دينكم ولي دين " الآية 6 الكافرون)، (" لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " الآية 55 القصص)، "وان ليس للإنسان إلاّ ما سعى " الآية 39 النجم" الآية) . .

- التأكيد على مبدأ " الواجب"، واجب " الطاعة "والالتزام والامتثال للقانون"

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم" الآية 59 النساء)، إذا ما كان " القانون" تجسيدا لمبدأ " التعاقد" ولم يخالف " الحق" و" الفطرة" و" الإرادة العامة" ...

- ب- الصعيد الاقتصادي: - قوّة الثروة أو المال: الدعوة إلى التصرّف في الثروة (حتى وإن كانت إنتاجا بشريا) على معنى أنّها " أمانة" أو" وديعة " أو " رزق" أو " موضوع استخلاف أو وكالة"، أو " هبة إلهية" للبشر خاصّتها التنوّع التفاوت والتقدير " والله فّضل بعضكم على بعض في الرزق" (الآية 71 النحل) واعتبار هذا التفاوت معطى يردّ إلى " خاصية الاختلاف والتنوّع " كميزة للواقع البشري. ثم الدعوة إلى استغلال القوّة " الذاتية" للثروة والمال كأداة لا كغاية في تحسين " العيش" الفردي والجماعي، الخاص والعام، أي الدعوة إلى الإنفاق مبدئيا وعدم احتكار الثروة أو تكنيزها أو مَرْكزتها لدى فئة دون أخرى " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" الآية 7 . الحديد)، و(" وأنفقوا مما رزقناكم" الآية 10 المنافقون) ثم تثمين الجهد في كسب الثروة وتنميتها وحسن التصرّف فيها على أساس" إيتيقي":

- تثمين الجهد والمجاهدة والكدح في العمل والكسب واعتباره قيمة:

(وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى " الآية، " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" الآية 141 البقرة) .وبالتالي جعل الجزاء من جنس العمل وبقدره. أي التلازم بين العمل والثروة، بين العمل وملكية الثروة. اعتبار العمل قيمة ومنتجا للقيم.

- إحكام التصرف في الثروة بالاحتكام أوّلا إلى " ترشيد عقلاني" للتدبير:

(" ولا تأتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" الآية 5 النساء)، " وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين" الآية 195 البقرة)، (" إنّ الله لا يحبّ المسرفين" الآية 31 الأعراف)، والاستئناس بالخبرة في هذا الباب كحاصل للعلم والمعرفة وتداول الثروة. وبالاحتكام ثانيا إلى حسّ أخلاقي قيمي:" الأمانة " وحفظ الثروة، و" الخوف" من العقاب أو التقوى عموما... ("قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " الآية 55 يوسف).

- ترشيد أخلاقي للتصرف في الثروة في اكتسابها وإنفاقها

على أساس اعتبارها وسيلة، غايتها " الإنسان" كقيمة، أو غاية قصوى. والتنبيه إلى خطورة الانقياد إلى الأهواء والميولات والرغبات في العلاقة بالمال والثروة عموما (" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها.." الخ الآية 34 التوبة ")، و(" ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر " الآية 1و2 التكاثر)،)"وتحبون المال حبا جمّا " الآية 20 الفجر) والدعوة في المقابل إلى الإحسان في الإنفاق (" وأنفقوا من طيبات ما رزقناكم" الآية 267 البقرة)، و(" وأما بنعمة ربّك فحدّث" الآية 11 الضحى) والدعوة إلى القناعة والرضا والقبول بما قدّر من رزق:(" لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله" (الآية 7 الطلاق) وهو ما يعني التنبيه إلى تجنب التبذير(الإنفاق بمقدار) والسرقة والفساد المالي وغيره بحكم الحاجة أو الفقر...

- تنويع وجوه الإنفاق وتوجيهه عموما إلى تحسين اٌلإقامة في العالم أو الاستخلاف"

 لا على صعيد بناء " الحياة المشتركة " بالإعمار وتنمية العمران على جميع الأصعدة فحسب، بل بتقليص الفوارق بين البشر وتجنيب الإنسان " البؤس وذلّ الحاجة . وذلك بالحثّ على " الصدقة وإنفاق المال في وجوه كثيرة من الإحسان، كتأدية الدين عن المدين وإطعام أبناء السبيل والفقير والمسكين ومساعدة ذوي الحاجات الخ ..(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها .."الآية103 التوبة)

- جعل " الزكاة" كباب من أبواب الإنفاق للمال والثروة واجبا أو ركنا من أركان الإيمان لا يستقيم بدونه

وهو ما يعني جوهرية العلاقة مع المال(كقيمة تداولية) وأهميتها في تحقيق مشروع الاستخلاف . فالثروة أو المال شرط مادّي لتحقيق " خلافة " الإنسان في الأرض . وهو " قيمة " على المستخلف " تقديرها" وحسن " تداولها " على أساس قيمة " العدل " وتجنب " الظلم في التعامل المالي أو الاقتصادي (" لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم .." الآية 188 البقرة)،(" لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم "(الآية 29 النساء). من هنا نفهم تفصيل القول في القرآن في المعاملات المالية والتجارية وغيرها باعتباره جانبا من جوانب علاقة الإنسان بالإنسان، نصطلح عليها بالعلاقة الاقتصادية التي يستقيم بها وجود البشر وينمو ويحسن ويرتقي.

على الصعيد الاجتماعي:

- الدعوة عموما إلى حسن معاملة الآخرين:(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" الآية 2 المائدة)، (وافعلوا الخير لعلكم ترحمون " الآية 77 الحج) وتجنبّ الظلم وإساءة للآخر (" من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربّك بظلام للعبيد" الآية 46 فصلت)، و(" ولا تحسبنّ الله غافلا عما يعمل الظالمون .." الآية 42 ابراهيم).

- التضامن والتعاون والتكافل الاجتماعي ("فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة " الآية 10 البلد)

- التنافس في الفعل الخير والتراحم والعيش من أجل الآخرين (" لكل وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات .." الآية 148 البقرة)، (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا.." الآية 90 الأنبياء)،("أشداء على الكفار رحماء بينهم ".. الآية 29 الفتح) ...

- حفظ النفس والحياة والتآزر والمحافظة على وحد ة الجماعة على أساس مبدأ التآخي والتعاطف والتنافس والمشاركة..: (" لا تقتلوا أوالدكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم " الآية 31 الإسراء) (" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"الآية 33 الإسراء)،(" ولكم في القصاص حياة " الآية 179 البقرة)، (" ولا نازعوا فتفشل ريحكم " الآية 46 الأنفال)، " إنما المؤمنون إخوة" الآية 10 الحجرات).

- التعامل مع الآخر المغاير في السياق الاجتماعي على أساس المساواة و " الجدارة " القيمية لا على أساس الجنس أو اللون أو المنزلة (" إن أكرمكم عند الله اتقاكم " الآية) (" يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهنّ، ولا تلمزوا نافسكم ولا تنابزوا بالألقاب.." الآية11 الحجرات) ..

- تقدير الحاجة إلى الآخر وتثمين العلاقة الاجتماعية بين البشر(بين الجنسين على وجه الخصوص) على أساس الحاجة والرغبة، علاقة محبّة ورحمة: (" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة " (الآية 21 الروم)، (" وانكحوا ما طاب لكم من النساء.." الآية 3 النساء)، (" فلا تبغون عليهنّ سبيلا ..." الآية 34 النساء)، و(" ولا تخرجوهنّ من بيوتهنّ إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة " الآية 1 الطلاق)،(" وعاشروهن بالمعروف ..." الآية 19 النساء).

- تثمين علاقة القوة وعلاقة " الرهبة" بين البشر(لا العنف بوصفه إفراطا في استخدام القوة) والصراع الإيجابي بينهم:" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.. " الآية40 الحجّ). (" ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوّة ..." الآية95 الكهف) - ("يا يحي خذ الكتاب بقوّة " الآية12 مريم). على أن تفهم " القوّة" هنا وسيلة " إيجابية " للإعمار والإصلاح وحتى للتعلّم .. " وبالتالي " للرحمة".

- الإقرار بمبدأ الرحمة بين البشر والاعتراف بالفضل في مستوى العلاقة بين الآباء والأبناء، في التربية وغيرها: (" وبالوالدين إحسانا." الآية 23 الاسراء)، ("وقال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " الآية 19 النمل)، (" واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا" الآية 24 الاسراء)...

- الإقرار بمبدأ الطاعة والصبر وتقدير الفضل في مستوى علاقة التعلّم بين المعلم والمتعلّم و في تحصيل المعارف والمهارات والكسب عموما: (" هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا، قال لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا " ا؟لآية 66 الكهف)..(".قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا (69 الكهف)... (" ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا... " الآية 75 الكهف)، (" قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة.".. الآية 95 الكهف ") (" رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقه قولي واجعل لي وزيرا من أهلي..." الآية 24 -28 طه).

- الدعوة إلى الصفح والعفو والتسامح مع الآخرين:" وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم..." الآية 14 التغابن) والدعوة إلى السلم ونبذ العنف:(" فإن جنحوا إلى السلم فاجنح لها "(الآية61 الأنفال). لكن مع توخّي مبدأ الشدّة لا التشدّد في التعامل مع كل من يسعى إلى الإفساد في الأرض ويهدّد بالتالي إمكان العيش المشترك باعتراضه أو نكرانه لكمال المعرفة والقدرة الإلهية، ورفضه " المتعالي الإلهي " مبدأ للوحدة بين البشر من جهة الأصل وما ينتج عن ذلك من بسط ونفاذ الإرادة الإلهية في واقع البشر على وجوه عدة: تفاوت في القسمة بينهم، في الرزق، أو في العافية والمال وغير ذلك من" النعم " و الخيرات: (" نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ..." الآية 32 الزخرف)، و(" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق .." الآية 71 النحل)، (" يهب من يشاء إناثا ويهب من يشاء الذكور ويجعل من يشاء عقيما " الآية 50 الشورى).

لكن لا تأخذ هذه الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية للتعايش وبالتالي لإمكان تحقيق الاستخلاف (بوصفه مسؤولية الإنسان الكليّ) معناها الحقيقيّ وقيمتها، إلاّ في إطار مبدأ " الشهادة" بوصفها " اعترافا بالألوهية " لا إنكارا لها، أي" إيمانا " بالإله لا إلحادا فيه أو إشراكا له في الربوبية وبالتالي "إعلان الطاعة والامتثال والاستعداد لأداء " الأمانة " والاضطلاع بمسؤولية الاستخلاف في الأرض. (" وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ..." الآية63 الفرقان)، " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين " الآية 42 الحجر)، و (" أما من ظلم نفسه فسوف نعذّبه ثم يردّ إلى ربّه فيعذّبه عذابا نكرا" الآية 87 الكهف.). يفترض " الاستخلاف" في القرآن إذن الإقرار بوحدانية الإله على صعيد الاعتقاد والعمل على تجسيد هذا الإقرار بالفعل والعمل والكدح والجهد والمجاهدة وقبول الآخر والسعي إلى " التعايش والتآنس ورفض العنف. كلّ ذلك في حدود " وجود " محدث ومسار معيشي للإنسان له بداية ونهاية نصطلح عليه بالتاريخ.

***

عبد الوهاب البراهمي

تمهيد: لكُلِّ سلوك أشكالٌ وتجلياتٌ وتمظهرات؛ وقد تكون لتلك الأشكال دوافعها البيولوجية أو السيكولوجية، الشعورية منها واللاشعورية؛ وتجلياتها هي الكيفيات التي يتحقق السلوك من خلالها. فالسياسة فعل؛ وهي الأخرى لها مُحدداتها وتجلياتها على ما يقول  المفكر المغربي محمد عابد الجابري. إن أشكال السلوك السياسي وأفكاره ومظاهره وتداخلاته الاجتماعية الطابع وتطبيقاته وأنساق أبنيته من العقول المختلفة، كل ذلك يُشكِّل ما يُطلَقُ عليه (العقل السياسي)؛ ونسميه "عقلاً" لأن السلوك السياسي يخضع لجملة عوامل وأنساق بيئية واجتماعية وأفكار داخل منطق يُحدِّد ويَحكم تفاصيل هذه العلاقة، ونصف ذلك العقل بأنه "سياسي" لأنه ليس مُنتِجاً للمعرفة، إنما مُمارسٌ للسّلطة والحُكم أو معنيٌّ ببيان ممارستها.

يُراد لهذه الورقة (الأولى) في سلسة أبحاثنا عن العقل السّياسي السّوداني، أن تكون محاولةً لطرح أسئلة مقصيّة من الحقل  السياسي في السودان؛ رغم أنها تقع في عمق الفكر السياسي. وليست في نية الورقة ادّعاء الشمول فيما تدرسه؛ فهي تستند على عدة حقول معرفية في قراءتها للعقل السياسي، وفي دراستها المُحدَّدة عن سيكولوجية الشخصية السياسية (عنوان الورقة). تشمل هذه الحقول المعرفية (السوسيولوجيا والأنثربولوجيا وعلم النفس / السياسي والأثنوغرافيا)، وهذه الحقول تتعالق وتتداخل هنا وهناك. ومع نُدرة الدراسات  السودانية حول الأمر، وأحياناً غيابها تماماً، فالمهمة عسيرة؛ إذ إن أبحاث ودراساتٍ كهذه تستلزم جهداً وزمناً وفريقاً من الباحثين وتمويلاً لإجراء الأبحاث الإمبريقية، وهو ما لا يتوافر لكاتب هذه الورقة، فذلك يعد من أعمال المؤسسات المعرفية من جامعات ومراكز بحوث إضافة إلى الدولة نفسها.

 فوق ذلك، تُعاني مكتبتنا السودانية نقصاً فاضحاً في الدراسات المعنيّة بعلم النّفس السّياسي، ودراسة شخصية المُجتمعات السودانية (علم النفس الاجتماعي). وهنا أشير إلى دراسة د. محمد عبد العزيز الطالب، الموسومة بـ(الشخصية السودانية – دراسة أنثربولوجية نفسية) عن دار عزة للنشر 2014، وهو عمل مُهم – في تقديري - ويُعدُّ مدخلاً للبحث في هكذا قضايا. وتنبع أهمية هذين المبحثين (علم النفس السياسي/ الاجتماعي)،  من كونهما مفتاحين رئيسَيْن لفهم حالة الخلل العُضال الذي أصاب، وظل يصيب، الدولة السودانية من فشل بناء المشروع الوطني، وتعرُّض مجتمعاتنا لعُنفٍ مُنظّم وإفقارٍ وفشل تعليمي، ونشوء أنظمة دكتاتورية وانقلابات عسكرية، وفشل للثورات، والتي هي  بطبيعة الحال محصلة ونتاج مباشر لخلل شخصية مجتمعاتنا ونظام المعرفة الذي يشكل طرقها وآلياتها للتعاطي والتفكير في شؤونها العامة. ونظام المعرفة الذي أعنيه؛ هو ذلك النظام الذي نشأت شخصياتنا عليه، ويشمل العادات والتقاليد والتّوجهات الثقافية وأنساقها  ونظرتنا لأنفسنا وللآخر والعكس، ومجمل تصوراتنا عن الكون. فدراسة الشخصية السودانية، هي من الأهمية بمكان في أي مشروع نهضوي قادم، إذ أن الإنسان هو المحور الرئيسي لأي مشروع يبغي رفعته.

ويكاد المرء أن يجزم أنه لا يمكن فهم الظواهر السّياسية، ومن ضمنها  حرب الخامس عشر من أبريل 2023، باعتبارها حراكاً سياسياً؛ دون  دراسة  ومعرفة العوامل والأبعاد السيكولوجية للشخصية السياسية،  ولفضائها الكُلّي، وكيف صارت الحربُ مُمارسةً مُستمرَّةً منذ تمرُّد توريت 1955. وقد حاولت  مدرسة التحليل النفسي قراءة السلوك السياسي بطريقة غير مباشرة، حين أشارت إلى أن الصراعات السياسية قد تكون ناتجة عن الحرمان النفسي المُرتبط بصراعات مرحلة الطفولة. ومع ما للطفولة من أهمية كبيرة في تكوين شخصية الفرد وسلوكه المستقبلي، وهو ما يتطلب فهم الأبعاد النفسية لمعرفة السلوك السياسي؛ فإن هذا لا يعني أن البُعد النفسي هو البُعد الوحيد في السّلوك السياسي، فللظاهرة السياسية في السودان أبعاد أخرى، لكن يظل البُعد النفسي مقصيّاً من دائرة الاهتمام والدراسة والملاحظة، ويكتسب أهميته من  أن "السياسي" قبل أن يكون سياسياً فهو كائن بشري.

ستبني هذه الورقة رؤيتها وقراءتها على ثلاث مقدمات نظرية، أولها: التكوين السياسي  أو النشأة السياسية. وسنرى أن العناصر الأساسية التي اخترنا دراستها في التكوين السياسي هي: النشاط الطلابي كمدخل للعمل السياسي وكعنصر تكويني للسّياسي السوداني، إضافة إلى السياسي القادم من الطائفية والعقل الطائفي, وسنستخدم مصطلح (الطائفية) بمعناه الواسع المتداخل (دينياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وإثنياً)؛ وأثر القبيلة في الشخصية السياسية. أما ثاني المقدمات النظرية، فهي اللاشعور السياسي  وسنستلف هذا المفهوم من المفكر (ريجيس دوبريه)* لنُسقطه على فضائنا السياسي في مقاربة مع ما  نظّر له المفكر المغربي (محمد عابد الجابري)**  ومع ما يشابه واقعنا، أما الخطوة الثالثة، فهي دراسة ما نتج عنهما في شكل الممارسة السياسية المعاصرة، التي كونت سلوك العقل السياسي في حيزه الضيق والمُتعارَف عليه كمسرح سياسي ومشهد يمكننا تسميته بالفضاء السائد في تعاطي العمل السياسي، أي ما يمكن الإشارة إليه بـ(هكذا هي السياسة السودانية..!) وهي إشارة جوهرية إلى عقلها السياسي. 

تبني الورقة نسقها، وتستقي معلوماتها من الواقع السوادني؛ فهي تقوم منهجياً على الملاحظة والتحليل النفسي الاجتماعي لشخصية السياسي السوداني. وبطبيعة الحال لا ينطبق تحليلها على الكل، فهنالك خصائص نوعية في كل حالة، تحمل سيادة نموذج معين من التكوين النفسي.

إن اندلاع الحرب الحالية – 15 أبريل - في السودان والأشكال التي اتخذتها والقوى والعوامل المُحرّكة لها؛ تُعد فرصة كبيرة في كشف ما يعتمل داخل مجتمعاتنا. وكما أسلفت، فإن الورقة خليط ما بين علم النفس الاجتماعي العيادي الذي يُعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية بالطريقة العيادية، والفكر الاجتماعي  السياسي؛ ولأنها لا تستند إلى أبحاث ميدانية أو إمبريقية فقد يشوبها الشك في بعض ما سيرد فيها حول درجة اليقين؛ لكن الغاية من هذه القراءة لسيكولوجية الشخصية السياسية السودانية عبر دراسة العقل السياسي، هي محاولة اقتحام نوع من الحقول المهمة التي أُقصيت وتُركت على الهامش في  دراسات الفكر  السياسي والاجتماعي، وبالتالي لم يُنتَبه لها.

هدفي من هذه المحاولة، إثارة الأسئلة، ولفت الانتباه أكثر طرحها والإجابة عنها. وبإمكاننا أن نعد الورقة محاولة أو مدخلاً أوّلياً لقراءة منتجات العقل السياسي من مشاريع فاشلة ودولة هشة وأحزاب سياسية مُصابة بأعطابٍ وأخلالٍ اجتماعية. عقل قضى على أحلام شعوبنا وتوقها إلى التطور والرقي، بل ساهم في إفقار المخيال بصورة فاضحة، وفي سيرورته هذه أنتج صيرورة الفشل المزمن، الذي لا يبدو بأي حال أن هنالك من يحاول الانعتاق من براثنه. تعتقد هذه الورقة أن شخصية السياسي الحالية مصابة بأعطاب عدة، كالتخوين والإقصاء وأنها ذات بنية ذهنية تآمرية، ما يجعلها بعيدة عن العقل النقدي ومتكلسةً الفكر، إذ أن بنية تفكيرها ماضوية، ويتناقض خطابها مع سلوكها والعكس صحي؛ شخصية تتربّص بالآخر المُختلف عنها، وتمارس الكذب والتضليل والخداع؛ وهي العنصر الأول في فشل كل مشاريعنا الوطنية. لقد قضى العديد من الباحثين ردحاً من الزمان في قراءة المشاريع السياسية  والحراكات بمعزل عن شخصياتها الفاعلة وبنية مجموع العقل الكلي؛ فكان أن حُظينا بدراسات مهمة، ولكن تنقصها  دراسة الفاعل الأساسي نفسه؛ والفاعل مهم في أي عملية نهضوية أو تنموية.

وباختصار، فإن الورقة تدرس العقل السياسي  من منتجه (الشخصية السياسية)،  وعقوله الجانبية وتعرّفه بما يتبدّى في السلوك السياسي.

لا تضع الورقة التي نحن بصددها، تعريفاً مسبقاً تشتغل عليه؛ فالعقل يُعرَف بما ينتجهُ؛ ونتائجه مبنية على أنساقه وتكوينه (نظام المعرفة). والسياسة بما هي ممارسة سلطة أو بيان ممارستها، تتجلى في الحراكات والأنساق والأبنية السياسية. وحين يتعالق الاثنان (العقل والسياسة) تتداخل أنظمة المعرفة وأنساقها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيداغوجية....الخ مع التكوين النفسي للشخصية وطرق تلقيها لهذه الأنساق وما يتمظهر في سلوكها. وهكذا نرى أن المسألة تُصبح أعقد حين نقوم بدراسة تجزيئية لهذه القضايا التي تتعالق وتتفرق وتترابط بطبيعة الحال، إذْ لا مناص من هذا التداخل.

1- التكوين والتّنشئة السياسية:

 التّنشئة السّياسية هي إحدى العمليات ذات الطابع الاجتماعي، التي تُلقّن الفرد القيم السياسية والاتجاهات التي تربط وتتعلَّق بالنّسق السياسي لمُجتمع ما. وتمارس التنشأة السياسية ثلاثة أدوار مهمة: نقل الثقافة السّياسية من جيل إلى آخر، وتكوين الثقافة السياسية، وتغيير هذه الثقافة وفقاً للمتغيرات الموضوعية والذاتية معاً. ولأن تكوين السّلوك السياسي وتمظهراته المختلفة يرتبط بمدى فاعلية مؤسسات التنشئة السياسية من الأسرة إلى  المدارس والجامعات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، لأنها تعمل على تلقين وتكوين وتشكيل الاتجاهات السياسية للفرد؛ لذلك تكمن القضية حول قدرتنا على مساءلة هذه المؤسسات مساءلة نقدية، وفحص أطرها وعناصرها، وتبيين أوجه الخلل والنقص في أبنيتها ومستوى ونوع التربية التي تُكسِبها للفرد.

إن مفهوم التّكوين السياسي، هو مقاربة اصطلاحية لما يمكن أن ندعوه أحد أبنية العقل السياسي؛ وما ندعوه العقل السياسي نقصد به نظام المعرفة الذي شكَّل وكوَّن الشخصية السياسية المُحدَّدة. يرتبط العقل السياسي بالنظام المعرفي، والذي يحكم عملية التفكير بما هو عقل، لا بما هو سياسي، لجهة إخضاع العقلي لمصلحة السياسي، أي إنه براغماتي، يستدعي العقلي المعرفي ليوظفه سياسيّاً. وقد لاحظ علماء النفس أن ثمة سلوكاً يقوم به الفرد دون شعور به، وهو يختلف عن ردود الفعل العادية، أُطلق عليه اللاشعور السياسي (سنتناوله له لاحقاً)، كونه يسعى إلى تحقيق غايات مُعيَّنة لا تخضع لمراقبة الأنا، وسنرى كيف أن اللاشعور السياسي يؤدي أدواراً كبيرة في الشخصية السياسية.

1-1 النشاط الطلابي بوصفه مدخلاً للسّياسة:

لا يمكن فهم ودوافع وتصرّف الشخصية السّياسية السودانية المُعاصِرة، وما يتبدى منها سلوكاً وانفعالاتٍ في تعاطيها للسياسة، دون فهم حركة النشاط الطلابي في الجامعات السودانية، وفهم كيف يعمل العقل الطلابي، وتأثير ذلك الحراك على العمل السياسي، سواء في فضائه الضيق أو الحياة العامة. ويعتبر الحراك الطلابي أحد أهم روافد وآليات إنتاج السياسي السوداني المُعاصر فهو الشجرة (الحركة الطلابية) التي أنتجت هذه الثمرة (الشخصية السياسية).

شكَّلت الحركة الطلابية رافداً رئيساً للمُتعاطين والمشتغلن بالسياسة إلى يومنا هذا، ورفدت المؤسسات السياسية (الأحزاب – منظمات المجتمع المدني – النقابات.. إلخ) بالسياسيين، وأدت أدواراً كبيرة وأخفقت في أخرى كبيرة نعايش نتائجها الآن.

عانت الحركة الطلابية وما تزال تعاني من خلل فاضح لازمها منذ التكوين، فقد ورثت قمع الاستعمار وعقليته في صناعة التفرقة؛ وصراعات الطائفية والإدارات الأهلية وجماعات المثقفين واستبداد الدولة ودكتاتورية أنظمتها العسكرية، واستبداد الأحزاب السياسية نفسها؛ إضافة إلى الانقسام في المجتمع السوداني القبلي. إن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تبرز وتتضح وتؤثر، أو تبقى كامنة، تبعاً لتوافر أو عدم توافر الديمقراطية في كل مجتمع. ففي مجتمع لا تُفرض فيه قيودٌ على التفاعل الحر بين الناس، تنشأ الظواهر الاجتماعية وتنمو طبقاً للقوانين الاجتماعية التي تحكم التطور الاجتماعي، وبقدر حاجة هذا التطور للظاهرة ذاتها؛ ولكن متى مدت الديكتاتورية ظلالها في أي مجتمع، فإنها ستعوق حركة التطور الاجتماعي، وتحاول شل قوانينه الاجتماعية بما تفرضه من قوانين وضعية، فلا تكون الظواهر الاجتماعية واضحة الوجود. وكان أن أضحت الحركة الطلابية ضحية للأبنية التي شكلت الأنساق أو أطر الممارسة السياسية، بل وضحية لنسق التفكير العام في مؤسسات تعليمية، يُحاجُّ الفرد فيها بأنها مركز للتنوير والعقلنة. فالجامعة في الأساس مركز لإنتاج المعرفة والقيم، وأيضاً لتخريج النخب، وبالتالي هي فضاء لصناعة مستقبل الشعوب.

أحد أبنية الخلل في سياسي الحركة الطلابية، أنهم لم يتخطّوا هذه المرحلة حتى الآن؛ إذ ما تزال سمة التآمر والتخوين والإقصاء تلازمهم، بجانب عقلية الطالب الطوباوية وعدم تقبل النقد وممارسة العنف المادي والرمزي كعنصر أساسي في السياسة، مع قلة الخبرة بالشأن العام، إذ إن الهوة بين الطالب والجماهير شاسعة نسبة لفضاء الجامعة الضيق. أضف إلى ذلك، غياب العقل النقدي والكسل المعرفي والوثوقية في الأحكام والأفكار، لتطغى  في مثل ذلك الجو  فكرة "الحقيقة المطلقة وما سواها باطل". يمكن تحليل الحراك الطلابي وأثره في الشخصية السياسية المعاصرة نفسياً، باعتباره منتجاً ساهم فيه الأفراد المختلفون في توجهاتهم بصياغة ما يمكن أن يُطلق عليه (مفهوم السياسة) وطريقة الاشتغال عليها، منتجين بذلك أيضاً الفضاء السياسي واللاشعور السياسي أيضاً.

وبكل ما ينطوي عليه الحراك الطلابي من العنف وقمع السلطات والمنع والاعتقال والتعذيب، فقد ساهمت هذه الأفعال بشكل كبير في إعطائنا هذه الشخصية الموجودة الآن؛ شخصية هي نتاج العنف: من عنفٍ للسلطة والمجتمع والأسرة، والكبت المتمثل في قمع الغرائز والرغبات سواء من قبل السلطة أو المجتمع نفسه، والحرمان بكل أنماطه، ليكون الفرد عارياً من أي حماية أو تعاطف.

أفرزت هذه الإشكالات شخصيةً سياسيةً لا تستطيع أن تجد مدخلاً لأي حوار يؤدي إلى توافق؛ فهي شخصية لا تنمو إلا وسط الصراعات والانقسامات والانتصارات الشخصية لخطابها وتفكيرها وما تظن أنه الحقيقة، فهي لا تدرك نفسها إلا وسط هذه الأشكال من السلوك. ولا مجال للحوار الجاد وتقديم التنازلات حتى إذا جلس الناس للحوار، لأنها شخصية نرجسية، فهي نتاج أزمات كبيرة ولا تُري إلا ما ترى. أنتج الحراك الطلابي أيضاً معطى يظل يؤدي دوراً رئيساً في تفتيت أي وحدة محتملة، وهي شخصنة القضايا العامة والتاريخ في أمثلة ذلك مبذول. ونتيجة ذلك ظهرت (الشلّة).

1-2 الشلليّة – قطيع داخل قطيع:

عرّف قاموس المعاني الجامع كلمة (شِلّة) والجمع شلاّت وشلل بأنها جماعة من الأصدقاء ذات ميول واحدة. وكجزء من إفرازات الممارسة السياسة يتحلق أفراد من الانتهازيين (انتهازية واعية) حول شخصية يستطيع هو من خلالهم تحقيق أهدافه، ويستطيعون هم تحقيق أهدافهم أيضاً، على حساب المشاريع والقضايا. وهذه الشللية في غالبيتها تنشأ للتآمر على القطيع الكبير والسيطرة على كل شيء من الموارد واتخاذ القرار..الخ. وتذخر مؤسساتنا بهذه النوعية، فالشلّة توجد في المؤسسات السياسية كلها دون استثناء، وفي المؤسسات الخدمية في الصحة والتعليم والمصالح الحكومية والمنظومة الأمنية، وكذلك في الوسط الثقافي، وأخشى أن تطرق أبواب أسرنا أيضاً كظاهرة خطيرة جداً.

"الشلة" دائماً صغيرة في مجموع الأفراد، ولكنها نافذة، وهي البذرة الأولى لأي انشقاقات، ولأي شلة أخرى جديدة. صعدت الشلة السياسية وامتطت الفضاء السياسي؛ وأقول الشلة وليست النخبة، فهي ظاهرة لا تُعبِّر عن المفهوم التاريخي للنخبة ودورها في الحياة العامة، بل العكس فإن المجتمع السوداني بعقليته هذه؛ عاجز عن إنتاج نخب قادرة على العمل بموازاة المؤسسات، وتعبر عن عجز آخر يتجلى في كون المؤسسات التقليدية عاجزة عن إنتاج أدوات ديمقراطية للمشاركة. حدث ذلك في مجتمعاتنا التي يمكن وصفها بمجتمعات الانتقال الطويل؛ وهي المجتمعات التي تتحدث كثيراً عن المشاركة بدون مشاركة فعلية؛ وتتحدث عن الرأي العام وفي الأغلب تعجز عن إنتاج رأي عام أو توافق عام، فيما تحاول الشلل السياسية وارتباطاتها الإعلامية تصنيع الرأي الذي تريده والتعبير عنه، وكأنها هي من يمثل الرأي العام وهذا الأقسى فيما يحدث. لم تظهر الشلة السياسية مع قيام الحركة الطلابية، ولكن الحراك الطلابي عمّقها ووضع أسسها، فنحن نرى أن تأثير الشلة الطلابية على العمل السياسي الحالي ما يزال مزدهراً، ويمكن رؤية السياسيين الذين ما يزالون مأسورين بـ(الدفعة). وتعتبر الشلة وزمالة الدراسة  مهمةً في الالتحاق بالقطيع الصغير الذي يقود السياسة ويتذرع باحترافيتها مقصياً الآخرين؛ والشلة آلية لتوفير سياق يمكن من خلاله تأسيس علاقات شخصية وثيقة داخل العمل السياسي، بما يضمن عملية التبادل وضمان الولاءات.

1-3: كيف يفكر العقل الطلابي؟

الدولة المستبدة لضمان استمرارها تلجأ لاستئصال المخالفين والمعارضين والسيطرة على المجال الجغرافي والفضاء الاجتماعي، والسيطرة على مواطنيها من أجل الاستقرار الداخلي، وهذا هو منهج عمل الدولة في بلادنا وكذلك الحركة الطلابية، فالحراك الطلابي في جامعاتنا يفكر بعقل الدولة المستبدة، ويعتبر أسوار الجامعة حدودَ دولته، وبالتالي فعليه حماية الحدود من الأخطار الداخلية والخارجية المُتمثلة في التيارات المخالفة في المرجعية والتوجه السياسي، والمتمثلة أيضاً في الدولة نفسها، وأيضاً السيطرة على فضاء الجامعة لمواجهة أي فعل طلابي يمكن أن يشكل خطراً أو يعبر عن رأي يخالف رأي الجماعة الحاكمة، ويمكن رؤية ذلك في (أركان النقاش) التي غالباً ما تنتهي بعنف مادي أو رمزي. إن التفكير بهذه العقلية (عقلية الدولة)، أنتج لنا إشكالية أخرى وهي إشكالية الصراع الأفقي أو تغليب الصراع الأفقي (الطلابي طلابي)، حيث انتقلت الحركة الطلابية، من حركة متصارعة ضد قوى الاستعمار آنذاك، إلى حركة متصارعة فيما بينها، إلى أحزاب سياسية تتصارع، وإلى قادة أحزاب يتصارعون ويتلاسنون كل يوم على ما نشهد في وسائط الإعلام.

وقعت الحركة الطلابية في إشكالية الانفصال، الانفصال أولاً عن مجتمعها، فهي حركة مُسوَّرة داخل أطرها الجامعية، ولم تخرج من هذه الأسوار إلا لماماً. ثم إن أشكال الانفصال عن المجتمع ومعاركه من أجل التحرر، في اعتقادنا قد نتج عن إشكال أكبر نسميه بإشكال استبداد التاريخ؛ ففي كثير من الأحيان عِوض أن يكون التاريخ دافعاً للعطاء والتقدم، يصير نفسه كابحاً لهذا العطاء وذاك التقدم، حينما نجعل منه مرجعية نهائية؛ وقمة ما يمكن أن يصل إليه العقل، وحينما نسقط في تمجيد بل حتى تقديس ذلك التاريخ وصانعيه، فيصبح التاريخ هو المُحدد لفكرنا وسلوكنا عوض أن يكون من المحددات فقط، وهذا بالضبط ما وقع فيه العديد من سياسيي الحركة الطلابية، إذ لم يستطيعوا  الخروج من تاريخها، أو قل من تاريخها الذي صنعه جيل غير جيلها الآن، فالصراع الذي أطر أجيال الحركة الطلابية سابقاً ما يزال نفسه الذي يُؤطر العمل السياسي الحالي.

ورث سياسيو الحركة الطلابية تراثَ صراعٍ وأخطاء جيلٍ سابق ومفارق لها في الواقع والزمان، في غير مقدرة على القيام بعملية نقد ذاتي لذلك التاريخ، لإخراج غثه من سمينه، والتحرك بأكثر برؤية واقعية وفاعلية، والانتفاضة على عقلية “هذا ما وجدنا عليه آبائنا وإنا على آثارهم لمقتدون”، وحيث حينها سنعطي للتاريخ حقه الذي يستحق دون إفراط ولا تفريط، من خلال تنسيب صوابيته، الشيء الذي سيقودنا أيضاً إلى تنسيب قناعاتنا وسلوكنا وإخضاعهما لثنائية الصواب والخطأ التي تميز الإنسان وحركته.

يمكن إيجاز خلل الحركة الطلابية في جامعاتنا، وما أنتجته من سياسيين في الآتي:

 أولاً: استبداد التاريخ؛ فسياسيو الحركة الطلابية مأسورون في الزمن الماضوي فكراً وسلوكاً، وهي إشكالية ينبغي أن تُعالج بقراءة نقدية للتاريخ الطلابي وتفحص أنساقه والاستفادة منه في معرفة الأخطاء وتجاوزه.

ثانياً الاحتجاج: إذا كان الاحتجاج هو السمة التي ميزت مسار الحركة الطلابية منذ عقود، حتى أصبح مُحدِّداً من محددات الهُوية عندها، نرى وجوب المزاوجة بين الاحتجاج والإنتاج، فإذا كان طبع الشباب هو الاحتجاج فطبع الجامعة هو الإنتاج، والمقصود بالإنتاج هنا، هو تقديم المقترحات والرؤى، من أجل إصلاح التعليم وتجاوز أعطابه، فالاحتجاج لا يكفي لكي نعبر عن ذواتنا، إذ لا بد حتى يكتمل التعبير ويكون في أبهى صوره من الإنتاج. 

ثالثاً: الأزمة الهوياتية؛ وكما نعرف فإن أزمة الهوية في بلادنا قد سال فيها حبر كثير؛ ولكن  يبدو  أن طالب الجامعة يتعرّف على معضلة الهوية التي يعيشها مجتمعه في حرم الجامعة بعمق وتكثيف عالٍ وممارسة واضحة لأشكال العنصرية إلى درجة أن تُؤسس روابط عرقية وقبلية داخل مؤسسات المعرفة، ويؤخذ هذا الإشكال إلى سوح العمل العام.

 وبكل هذه المعضلات والإشكالات التي رأيناها آنفاً، فقد شكلت أجزاء كبيرة منها، وطبعت عقل السياسي، وتمظهر ذلك في سلوكه وكيفية ممارسته للسياسة.

2- السياسة والقبيلة والسلطة:

جانب آخر من جوانب التكوين والتنشئة السياسية، يأتي من الدور الذي تمارسه القبيلة سياسياً؛ ولعلّ دراسة بنى السّلطة في المُجتمع الرأسمالي الصناعي تتطلّب بشكل عام؛ دراسة علاقات الإنتاج والصراع الطبقي. ولكن تختلف مجتمعاتنا حين تُطرح مسائل بنى السّلطة فيها؛ فهي دراسة لعلاقات القرابة وكيفية انتقال السّلطة من نصاب رئاسة إلى نصاب رئاسة آخر بحسب المفكر الاجتماعي عبد الرحمن ابن خلدون.

ولا تطمح ورقتنا في دراسة سوسيولوجية معمّقة لعلاقات القرابة في القبيلة، كإطار رسمي لها ومفهومها وكينونتها وتأثيراتها على علاقات السلطة وأبنيتها وصوغ خطابها، إذ الورقة لا تسمح بذلك، إنما اعتمدت على المقاربة لمحاولة فهم خطاب القبيلة وخطاب الدولة، وكيف وظفت الدولة القبيلة في خطابها واستغلّ زعماء القبائل هذا التوظيف لمكاسب وامتيازات على حساب مفهوم المواطنة، والذي هو جوهر مؤسسات وبناء الدولة الحديثة.

فالقبيلة في تكوينها تنظيم مغلق؛ يستقبل الأفراد لكنه لا يقبل خروجهم منها؛ مما يعني أنها في نشأتها وفي تكوينها لا تستطيع أن تستوعب إلا شكلاً واحداً ونوعاً واحداً من الأعضاء، وحتى إن اعتبرناها دولة مصغرة؛ فطبيعة قراراتها لا يمكن أن تسري على أناس خارج نظامها العرفي والمكاني، فقراراتها تمس الأفراد المنتمين إليها ولا تسري على أفراد خارج نطاقها الإثني والمكاني. وإذ اعتبرنا عاملَي القوة والإكراه اللذين كانت تستعملهما القبيلة في وقت سابق لبسط نفوذها وحكمها، وقد اتفقت القبائل على هذه الأساليب؛ ففي الوقت الحاضر لا يُولِّد هذا الخيار إلا الحقد السياسي والعنف والذي يطال المؤسسات الدستورية والسياسية وحتى الأفراد في كثير من الأحيان الذين يصبحون ضحايا لقبائلهم (نموذج حرب 15 أبريل).

في تعريف حديث عرّفت القبيلة بأنها "جماعة من الناس ينتمون حقيقة أو وهماً إلى أصل مشترك"، ويُميِّز القبيلة وحدة اللغة والثقافة المشتركة لدى جميع أفرادها؛ إضافة إلى رابطة الدم والنسب، وهو عامل تجانس أساسي يُضاف إليه الموقع الجغرافي بحدوده المعلومة. أكثر ما يُميِّز القبيلة هو ذوبان الفرد في الجماعة والجماعة في الفرد، وهنالك دائماً ميل قويٌّ إلى الاستقلال وعدم الخضوع لسلطة الدولة، والميل إلى الحرية المطلقة داخل هذا الفضاء المُغلق، وهو ما يمكن التدليل عليه بأن كلمة زعيم القبيلة داخل هذا الفضاء أقوى من كل مؤسسات الدولة.

داخل هذا الإطار المذكور آنفاً؛ ينشأ خطاب القبيلة وفق عناصر رئيسة؛ تتمثل في توفيرها للعصبية، وتمثل عقلية عامة تحكم جميع أشكال العلاقات السياسية من خلال تخصيب الذاكرة الجماعية للمجموعة؛ وفي خطابها هذا تتصف القبيلة ببساطة السلطة السياسية داخلها وسهولة الاتصال السياسي بين زعيم القبيلة وأفرادها وهنالك الولاء المطلق للقبيلة. يصف علم الاجتماع السياسي القبيلة كمفهوم إقصائي بامتياز، ولا يمكن الانضمام إليها في أي وقت، وإنما ننضم إليها مجبرين ومكرهين منذ ولادتنا، ولا نملك الاختيار في ذلك مما يجعلك أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الالتزام والانصياع للقبيلة وقراراتها أو أن تتبرأ منك وتصبح منفياً خارجها، وهو ما يعني الاستبداد المطلق القبلي في منظور علم الاجتماع السياسي.

تبني القبيلة خطابها في فضائها المغلق على أسس إعلاء مقام الـ «أنا» وانتقاص قيمة «الآخر»، وهو خطاب يُفضي في محصلته النهائية إلى تكريس صيغ مديح الذات وهجاء الآخرين بلا مواربة. ولم تستطع النصوص الدينية المقدسة المؤثرة عادة في الوجدان في تحجيم هذا الخطاب؛ بل إنّ خطابها الموغل في إبراز الأنا قد تجاوز النص الديني في قوله (إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، وهو ما يُفسّر قدرة القبيلة على إبادة مجموعات قبلية أخرى دون أي وازع سوى خطابها.

خطاب القبيلة المبني على مديح الذات وإعلاء شأنها وهجاء الآخر، هو خطاب يُؤرَّخ له؛ حينما كانت القبيلة تكتلاً بشرياً صغيراً قائماً بذاته، يرى في تكتّله القدرة على مقاومة التكتلات الأخرى التي تُشكِّل خطراً عليه، فكان لا بد من العمل على بث الشعور بالتفوق، والعمل في الوقت نفسه على تعزيز خطاب العلو والتفوق وتضخيمه ومقاومة نصوص المساواة وتهميشها. لكنه صار فيها بعد خطاب الخصومة والعداوة الذي يجعل القبيلة تقف دائماً في موقف الخصم من كل قبيلة مجاورة لها أو بعيدة عنها، بل يجعلها في موقف الخصومة أيضاً مع بعض الطارئين عليها الذين لا يستحقون الانتماء الكامل إلى دمها الصافي النقي؛ وفي المحصلة فإن خطاب القبيلة هو خطاب إبعاد ونفي لكل ما سواها.

ديسمبر وفتح الأضابير:

فتحت حراكات ديسمبر؛ المجال أمام إعادة النّظر في طبيعة العقد الاجتماعي - الذي ينظم العلاقة بين الفرد والدّولة، وبين المجتمع والدولة. لقد وضع الحراك الذي اندلع في نهاية العام 2018 مفهوم الدّولة العميقة، القائمة على تشابك مصالح الفساد مع مصالح المؤسسة الأمنية، وعلى حرمان المُجتمع من أي قدرة على الحركة المستقلة أو الحُرية أمام الطّاولة لإسقاطها. لكنها طرحت إشكالية أخرى تتعلق بشكل الدولة وطبيعتها التي تروم إعادة بنائها، وما يتعلق بها من مسائل مثل المواطنة وإنهاء قضايا التمييز بين المجتمعات - وشكل الحقوق والواجبات؛ وقد برزت القضايا المذكورة آنفاً بشكل صارخ تبدّى عبر المُمارسة في الفضاء السياسي الذي تحول إلى فضاءٍ للعنف مع تحولاتٍ كثيرة نشهدها في تنامي ظواهر مثل الشرخ الاجتماعي والعنف والتّكتل القبلي والصّراعات السياسية (حرب 15 أبريل)، التي تأخذ أطرها ومرجعيتها من الأحلاف القبلية وكلما ضعفت سلطة الدولة ونظامها انتعشت القبائل.

إن الكُتل والكيانات الاجتماعية صوتها أعلى وأقوى من ذي قبل؛ في المشهد السيّاسي. ولا أبالغ حين نقول إن تأثير الكيانات الإثنية في بلادنا أضحى أكبر من أي تأثير آخر سواء كانت أحزاباً سياسية أو ائتلافاً سياسياً أو منظمات المجتمع المدنية أو نقابات. إن القبائل ما تزال تتمتّع بسيادةٍ ما على نفسها، وعلى مواردها، وتواصل حكم نفسها بنفسها في كثير من المجالات بحسب قوانينها أو تقاليدها الخاصة، وهذا يفرض بعض التساؤلات؛ منها كيف يجري تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة من دون إلغاء هذا أو ذاك من الفريقين؟ فكانت أن أضحت القبيلة؛ عقبة أو تحدياً لتشكّل وقيام الدولة الوطنية في ظل سيطرة النّظم القبلية والصراعات المتكررة في الأقاليم والأطراف.

يتميّزُ تاريخنا السوداني بالعديد من التناقضات الفجّة؛ ففي مشهدنا السّياسي الذي أضحى مختبراً  لتجريب كل الأيديولوجيات  التي أثبتت فشلها المريع من اليمين إلى اليسار؛ كانت القبيلة هي (الأيديولوجيا/ البيولوجيا) الوحيدة المستقرة التي لا تتغيّر أبداً والتي يلجأ إليها كل المهزومين من النخب / الشلة السياسية والمثقفين والإدارات الأهلية، باعتبارها البيت والحاضنة الرئيسة التي تؤمّن الفرد من غوائل الآخر؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الأيديولوجيا والفكر لصالح الكيانات الإثنية.

يبدو  كما لو أن العقل السياسي قد قسّم شعوب السودان تبعاً لقبائلهم وطوائفهم وجماعاتهم بدل الانتماء السّياسي والفكري العابر للتقسيمات الاجتماعية، وهو ما أنتج ما يمكن تسميته (هجيناً) حائراً بين الانتماء السّياسي والولاء القبلي، مما أتاح للفاعلين ومتعاطي السياسة فرصة لتفكيك عناصر قوة المؤسسات عبر استثارة النزعة القبلية وزجّها في مواقف سياسية؛ أي غزو الدّولة عن طريق القبيلة وتفكيك نزعة أي مؤسسة حديثة على غرار أن (الدولة نفسها مؤسسة حديثة)، كان ذلك عبر اقتصاد الريع العشائري حين تتحول الدولة إلى غنيمة لقبيلة ما وعن طريق الدوائر الانتخابية والبرلمان. وبفعل قوة النخب (زعماء القبائل) فقدت الدولة هيبتها وتحولت إلى مجال للغنيمة، فنتيجة عزل القبيلة كأعضاء عن الدولة لصالح النخب القبلية وعجز الدولة عن التعبير عن المجموع الوطني ومصالحه؛ أصبحت الدولة في إدراك الناس وتصوراتهم حالة طارئة، وقانونها لا يُطبَّق إلا على الضعفاء؛ لذا فإن أغلب الخاضعين للدولة من عموم الناس يحسون بالظلم والقهر وهذا جعل علاقتهم سلبية بالدولة.

وفي المخيال السوداني عموماً؛ ترى الفئات أو الكيانات  القبائلية المُستَبعدة من الموارد والسلطة، أن تنظيمات ما قبل الدولة والتي تشير إلى القبيلة؛ ترى هذه الفئات أن هنالك قبائل محددة في السودان تسيطر على الموارد والسلطة وأنها مؤثرة في قرارات الأفراد وذات وزن في بناء التنظيمات الاجتماعية والسياسية الأخرى، مثل الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، بل حتى في المؤسسات التعليمية، مما حدا بالبعض إلى تأسيس روابط قبلية في الجامعات والمعاهد العليا في صروح أكاديمية يحاجُّ فيها الفرد بأنها مراكز للتنوير المعرفي والعقلانية.

تطرح مسألة القبيلة وتأثيراتها الكبيرة على صِنعة السياسة أو شكل القرار في الدولة؛ مسائل أخرى تتعلّق بخطابات الفاعلين السياسيين ومؤسساتهم الحزبية؛ وإلى أي مدى ساعدت هذه الخطابات في تغلغل القبيلة بشكل كبير في مفاصل الدولة، بجانب أطروحاتها كبديل للدولة نفسها فعلياً من خلال سيادتها على الأرض وتنفيذها للقوانين الخاصة في الجغرافيا التي تحكمها والاستنفار الذي تقوم به حال نشوب أي نزاعات مع القبائل الأخرى، وهي عناصر رئيسة تحتكرها الدولة الحديثة، ومدى الالتفاف والتجاوب الذي يلقاه خطابها والذي يوظفه السياسيون بشكل كبير في صراعاتهم السياسية وفي عملية التعبئة الإثنية لبرامجهم، وكذلك استخدامه لاغتيال خصومهم معنوياً ومادياً.

 ومع ذلك، فهنالك حضور باهت للمسألة القبلية في خطابنا السياسي، وأحسب أنه لا يُعرف أهميتها وخطورتها في آن. ونجد موضعة القبيلة في الخطاب السياسي تأثرت بالنزعات الأيديولوجية وانتهازية الساسة والفاعلين سياسياً، أما موقعتها في الخطاب الإعلامي فقد ارتبط بالأزمات الاجتماعية والسياسية، والتي تحدث حين تبرز الأحداث القبلية كتعبيرات احتجاجية مطلبية، وهو تحدٍّ يَفشل ويعجز فيه المشتغلون بالسياسة ومنظمات المجتمع المدني في تفسير آليات اشتغال التركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمع، فعقلهم السياسي أحد أعمدته، ويستند على العقل القبلي.

لعل أبرز عناصر الخطاب السياسي السوداني المُخاتِل دوماً هو طرحه لخطاب القومية والتماسك واللُّحمة الوطنية، وهو خطاب عام يبثّ في المنصات الحزبية والرأي العام، ولكن الوجه المخاتل له هو الخطاب الخاص في الدوائر المُغلقة، وأعني بها القبيلة المُعيَّنة، التي تُشكِّل رأس الرمح للتنظيم السياسي، كأتباع أو جماهير، ويمكن أن نستلف مصطلح الحاكورة لنَصِفَ به تنظيمات سياسية تنشط فيها القبيلة كفئة مؤثرة في مركز اتخاذ قراراها.

2-1: العنصرية والعقل العنصري:

لا تنبع التفرقة العنصرية من البشرة، بل من العقل البشري، والذي هو أسُّ الأوبئة، وبالتالي فإن قضايا التمييز ينبغي أن تبدأ بمُعالجة الأوهام العقلية التي أفرزت مفاهيم زائفة، على مر آلاف السنين، عن تفوق جنس على آخر من الأجناس البشرية (1). ففي جذور هذا التعصب العرقي تقبع الفكرة الخاطئة بأن الجنس البشري مُكوَّن من حيث الأساس من أجناس منفصلة وطبقات متعددة، وأن هذه الجماعات البشرية المختلفة تتمتع بكفاءات عقلية وأخلاقية وبدنية متفاوتة، تستوجب أنماطاً مختلفة من التعامل أو على هذا الأساس يجري قتلهم وإبادتهم.

تُعتبر العنصرية وخطاباتها إحدى أهم مشكلاتنا الرئيسية والتي أعاقت نمو وتطور الدولة السودانية منذ استقلالها؛ وقد ساعدت النخب (الشلة)  السّياسية والأهلية والمُثقّفون على نموّها وانتشارها في مجتمعاتنا تارةً بالسكوت والصّمت عن المُمارسات العُنصرية، وتجنّب الحديث عنها، وتارةً بالاستفادة منها، وذلك بتحريض القبائل والمُجتمعات على الاقتتال بوهم العرق المُتفوِّق أو الأرض أو الموارد. إن عدم إصدار أي قانون يجرّم  العنصرية ويفضح ممارساتها بحق شعوبنا حتى الآن في بلادٍ عمرها ستون عاماً ونيف، يُعتبر فضيحة بكل المقاييس؛ في بلاد شهدت وتشهد حروباً أهلية ما قبل استقلالها، وحين تشكل العنصرية والعرق والإثنية الأعمدة الرئيسية لنشوب الحروب وموت الناس.

أصبحت  العنصرية تتغذّى في بلادنا بعوامل كثيرة؛ منها الضغط السّياسي والاقتصادي المتزايد الذي تعرفه مجتمعات مختلفة من العالم في وقتنا الحالي. وبعبارة أوضح؛ اتساع رقعة التباين الاجتماعي سياسياً واقتصادياً سواء على مستوى العلاقات القومية أو على مستوى الجماعات المختلفة داخل المجتمع الواحد، حيث الصّراع على أشدّه من أجل المصالح وفقدان الأمن والتماسك الاجتماعي.

 إذا أردنا تحليل العنصرية سيكولوجياً فيمكن القول؛ إن الخوف من الاختلاف والمُغايرة وعدم تقبل فكرة عيش الآخر؛ يصبح العامل الأساسي المُسبِّب للصّراع العنصري بما يُخلِّفه من أحقاد وكراهية وصدام دموي بين الجماعات المتصارعة عنصريّاً، وكلما  ازداد هذا الصراع قَوِيَ تماسك كل جماعة بعدائها للجماعة الأخرى، وتختل المعايير الاجتماعية فيما بينها، وتصبح الروابط الاجتماعية التي تربط أفراد المجتمع متلاشية وتتحول العلاقات الاجتماعية من علاقات تعاونية إلى علاقات تنافرية، فيضحي المجتمع بذلك مجالاً لثورات واصطدامات اجتماعية وفوضى خطيرة، تهدد سلامة المجتمع وأمنه - كما نرى في (حرب 15 أبريل) - إضافة إلى أن العنصرية مرض نفسي، فهي ظاهرة نفسية أيضاً ترمي إلى التأكيد والمغالاة في احترامها، لدرجة أن الفرد المتعصب عنصرياً لا يرى العالم إلا في ميدان ذاته الضيق، فيتّسم سلوكه بالمظهر العدواني، وكما يقول (هامبري) في كتابه "أمريكا السمراء": "إن التعصب نوع من أنواع النرجسية، فمغالاة الأفراد في حب أنفسهم تدفعهم إلى مقت وكراهية الآخرين الذين يختلفون عنهم وتحول بينهم وبين التفكير السليم، ولهذا فالجماعة بالنسبة للتعصب تنقسم إلى قسمين: جماعة داخلية وجماعة خارجية لأن التعصب يؤدي إلى عزل الجماعات المتعارضة، وفي حالة التوتر للجماعة المتعصبة يتسم سلوكها بالعداء الخارجي نحو الجماعة المتميزة عنها في المظهر فتكون كبش الفداء ويزداد اضطهادها ومعاداتها كلما رافق هذا السلوك العدائي تبريرات وإشاعات مفتعلة تمس الجماعة المضطهدة، وخاصة إذا كانت جماعة ضعيفة (فالضعيف يشجع الناس على الاعتداء عليه) كما يُقال.

3- الطائفية السياسية والسياسي الطائفي

الطائفية هي أحد أنماط سياسات الهوية، وسياسات الهوية شكل من أشكال المشاركة الشعبية؛ فالطائفية السياسية هي أيديولوجيا مُوجَّهة، وتسعى الطائفية السياسية إلى "أثننة" الطائفة الدينية، أي التعامل معها باعتبارها جماعة يشترك المنتمون إليها في صفات موروثة ثابتة منفصلة عن الإيمان أو عدم الإيمان بالدين، باعتبار أن التبعية التاريخية لهذا الدين أو المذهب كافية لتشكيل أسطورة منشأ الطائفة والذاكرة التاريخية (المظلومية والأمجاد الغابرة في آنٍ معًا)، والصفات الثقافية المشتركة(2).

وتتجسد الإثنية في مجتمعنا كما هو معبّر عنها، في مشاريع سياسيّة وخطاب قومي وصناعة السياسيين، وفي الحياة اليوميّة أيضاً وفي التصنيفات العمليّة للمعطيات التي يُصادفها الإنسان في حياته اليوميّة إلى فئات وخرائط معرفيّة وأطر خطابيّة وروتين وأنماط تنظيميّة وشبكات اجتماعيّة ومؤسّسات. هكذا يكمن تسميتها إثنيّة الحياة اليومية، أو إثنيّة الأيام العاديّة.

والمجتمعات القبلية؛ يتحكم فيها العقل الطائفي ومفهوم العقل الطائفي الذي أصيغه هنا هو: عقل مغلق على عناصر تكوينه سواء الرمزية أو المادية فهو منغلق داخل إطار رؤيته ويملك الحقيقة المُطلقة ومأسور في الماضي الراكد، وهو نرجسي تجاه أي حقيقة خارج إطاره. والطائفة ككيان اجتماعي قائم بذاته، متماسك بلُحمته الداخلية، عميق الجذور في وجوده. وبناءً على ذلك تُعتبر الطائفة هي الوحدة الاجتماعية الأولى، لا الفرد. وهي مدخل الفرد ومعبره باتّجاه الدولة، أي أن الفرد لا يوجد في الدولة كمواطن، إلا بحسب موقعه الطائفي. والعقل الطائفي بالأساس مبنية أنساقه على زمان ماضوي.

اقترنت كلمة الطائفة بالدين على الدوام والتحيزات المذهبية، ولكن المفهوم يسبح في أفق أوسع من الدين. وإذا اعتبرنا الطائفية هي تحديدَ الفرد لهويته بالتعصب لانتماء ديني أو مذهبي إلى الجماعة أو الطائفة، بحيث يتحدد بموجبها سلوك الفرد تجاه بقية الأفراد داخل جماعته هذه وخارجها، أو إذا اعتبرنا الطائفيّة «تحديد الأعمال والسلوكيات والممارسات بواسطة الإيمان بالفوارق الدينيّة الناجمة عن جعلها حدوداً تمثّلُ التراتبيّة الاجتماعيّة والصراعات، وذلك في حالة وجود تديّن وصراعات دينية فعلاً، فيمكننا القول إنه، على مستوى الهوية، لم تكن الطائفة الدينية دائماً إطاراً للتعريف حتى حين كانت الثقافة الدينية هي السائدة". (4) فحتى في ظل هيمنة ثقافة دينية، أدت بنى اجتماعية مثل القبيلة والعشيرة والعائلة الممتدة أدواراً أكثر أهمية كثيراً في حياة الفرد، وكان لها أثرٌ كبيرٌ في تحديد هويته وسلوكه في الماضي.

  ونقول إن المجتمع السوداني طائفي كما في حالة الإثنية، حيث تتحول الطائفية إلى بنى وعلاقات اجتماعية مفروضة على الفرد حتى لو لم يكن طائفياً. وقد استنتج باحثون أن الطائفيّة ليست مجموعة أعمال فرديّة شاذة أو منحرفة، بل هي بنية اجتماعية ذات خصائص غير متعلقة بصفات الأفراد بالضرورة. (3) فمن الممكن أن يكون الأفراد طائفيين أو غير طائفيين، بمعنى أنهم يحملون أفكاراً مسبقة ضد الآخرين، ولكنّهم بالضرورة مُطيّفون أو يجري تطييفهم في المجتمع الطائفي، أو في النظام الطائفي، حيث الأسماء، وأماكن السكن، وفرق كرة القدم، وأمور كثيرة أخرى ترتبط بالانتماء الطائفي. يستند العقل الطائفي على النكوص النفسي  وهو الرجوع إلى أبنية سايكولوجية أقدم عهداً نتيجة جذب تمارسه إزاء ذكريات حاضرة ذات قوة كبيرة؛ الأمر الذي يحيي مرحلة نفسية سابقة طُمست انفعالاتها وصُرفت بسلوكيات بدائية تتخذ منحى تقهقرياً"(4)  ويعجز العقل الطائفي عن التفكير في الهنا والآن إلا باستدعاء الزمن القديم المحمّل بالرموز والشخوص.

إن نُظمنا وأنساقها ليست طائفية أو أقلَّوية بالمعنى الثّقافي، إلا أنها نظمٌ أقلَّوية بالمعنى الاجتماعي للكلمة. ويتأسس على هذه المقاربة القول بأن الطائفية سواء في أحزاب اليسار أو اليمين ظاهرة مرتبطة بنظم سياسية استبدادية، لا يمكن لغير استبدادها أن يحرس امتيازاتها واحتلالها موقع السيطرة على الموارد الوطنية وتحديد القرارات المهمة بشأن توجيهها وتوزيعها، ويحدث هذا على مستوى الممارسة سواء داخل أحزابنا السياسية أو على مستوى الدولة. ويمكن أيضاً استخلاص أن الطائفية لا تُصنع خارج السياسة أو السلطة أو بمعزل عنها. يمكننا القول إن التركيبة الاجتماعية لأحزابنا السياسية التي ينتمي أعضاؤها إلى طبقات اجتماعية تتناقض مصالحها الطبقية؛ ينعكس سلباً على برامجها وعلى العلاقة بين أعضائها وعلى العلاقة فيما بينها، وبالتالي فالطبقة المتمكنة من القيادة الوطنية أو الإقليمية، أو المحلية هي التي توجه عمل الحزب بطريقة تنعدم فيها الديمقراطية، مما يجعل العلاقة القائمة بين أعضائها استبدادية كامتداد للاستبداد المخزون والممارس من الطبقة الحاكمة وتاريخنا السياسي كفيلٌ بإيضاح تلك النقطة.

غياب الديمقراطية داخل هذه الأحزاب، يجعلها مجرد تعبير عن تكريس ديمقراطية الواجهة. أما الديمقراطية الداخلية فإن وجودها غير قائم كما تدل على ذلك تشكيلة أحزابنا السياسية التي تتغير باستمرار اعتماداً على الممارسة الانتهازية التي تطبع علاقة المنتمين إليها بقياداتهم المحلية والوطنية. وقلما نجد الحرص على الانتماء المرتكز على القناعة بالأيديولوجية والتنظيم والموقف السياسي. فوضعية كهذه تقف عند حدود أحادية الرأي المطبوعة بالوثوقية التي يترتب عليها ممارسة الإقصاء ضد الآراء المخالفة داخل كل حزب على حدة؛ تكريساً لممارسة تبعية الأعضاء الحزبيين لقياداتهم التابعة بدورها للطبقة الحاكمة، والمرتبطة أصلاً بمراكز الهيمنة العالمية التي أصبحت تفرض شروطها على كل شيء بما في ذلك الأحزاب المستفيدة من الوضع التبعي.

4- اللاشعور السياسي:

وبما أن الأفعال الإرادية خاضعة للشعور والمراقبة، فإن الأفعال الأخرى الصادرة دون مراقبة سُمّيت بالأفعال اللاشعورية، ويدين الطب النفسي بهذا المصطلح  إلى عالم النفس  سيغموند فرويد والذي يعزوها إلى الرغبات المكبوتة والدوافع الغريزية، حيث تعبر عن نفسها من خلال الأحلام وفلتات اللسان (5) وغيرها من الأفعال اللاإرادية. وهكذا صار يُصنَّفُ السلوك الإنساني بأنه سلوك صادر عن الشعور عن وعي وقرار وتصميم، وسلوك صادر عن اللاشعور لا تتحكم به إرادة المرء بل يفلت من الرقابة الشعورية، رقابة الأنا ليُلبّي حاجات غريزية ورغبات مدفونة ومكبوتة منذ الطفولة.‏

ويأتي عالم النفس كارل غوستاف يونغ ليعطي مفهوم اللاشعور أبعاداً أخرى، فالكائن الإنساني عنده عبارة عن مستودع أو وعاء تاريخي أو وعاء من التاريخ فيه جينات عضوية وثقافية وسياسية ودينية تتحرك باللاشعور الجمعي، وداخل كل دماغ كاميرا خفية تحفظ كل شيء وتُسجّل كل شيء دونما شعور منا. يقول يونغ إن "اللاشعور ليس رغبات فردية فقط وإنما أيضاً بقايا نزعات وعواطف جمعية تنتمي إلى ماضي البشرية القريب منه والسحيق، وتنتصب على شكل نماذج تشكل نمطاً من اللاشعور المشترك الجمعي. وهي رواسب دفينة في النفس البشرية ترجع إلى تجارب وخبرات النوع الإنساني يمتد بعضها إلى الماضي السحيق وما ورثه الناس وما تركته فيهم حياتهم الاجتماعية من العشيرة والقبيلة والأمة، وما ترسب في نفوسهم من خلال تجاربهم الخاصة ونظرتهم للمستقبل". كل ذلك يشكل في نظر يونغ اللاشعور الجمعي الذي يتحكم بصورة أو بأخرى في سلوك الفرد وسلوك الجماعة.‏

 كيف يتمظهر اللاشعور السياسي:

يتمظهر اللاشعور السياسي حين يأخذ طابعاً سياسياً لأي جماعة منظمة سواء أكانت حزباً أم قبيلة أم أمة وهو يختلف عن اللاشعور الجماعي النفسي. فالأمر يتعلق بعلاقات سياسية واجتماعية وليس شعوراً فردياً، وبالتالي حتى لو تغيرت القاعدة المادية للإنتاج يبقى اللاشعور السياسي الجماعي مستقلاً عنها. ووفق دوبريه فإن العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الأوروبية تقع خلف العلاقات الاقتصادية؛ بينما في مجتمعاتنا فإن أنماط الإنتاج مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والقبلي، وتحتل موقعاً متقدماً أساسياً وصريحاً في الحياة السياسية. من هنا تصبح مهمة اللاشعور السياسي في مجتمعاتنا هي إبراز كل ما هو سياسي في المخيال الديني والقبلي، أي الفيزياء الاجتماعية ببنيتها العشائرية والقبلية "من هنا يصبح العقل السياسي كممارسة وأيديولوجيا هو في الحالتين ظاهرة جمعية إنما يجد مرجعيته في الخيال الاجتماعي مجالاً للاعتقاد واكتساب القناعات وليس لاكتساب المعرفة، فهو هنا جملة الرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للأيديولوجيا السياسية في فترة تاريخية ما ولجماعة ما بنيتها اللاشعورية، إنه يعمل على قاعدة لكل مقام مقال، إنه ميكيافيلية سياسة استدعاء ما يناسب الجماعة ومصالحها وتبيئته وفلسفته واقعاً لا تاريخاً"(6).

أعراض أمراض الشخصية السياسية السودانية

 ولأن أنظمتنا السياسية التي حكمت تكاد تكون هي هي؛ فيمكن أن نطلق عليها ما يُسمَّى بأنظمة الطفرة (7)، وهي أنظمة تتشكَّل في ظروف غير طبيعية، كالانقلابات العسكرية مثلاً، وكأنها تأتي بالمصادفة. وهذه الأنظمة غير منطقية وتصرفاتها غامضة وفجائية، فهي تخضع لمزاج الفرد على رأس السلطة ولا يمكن التنبؤ باتجاهاتها أو قراراتها. ثم ما هي الأمراض التي تتحكم  في عمل الشخصية السياسية سيكولوجياً في تعاطيها مع نفسها ومع الآخرين (الحزب؛ المؤسسات، الجماهير.....الخ). قلنا في مقدمة الورقة إن الشخصية السياسية تعاني من عدة إشكالات سايكولوجية  نابعة من أنساق بناء وتكوين العقل السياسي (الحراك الطلابي؛ القبيلة؛ الطائفة؛ العنصرية...الخ). وقد رأينا في الصفحات السابقة أعطاب هذه الأنساق وتأثيرها في السلوك وما يظهر ويتجلى في الفعل السياسي منها:

عقدة العُصاب الجماعي:

يعرّف العُصاب في علم النفس بأنه اضطراب وظيفي دينامي انفعالي في الشخصية نفسي المنشأ يظهر في الأعراض العصابية. وهو ليس له علاقة بالأعصاب، ولا يتضمن أي نوع من الاضطراب التشريحي أو الفسيولوجي في الجهاز العصبي، والعصاب كما يراه جورج طرابيشي في قراءته للخطاب العربي هو عجز الإنسان عن الإفلات من قبضة الماضي ومن عبء تاريخه. إنه عقدة العيش في الماضي في مواجهة الحاضر، فالسوداني معجب بماضيه وأسلافه وهو غافلٌ عن الآن والغد.

الحرمان النسبي:

الحرمان النسبي هو مصطلح يستخدم في العلوم الاجتماعية، لوصف مشاعر أو مقاييس الحرمان الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي النسبية وليس المطلقة. يرتبط هذا المصطلح بشكل وثيق بمصطلحات مشابهة مثل الاستبعاد الاجتماعي والفقر. يترك الحرمان النسبي عواقب مهمة على السلوك والمواقف، بما في ذلك مشاعر الضغط النفسي، والمواقف السياسية والمشاركة في العمل الجماعي. يرتبط المفهوم بدراسات الباحثين لمجالات متعددة في العلوم الاجتماعية (8).

على سبيل الاستعارة؛ فإن استبعاد الدولة للمواطنين يعني إقصاءهم عن حقوقهم في قطاعات مختلفة، وأخطر ما في الأمر أن منطق الاستبعاد يعني اختزال القيمة الوجودية للمواطنين كفاعلين وذوات بشرية لها حقوق وامتيازات بما في ذلك الهيبة والكرامة، ولذلك يبدو المقصيون عن المشهد كما لو أنهم يؤدون واجبات دون أن تكون لهم حقوق، وهذا كله يعني أن الاستبعاد يقود ضمناً إلى الحرمان.

هذا الحرمان المتولد عن الإقصاء، يُنتج مشاعر الاستياء، والحقد، والكراهية، والعداء داخل الأفراد أو التيارات المخالفة لتوجهات أحزابها، وتعد هذه الميول بمثابة القاعدة الحافزية للثورة، وبشكل خاص بعد أن تتكثف، ويلعب الزمن دوراً بالغ الأهمية في تفاعله مع العلاقة الاستبعادية والإقصائية وتكثيف هذه الميول. وطالما أن عملية الاستبعاد نابعة من رغبة وإرادة أصحاب المواقع العليا في الدولة أو الحزب المعين، فإن العلاقة الاستبعادية بالضرورة فاسدة ولا أخلاقية. ومن هنا، ليس من المستغرب أن تقترن عملية الاستبعاد باستخدام القهر والاستبداد، وهذا بدوره يؤدي إلى تكثيف إضافي واحتقان أشد لمشاعر الحرمان. وكلما تقادم الزمن؛ يقود استمرار عملية الاستبعاد والإقصاء إلى تفاعل الحرمان والقهر، مما يُنتج مادة نفسية اجتماعية تختزن طاقة هائلة للثوران. ولذلك تنفجر الثورات الاجتماعية دون تخطيط ولا تنظيم، إنما بتلقائية، وعفوية، وانفعالية، واستثارة أساسها تفاعلات تاريخية وحدث مثير، وهو ما حدث بالتفاصيل في بلادنا في ظل الحرب التي نعيشها الآن (15 أبريل)، وبالطبع ينطبق التفصيل على أحزابنا السياسية؛ فأحزاب كثيرة انشقت على نفسها والتاريخ مبذول.

عقدة المؤامرة:

يحلل المؤرخ الأمريكي Daniel Pipes في كتابه حول الشرق الأوسط التخوفات من المؤامرة؛ والتي يرى فيها أن الطبيعة الاستبدادية للأنظمة هي التي تجعلها تعتمد نظرية المؤامرة التي تعفيها من البحث عن الأسباب العلمية لحقيقة أوضاعها الدّاخلية والتنصل من مسؤولياتها من خلال إلقاء اللّوم على قوى خارجية أو حتى قوى متخيلة وخرافية. إن هذا التحليل ينطبق على نخبنا السّياسية المتحكمة في أحزابها سياسياً ومالياً؛ وكذا النخب التي تدير الدولة والتي لا ترى في ما يشهده المجتمع من احتجاجات مطلبية مشروعة إلا مؤامرة تنسج خيوطها أطراف خارجية؛ مثلما يظهر أيضاً في المشهد الحزبي حين تطالب قطاعات واسعة في حزب ما بإصلاح وتصحيح الأمور وتغيير طريقة إدارة أحزابها لتصبح أكثر فاعلية؛ ولن تلبث إلا قليلاً حتى توصم بأنها متآمرة مع قوى وجهات ما؛ وذلك إعمالاً لنفس النظرية القائمة على المؤامرة التي تحولت إلى ”مسألة إيمان بدون دليل”، حسبما يقول الكاتب السياسي مايكل باركون، وهو ما يجعل الاعتقاد الراسخ بفكرة المؤامرة، يغلق أي إمكانية للاجتهاد والنّقد الذّاتي.

إنّ من مفاعيل عقدة المؤامرة المتحكمة في ذهنيتنا، أننا نستغرق في قراءة نوايا الآخر أكثر مما نستغرق في قراءة واقعه وخططه وبرامجه، لأننا مسكونون بهاجس التآمر والخيانة، وهو ما يحجب عنا رؤية الواقع على أساس النوايا، بل على أساس الأفعال فقط. نظرية المؤامرة التي تتبعها الأنظمة السياسية في بلادنا تفسّر أن هذه الأنظمة والأحزاب تهوى تبرير فشلها، والتهرب من مسؤولياتها، بلجوئها لنظرية المؤامرة مما يبرر القمع الذي تمارسه على عضويتها داخلياً وما يتبدّى في الفضاء السياسي العام.

التخوين:

إن بنية العقل السياسي السوداني تحتاج إلى تغيير بشكل جذري حتى يتحول من عقل تخويني وإقصائي إلى عقل يمكنه استيعاب المشكلة.  يصدر التخوين؛ عن عقلية إقصائية وعن سلوك يحيل إلى (القتل الرمزي) وكلاهما يرتبط بأيديولوجيا أحادية إقصائية؛ وهو أزمة سلوكية وفكرية سياسية بل أخلاقية تعاني منها جميع التيارات السياسية على المستوى العام؛ هذه الأزمة أنجبت فقراً سياسياً تمخضت عنه نزعات شمولية جعلت زعماء أحزابنا السياسية مستبدين ومحتكرين للدور التاريخي، الأمر الذي يُمكّن ومكّن الانتهازيين من الاستحواذ على الممارسة السياسية، والأمر يتبدّى جليّاً في شكل الدولة السودانية بعمرها الذي يجاوز الستة عقود ونيف.

يبدأ الأمر عادة بتحفظات أفراد أو مجموعات على بعضهم البعض داخل الحزب الواحد أو في الفضاء السياسي العام؛ بسبب خلاف في الرأي السياسي حول قضية من القضايا، ثم يستفحل ليبدأ (الهمز واللمز) وينتهي الأمر إلى التخوين، الأمر الذي يعني إخراج هذا الشخص أو تلك المجموعة من دائرة الانتماء الواسعة والدخول في دائرة الجريمة (المزعومة)، وهذا الأمر قد يتخذ طابعاً علنياً أو سرياً لا يشعر معه المستهدف إلا بآثاره. وقد يكون الخلاف شخصياً وينتهي سياسياً أو العكس. وهذا الأمر يهدّد بناء الوطن والديمقراطية نفسها، كما يهدد أي إصلاح حزبي أو تطوير. وكما يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي: “إذا غابت الفكرة، بزغ الصنم”، فإن ظاهرة التخوين ترتبط ارتباطاً وثيقاً بغياب الرؤية السياسية وآليات إدارة الخلاف وفهم أساسيات العمل السياسي.

 خاتمة: هل يمكن إعادة البناء (الشخصية أم العقل السياسي)؟

ولأن العقل السياسي غير مرئي إلا من خلال أنماط السلوك والخصائص التي تظهرها الشخصية السياسية؛ فيمكننا من خلال تحليل تلك الأنماط والسلوك الشخصي الذي يتبدّى في القول والفعل، أن نحدد الأعطال والخلل في العقل السياسي؛ بالنظر إلى أن السلوك هو نتاج النسق أو نظام المعرفة والذي يحدث وفق تراكم زمني طويل؛ فإن إصلاح السلوك السياسي هو مدخل أول لإصلاح العقل السياسي.

يظل العمل السياسي يجترُّ سياسات الفشل، وتتجدد أعطابه في الجسد السياسي؛ إذا لم يكن هناك إعادة صياغة شاملة للعقل السياسي، مُستخدمين في ذلك التطورات الهائلة في العلوم والمعرفة والتكنولوجيا؛ فلقد رأينا أبنية الخلل في العقل منذ نشأته. ولأنه نشأ ضمن عدة عقول صاغت مفاهيمه ضمن إطار العقل المجتمعي والذي هو بطبيعة الحال مكونٌ من أنساق عقلية متباينة، فهو يحتاج إلى تفكيك ونقد ووضعه على المشرط بشكل جذري يقضي بالاعتراف بما أحدثه من خراب سياسي وأخلاقي وتفكيك قيمي للمجتمع والناس والمؤسسات ونحمّله المسؤولية لأنه الفاعل الرئيسي. 

 وليس يكفي أن نثور على العقل السياسي وحده، بل نحتاج إلى ثورة ثقافية شاملة، إذا ما أردنا إصلاح أعطاب البناء السياسي؛ ثورة على كل الأنساق والأنظمة المعرفية والثقافية والبيداغوجية...الخ التي تشكله. يحتاج السودانيون لأن يتفقوا على موضعة السودان نفسه ضمن أطر تحقق التطور والتقدم بطرحهم لأسئلة جريئة وشجاعة حول واقعهم.

***

أحمد يعقوب

...............................

هوامش:

* كاتب وفيلسوف فرنسي، عمل مستشاراً للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للشؤون الخارجية. طور نظرية "الميديولوجيا"، وأسس مجلة  Médium، كما أسس "المعهد الأوروبي للدراسات الدينية"، وكان عضواً في أكاديمية غونكور. نشر العديد من المقالات والكتب. من مؤلفاته: ثورة في الثورة؛ مذكرات برجوازي صغير؛ نقد العقل السياسي؛ الميديولوجيا.

** مفكر وفيلسوف مغربي له أكثر من ثلاثين عملاً في مختلف الحقول المعرفية أبرزها نقد العقل العربي.

مراجع:

1. وحدة الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والإثنية في المعهد العالمي للتجديد العربي محاضرة فكرية بعنوان "أنثروبولوجيا القبيلة في العالم العربي: نزعات نقدية"، 14/7/2021

2. Rogers Brubaker, Ethnicity without Groups (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2004

3. john D. Brewer, «Sectarianism and Racism, and their Parallels and Differences,» Ethnic and Racial

4. عزمي بشارة - الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة المركز  العربي للابحاث ودراسة السياسات – الطبعة الأولى 2019

5. سيجموند فرويد – مدخل إلى التحليل النفسي – ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة للطباعة والنشر الطبعة الاولى 1980 بيروت (انظر المحاضرة الثانية المعنونة بالهفوات).

6. د. محمد عابد الجابري - العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الرابعة أغسطس 2000 .

7. د. محمد المهدي- - علم النفس السياسي – رؤية مصرية عربية مكتبة الانجلو مصرية 2007.

8. خواض مصطفى: الحرمان النسبي كمدخل تفسيري للعنف والتمرد داخل الجامعات المجلة الجزائرية للدراسات السياسية 6.6.2022

مصادر:

1- الدولة والقبيلة في السودان: القبيلة في دارفور مثلاً - عبد الله أحمد جلال الدين محمد – المركز الديمقراطي العربي.

2- غلاب، نجيب. 2010. لاهوت النخب القبليّة. بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام.

3-  "relative deprivation". Oxford Reference (بالإنجليزية). Archived from the original on 2021-04 -10. Retrieved 2021-04-1

4-  محمد عابد الجابري – العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الرابعة 2000.

5- د. برهان زريق – العنف السياسي الطبعة الأولى 2016.

6- كريستيان تيليغا – علم النفس السياسي سلسلة عالم المعرفة مايو 2016.

7- العشيرة والدولة في بلاد المسلمين – ترجمة رياض الكحال، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات 2019.

8- محمد ابو هنطش- علم الاجتماع السياسي ؛ قضايا العنف والحرب والسلام – دار البداية 2016

10- مارفن هاريس- التحريم والتقديس ؛ نشوء الدول والثقافات – المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات  2020.

11-  عبدالرحيم العطري- من القبيلة إلى الدولة الانتقال العسير – موقع TRT عربي على الإنترنت.

12- د. محمد ربيع - الأنا والآخر من خطاب القبيلة إلى الخطاب الديني- صحيفة الرياض.

13- محمد نجيب بوطالب: الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر- دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية 2012: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات.

14- عبدالمنعم أبو إدريس "مدخل إلى القرن الأفريقي. القبيلة والسياسة" دار العربي.

” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ) “ (سنن أبي داود باب العصبية رقم الحديث: 5121).

” ولكي نقيس التسامح، يبدو واضحاً أننا لا نكون بحاجة إلى قياس سلوكنا واتجاهاتنا نحو جماعات نحبها، لأن جوهر التسامح يكمن في الاستعداد للعيش جنباً إلى جنب مع أفراد نعارضهم، وأفكار لا نتفق معها. يبدو واضحاً تعريف مقولة فولتير الشهيرة: أنا أمقت وجهات نظرك، لكن على استعداد لأن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عنها “([1]).

إن عدم التسامح السياسي يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات منها التصلب بالرأي والتسلطية والتفاؤل، ومنها أيضاً عدم الأمن النفسي والدوغمائية وعدم الثقة بالآخرين، أو الحقد على بعض، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديموقراطية فيما يصلون إليه من قرارات.

يعتبر علم النفس السياسي* مجال أكاديمي متعدد الاختصاصات، يقوم على فهم السياسة والسياسيين والسلوك السياسي من منظور نفسي. وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه، فيستخدم العلماء علم النفس كمرآة لفهم السياسة، وكذلك السياسة مرآة لعلم النفس. ويعد هذا العلم مجال متعدد الاختصاصات، لأنه يأخذ مادته من مجموعة واسعة من التخصصات الأخرى، بما في ذلك: علم الإنسان، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، والقانون ، ووسائل الإعلام والصحافة بالإضافة إلى التاريخ. ويعرف مورتون دويتش علم النفس السياسي بأنه: دراسة تفاعل علم السياسة مع علم النفس، خاصة أثر علم النفس في السياسة. ومن الجدير بالذكر أن هذا العلم الوليد قام على أسس موجودة في العلوم النفسية وهي دراسات الشخصية، وسيكولوجية وديناميات الجماعة والقيادة، والأسس النفسية لتكوين الاتجاهات، ومهارات حل الصراع ... وغيرها، مع تعديل جوهري وهو تطبيق كل ذلك على مجموعات كبيرة وقوى ضغط ومصالح متباينة.

يهدف علم النفس السياسي إلى فحص مسائل التعصب والعنصرية والتمييز العرقي والتسامح ومحاولة فهمها. عن طريق النظريات النفسية الكثيرة مثل: نظرية الإحباط والعدوان، والنرجسية ويستطيع علم النفس السياسي مساعدة صناع القرار في اتخاذ القرارات([2]) الصائبة في مجال العلاقات الدولية، وفي التنبؤ بردود الفعل المحتملة للدول الأخرى لتلك المبادرات والاتفاقيات السياسية.

بالمقابل ركز علم نفس العنصرية عبر التاريخ على سيكولوجية الفرد، كيف تدفع المعتقدات والسلوكيات الفردية العنصرية (المقاربة النفسية الاجتماعية). لكن قيدت رؤية العنصرية من هذا المنظور وحده حدود شديدة. واليوم، يستخدم بعض الباحثين في علم النفس المقاربة الثقافية الاجتماعية ويدافعون عنها، والتي تنظر إلى العنصرية على أنها أفكار وممارسات راسخة في الثقافة وتكون جزءاً لا يتجزأ منها. إذ يشكل الأفراد الثقافة وتشكل الثقافة الأفراد.

بناءً عليه يتساءل علماء نفس السياسة المهتمون بجذور التعصب العنصري من بينهم فيديريكو ولاكس Federico and Luks ، ما الذي يجعل أفراداً عاديين عقلانيين وأصحاء نفسياً يتحيزون ظاهرياً أو باطنياً ضد شخص معين أو جماعة بكاملها، ويمثل هذا التحيز في الحقيقة واحداً من أكبر الألغاز التي يواجهها علم النفس الاجتماعي والسياسي، وربما العلوم الاجتماعية قاطبة، والنظريات النفسية التي تصدت لتفسير العنصرية ونشوء التوترات العنصرية عديدة ومتنوعة، ومن هنا نجد الكثير من هؤلاء العلماء يتصدى لدراسة أسباب انتشار هذه الظاهرة الموجهة نحو جماعة عرقية معينة وتستند إلى نظم من القوة والقمع. يُنظر إلى العنصرية أحياناً بأنها مشكلة مع الأحكام المسبقة العنصرية للفرد، لكن من المهم إدراك أنها متعددة الأوجه ومنهجية.

يذخر التفكير الإنساني بالعديد من التفسيرات العنصرية من حيث تصرفات وإيديولوجيات الفرد العلنية (الفهم الاجتماعي النفسي)، إلا أنها موجودة أيضاً ضمن الأنظمة، المؤسسات، والثقافات (الفهم الثقافي النفسي). بهذه الطريقة، فإن العنصرية جزءً لا يتجزأ من واقع الحياة اليومية. وبما أن التمييز العنصري هو جزء من الحياة اليومية، الأنماط الثقافية والقصص التاريخية، فمن الصعب أحياناً على أفراد المجتمع رؤية كيف تحرض الأفكار المألوفة والعادية وجهات النظر والسلوكيات ذات الطابع العنصري. كما لا يتمحور التمييز العنصري فقط حول إظهار الأفراد الأفكار المسبقة العرقية أو الانخراط في أفعال مباشرة تنم عن التمييز العرقي. إذ تكون أحياناً أقل وضوحاً وأكثر مكراً، وتؤثر على المؤسسات مثل نظام العدالة*، حيث يواجه المتهمون ذوو البشرة السوداء أحكاماً أقسى مقارنة بالمتهمين البيض بنفس الجريمة على سبيل المثال.

قد يشير تزايد التعبيرات العلنية عن التحيز العرقي أن الأحكام المسبقة العنصرية (وبالتالي العنصرية) أقل تطرفاً في أمريكا المعاصرة على سبيل المثال. لكن يوضح العديد من علماء النفس أن التحيز العرقي قد دفن لكنه نما وازدهر بأشكال أكثر مكراً، مُقدمين أدلة دامغة على ذلك. وفي حين أن أغلب التصرفات الفردية الصارخة والتي تنم عن العنصرية لم تعد مقبولة في " الاتجاه السائد" في المجتمع الأمريكي المعاصر. إلا أن فهم مجتمعنا لماهية العنصرية يستمر في التطور والتغير.

في حقيقة الأمر، إن مؤسساتنا ليست بعيدة جداً عن سنوات الاستعمار والعبودية والفصل العنصري، ولا يزال تجاهل العنصرية أو التغاضي عنها قائماً أو حتى دعمها بشكل نشط في العديد من جوانب الحياة الاجتماعية. لذا يجب علينا في سبيل فهم أفضل لآلية عمل العنصرية، من المهم النظر إلى ما هو أبعد من سيكولوجية الفرد أي إلى الممارسات المنهجية والثقافية التي تستمر في دعم العنصرية.

أجرت سوزان فسك Susan Fiske  القدر الأكبر من البحوث حول العنصرية racism والتعصبprejudice   والتمييز discrimination في الولايات المتحدة. وتفسر فسك ذلك بقولها: " إن قروناً من الهجرات الشديدة التنوع التي دخلت في أمة واحدة، دفعت القضايا الإثنية إلى السطح في الولايات المتحدة أسرع من أي مكان آخره. ولكنها تؤكد أن كثيراً من النظريات التي استخدمت لتفسير العنصرية تنطبق على التعصب في السياسة الأوروبية بالقدر الذي تنطبق فيه على التعصب في السياسة الأميركية ". والحقيقة أن معظم النظريات التي تفسّر هذه الظاهرة يمكن تطبيقها على أي منطقة من العالم حيثما يكون هناك فروق عنصرية وإثنية بارزة داخل الدولة الواحدة.

إن النظريات النفسية التي تصدت لتفسير العنصرية ونشوء التوترات العنصرية عديدة ومتنوعة إلى حد يبعث على الدوار في الحقيقة، ولا يسعنا استعراضها على قدم المساواة هنا، ولكننا نستطيع الإشارة إلى الخطوط العامة للواحدة منها بالتأكيد.

كما تذهب فسك أننا نستطيع تصنيف جميع هذه النظريات في صنفين: نظريات تفسر ظاهرة التعصب على مستوى فردي (individual - level theories) ونظريات تفسرها على مستوى السياق أو الإطار المحيط (contextual - level theories). بوجه عام يمكننا النظر إلى العنصرية، كغيرها من الظواهر السياسية، باعتبارها نتاج الاعتقادات التي يحملها أفراد معينون أو نتاجاً للشخصيات الخاصة بهؤلاء الأفراد، أو قد تكون نتاجاً لعوامل موقفية تشجع أو تسمح بممارسة سلوك عنصري. وفي هذا المقال سنحاول تفسير العنصرية من خلال مناقشة نظرية الشخصية التسلطية، والسيطرة الاجتماعية، ونظرية التنميط الاجتماعي (الوصم الاجتماعي)، من خلال ما يلي:

- نظرية الشخصية التسلطية([3]): يرى بوب ألتيماير  Bob Altemeyer أن أساس نظرية الشخصية التسلطية القديمة قد ارتبط بتيودور أدورنو Adoro Theodore وزملائه، ولكنه حاول أن يزيل شيئاً من الغموض الذي اعترى تلك النظرية. فقد حددت نظرية أدورنو في الأصل تسع سمات شخصية يفترض أن تميز الجناح اليميني التسلطي من الناس، لكن ألتيماير اختصر هذه السمات في ثلاث مجموعات من الاتجاهات، وهي: الخضوع للسلطة: (ويعني ذلك ميلاً شديداً لدى الفرد إلى الخضوع للسلطة). والعدوان التسلطي (العدائية تجاه الجماعات الخارجية). والتقليدية: وتشير إلى الامتثال للمعايير الاجتماعية وعدم الاستعداد للتصدي للواقع القائم)، وأطلق ألتيماير على الصيغة المنقحة من النظرية تسمية (تسلطية الجناح اليميني) وطور مقياساً لقياس درجة اتسام الأفراد بهذه الصفات. ويمكن النظر إلى العنصرية ببساطة، من وجهة نظر ألتيماير، كواحدة من خصائص هذا الصنف من الشخصية التي تتسم بالتعصب الشديد إزاء الجماعات الخارجية من أي نوع، بما في ذلك الأميركيين من أصول إفريقية. ويقول ألتيماير بهذا الصدد: يحمل أصحاب هذه الشخصية الكثير من التعصبات، فهم معادون لكثير من الأقليات، ويظهرون تعصباً على الجميع على قدم المساواة. ولكنهم لا يدركون في العادة أنهم متمرکزون حول ذواتهم، ولا يرغبون في اكتشاف ذلك، وهم على استعداد دائماً لمساعدة الحكومة في اضطهاد أي جماعة تخطر ببالك، بما في ذلك هم أنفسهم.

وتثير نظرية التسلطية اليمينية، التي يطرحها ألتيماير إشكالية أخرى تتعلق بالتمييز بين الموقفية والنزوعية. فمن الناحية الأولى، ليس هناك من شك في أن الأفراد يصبحون متعصبين نتيجة للبيئات أو الظروف التي يجدون أنفسهم فيها، وليس لأنهم ولدوا على هذه الشاكلة. وبهذا المعنى تكون معظم النظريات موقفية في جذورها، لأن الناس لا بد من أن يحصلوا على نزعاتهم من مكان ما والاستثناء على ذلك هو النظريات البيولوجية التي تؤكد أننا نولد بشيء من النزعات الموروثة في الأقل ولا نولد صفحات بيضاء.

ويعتقد ألتيماير أن اليمينيين التسلطيين يتعلمون اعتقاداتهم التسلطية في الطفولة  كما يفعل ذلك غير التسلطيين،  لكن الفروق تكمن في أن غير التسلطيين يكونون أكثر وعياً بأنفسهم، ويعملون على تعديل اعتقاداتهم المبكرة بالخبرة، في حين أن التسلطيين يحافظون على تلك الاعتقادات. ومن ناحية ثانية، يمكن اعتبار هذه النظرية نظرية نزوعية من حيث إن الاتجاهات التسلطية، وإن كانت متعلمة، إلا أنها تمثل نزعات تستعصي على التغيير لاحقاً، وتستمر مدى الحياة. ومع أن السبب البعيد لهذه النزعات قد يتصل بعوامل موقفية، إلا أن السبب المباشر، أو القريب، يكون سبباً نزوعياً.

ومع أن نظرية ألتيماير أصبحت معروفة على نطاق واسع الآن واكتسبت بعض المناصرين، إلا أنها لا تتمتع بالقبول الذي تتمتع به نظريات أخرى في هذا المجال. وبعيداً عن الانتقادات الأساسية حول هذه النظريات المبسطة في الشخصية، فإن نظرية الشخصية التسلطية تدعو إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل مناطق بكاملها تعبر عن عواطف عنصرية شديدة إزاء جماعة أو جماعات معينة أو تمارس التمييز ضدهم، أو تفعل الأمرين معاً. وقد يكون نظام جيم کرو  Jim Crow الذي قام على الفصل العنصري في الولايات المتحدة الجنوبية قديماً هو المثال الكلاسيكي لهذه الحالة أو الإشارة هنا إلى تعصب جماعة بكاملها وليس إلى تعصب أفراد.

- نظرية السيطرة الاجتماعية: يعتبر جيم سيدانيوس Jim Sidanius هو المدافع البارز عن نظرية السيطرة الاجتماعية في العلاقات بين الجماعات. وهذه النظرية، خلافاً لسابقتها، نظرية عامة في العلاقات بين الجماعات، ويمكن الاستناد إليها الفهم أنواع مختلفة من الصراعات غير الصراعات القومية.

وتركز هذه النظرية على الدافع إلى السيطرة الاجتماعية والمقصود هنا سيطرة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، وتميز بين الأفراد من حيث توجهاتهم نحو هذا النوع من السيطرة، فالأفراد الذين يظهرون توجهاً قوياً نحو السيطرة الاجتماعية يرون جماعتهم على أنها جماعة مختلفة - تتميز عن الآخرين - ويرغبون في أن تحتل مركز السيطرة في المجتمع. هذه النظرية وإن كانت أكثر تعقيداً من سابقتها، إلا أنها تشترك معها في جذورها النظرية. وكما سبق أن أشرنا، فإن هذه النظرية تزعم أن الأفراد ذوي المكانة الميدانية يمكن أن يأخذوا بالأساطير التي تسبغ شرعية على التراتبية القائمة في المجتمع إلى حد يجعلهم يحابون الجماعة الخارجية ذات المنزلة العالية. ويعتبر سيدانيوس تفضيل السود لـ العم توم، الأبيض أثناء حقبة الفصل العنصري في الولايات المتحدة، أوضح مثال على هذه الظاهرة في العصر الحديث، والتي نجمت عن خضوع السود للبيض تاريخياً.

ولقد كرس أنصار هذه المقاربة الكثير من الجهد لدراسة العنصرية على وجه الخصوص. ووفقاً لما ترى فيليشيا براتو Felicia Pratto وزملاؤها، فإن التوجه للسيطرة الاجتماعية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنصرية المناوئة للسود، والتعصب على مجموعات الأقليات بشكل عام. وتؤكد فيليشيا وزملاؤها أن إيديولوجية العنصرية المناوئة للسود لم تتمثل في أفعال شخصية تمييزية فحسب، بل شملت تمييزاً مؤسسياً ضد الأميركيين الأفارقة في المجالات المختلفة، مثل البنوك، وهيئات النقل العام، والمدارس، والكنائس، وقوانين الزواج، ونظام العقوبات. ولا تأتي النظرية بالكثير عن المصدر الذي خرجت منه الأساطير المشرعة للعنصرية أو طبيعة هذه الأساطير أكثر من القول إنه يجري تناقلها من خلال الجماعات المسيطرة، غير أن أنصار هذه النظرية يرون أن المصدر الذي تنبثق منه الإيديولوجية العنصرية، والأشكال التي تأخذها ليست ذات أهمية. ومن هنا فإن هذه النظرية لا تمتلك الكثير لتقوله عن المكنزمات النفسية التي تعزز التفكير العنصري، على الرغم من أن طبيعتها غير المحددة تسمح بتطبيقها على نطاق واسع من مواقف الصراع بين الجماعات.

- نظرية التنميط الاجتماعي (الوصم الاجتماعي) ([4]): تعود جذور هذه النظرية إلى خمسينيات القرن الماضي كتفسير للسلوك الانحرافي ويعتبر عالم الاجتماع الأمريكي " أدوين ليمرت " أول من تحدث عنها، وكلمة (وصم) تعني باليونانية النقطة السوداء في الصفحة البيضاء، إذن فهي تصمها أو تميزها. وفي اللغة العربية هو العار والعيب. اصطلاحاً هي صورة ذهنية سلبية تلتصق بالفرد كتعبير عن الاستياء والاستهجان لهذا الفرد نتيجة اقترافه سلوكاً غير سوي يتعارض مع القيم والمبادئ السارية في المجتمع([5]).

وفي سياق أدبيات علم النفس السياسي تعتبر واحدة من النظريات الواقعة ضمن المعسكر النزوعي التي حظيت باهتمام واسع في السنوات الأخيرة. وكواحدة من نظريات العنصرية، تُرجع نظرية التنميط هذه الظاهرة إلى الطريقة التي يصنف بها العقل البشري المعلومات. بالمقابل تنطبق هذه النظرية أيضاً على الصور النمطية العنصرية في هذا النطاق. ينبثق التنميط العنصري جزئياً، وفقاً لهذا المنظور، من حاجة الإنسان الأساسية إلى تبسيط الواقع، ووضع الناس والأشياء في أصناف. وتفيد فسك وتايلر في كتابهما الكلاسيكي المعرفة الاجتماعية، الصادر عام 1984 أن النظرة إلى الصور النمطية كجانب اعتيادي من جوانب العملية المعرفية، حين تطبق على الناس، أصبحت مقبولة على نطاق واسع، وهي تختلف اختلافاً بيّناً عن النظرة التقليدية إلى الصور النمطية كظاهرة غير عقلانية معزولة عن غيرها من العمليات المعرفية. ويبدو أن الصور النمطية السلبية تتكون، في جانب منها، نتيجة لنزعتنا إلى إقامة ارتباطات وهمية بين الأفراد والجماعة التي ينتمون إليها في نظرنا، وتفيد فسك وتايلر، في هذا الصدد: قليلاً ما يتصل أعضاء جماعة الأكثرية بأعضاء من جماعة الأقلية (هذا من جهة، ومن جهة أخرى قليلاً ما يصدر عن الناس سلوك سلبي لأن السلوك الإيجابي أو المحايد هو الغالب)، وربما تُقيم جماعة الأكثرية ارتباطاً وهمياً بين مثل هذين الحدثين النادرين (أي عندما يصدر سلوك سلبي عن فرد من جماعة أقلية)، وتستنتج أن أعضاء جماعة الأقلية أكثر ميلاً إلى القيام بالسلوك السلبي من جماعة الأكثرية.

ولعل المثال التالي يوضح مفهوم الارتباط الوهمي هذا. تخيل مثلاً أنك طالب جامعي أبيض من منطقة ريفية تستأجر شقة من مالك باكستاني في مدينة ليدز بإنكلترا. والباكستانيون يشكلون أقلية كبيرة في المملكة المتحدة، ولكنهم يفضلون الإقامة في المدن الكبرى في الشمال والوسط، مثل بيرمنغهام، ومانشستر، وليدز. ودعنا نتخيل أن الماء أخذ يتسرب من سقف شقتك، لكن المالك لم يرد على مكالماتك ورسائلك المتكررة طالباً إليه إجراء الإصلاح اللازم، ونتيجة لذلك نشأ لديك نفور شديد منه واستغراب، وقررت الانتقال من الشقة بأسرع ما يمكن. ففي مثل هذا الموقف، وخصوصاً إذا لم يكن لديك أصدقاء باكستانيون، ولم يكن لديك كثير من العلاقات مع باكستانيين آخرين، أي لا يوجد لك علاقة بأحدهم على الإطلاق، فإنك ستميل على الأرجح إلى استنتاج وجود صلة (أو ارتباط وهمي) بين سلوك هذا الشخص والباكستانيين کجماعة. وقد تجد نفسك تنعت الباكستانيين جميعاً بنعوت عنصرية، على الرغم من أنك لم تعتبر نفسك يوماً شخصاً متعصباً. ومن حيث إن هذه المقاربة المعرفية التي نحن بصددها تفترض كذلك أننا " علماء بالفطرة "، فقد يجد الواحد منا نفسه منقاداً إلى بناء استنتاج غير  سليم على أساس من حالة منفردة واحدة.

وليس مستبعداً أن تتطور لدينا مشاعر عنصرية إزاء الباكستانيين في المثال السابق. أما إذا كان لدينا معرفة بعدد كبير من المالكين وكان لدينا خبرة مماثلة مع معظمهم، فإننا قد تلحق هذا الفرد وصمة المالكين، بدلاً من وصمة  الباكستانيين. وستؤدي تلك الحالة إلى مشاعر تعصبية على جميع المالكين بدلاً من الباكستانيين، وعليه، فإن نظرية الوصم ترى أن العنصرية ليست أمراً حتمياً، فهي تعتمد على الوصمة المستثارة، وعلى مخزون الوصمات الذي يمتلكه الفرد ومضامينها. وهذا هو العنصر الذي يجعل مقاربة الوصمات مقاربة نزوعية من حيث الأساس.

وقد جرت دراسة التنميط ودوره في التعصب منذ بداية الثلاثينيات في الأقل، وكانت معظم البحوث فيه تنطلق من منطلق فرويدي کلاسيکي، أو تحليلي نفسي، وتنظر إلى العنصرية كشكل من الإسقاط يقوم فيه أفراد مضطربون نفسياً بإسقاط مشاعر النقص التي يحملونها على الآخرين، ولكن الرائد الحقيقي لدراسة هذه الظاهرة كان عالم النفس الاجتماعي الشهير غوردون ألبورت* الذي ظل كتابه (طبيعة التعصب) الصادر عام 1954 مؤثراً في هذا المجال لفترة طويلة حتى بعد وفاته.

وقد نظر ألبورت إلى التعصب على أنه كراهية مبنية على تعميم خاطئ ومتصلب، قد يظل شعوراً أو يجري التعبير عنه، وقد يتجه نحو جماعة أو نحو فرد من تلك الجماعة. وعندما وضع البورت كتابه، كان ينظر إلى التنميط العنصري كخلل في الشخصية، ولكنه كان أول من تطرق إلى الفكرة المقلقة بأن العنصرية قد تنجم عن عمليات طبيعية لا تعدو أن تكون جزءاً من العمل المعتادة للذهن الإنساني، وأصر ألبورت على أن العقل الإنساني لا بد من أن يستند إلى التصنيفات ليفكر ويضيف ما أن تتكوّن التصنيفات حتى تصبح الأساس المعتاد للأحكام المسبقة. بذلك مهد ألبورت لتطوير المقاربة المعرفية في التعصب، ولكنه تبنى وجهة النظر القديمة، واعتبر التعصب كراهية غير عقلانية متجذرة تنجم عن الجهل وتعكس مناورات دفاع نفسية يتوسلها ذو البناء الشخصي الضعيف من الناس. كما أكد ألبورت دور العوامل الانفعالية والدافعية في التعصب، الأمر الذي مهد لأجيال من الباحثين أخذ أفكاره والانطلاق بناءً عليها في اتجاهات مختلفة.

وهكذا بنى الباحثون نظرياتهم لاحقاً على أساس هذا البعد المعرفي لتحليل ألبورت، إلا أنهم خالفوا حُججه في بعض الجوانب. وفي نهاية المطاف خلص ألبورت إلى نتيجة مفادها أن (وجود الصور النمطية يقود لا محالة إلى اتجاهات تعصبية).

وفي سياق متصل تتبنى غالبية البحوث في التسامح([6]) السياسي (منحي نزوعي). فقد وجدت الدراسات المبكرة في هذا المجال أن التسامح يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات نسبياً منها: التصلب بالرأي([7])، والتسلطية، والتفاؤل، عدم الأمن النفسي، والدوغمائية*، أو التصلب بالرأي أيضاً، وعدم الثقة بالآخرين. وقد سعت بعض الدراسات في هذا السياق إلى تحليل العوامل التي تؤثر في صنع القرارات المتعلقة بالتسامح، وبالأخص فيما يتعلق بدور الانفعال في صنع القرارات، وهو منظور نزوعي أيضاً من حيث إنه يركز على الفروق بين الأفراد في الاستجابة للبيئة المعلوماتية المحيطة بهم ذاتها. كما تلعب الفروق الفردية دوراً هاماً في اختلاف الناس في الطريقة التي يصنعون بها الأحكام المتعلقة بالتسامح، وفي الطريقة التي يتعاملون بها مع المعلومات الراهنة، فالناس يختلفون في ما يحملونه من نزعات وفيما يصلون إليه من قرارات، وقراراتهم القائمة تلك تؤثر في مدى تسامحهم أو عدم تسامحهم. فقد يختلف الناس، مثلاً، في مستوى معرفتهم السياسية وخبرتهم، وطريقة معالجتهم للمعلومات الجديدة. وهذا يعني أن القرارات المتعلقة بالتسامح هي في نهاية المطاف نتيجة المزيج من العوامل، تتضمن: النزعات القائمة لدى الأفراد والمتعلمة مبكراً في الحياة، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديموقراطية، والمعلومات المحددة المتعلقة بالحالة قيد البحث.

إننا عندما تواجه حجم العنـصرية الكبير في العديد من البلدان، فمن السهل أن تشعر بالعجز أمامه. لكن هناك بعض الأشياء التي يمكنك القيام بها على المستويين الفردي والمجتمعي للتأثير على العنصـرية الشخصية والمنهجية على حد سواء. فيما يلي بعض الإجراءات التي يمكن من خلالها مكافحة العنـصرية: ففي البداية يجب علينا العمل  على بناء نظام قائم على المساواة تشترك فيه المجتمعات كافة بشكل عادل. والانتباه المباشر إلى مشكلة التمييز العنصري بدلاً من إخفائها أو التظاهر بعدم وجودها. كما يجب علينا عندما نواجه موقفاً عنصرياً، أن نتحدى ونسأل الناس عن سبب تفكيرهم بهذه الطريقة وشجعهم على أخذ البدائل بالاعتبار. بالإضافة إلى ذلك ينبغي علينا أن نتذكر أن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها والتحلي بالصبر إذا كان التقدم باتجاهه بطيئاً، فحتى التغييرات الصغيرة بإمكانها أن تؤدي إلى نتائج كبيرة عندما يكون الفعل مستمراً ومتسقاً. كما يجب علينا تعليم الأطفال الاندماج والتعاطف مبكراً حتى يكونوا قادرين على تحديد العنصرية ومواجهتها عند البلوغ، وإجراء بحوث نفسية تتناول كيفية تغيير المعايير الاجتماعية وأفضل الطرق لتطبيق النظم التي تؤدي بالنتيجة إلى تغيير مواقف الناس في المجموعة السائدة (المهيمنة) بحيث تتأثر النظم أيضاً بهذا الاتجاه، والسعي إلى تصميم مناهج تعليمية تتناول تاريخ العنصرية وتعلم التلاميذ كيفية إدراك التحيزات الموروثة لديهم. بالإضافة إلى القيام بعملية التواصل في ظروف مواتية مع مجموعات أخرى، والعمل نحو تحقيق أهداف مشتركة مع أشخاص من أعراق مختلفة. كما يجب علينا السعي إلى تكوين صداقات بين الأعراق (قبول الآخر) ([8]) وتعزيزها بحيث يستطيع أعضاء المجموعات رؤية بعضهم كأفراد بدلاً من اعتبارهم مجرد جزء من الطائفة أو العرق.

باختصار شديد، إن مكافحة العنصرية أبعد من مجرد أن تكون شخصاً (غير عنصري) والتي تعادل أحياناً العنصـرية السلبية، تعلم كيف يكون الفرد مناهضاً نشطاً للعنـصرية وهو أمر أساسي. فعلى سبيل المثال، أظهرت الأبحاث أن اتباع نهج أكثر مباشرة ومناهضة للعنصـرية في تعليم الأطفال عن تاريخ العنصرية له التأثير الأكبر على فهمهم للأثر الحقيقي لها.

وفي الختام، نهى الإسلام عن ممارسة العصبية والعنصرية وحاربها باعتبارها من صفات أهل الجاهلية، وهي في وقتنا الحاضر تلازم الشعوب المتخلفة، والدول الممزقة والمتقدمة أيضاً باعتبارها انعكاساً لتشوهات التربية العقيمة، ومظهر من مظاهر الأمراض الاجتماعية والثقافية، التي تنذر بالعواقب الوخيمة، والنتائج الخطيرة على تماسك المجتمع ووحدته، وفي تجاهل أسبابها ومسبباتها أو التساهل مع متعاطيها محفز لانزلاق المجتمع نحو التناحر فيما بينه، وبالتالي يصبح مجتمعاً ممزقاً يسهل افتراسه.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..............................

- المراجع المعتمدة:

أرلين كونسيك: العنصرية من وجهة نظر علم النفس وما علاقتها بالصحة النفسية؟، ترجمة: هبة مسعود، منصة أوبستان، ديسمبر 12, 2022.

https://2u.pw/QIyXrXb

إيناس صبري عبد المنعم: علم النفس السياسي وسيكولوجية القادة والجماهير، المركز الديمقراطي العربي، 13. يونيو. 2017.

https://democraticac.de/?p=47118#_ftn4

حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثاني، ط1، 2021.

دافيد أو . سيزر وآخرون: المرجع في علم النفس السياسي، ترجمة: ربيع وهبة وآخرون، مراجعة وتقديم: قدري حنفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد:1484، الجزء الأول، ط1، 2010.

دايفد باتريك هوتون: علم النفس السياسي، ترجمة: ياسمين حداد، مراجعة: سامي الخصاونة، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، بيروت، ط1، 2015.

رافع النصير الزغول، عماد عبد الرحيم الزغول: علم النفس المعرفي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2014.

سهيلة عبد الرضا عسكر: الشخصية التسلطية وعلاقتها بالتعصب، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية، المجلد: 12، العدد: 03، 2009.

عبد الكريم بكار:  خطوة نحو التفكير القويم، دار علام، عمان، ط5، 2011.

عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الثاني، ب.ت.

كريستيان تيليغا: علم النفس السياسي؛ رؤى نقدية، ترجمة وتحقيق: أسامة الغزولي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 436، 2016.

محمد المهدي: علم النفس السياسي (رؤية مصرية عربية)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط1، 2007.

ميشيل إ. ماكلو وآخرون: التسامح (النظرية والبحث والممارسة)، ترجمة: عبير محمد أنور، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2057، ط1، 2015.

ميلاد حنّا:  قبول الآخر (فكر واقتناع وممارسة)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998.

Arlin Cuncic, MA: The Psychology of Racism, https://www.verywellmind.com/the-psychology-of-racism-5070459

هوامش

([1])  دايفد باتريك هوتون: علم النفس السياسي، ترجمة: ياسمين حداد، مراجعة: سامي الخصاونة، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، بيروت، ط1، 2015، ص(327).

*  انظر  أيضاً (الفصل الأول بعنوان: علوم النفس التي يعتمد عليها علم النفس السياسي) من كتاب دافيد أو . سيزر وآخرون: المرجع في علم النفس السياسي، ترجمة: ربيع وهبة وآخرون، مراجعة وتقديم: قدري حنفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد:1484، الجزء الأول، ط1، 2010، ص(45 وما بعدها).

([2])  يرى بعض الباحثين أن عملية اتخاذ القرار هي عملية إصدار حكم. فيعرفه هاريسون على أنه عملية عقلية تنطوي على إصدار حكم باختيار أنسب السلوكيات في موقف نعين. بمعنى أدق تعتبر عملية اتخاذ القرار عملية واعية وعميقة تنطوي بشكل أساسي على اختيار أنسب البدائل المتاحة لحل مشكلة أو الخروج م موقف ما. انظر رافع النصير الزغول، عماد عبد الرحيم الزغول: علم النفس المعرفي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2014، ص(314-315).

* العدالة هي مفهوم تعني عدم الانحياز في محاكمة أي إنسان لأي أمر، وهي رؤية إنسانية للمحيط الذي يعيش فیه‌ کل فرد شرط أن ینظم هذه‌ الرؤیة قانون وضعي یشارك في صياغتها الکل بعيداً عن التحکم. فلسفياً: يقوم مفهوم العدالة في الفلسفة غالباً على العلاقة مع الحق، فمن الفلاسفة من قال إن العدالة أساس للحق، كقول أرسطو " العدل هو أن يأخذ كل إنسان ما يستحق "، وأفلاطون " العدالة إنصاف، فالمساواة في الحق ظلم وجور "، وفي الزمن الحديث ڤون هايك الذي خرج من مفهوم الفرد العادل إلى مسؤولية الدولة في تحصيل الحقوق. أما عن أهمية العدالة تنبثق  من خلال السعي إلى تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع، وهذا بغض النظر عن مركز الشخص أو جنسه أو دينه، وبهذا سوف يتحقق الأمن والأمان للجميع وسيكونون قادرين على العيش والقيام بأعمالهم دون الشعور بالخوف من الظلم. نشر المحبة والأُلفة بين جميع أفراد المجتمع.

([3])  الشخصية التسلطية: يعرفها فروم بأنها ميل الفرد  إلى أن يعترف بعجزه من الاستقلال بشخصيته ومن ثم يميل إلى أن يندمج في فرد آخر أو في شيء آخر خارج ذاته لكي يكتسب منه القوة التي تنقصه. أما أدورنو يعرفها بأنها متلازمة من تسعة متغيرات هي التقليدية والخضوع والتسلطي والعدوان التسلطي ومعارضة التأملية والخرافة والنمطية والقوة والخشونة والتدمير والتهكم والاسقاطية والتركيز المفرط على الجنس. ويذهب روكيش بأنها نظام معرفي من الانغلاق الذهني وينتهي بتفتحه وهو خاص بمعتقدات ولا معتقدات الشخص سواء كان عن الحقائق والوقائع والسلطة وكذلك النماذج المتسامحة وغير المتسامحة مع الآخرين. وفي النهاية يرى انكلش هي نمط لشخصية يبني عليها الشخص توقعاته لسلوك الآخرين وتقاوم التغيير وتتسم بدرجات متفاوتة من اليقين الذاتي.  سهيلة عبد الرضا عسكر: الشخصية التسلطية وعلاقتها بالتعصب، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية، المجلد: 12، العدد: 03، 2009، ص(205-251).

([4])  الوصم الاجتماعي أو باللغة الشائعة وصمة العار هي مواقف سلبية أو تمييز يتعرض له شخص بناء على خاصية مميزة له مثل حالة صحية ما أو مرض عقلي أو حتى لأسباب مثل العرق أو الجنس أو الدين. وتعتبر الأمراض العقلية من أكثر الأمور التي تسبب وصمة عار لصاحبها على مستوى العالم، ولذلك فإنها تؤدي غالباً لتأخير العلاج أو حتى عدم الحصول عليه بسبب الخوف من الوصم. ناقشت نظرية الوصم تلك الظاهرة بالنسبة لأصحاب السلوك الإجرامي، وقد ظهرت نظرية الوصم لأول مرة في كتاب           " الانتحار " الذي قام بتأليفه عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم، والذي ناقش فكرة أن الجريمة ليست انتهاكاً لقوانين العقوبات بقدر ما هي فعل مسيء للمجتمع. ولذلك ارتبطت تلك النظرية ارتباط كبير بعلم اجتماع الجريمة، لأن وصم شخص ما بأنه مجرم يجعل الآخرين يتعاملون معه بطريقة أكثر سلبية. أيضاً ترتبط نظرية الوصم ارتباطاً وثيقاً بالبناء الاجتماعي وتحليل التفاعل الرمزي داخل المجتمع، ويرى واضع تلك النظرية أن الانحراف ليس ميلاً متأصلاً داخل الفرد، ولكنه نابع من ميل الأغلبية إلى تصنيف الأقليات بشكل سلبي أو أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم منحرفون عن المعايير الثقافية القياسية للمجتمع. تهتم النظرية بكيفية تحديد الهوية الذاتية وسلوك الأفراد أو تأثرها بالمصطلحات المستخدمة لوصفهم أو تصنيفهم، وكانت تلك النظرية بارزة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بفضل عالم الاجتماع هوارد بيكر الذي تأثر بنظرية اميل دوركايم ، ولا تزال بعض النسخ المعدلة من النظرية شائعة اليوم وقد ساهم في تطويرها عدد أخر من علماء الاجتماع .

([5]) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثاني، ط1، 2021، ص(233).

* غوردون ويلارد ألبورت Gordon Allport‏ (1897-1967) عالم نفس أمريكي. كان ألبورت من أوائل علماء النفس الذين اهتموا بدراسة الشخصية، ودائماً ما يشار إليه بأنه أحد من وضعوا أساس علم نفس الشخصية. أسهم ألبورت في تأسيس معايير القيم، ورفض منهج التحليل النفسي للشخصية، حيث كان يعتقد أنه دائماً ما يتعمق أكثر من اللازم. كما رفض ألبورت أيضاً منهج السلوك، حيث كان يرى أنه ليس عميقاً بالقدر الكافي. كان ألبورت يؤكد على تميز كل فرد، وعلى ضرورة دراسة حاضر كل فرد، وليس ماضيه، لفهم شخصية ذلك الفرد. يعتبر ألبورت من المؤثرين بشكل عميق ومستمر في مجال علم النفس، على الرغم من أن أعماله لم تنل نفس القدر الذي نالته أعمال غيره من الشهرة الواسعة. واكتسب ألبورت جزءاً من أهميته ودوره في علم النفس بسبب براعته في الهجوم، وأفكاره الكثيرة عن العديد من الموضوعات المثيرة للاهتمام (مثل: التعصب والتحيز ، الشائعات، وسمات البشر). ونال ألبورت أهميته أيضاً من خلال عمله بالتدريس، حيث اعتاد أن يترك انطباعاً قوياً ومستمراً في نفوس طلابه، والذين أصبح لكثير منهم شأن كبير في مجالات علم النفس بعد ذلك. ومن ضمن طلاب ألبورت: (جيروم برونر، أنتوني جرينوالد، وستانلي ميلجرام، وليو بوستمان، وتوماس بيتيجرو، وإم بريوستر سميث).

([6])  التسامح: التسامح ببساطة يعنى نبذ المشاعر والأفكار والسلوكيات السلبية تجاه من أساءوا إلينا، واستبدال مشاعر وأفكار وسلوكيات إيجابية بها، فيتيح التسامح لنا أن نعايش مشاعر التعاطف والرحمة والحنان لمن أساءوا إلينا، ونحمل كل هذه المشاعر في قلوبنا مهما بدا لنا العالم من حولنا، والتسامح هو الطريق إلى الشعور بالسلام الداخلي والسعادة، وهو سبيلنا إلى الطمأنينة رغم الشعور بالألم، والاستمرار في الحياة بعد تعرضنا للإيذاء من الآخرين ويساعدنا التسامح على تحمل مسؤولية ما نشعر به، وعدم التوقف عن الأمل لمجرد أننا تعرضنا لألم ما. يُعرف التسامح مع الذات: بأنه الميل لتجنب اللوم الذاتي المفرط، والشعور بالذنب جراء ما ارتكب الفرد من أخطاء في حق الآخرين أو حق نفسه وهو أيضاً اعتراف الفرد بأخطائه والتخلي عن الاستياء الذاتي مع الاعتراف بالخطأ، وتعزيز مشاعر الحب والعطف والسماحة تجاه الذات. أما التسامح مع الآخر: يعرف بأنه عملية متعمدة يتم بمقتضاها التغاضي عن الاساءات الموجهة للذات، من قبل فرد آخر أو أفراد آخرين، وتخفيض الانفعالات والأفكار والسلوكيات السلبية تجاه المُسيء، ويتفاعلان معاً من جديد، ذلك عندما يتسامح المُساء إليه، ولا يظهر أية إرجاع أو ردود أفعال سلبية تجاه المُسيء، وعندما  يحدث التسامح مع الآخر، يحدث التسامح مع الذات كعملية داخلية. ميشيل إ. ماكلو وآخرون: التسامح (النظرية والبحث والممارسة)، ترجمة: عبير محمد أنور، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2057، ط1، 2015، ص(9-15).

([7])  الفكر المتصلب: إن لدى كل واحد منا درجة من التصلب الفكري، وذلك يعود إلى أمرين: الأول، أن من تحليلات القصور الذاتي للعقل البشري أن يظل في حركته متأخراً عن متطلبات الواقع، فهو أثناء عمله يرتكب أخطاء ويوجد مشكلات، ولكن حركته في معالجة تلك الأخطاء والمشكلات تظل بطيئة، وتأتي متأخرة، بسبب نقص ما يتطلب ذلك من شفافية ومرونة. الثاني، أن الواحد هنا لا يستطيع أن يعثر على نحو مستمر على الحواجز التي يقيمها بين التصلب الممدوح الذي يتمثل في استقرار العقائد والمبادئ والمفاهيم الكبرى، وبين التصلب الذهني المذموم الذي يتمثل في نقص المرونة الذهنية، وفي اعتناق بعض المفاهيم الخاطئة التي تجعل المرء فاقداً للرشد الفكري. باختصار  يتصف صاحب الفكر المتصلب بأنه شديد الجمود على أفكاره، وهو غير قادر على التخلي عن آرائه حتى لو بدا له خطؤها، وعلى حين أن صاحب الفكر المرن يذعن للحق، ويتشوق إلى معرفة الجديد سواء أكان موافقًا لما يرى أو مخالفاً له....  لمزيد من القراءة والاطلاع انظر عبد الكريم بكار:  خطوة نحو التفكير القويم، دار علام، عمان، ط5، 2011، ص(77 وما بعدها).

* الدوغمائية: تعني التصلب والتزمت وفرض الرأي بالقوة وليس عن طريق الإقناع والحجة والدليل. والدوغمائية : كلمة يونانية تعني الجمود العقائدي " مذهب أو رأي " والتأييد الأعمى لمبادئ أو مطالب مذهب أخلاقي ما، بدون إمعان والنظر فيها . والمقصود بهذا المصطلح الإشارة إلى النهج الفكري المتزمت والإيمان بامتلاك الحقيقة وإلغاء الآخر. ويعود أصل هذا المصطلح إلى كلمة دوغما الواردة في الفكر الديني المسيحي الكاثوليكي، وتعني المبدأ الذي ينسب إليه الصحة المطلقة، ويدخل ضمن هذا الإطار مفهوم عصمة البابا الكاثوليكية والذي تعتبر تعاليمه رسمياً بمثابة إلهام إلهي. ويستخدم هذا المصطلح اجتماعياً وسياسياً لوصف المناهج والأساليب الفكرية المتعصبة والمتحجرة والتي تجافي المعقولية والمنطق. ومن المعروف أن الحركات السياسية الكليانية مثل: الشيوعية والفاشية، إضافة إلى بعض الحركات الدينية المتزمتة، تعتمد النهج الدوغمائي وتصف كل خروج عن مقولاتها وعقائدها بالانحراف. انظر عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الثاني، ب.ت، ص(697).

([8])  لمزيد من القراءة والاطلاع انظر (الفصل الرابع بعنوان:  ثقافة قبول بين الفرد والجماعي). ميلاد حنّا:  قبول الآخر (فكر واقتناع وممارسة)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998، ص( 90 وما بعدها).

بقلم: فيليب جوف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لا الإلحاد ولا الإيمان يفسران الواقع بشكل كافٍ. ولهذا السبب يجب أن ننظر إلى الحل الوسط بين الاثنين .

إذا كنت لا تؤمن بإله الكتاب المقدس أو القرآن، فلا بد أنك تعتقد أننا نعيش في عالم لا معنى له، أليس كذلك؟ يتورط الناس في ثنائيات التفكير. إذا كنت لا تحب الشيوعية السوفييتية، فلابد أنك تؤيد الرأسمالية على الطريقة الأميركية. حسنًا، إلا إذا كانت هناك آراء سياسية غير هذين الرأيين (والتى بالطبع موجودة). هناك انقسام آخر بين الدين التقليدي والإلحاد العلماني. في أي فريق أنت، ريتشارد دوكينز أم البابا؟ على مدى فترة طويلة من الزمن، توصلت إلى الاعتقاد بأن كلا وجهتي النظر للعالم هاتين غير مناسبتين، وأن كلاهما لديه أشياء حول الواقع لا يستطيعان تفسيرها. في كتابي لماذا؟ الغرض من الكون (2023)، أستكشف الأرضية الوسطى المهملة كثيرًا بين الله والإلحاد.

لقد نشأت دينيا، على الرغم من أن كاثوليكية والدي كانت لها علاقة بتوحيد المجتمع أكثر من قبول العقيدة. منذ سن مبكرة، كان للعالم العلماني من حولي تأثير أكبر بكثير من تأثير مدرسة الأحد، وفي سن الرابعة عشرة عرفت أنني ملحد. لم يخطر ببالي قط أن هناك خيارًا ذا مصداقية بين هاتين الهويتين: الدينية والعلمانية. بالطبع، كنت على دراية بفئة "الروحية ولكن ليست الدينية"، لكنني كنت اجتماعيًا أعتقد أن هذا الخيار لم يكن جديًا وكان في الأساس "تفكيرًا أحمق". وهكذا بقيت ملحدًا سعيدًا لمدة 25 عامًا.

لقد تغير كل هذا منذ خمس سنوات فقط عندما وصلت كعضو هيئة تدريس في جامعة دورهام، حيث طُلب مني تدريس فلسفة الدين. لقد كانت دورة دراسية قياسية للطلاب الجامعيين: تقوم بتدريس الحجج ضد الله، وتقوم بتدريس الحجج لصالح الله، ثم تتم دعوة الطلاب إلى تحديد الحالة الأقوى وكتابة مقال وفقًا لذلك. لذلك قمت بتدريس الحجج ضد الله، بناءً على صعوبة التوفيق بين وجود إله محب وكلي القدرة وبين المعاناة الرهيبة التي نجدها في العالم. وكما في السابق، وجدتها مقنعة بشكل لا يصدق، وتأكدت من جديد في اقتناعي بأنه من المؤكد تقريبًا أنه لا يوجد إله. ثم درست الحجج على وجود الله. ولدهشتي، وجدتها مقنعة بشكل لا يصدق أيضًا! على وجه الخصوص، لم يكن من الممكن الرد على حجة الضبط الدقيق للفيزياء للحياة بالسهولة التي كنت أعتقدها سابقًا (المزيد حول هذا أدناه).

وقد تركني هذا في مأزق كبير. بالنسبة لي، الفلسفة ليست مجرد تمرين تجريدي. أنا أعيش رؤيتي للعالم، ولذلك أجد الأمر مزعجًا عندما لا أعرف ما هي وجهة نظري للعالم. في الأساس، أريد الحقيقة، ولذلك لا أمانع في تغيير رأيي إذا تغيرت الأدلة. ولكن هنا كنت مع أدلة تبدو مقنعة تشير إلى اتجاهين متعارضين! لقد فقدت الكثير من النوم خلال هذا الوقت.

بعد بضعة أسابيع من هذا المستنقع الوجودي، كنت أشاهد بسلام بعض البط وهو يُصطاد في محمية طبيعية قريبة، عندما أدركت فجأة أن هناك حلًا بسيطًا وواضحًا لمعضلتي. إن الحجتين اللتين كنت أجدهما مقنعتين – حجة الضبط الدقيق لـ "الله"، وحجة الشر والمعاناة ضد "الله" – لم تكن في الواقع متعارضة مع بعضها البعض. إن الحجة ضد الشر والمعاناة تستهدف نوعًا محددًا جدًا من الإله، وهو الإله الكلي: كلي المعرفة، كلي القدرة، خالق الكون الخير التام. وفي الوقت نفسه، تدعم حجة الضبط الدقيق شيئًا أكثر عمومية، وهو نوع من الغرض الكوني أو التوجه نحو الهدف نحو الحياة والذي قد لا يكون مرتبطًا بمصمم خارق للطبيعة. لذا، إذا ذهبت لهدف كوني ولكن ليس غرضًا متأصلًا في رغبات إله كلي، فيمكنك الحصول على كعكتك وتناولها من خلال قبول كلا الحجتين.

وهكذا تغيرت نظرتي للعالم بشكل جذري.

أحد أروع التطورات في العلوم الحديثة هو الاكتشاف المفاجئ في العقود الأخيرة بأن قوانين الفيزياء مضبوطة بدقة لتناسب الحياة. وهذا يعني أنه لكي تكون الحياة ممكنة، يجب أن تقع أرقام معينة في الفيزياء ضمن نطاق ضيق للغاية. وكما هو الحال مع عصيدة جولديلوكس، يجب أن تكون هذه الأرقام صحيحة تمامًا، وليست كبيرة جدًا وليست صغيرة جدًا.

ولعل الحالة الأكثر إثارة للدهشة هي حالة الثابت الكوني، وهو الرقم الذي يقيس القوة التي تحرك التوسع المتسارع للكون. الثابت الكوني هو رقم فردي: فهو صغير للغاية ولكنه يختلف عن الصفر. لا تجد عادةً ثوابت أساسية بهذا النوع من القيمة. لكنه عمل جيد يقوم به. لأنه لو كان الثابت الكوني أكبر قليلاً، لكان كل شيء قد انفصل بسرعة كبيرة لدرجة أنه لم يكن من الممكن أن يلتقي جسيمان على الإطلاق. لن يكون لدينا نجوم ولا كواكب ولا أي نوع من التعقيد الهيكلي. ومن ناحية أخرى، إذا كان الثابت الكوني أقل من الصفر، فإنه سيزيد من الجاذبية، مما يعني أن الكون بأكمله سينهار مرة أخرى على نفسه خلال جزء من الثانية. لكي تكون الحياة ممكنة، يجب أن يكون هذا الرقم ضمن الفئة الغريبة والمحددة للغاية التي يحتلها في الواقع: قريب للغاية من الصفر دون العبور إلى السالب. هناك العديد من الأمثلة الأخرى للثوابت المضبوطة بدقة في الفيزياء الحالية.

في الأساس، نحن أمام خيار. أيضاً:

إنها مصادفة أنه من بين جميع القيم الممكنة التي قد تحتوي عليها ثوابت الفيزياء المضبوطة بدقة، تصادف أنها تحتوي على القيم الصحيحة للحياة؛

أو:

والثوابت لها تلك القيم لأنها صالحة للحياة.

الخيار الأول غير مرجح على الإطلاق؛ باستخدام تقدير متحفظ، فإن احتمال الحصول على ثوابت مضبوطة بالصدفة هو أقل من 1 في 10-136. الخيار الأخير يرقى إلى الاعتقاد بأن شيئًا ما على المستوى الأساسي للواقع موجه نحو ظهور الحياة. أنا أسمي هذا النوع من الهدف الأساسي "الغرض الكوني".

كمجتمع، نحن في حالة إنكار إلى حد ما بشأن الضبط الدقيق، لأنه لا يتناسب مع صورة العلم التي اعتدنا عليها. يشبه الأمر إلى حد ما ما حدث في القرن السادس عشر عندما بدأنا في الحصول على أدلة تثبت أن أرضنا لم تكن في مركز الكون، وكان الناس يكافحون لقبولها لأنها لا تتناسب مع صورة الكون التي اعتادوا عليها. . في أيامنا هذه، نحن نسخر من عجز أسلافنا عن متابعة الأدلة إلى أين تقودنا. لكن كل جيل يستوعب رؤية عالمية لا يستطيع رؤيتها أبعد من ذلك. أعتقد أننا في وضع مماثل الآن فيما يتعلق بالأدلة المتزايدة على وجود غرض كوني. نحن نتجاهل ما هو ظاهر للعيان لأنه لا يتناسب مع نسخة الواقع التي اعتدنا عليها. سوف تسخر منا الأجيال القادمة بسبب تعنتنا.

(من غير المرجح أن يكون الضبط الدقيق محض صدفة، مقارنة بحصول لصوص البنوك على المجموعة الصحيحة عن طريق الخطأ)

تُعرف الاستجابة الأكثر شيوعًا عبر الإنترنت للمخاوف الدقيقة باسم "الاستجابة الإنسانية": إذا لم يكن لدى الكون الأرقام الصحيحة للحياة، فلن نكون موجودين للقلق بشأن ذلك، ولذلك لا ينبغي لنا أن نتفاجأ عندما نجد الضبط الدقيق.ابتكر الفيلسوف جون ليزلي* تجربة فكرية حية (معروضة هنا في نسخة معدلة قليلاً) لإظهار أين تسوء الاستجابة الإنسانية. لنفترض أنك على وشك أن يتم إعدامك على يد خمسة رماة خبراء من مسافة قريبة. يقومون بالتحميل، والتصويب، وإطلاق النار... لكنهم جميعًا يخطئون. مرة أخرى، يقومون بالتحميل، ويصوبون، ويطلقون النار... مرة أخرى، يخطئون جميعًا. يحدث هذا مرارًا وتكرارًا لأكثر من ساعة. الآن، يمكنك أن تفكر: "حسنًا، لو أنهم ضربوني، فلن أكون موجودًا للقلق بشأن ذلك، لذا لا ينبغي لي أن أتفاجأ بأنهم جميعًا أخطأوا". لكن لا أحد يعتقد ذلك. من الواضح أنه يحتاج إلى تفسير لماذا أخطأ هؤلاء الرماة الخبراء مرارًا وتكرارًا من مسافة قريبة. ربما تم العبث بالأسلحة، أو ربما يكون ذلك إعدامًا وهميًا. وبالمثل، في حين أنه من الصحيح بشكل تافه أنه إذا لم يكن الكون متوافقًا مع الحياة، فلن نكون موجودين للتفكير في الأمر، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى شرح السبب، من بين جميع الأرقام الفيزيائية التي قد تكون ظهرت، وانتهى الكون بواحد في النطاق الضيق المتوافق مع الحياة.

هل يمكن أن يكون الضبط الدقيق مجرد صدفة؟ في بعض الأحيان، تتجمع الأشياء معًا بطرق مفاجئة وغير متوقعة، دون أن نشعر بأننا مجبرون على افتراض هدف أساسي للواقع. ولكن هناك حدود لهذا. لنفترض أن اللصوص اقتحموا بنكًا شديد الأمان وحصلوا على المجموعة المكونة من 10 أرقام في المرة الأولى. هل سيكون من الممكن أن نقول: "حسنًا، ربما قاموا بتجربة رقم عشوائيًا وصادف أنه الرقم الصحيح"؟ من الواضح أن هذا سيكون أمرًا غير عقلاني للتفكير فيه، لأنه من غير المحتمل جدًا أن يتمكنوا من الحصول على التركيبة الصحيحة عن طريق الصدفة. لكن كون الضبط الدقيق مجرد صدفة هو أمر غير محتمل إلى حد كبير من حصول اللصوص على التركيبة الصحيحة عن طريق الصدفة. إن اعتبار الضبط الدقيق مسألة حظ ليس خيارًا عقلانيًا.

لكن أليس هناك العديد من الأشياء غير المحتملة بشكل لا يصدق والتي نقبلها على أنها مجرد صدفة؟ يعتمد وجودي على مجموعة من الظروف المضبوطة بدقة بشكل لا يصدق: التقى والداي، والتقى والديهما، وهكذا دواليك حتى بداية البشرية. في الواقع، لو أن حيوانًا منويًا آخر قد قام بتخصيب البويضة التي أنجبتني، فلن أكون هنا. يمكن أن يثير الشعور بالدوار للتفكير في مدى احتمال وجود شخص ما على الإطلاق. ومع ذلك، فبينما أعتقد أن هناك توجهًا كونيًا نحو الحياة، فإن ذاتي لم تتضخم (بعد!) بما يكفي لافتراض وجود اتجاه كوني نحو ظهور فيليب جوف إلى الوجود. ماهو الفرق؟

الفرق هو أن الحياة لها قيمة موضوعية، وبالتالي فهي نتيجة ذات أهمية مستقلة عن كونها النتيجة التي حدثت. إن الكون الذي توجد فيه النباتات والحيوانات، والأشخاص الذين يمكنهم الوقوع في الحب والتفكير في وجودهم، هو أعظم بكثير من الكون الذي لا يوجد فيه سوى الهيدروجين. وبهذا المعنى، فإن الأعداد المتوافقة مع مثل هذه الأحداث القيمة تكون مميزة بطريقة لا تتمتع بها القيم المحتملة الأخرى للثوابت. في المقابل، لا يوجد شيء خاص في وجود فيليب جوف، على عكس الشخص الذي كان سيكون هنا لو، على سبيل المثال، كان والدي قد تزوج من امرأة أخرى .

ولتوضيح النقطة أكثر من خلال القياس، قم بمقارنة الحالة التي يفوز فيها شخص عشوائي، جو بلوج، باليانصيب، مع الحالة التي يفوز فيها السيد ريتش، شريك رئيس اليانصيب، باليانصيب. جو بلوج جديرة بالملاحظة فقط نتيجة فوزه باليانصيب، وبالتالي يمكننا أن نقبل أن فوزه كان مجرد صدفة. هذا يشبه إلى حد ما حالتي عندما ولدت بدلاً من شخص عشوائي آخر. لكن هناك أهمية بالنسبة للسيد ريتش بشكل مستقل عن حقيقة فوزه: فهو شريك رئيس اليانصيب. وهكذا، عندما يفوز السيد ريتش، من بين جميع الأشخاص الذين كان من الممكن أن يفوزوا، فإننا نشك في وجود جريمة. وبالمثل، عندما يكون لدينا، من بين جميع الأرقام المحتملة التي ربما ظهرت في الفيزياء، مجموعة نادرة تسمح بظهور قيمة موضوعية، فإننا نشك بحق في أن هذا أكثر من مجرد صدفة.

كثيرًا ما أجد، عندما أناقش الضبط الدقيق على تويتر، أن الناس يعبرون عن شعورهم بأنه من الشجاعة قبول شيء غير محتمل بجرأة، وكأنك لست خائفًا من القيام به. ولكن ليس من الشجاعة تصديق أشياء غير محتملة الحدوث، بل هو أمر غير عقلاني. من وجهة نظري، فإن الالتزام بالهدف الكوني هو الاستجابة العقلانية الوحيدة لأدلة العلم الحالي.

يقدم الله تفسيرًا للضبط الدقيق، لكنه تفسير سيء للغاية. ربما كان من المنطقي بالنسبة لأسلافنا أن الإله الذي هو أعظم منا بكثير يمكنه أن يفعل ما يحلو له مع مخلوقاته. لكن التقدم الأخلاقي علمنا أن كل فرد لديه حقوق أساسية لا يجوز لأي شخص، مهما كان قويا ومتطورا معرفيا، أن ينتهكها.

في كتابي لماذا؟ أركز على عمل فيلسوف الدين العظيم ريتشارد سوينبيرن في الرد على مشكلة الشر. يرى سوينبيرن أن هناك خيرات موجودة في عالمنا لا يمكن أن توجد في عالم أقل معاناة. فإذا كنا نعيش في عالم يشبه عالم ديزني لاند بلا أي خطر أو خطر، فلن تكون لدينا أي فرصة لإظهار شجاعة حقيقية في مواجهة الشدائد، أو الشعور بالتعاطف العميق مع أولئك الذين يعانون. إن غياب مثل هذه الاختيارات الأخلاقية الجادة سيكون له تكلفة باهظة، وفقاً لسوينبيرن.

وحتى لو اعترفنا بأن هذا هو بالفعل تكلفة، فأنا لا أعتقد أن الله لديه الحق في التسبب في المعاناة أو السماح بها لتمكين هذه الخيرات. هناك حجة كلاسيكية ضد الأشكال الفظة من النفعية تتخيل طبيباً يستطيع إنقاذ حياة خمسة مرضى عن طريق قتل أحدهم وأخذ أعضائه. وحتى لو تمكن الطبيب من زيادة الصحة بهذه الطريقة، فلن يكون له الحق في قتل واستخدام المريض السليم، على الأقل ليس بدون موافقته. وبالمثل، حتى لو كان لدى الله غرض جيد في ذهنه بالسماح بالكوارث الطبيعية، فإن ذلك من شأنه أن ينتهك حقوق الصحة والسلامة للأشخاص المتضررين من تلك الكوارث.

(ربما يشعر مصممنا المحدود بالفزع بشأن مدى الفوضى الحتمية التي تتسم بها هذه العملية، ولكن إما أن يكون ذلك أو لا شيء)

ولحسن الحظ، هناك احتمالات أخرى. دافع توماس ناجل عن فكرة القوانين الغائية: قوانين الطبيعة ذات الأهداف المضمنة فيها. بدلًا من ترسيخ الهدف الكوني في رغبات الخالق، ربما يكون هناك ميل طبيعي نحو الحياة المتأصلة في الكون، وهو ميل يتفاعل مع قوانين الفيزياء المألوفة بطرق لم نفهمها بعد.

بالنسبة للبعض، فكرة الهدف دون توجيه العقل لا معنى لها. والاحتمال البديل هو مصمم غير قياسي، مصمم يفتقر إلى الصفات "الكلية" ــ كلي المعرفة، وكلي القدرة، والخير تمامًا ــ التي يتمتع بها الإله التقليدي. ماذا عن إله شرير؟ وكما اكتشف ستيفن لو بالتفصيل، فإن فرضية الإله الشرير تواجه "مشكلة الخير" التي تعكس مشكلة الشر التي تواجه الإله الخير التقليدي: إذا كان الله شريرًا، فلماذا خلق الله الكثير من الخير؟ أعتقد أن الخيار الأفضل هو المصمم المحدود الذي صنع أفضل عالم يمكنه صنعه. ربما كان مصمم كوننا يود خلق حياة ذكية في لحظة، متجنبًا كل بؤس الانتقاء الطبيعي، لكن خيارهم الوحيد كان خلق كون من متفردة، بالفيزياء الصحيحة، بحيث يتطور في النهاية ذكيًا. حياة. ربما يشعر مصممنا المحدود بالفزع بشأن مدى الفوضى الحتمية التي تتسم بها هذه العملية، ولكن إما أن يكون ذلك أو لا شيء.

المصمم الخارق يأتي بتكلفة بخيلة. كعلماء وفلاسفة، فإننا نطمح إلى العثور ليس فقط على أي نظرية قديمة يمكنها تفسير البيانات، بل أيضًا إلى أبسط نظرية من هذا القبيل. مع تساوي كل الأشياء، سيكون من الأفضل عدم الإيمان بكل من الكون المادي والمصمم الخارق غير المادي.

لهذه الأسباب، أعتقد بشكل عام أن أفضل نظرية للهدف الكوني هي النظرية الكونية، وهي وجهة النظر القائلة بأن الكون في حد ذاته هو عقل واعٍ له أهدافه الخاصة. في الواقع، هذه وجهة نظر استمتعت بها لأول مرة في Aeon في عام 2017، قبل أن أقرر أن الكون المتعدد، وهو موضوع القسم التالي، كان خيارًا أفضل. بعد أن تم إقناعي أخيرًا بأن الكون المتعدد أمر محظور (المزيد حول هذا الأمر وشيك)، طُلب مني استكشاف تفسير كوني أكثر تطورًا للضبط الدقيق في كتابي لماذا؟، ويبدو لي الآن أن هذا هو المصدر الأكثر ترجيحًا لتفسير الكون المتعدد. الغرض الكوني.

تحذير: القسم التالي تقني بعض الشيء، ويمكن تخطيه، على الأقل في القراءة الأولى.

هناك العديد من العلماء والفلاسفة الذين يشتركون في هذا الاعتقاد بأن الضبط الدقيق للفيزياء لا يمكن أن يكون مجرد صدفة، ولكنهم يعتقدون أن هناك تفسيرًا بديلاً: فرضية الكون المتعدد. إذا كان هناك عدد كبير، وربما لا نهائي، من الأكوان، ولكل منها أرقام مختلفة في فيزيائيتها، فليس من المستبعد أن يحصل أحدها على الأرقام الصحيحة عن طريق الصدفة. ونحن بالتأكيد لا نحتاج إلى تفسير لسبب وجودنا في الكون الدقيق؛ ففي نهاية المطاف، لم يكن من الممكن أن نكون موجودين في كون لم يتم ضبطه بدقة. يُعرف الجزء الأخير من التفسير باسم "المبدأ الأنثروبي".

لفترة طويلة، اعتقدت أن فرضية الكون المتعدد هي التفسير الأكثر قبولا للضبط الدقيق. لكنني في النهاية أصبحت مقتنعًا، من خلال مناقشات طويلة مع منظري الاحتمالات، بأن الاستدلال من الضبط الدقيق إلى الكون المتعدد ينطوي على تفكير خاطئ. هذه قضية نوقشت كثيرًا في المجلات الفلسفية، ولكن في حالة نموذجية يتحدث فيها الأكاديميون مع أنفسهم، فهي غير معروفة تمامًا خارج الفلسفة الأكاديمية، على الرغم من الاهتمام العام الكبير بمسألة الضبط الدقيق. أحد دوافعي لتأليف كتاب لماذا؟ كان هدفي نقل هذه الحجة التي غيرت حياتي إلى جمهور أوسع.

هناك مبدأ حاسم في الاستدلال الاحتمالي يُعرف باسم "متطلب الدليل الإجمالي". هذا هو المبدأ القائل بأنه يجب علينا دائمًا استخدام الأدلة الأكثر تحديدًا المتاحة لنا. لنفترض أن الادعاء أخبر هيئة المحلفين أن المتهم يحمل معه دائمًا سكينًا، متجاهلاً إضافة أن السكين المعني هو سكين الزبدة. لم يكذب الادعاء على هيئة المحلفين، لكنه ضللهم من خلال إعطائهم معلومات عامة - أن المتهم يحمل سكينًا - في حين كان من الممكن أن يقدم لهم معلومات أكثر تحديدًا - أن المتهم يحمل سكين زبدة. وبعبارة أخرى، فقد انتهك الادعاء متطلبات الأدلة الإجمالية.

(إن احترام متطلبات الدليل الكلى يجعل الاستدلال على وجود أكوان متعددة غير صالح)

كيف يرتبط هذا المبدأ بالضبط الدقيق والأكوان المتعددة؟ إنه ذو صلة لأن هناك طريقتين لتفسير أدلة الضبط الدقيق:

دليل عام: الكون مضبوط بدقة؛

أو

دليل محدد: أن هذا الكون مضبوط بدقة.

يعمل مُنظِّر الأكوان المتعددة بالطريقة العامة لتفسير الأدلة. عليهم أن يفعلوا ذلك للاستدلال من الضبط الدقيق على الكون المتعدد. إن وجود العديد من الأكوان يزيد من احتمالية ضبط الكون بدقة، لكنه لا يزيد من احتمالية ضبط هذا الكون على وجه الخصوص - على عكس الكون التالي على سبيل المثال - . ومن ثم، فإن فرضية الكون المتعدد لا يتم دعمها إلا إذا تم التعامل مع الطريقة العامة لتفسير الأدلة. لكن هذا يتعارض مع مطلب الدليل الإجمالي، الذي يلزمنا بالعمل مع الشكل الأكثر تحديدًا للدليل، وهو أن هذا الكون مضبوط بدقة. وبالتالي فإن احترام متطلبات الدليل الإجمالي يجعل الاستدلال على وجود أكوان متعددة غير صالح.

يمكننا أن نجعل هذه النقطة أكثر وضوحا مع القياس. لنفترض أننا دخلنا إلى كازينو وكان أول شخص نراه، نسميها سامي سمارت، يتمتع بحظ لا يصدق، ويتصل بالرقم الصحيح في لعبة الروليت مرة تلو الأخرى. أقول: واو، لا بد أن الكازينو ممتلئ الليلة. بطبيعة الحال، تشعر بالحيرة وتسألني من أين أتيت بهذه الفكرة. أجيب: حسنًا، إذا كان هناك عدد كبير من الأشخاص الذين يلعبون في الكازينو، فمن المرجح إحصائيًا أن يفوز شخص واحد على الأقل في الكازينو بمبالغ كبيرة، وهذا بالضبط ما لاحظناه: شخص ما في الكازينو. الفوز الكبير.

ويتفق الجميع على أن ما سبق هو استدلال مغالط، وسبب مغالطته هو أنه يخالف متطلبات الأدلة الكلية. هناك طريقتان لتفسير الأدلة المتاحة لنا أثناء دخولنا الكازينو:

دليل عام: كان لدى شخص ما في الكازينو حظًا كبيرًا؛ أو

دليل محدد: لقد حظي سامي سمارت بحظ كبير.

في السيناريو المذكور أعلاه، كان تفكيري الغريب يتضمن بشكل أساسي العمل بالطريقة العامة لتفسير الأدلة: فمن المرجح بالفعل أن يكون لدى شخص ما في الكازينو حظًا كبيرًا إذا افترضنا أن هناك العديد من الأشخاص الذين يلعبون بشكل جيد في الكازينو. ولكن مرة أخرى، فإن متطلب الدليل الإجمالي يُلزمنا بالعمل بطريقة أكثر تحديداً لتفسير الدليل ــ كان سامي سمارت محظوظاً ــ وبمجرد قيامنا بذلك، يتم حظر الاستدلال على وجود كازينو كامل: وجود أو غياب الأشخاص الآخرين في الكازينو ليس له أي تأثير على ما إذا كان سامي سمارت على وجه الخصوص سيلعب بشكل جيد أم لا. إن المنطق الذي يستخدمه منظر الأكوان المتعددة يرتكب نفس الخطأ تمامًا. لاحترام متطلبات الدليل الإجمالي، نحتاج إلى العمل مع النسخة المحددة من الدليل - أن هذا الكون مضبوط بدقة - وليس لوجود أو عدم وجود أكوان أخرى أي تأثير على ما إذا كان هذا الكون على وجه الخصوص على ما يرام أم لا ضبطها.

يجادل كثيرون بأن هذا هو المكان الذي يبدأ فيه المبدأ الإنساني. فبينما كان من الممكن أن ندخل الكازينو ونلاحظ شخصًا يتدحرج بشكل سيئ، لم يكن بإمكاننا أن نلاحظ كونًا غير متوافق مع الحياة.

(لكن ألا يوجد دليل علمي مستقل على وجود أكوان متعددة؟ نعم و لا)

من المؤكد بالطبع أنه من الصحيح بشكل تافه أننا لم نتمكن من ملاحظة كون غير متوافق مع وجود الحياة. ولكن لم يتم تقديم أي مبرر نظري على الإطلاق حول السبب الذي يجعل من المقبول تجاهل متطلبات الأدلة الإجمالية. علاوة على ذلك، يمكننا بسهولة إدخال تأثير اختيار اصطناعي في مثال الكازينو من خلال تخيل وجود قناص مختبئ في الغرفة الأولى من الكازينو، ينتظر قتلنا عند دخولنا ما لم يكن هناك شخص ما في الغرفة الأولى يتمتع بحظ غير عادي. مع تطبيق هذا، فإن مثال الكازينو يشبه إلى حد كبير حالة الضبط الدقيق في العالم الحقيقي: تمامًا كما لم نتمكن من ملاحظة كون به أرقام خاطئة للحياة، كذلك لم يكن بإمكاننا ملاحظة لاعب يتداول الأرقام الخاطئة للفوز. ومع ذلك، لا يجادل أحد في أن مثال الكازينو يتضمن تفكيرًا خاطئًا، وهو تفكير لا يمكن تمييزه، من وجهة نظري، عن منطق نظرية الكون المتعدد.

لكن ألا يوجد دليل علمي مستقل على وجود أكوان متعددة؟ نعم و لا. هناك دعم مبدئي لما يسميه علماء الكونيات «التضخم»، وهي الفرضية القائلة بأن كوننا بدأ بمعدل توسع أسي قصير الأمد. وقد جادل العديد من الفيزيائيين بأنه، في أكثر نماذج التضخم منطقية، لا ينتهي التوسع الأسي أبدًا في الواقع ككل، ولكنه ينتهي فقط في مناطق معينة من الواقع، والتي تتباطأ لتصبح "أكوان فقاعية" في حد ذاتها. في هذا النموذج، المعروف باسم «التضخم الأبدي»، يكون كوننا أحد هذه الفقاعات.

المشكلة هي أن هناك نسختين محتملتين من التضخم الأبدي:

التضخم الأبدي غير المتجانس – عندما تتشكل فقاعة جديدة، تحدد العمليات الاحتمالية أن قيم الثوابت، وبالتالي الغالبية العظمى من الأكوان الفقاعية، ليست مضبوطة بشكل جيد؛ أو

التضخم الأبدي المتجانس – لا تختلف قيم الثوابت بين الأكوان الفقاعية.

يفترض جميع منظري الأكوان المتعددة تقريبًا وجود تضخم أبدي غير متجانس، والذي ربما يرجع إلى أن هذه النسخة فقط هي التي يمكن أن يكون لديها أمل في تفسير الضبط الدقيق. فقط إذا كان هناك تنوع كافٍ في «الفيزياء المحلية» للأكوان الفقاعية المختلفة، يصبح من المرجح إحصائيًا أن يكون الضبط الدقيق مجرد صدفة. لكن لا يوجد أي دليل تجريبي على ذلك. علاوة على ذلك، إذا احترمنا متطلبات الدليل الإجمالي، فإن الضبط الدقيق في حد ذاته يعد دليلاً قوياً ضد التضخم الأبدي غير المتجانس.

تذكر أن متطلبات الدليل الإجمالي تجبرنا على العمل بطريقة محددة لتفسير دليل الضبط الدقيق

دليل محدد: أن هذا الكون مضبوط بدقة.

وفقا لطريقتنا الرياضية القياسية في تعريف الأدلة - المعروفة باسم نظرية بايز - يجب علينا أن نختار الفرضية التي تجعل دليلنا أكثر احتمالا. إذا كان التضخم الأبدي غير المتجانس صحيحًا، فسيكون من غير المرجح أن يكون كوننا مضبوطًا بشكل جيد، لأن العمليات الاحتمالية التي تثبت ثوابت كل كون هي عشوائية تمامًا. ولكن إذا جمعنا بين التضخم الأبدي المتجانس وشكل ما من أشكال التوجه الكوني نحو الحياة، فمن المرجح بشكل كبير أن يكون كوننا منضبطًا بشكل جيد.

بمعنى آخر، حتى لو اعتمدنا نظرية الكون المتعدد التضخمي الأبدي، فإن دليل الضبط الدقيق لا يزال يدفعنا نحو الهدف الكوني.

قال الفيلسوف المسيحي ويليام لين كريج إنه إذا لم يكن للكون هدف، فإن الحياة لا معنى لها. وعلى نفس المنوال، يقترح الفيلسوف الملحد ديفيد بيناتار أنه في غياب الهدف الكوني، تصبح الحياة بلا معنى إلى الحد الذي يجعلنا مطالبين أخلاقيا بالتوقف عن التكاثر حتى ينقرض الجنس البشري. وعلى الجانب الآخر، من الشائع أن يجادل الإنسانيون بأن الهدف الكوني لن يكون له أي صلة بمعنى الوجود الإنساني.

أنا أتخذ طريقا وسطا بين هذين النقيضين. أعتقد أن حياة الإنسان يمكن أن تكون ذات معنى كبير حتى لو لم يكن هناك هدف كوني، طالما أننا ننخرط في أنشطة ذات معنى، مثل اللطف والإبداع والسعي وراء المعرفة. ولكن، إذا كان هناك هدف كوني، فمن المحتمل أن تكون الحياة ذات معنى أكبر. نريد لحياتنا أن تحدث فرقا. إذا تمكنا من المساهمة، ولو بطريقة صغيرة، في تحقيق الأغراض الجيدة للواقع برمته، فإن هذا يمثل فرقًا كبيرًا بقدر ما يمكننا تخيل حدوثه.

لا توجد إجابات قاطعة على هذه الأسئلة الكبيرة حول المعنى والوجود. من الممكن أن الأدلة الوفيرة على الهدف الكوني في نظرياتنا الحالية لن تكون موجودة في النظريات المستقبلية. حتى لو كان هناك دافع أساسي نحو الخير، فمن دون إله قدير، ليس لدينا أي ضمان بأن الهدف الكوني سيتغلب في النهاية على المعاناة التعسفية للعالم. ولكن قد يكون من المنطقي، إلى حد ما، أن نأمل بما يتجاوز الأدلة. لا أعرف ما إذا كان البشر سيكونون قادرين على التعامل مع تغير المناخ؛ في الواقع، التقييم النزيه للأدلة يزيد من احتمالية عدم قيامنا بذلك. ومع ذلك، فمن الحكمة أن نعيش على أمل أن يرتقي البشر إلى مستوى التحدي، وأن نجد المعنى والحافز في هذا الأمل. وبالمثل، أعتقد أنه من الحكمة أيضا أن نعيش على أمل إمكانية وجود عالم أفضل.

(تمت)

***

................................

الكاتب: فيليب جوف:  أستاذ الفلسفة في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة، يركز بحثه على الوعي والطبيعة النهائية للواقع. اشتهر جوف بدفاعه عن نظرية الروح الشاملة، وهي وجهة النظر القائلة بأن الوعي يسود الكون وهو سمة أساسية له. جوف هو مؤلف كتاب لماذا؟ الغرض من الكون (مطبعة جامعة أكسفورد، 2023)، خطأ غاليليو: أسس علم جديد للوعي (عتيق، 2019)، الوعي والواقع الأساسي، والمحرر المشارك لكتاب هل الوعي في كل مكان؟ مقالات عن الروحانية الشاملة (Imprint Academic، 2022). نشر جوف العديد من المقالات الأكاديمية بالإضافة إلى كتاباته على نطاق واسع في الصحف والمجلات، بما في ذلك مجلة Scientific American، وThe Guardian، وAeon، وThe Times Literary Supplement.

*جون أندرو ليزلي (من مواليد 2 أغسطس 1940) هو فيلسوف وكاتب كندي. تلقى ليزلي تعليمه في كلية وادهام، أكسفورد، وحصل على درجة البكالوريوس. في الأدب الإنجليزي عام 1962 ودرجة الماجستير. حصل على درجة الدكتوراه في الكلاسيكيات عام 1968. وهو حاليًا أستاذ فخري في جامعة جيلف، في أونتاريو، كندا.

 

في هذه الحلقة ستكون القرينة التي نتناولها هي أمتداد لقرينة الأضحية التي ذكرناها في الحلقة الثالثة، وهي أضحية العقيرة، التي تُعقر وغالباً من تكون من صنف البقر، ومرةً يُقدم الوعل من خلال الصيد الطقسي كأضحية من أجل الأستمطار والخصب، على حد قول فيرنر داوم، وهو قول مزعوم، وأقول مزعوم لسببين يذكرهما هو في بحثة الوارد في كتاب (القرآن ونقوش اليمن). السبب الأول هو أن مايبرره فيرنر ينحصر في دائرة الزعم، أنه يذكر في (القرآن ونقوش اليمن-ص246) بشكل واضح وبصريح  العبارة  القول التالي (يتفق جميع العلماء الذين يتعاملون مع شواهد ما قبل الأسلام، وجميع مراقبي الممارسة الحديثة على أن هدف الصيد هو المطر والخصوبة، على الرغم من أن النقوش لا تذكر ذلك صراحةً إطلاقاً، فإن هذا هو التفسير الوحيد الممكن لسبب أعتبار الصيد واجباً دينياً)، ففيرنر هو يقر بنفسه أن النقوش لا تقر صراحة إن الصيد من أجل المطر، أي ليس هناك دليل يقيني يؤكد مايذهب هو أليه، من أن هدفه نزول المطر، وأن دليله الغير مؤكد على حد قوله، هو التفسير الوحيد لسبب أعتبار الصيد واجباً دينياً، أذن نظريته لا تتعدى الحدس والظنية، والظن لا يغني من الحق شيئاً. أما السبب الثاني الذي يطعن في صوابية رأي فيرنر ويُضعف من نظريته في سَوق هذه القرينة، وجعلها من الشواهد التي أستوحى منها القرآن، هو ما جاء به البرفسور ألكسندر سيما، والتي يعزو فيها ظاهرة صيد الوعل في اليمن بأنها رياضة، ولأجل اللحم، ولكن فيرنر يتهم سيما بأنه متحيز بشدة ضد عناصر الطقوس، ويصفها بأنها تأملات نخبوية (القرآن ونقوش اليمن-ص240). أن ما ذكرناه أعلاه يدل دلالة واضحة على ما يحمله الباحث من قبليات فكرية يحاول دسها في تأويلاته التفسيرية، مضاف أليه أفقه الذهني في وضع فرضياته، وأنه يبغي الوصول الى مراده هو، لا مراد كاتب النص، وهذه تُنبئ عن ميول مكنونه في لا وعي الباحث، من أجل الوصول الى رؤياه الخاصة، وأن ما أعترف به فيرنر بأن النقوش لا تذكر ذلك صراحة إطلاقاً يدل بشكل واضح وجلي بأن الباحث قد قطع علاقته بنص النقوش  التي يعتبرها مصدراً لمقارباته المزعومة، ومن هذه النظريات التفسيرية الغير أكيده، حمَلَ الكثير من المشتغلين بعلم الهرمينوطيقا بالذهاب الى النسبية في معرفة مراد المؤلف. أن هذا النوع من التفاسير، يذهب بنا الى مايقوله إريك هيرش الى البعد النفسي، والبنية الذهنية للمؤلف (المفسر) في تفسير النص، وأن فيرنر قد أستخدم الحدس في تأويله للنقش اليمني، ولكنه لم يثبت ما يجعل من حدسه محتملاً، وذلك لنقص قرائنه وضعف مشاهداته، والأهم هو أعترافه بعدم الصراحة في هذه النقوش، والتي يصل بها على حد قوله الى الأطلاق.

يذهب فيرنر بعد أن زعم بقرائنه بأضحيات قبر هود كشواهد يتمسك بها لأقرار نظريته، يأتي الآن الى تضحية أبراهيم لأبنه المختلف على أسمه، لأن هناك من يقول أسحاق، وهناك من يقول أسماعيل، ليجعل منها قرينه أضافية يربطها بطقس صيد الوعول اليمنية.

من المهم هنا أن نسرد بشكل مختصر عن قصة النبي أبراهيم وأحد أبناءه، عندما جاءته الرؤيا بأن يذبحه أستجابه لأمر ربه، الذي جاء أمره كرؤياء في المنام، فقد جاء في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد النص التالي، والذي يذكر به أسم المضحى به أنه أسحاق، فجاء به (خذ أبنك وحيدك، الذي تُحبه إسحاق، وأذهب الى أرض الُرَّيا وأُصعدهناك مُحرقةَ على أحد الجبال..)(سفر التكوين22). وقد جاء في القرآن (...قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فأنظر ماذا ترى قال يا أبَتِ أفعل ما تؤمرستجدني إن شاء الله من الصابرين)(الصافات-102)، من خلال هذين النصين، يذهب علماء الديانات اليهودية والمسيحية والأسلامية الى تفسير مفاده أن الله أراد أن يختبر أيمان أبراهيم ومدى أخلاصه له، وهناك من يفسر ذلك بأن الله يعرف درجة أخلاص نبيه أبراهيم ولكن أراد أن يخرج هذا الأيمان والأخلاص من القلب الى العلن ليعلم الناس مدى أخلاص وأيمان أبراهيم بربه ليكون مثل أعلى لهم، كما يبعث ذلك لهم بالثقة والأطمئنان به، بالأضافة أن هذا الحدث يمثل درس تربوي لطاعة أبراهيم لربه، وطاعة الولد لأبيه، ويمكن أستخلاص ذلك من خلال قول أبراهيم لأبنه (فأنظر ماذا ترى) وهذا يعكس حواراً بين الأب وأبنه،فيجاوبه الأبن ب ((أفعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) (الصافات)، فقد تحقق الأختبار من خلال أستجابة أبراهيم لأمر ربه، وأستجابة الأبن لأبيه، وقد تحقق الهدف من القضية، مما جعل الله يبدل الذبيح الأنساني بذبيح حيواني (وفديناه بذبحٍ عظيم)(الصافات 107)، وهنا من المهم أن أُشير الى أن الأبن موضوع الذبح تسميه التوراة والأنجيل بأسحاق، فقد جاء في سفر التكوين 22 (خذ أبنك وحيدك الذي تحبه إسحاق وأذهب الى أرض المًريَّا وأصعده هناك محرقة...)، أما القرآن فلم يذكر الأسم، ولكن معظم علماء التفسير المسلمين يقولون أسماعيل، وهناك أسباب لذلك، ومنها أن الولد البكر هو أسماعيل وليس أسحاق وأمه هاجر، السبب الثاني هو أن القصة حدثت في مكة، وأسماعيل وأمه، هم من كانوا مع أبراهيم في مكة، وليس الآخرين. عندما تحقق المراد لله من قصة ذبح أبراهيم لأبنه، ولم يعد للذبح معنى فأستبدل الولد بكبش (وفديناه بذبح عظيم)، حيث أتفقت  التفاسير اليهودية والمسيحية والأسلامية على أن الحيوان الذي ضُحيَّ به هو كبش، ولكن من الغريب أن فيرنر يذكر في صفحة 238 من كتاب القرآن ونقوش اليمن) بأن كلمة أيل تعني كبش، ولكنه مع ذلك يصر على أن الحيوان المستبدل هو وعل، وهذا  الأصرار لم يكن الا تلبيه لرغبته وأستكمال لقرينته التي أراد أن يسوقها من أجل التأصيل للقرآن من نقوش اليمن، وهنا كما ذكرنا في بداية المقال أن رغبات وقبليات الباحث تلعب دور في مايسوقه من تأويلات وتفسيرات للنصوص التي يعمل عليها، لتكون منسجمه مع الصورة التي رسمها في ذهنه.

نرى أن هناك مفارقات بين مايدعيه فيرنر داوم وبين ما جاء في العهدين القديم والجديد، بالأضافة الى القرآن، والذي يهم بالموضوع هو القرآن، لأنه هو محل الدراسة ولكن لابأس من ذكر ما جاء بالكتب المقدسة اليهودية والمسيحية  لنؤكد أتفاق العهدين القديم والجديد مع ماجاء بالقرآن في قصة  ذبح أبراهيم لأبنه، وأن لا علاقة لها بما يدعيه فيرنر من زعم ما جاء بالنقوش اليمنية، وأن ما جاء بالنقوش اليمنية التي يفسرها فيرنر بأن قتل الوعل هو صيد طقسي لأجل الأستمطار والخصب، فيقول فيرنر في الصفحة 239 (القرآن ونقوش اليمن)(وبحسب كلمات الله، فإن غرض التضحية هو الخصوبة للحرث والنسل معاً) ولا أعرف من أين جاء بهذا الكلام الذي لم يذكر مصدره !، وهنا سأذكر ماجاءت به الكتب السماوية، التي لا تتفق مع أطروحته لا من قريب، ولا من بعيد، حتى يمكنني القول أن تفسير فيرنر هي لا تعدو من أن تكون عبارة عن أضغاث أحلام، وهنا أحببت أن أذكر قول لحبر أنكلترا الأعظم في دراسة مقارنة بين الديانات الأبراهيمية ترجمة (د. نظيرة غلاب) (فسر الأمر الألهي لأبراهيم بذبح أبنه،أنه كان لينسخ سنّة تقديم الأبناء قرابين للآلهة التي كانت رائجة في زمن أبراهيم، كما قال الباحث (طلعت رضوان) في مقالته (ذبح الأبن في تراث الشعوب القديمة) إن هذه العادة كانت موجودة قديمة قبل التوراة، ويذكر إن علماء الأنثربولوجيا، أن تلك الحكاية كانت ضمن أساطير معتقدات بعض الشعوب قبل الديانة العبرية، ومن بين هؤلاء العلماء جيمس فريزر في موسوعته (الفلكلور في العهد القديم). في حين يقول الكتاب المقدس (سفر التكوين 1-2)(وحدث بعد هذه الأمور أن الله أمتحن إبراهيم..... وإذهب الى أرض المريا واصعده هناك مُحرقة على أحد الجبال الذي أقول لك)، كما يقول القديس أغسطينوس (جُرب إبراهيم بتقديم ابنه الحبيب إسحق ليزكي طاعته الورعة، ويجعلها معلنة لا لله بل للعالم)، وعندما نأتي للقرآن فنجد نفس المعنى الذي جاء به العهدين (وإذ أبتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنَّ)(البقرة/124).

يتضح لنا وبشكل واضح أن ما ذهب اليه فيرنر داوم لا يتفق مع ما جاءت به الكتب المقدسة (العهد القديم والجديد والقرآن) لا بالقصد من عملية الذبح، ولا بنوع الحيوان الأضحية، فنرى أن قصد القرآن هو أبراز درجة طاعة أبراهيم وأخلاصة لربه، في حين أن قصد النقوش أن صحت على قول فيرنر، هو الأستمطار، وشتان بين الأثنين، بالأضافة الى معارضة البروفسور سيما لما ذهب اليه فيرنر. أذن من خلال ما بيناه، أين قضية التناص بين النقوش اليمنية والقرآن ؟!، فالأمر الذي جاء به فيرنر يبدو برمته  محض حدس وأفتراض لم تؤكدها الوقائع. كما أن أستنتاج فيرنر هو أستنتاج أفتراضي وليس موضوعي، ولكن الأدهى أن فيرنر يرجع ويقول (لقد أثبت المفهومان الدينيان (تضحية إسحق والصيد في اليمن) أنهما بنيتان متوازيتان، ويزيد عليها قائلاً (وكذا تقريب القصة الى الفهم أن أبراهيم شيخ المستوطنة البشرية يعتمد على الأمطار من الجبل النائي، وذلك الكائن الإلهي الذي يتحكم بالأمطار، لن يمنحها إلا عند التضحية بأبن إبراهيم له، وبذلك يضمن المطر أي خصوبة الأرض ووفرة النسل) (القرآن ونقوش اليمن ص249)، أنها مقارنه مضحكة وتُثير الشفة على هذا الباحث المتخبط  في أفتراضاته الغير موضوعية، والذي يثير العجب أكثر، يقول فيرنر عن الأسطورة التي جاءت بها النقوش اليمنية، إن الشاب ينجح في قتل الإله الذي يتخيلونه في ذَكَر وحل، وبالتالي يحرر المياه، وهذا يضمن خصوبة الحرث والنسل (القرآن والنقوش اليمنية ص249). السؤال المطروح، هل هناك مشابهة بين شاب يقتل الله المتمثل بحيوان الوعل، وبين أبراهيم  أمام الموحدين الذي يقدم على ذبح ولده العزيز أطاعة لأمر الله، فأي هرطقة هذه التي يقولها فيرنر، لا والعجيب في أمر فيرنر أنه يقول (والآن لا حاجة الى المزيد من الأستطراد. إن التشابه التام بين الطقوس اليمنية وقصة إبراهيم وإسحق ظاهر للعيان) (القرآن والنقوش ص255) ياللمصيبة!.

***

أياد الزهيري 

 

"عالم المغرب ونادرته في سعة الملكة وفصاحة القلم واللسان.. وكثرة التصانيف.." (فهرس الفهارس) ع. الكتاني.

توطئة:

يعتبر الاستاذ عباس بن عبد الله الجراري (1937/2024) من انشط افراد جيله في المجال الثقافي والادبي والتاريخي...

جاء في خطاب المرحوم محمد الفاسي (1908/1991) اول رئيس لجامعة محمد الخامس بمناسبة تعيين عباس عضوا في اكاديمية المملكة المغربية: " ان الاستاذ عباس الجراري الذي عرفته منذ كان طالبا ثم استاذا بكلية الاداب بجامعة محمد الخامس..عرفته الشاب الطموح والجاد في التحصيل والبحث..

وكان اول اتصاله بالعلم والمعرفة على يد والده المؤرخ الجليل المرحوم عبد الله الجراري (1905/1983) وهو الذي وجهه نحو الدراسات الادبية في العلوم العربية والإسلامية...."

نشأ في هذه المدرسة فكان المعي الذكاء كريم الخلق مستقيم الذهن رحب الصدر لحرية الراي وحرية المناقشة..

مجتهدا في كل عمل تولاه

كانت مدرسة عبد الله الجراري غنية وحافلة بما يؤهل المنخرط في سلكها لكي يكون في الطليعة..

طابعا المميز الجهاد العلمي والتعليمي والدعوة الوطنية الإصلاحية التي عملت على تنقية العقيدة من الشوائب والخرافات التي علقت بها.. ضمن الخط السلفي الذي يحارب الاتجاه الطرقي الذي كان طاغيا ومؤثرا في الأوساط الاجتماعية.. ،وقد انحاز عبد الله الجراري الى دعوة الشيخ ابي شعيب الدكالي الذي يعتبر أستاذ السلفية بالمغرب..

وسوف يلتحم هذا العمل الديني السلفي الإصلاحي بالعمل السياسي الوطني في توجه المدرسة الجرارية..

والاسرة الجرارية التي ينحدر منها والد الأستاذ عباس تشتهر الى جانب نبوغ أبنائها في ميدان العلم والصلاح تدريسا وتأليفا ، بالتبريز في مجال السياسة والدفاع حيث تحملوا فيه مسؤوليات كبرى منذ قدومهم الى المغرب..وزادت هذه المسؤوليات في ظل الدولة العلوية..

مسار حياة:

قد يعمد الباحث في السير والتراجم الى المقارنة والترجيح بغية الوصول الى المكونات البارزة للشخصية التي يسعى الى رسم معالمها والوقوف عند خصائصها والملكات التي طبعت مسارها و حددت دورها في مجتمعها وتاثيرها في عصرها..

فلابد بين الاديب والعصر الذي ينشأ فيه من صلة نعرفها لتمام التعريف به والاستدلال على مصادر ادبه وقواعد تفكيره..، فندرس الشخصية لنكون على بصيرة و معرفة بجميع جوانبها وابعادها..

حصل عباس على البكالوريا في الاداب العصرية وهو ابن ثماني عشرة سنة ثم انتقل سنة 1957 الى القاهرة فانخرط في كلية الاداب بجامعة القاهرة.

في سنة 1961 حصل على الاجازة في الادب العربي وتابع دراسته حتى حصل على الماجستير في الادب ثم الدكتوراه من نفس الجامعة..

كان ينوي بعد حصوله على الاجازة في الاداب ان يذهب الى فرنسا ليتابع بها دراسته العليا بغية الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعتها وراسل في هذا الشأن المستشرق الشهير " رجيس بلاشير (1900/1973) الذي رحب بطلبه.. الا ان تعينه مستشارا بالسفارة المغربية بالقاهرة اعاده الى رحاب الجامعة المصرية ليتخصص في الادب الاندلسي والمغربي.. ، تناولت رسالته في الماجستير (1965): الأمير الشاعر ابوالربيع سليمان الموحدي ، امارسالة الدكتوراه فكانت حول الشعر الشعبي (شعر الملحون.. 1969)

لقد انصبت ابحاثه بالدرجة الأولى في هذه المرحلة على الادب العربي في الغرب الإسلام وكذلك على الادب الشعبي..

ابتداء من سنة 1966 انقطع للعمل الاكاديمي بالجامعة بفاس ثم بالرباط..

الدرس الادبي:

في مدارج الجامعة استوت شخصيته فتفتقت مواهبه ونضجت مداركه وصقلت معارفه في دراسة الادب وتجويده شعرا ونثرا ليسمو به الى مراتب الادب الرفيع..

الكتابة الأدبية فن والفن لا يكتفى فيه بالافادة او مجرد الافهام بل ينظر فيه الى مجاراة التطوير وذلك بالوقوف على علاقة اللفظ بالمعنى ،فبين الأفكار و البستها اللغوية ترابطا هو غاية في الدقة والتصوير الفني..

الادب الصادق هو الذي ينفذ الى أعماق النفس وبواطن الواقع فيصيب الجوهر الصريح متخطيا حدود الزمان والمكان ويكون بذلك معبرا عن مطالب الروح الإنساني في الشمول والخلود..

في الادب تتجلى المنازع الايمانية والروحية والسعي الى الاصالة ومحاولة الفهم والتعاطف والنفاذ الى اللب والاحتفال بالتجربة والمعاتاة والتعبير الجميل عن الشعور الصادق..

الادب الأصيل يمضي الى الفكرة والدلالة دون ان تعوقه تحليلة الصياغة، وزخرفة التعبير هي الجملة البليغة التي تبلغ فحواها بلا مبالغة في التحلية ولا قصور في التعبير يقف عند الفاظها فيثنيك عن مضامينها..

اذا استقام المنهج اسقام الموضوع.كما ان وسيلة المعرفة تبين موضوع المعرفة..فالوعي او الشعور لا بد ان يكون وعيا كاملا غير ناقص ولا مبتور..

مفهوم الدرس الادبي عند عباس الجراري:

في كتاب " الادب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه." يرى ان البحث الادبي تتداخل فيه عناصر ثلاثة تتكامل في اطارها وعي الدارس بها سواء في تكييف نوعه او تحديد درجته وهذه العناصر هي(طبيعة الموضوع /مصادره/ منهج التناول.) واذا كان الادب باعتباره بنية إبداعية ير تبط باشكاله و مضامينه ببقية بنيات المجتمع الذي ينبغ فيه مبدعوه، فلا مناص ان تتاثر بالعناصر الجدلية التي توجه حركة التاريخ في هذا المجتمع وتتحكم في تشكيل نمطه وتكوين شخصية افراده..(ص3).

المنهج مرتبط برسالة الجامعة ولن يتسنى لها القيام بدورها العلمي والمعرفي الا اذا ربطت برامجها ومناهجها باختيارات المجتمع.. وعليها ان تجعل هدفها نشر الوعي وتوجيه الراي وصقل الذهن وتوضيح الرؤية وتعميق المفاهيم وتهذيب القيم.. وان تلح في ان يكون العلم في خدمة قضايا الوطن.. والتوسل به في تحديد الشخصية الهوية الوطنية والتطلع الى مستقبلها المنظور او البعيد..كما يجب ان تعطي بعدا قوميا واضحا للعلوم الإنسانية.. من اجل تكوين ثقافة وطنية وصياغة فكر جديد ينقل الفكر القديم الى الأجيال الناشئة بعد تغيير النظر اليه واخضاعه لمقاييس النقد العلمي حتى يتسنى لهذه الأجيال ان تتعرف على التجارب السالفة وتدرك اسرار التطور وان تنمي فكرها وشخصيتها وتربي فيها استقلال الراي..(ص8)

ان المنهاج الذي تناول به قضايا الادب وظواهره في تشكل المحتوى او النوع والكيف انطلق من تمثل الإقليمية التي تعتمد البيئة و وموقوماتها ومؤثراتها في الادب..دون اغفال الشخصية الذاتية والموهبة الفردية..

كما ان الإقليمية لا تعني عنده المحلية الضيقة..وانما يعتبر الوسلية للم شتات الادب العربي وابداعاته..والوسيلة كذلك الى العالمية والإنسانية..

فالشتات هو الذي يسمح باستخراج الصورة للمغرب سواء في تاريخه السياسي او الفكري..

اما المحتوى او الكيف فيقضي بمعالجة هذه الظواهر بفكر نقدي يستند الى الواقع والمعاصرة وبجدلية موضوعية..كما يعتمدان على معطيات استقرائية واستنتاجات منطقية..بعيدا عن أي معتقدية متزمتة او موقف تبريري.. بحيث لا يمكن فصل المنهج عن المضمون كما لا يمكن ممارسة نقد قبلي على المعرفة.. (ص9).

الملاحظ ان الأستاذ عباس يتناول الظواهر والقضايا الأدبية من زاوية تعطي الاسبقية للتمثل العقي على النقد التاثيري أي النظرة العقلانية وليس مجرد التذوق الفني والاحساس الجمالي..او الانفعال الانطباعي بالاثر المدروس..

وبهذا يحقق المنهج جملة اهداف في طليعتها الكشف عن مواطن الجمال وعن الدلالات الفنية وما ينبثق عنها من مضامين فكرية باعتبار الجانب الفني المتمحور حول اللغة وبنائها التركيبي ظاهرا يبطن فكرا او يخفي ابعادا أخرى عميقة..وبذلك تبرز قيمة الابداع في مختلف تجلياتها الشعرية والفكرية والابعاد الإنسانية..

ويحقق المنهج أهدافه باثبات الوقائع وربطها بالاسباب ووصف الظواهر وتعليلها والبحث عن بواعثها الخفية والظاهرة.. واستخلاص العلاقات التفاعلية بينها وبين غيرها..(ص9).

و صفوة القول ان الهدف من الدرس الادبي وضع منهج لمقاربة ظواهره وقضاياه ليتسنى للباحثين والقراء عامة التعرف على مايزخر به من قيم ومثل وخصائص ومقومات أسهمت في تشكيل الشخصية الثقافية والحضارية للمغرب عبر التاريخ..كما ان الدراسة تفتح افاقا جديدة لاستشراف المستقبل..

الحقل المعرفي لمشروع عباس الجراري

تطرق الأستاذ عباس في خطاب العضوية باكاديمية المملكة المغربية (1983) للاسس والمرتكزات التي يتالف منها مشروعه الفكري الموسوعي في الادب والنقد والتاريخ والدين..

" المنطلق من إيجاد عناصر التقاء بين الثقافات..ثم البحث في كل ثقافة عن اسهاماتها الإبداعية ومقوماتها الاصلية النابعة من التجربة التي تتفرد بها والتي تفضي الى خصائص الغنى والتميز ومن خلال ذلك يمكن ابراز ما يكمن في هذه الثقافة او تلك من قيم إنسانية تتيح لها ان تتجاوب وتتحاور..وتؤهلها لتتخطى حدود المحلية الضيقة وتعانق الافاق الواسعة لكافة البشرية (ص178 منشورات الاكاديمية حول استقبال الأعضاء الجدد/1980/1986/).

انطلاقا من هذا الوعي تبلورت عنده رؤية شمولية للتراث المغربي في نظرة تكاملية توحيدية جعلته يبحث في الصيغة المدرسية التي تتمثل في الاثار العلمية والأدبية المدونة ثم في صيغته الشعبية التي تتجلى فيما ابدعه الشعب بمختلف طبقاته من أنماط ثقافية وحضارية.. كما تبدو ظواهرها فيما يمارسه الشعب من تقاليد وقيم واخلاق وما يزاوله من فنون وصناعات تغوص في أعماقه الواعية واللاواعية..تكيف مشاعره ووجدانه وتحدد مزاجه وشخصيته وتميز عبقريته..

و في هذ الاطار يمكن تفسير انتشار ظاهرة الثقافة الشعبية ونومها في اتجاهين متكاملين: احدهما يعتمد البحث المعمق والاقتباس مما عند الاخرين والثاني يسعى الى توسيع قاعدة الثقافة باعتبارها قاعدة للجميع..

وقد اهتم بالصيغتين في رحاب الجامعة باعتبار التعليم والبحث مقومين في رسالة الجامعة الى تكوين أجيال مزودين بالعلم نظرا وتطبقا وعارفين بدورهم وقادرين على تحمل المسؤولية الوطنية وبث الوعي بالمبادئ السامية والاهداف المقدسة للامة.،.آ خذين بزمام المبادرة والنهوض باعباء التطور والتقدم وإيجاد صياغة متجددة للحياة والانسان وعلى تنمية البحث العلمي بفكر نقدي حر قائم واصيل قادر على الابداع والابتكار بمنهجية سليمة ونظر شمولي مفتوح على مختلف الافاق الإنسانية بعيدا عن الانغلاق وعن السير في ركاب أي تيار يكرس التبعية..(نفس المصدر ص 179.

فهو يتناول الادب المغربي بمعنى الإنتاج الفكري الشامل للامة..دون حصره في الاطار الاصطلاحي المتداول المحدد في الشعر والنثر الفني.. ومن ثم فان التراث عنده يشمل الثقافة العالمة او المدرسية والثقافة الشعبية بروافدها الثرية التي تتسم بالتنوع والتعدد..

على أساس ان التراث هو وعاء منظورات الامة ومقولاتها وتجاربها وانه هو دليل حياتها ووثيقة وجودها ومنظومة معرفتها في ما صيها وحاضرها وما تتطلع اليه مو رؤى وتصورات مستقبلية..

دراسة التراث عند عباس الجراري تعني بالجانب المضئ الشفاف الذي يحفز على إعادة ترتيبه وتجديد تركيبه وتطويعه بالتفسير والتحليل والتقويم حتى يصير جزءا من كيان الامة في ارتباط وثيق مع حركة التاريخ خلال الحقب والازمان..

ان عملية تحديث الماضي هي التي افرزت ظواهر ثقافية وحضارية متعددة تعاقب نموها وتطورها طوال عهود التاريخ بما جعلها تتجذر وتتفاعل بخصوصية وتلقائية متأثرة بما تعانقه من ظواهر مماثلة لها في الحضارات والثقافات الأخرى..(نفس المصدر ص179).

البيئة الإقليمية واثرها في البناء الثقافي والحضاري

كانت نقطة المنطلق في مشروع عباس الجراري دراسة البيئة الإقليمية ومقوماتها ومؤثراتها عامة في الاجتماع الإنساني.. باعتبارها هدفا ووسيلة للم شتات الادب العربي والفكر الإسلامي.. وغيرها من أنماط التراث في كل البيئات الحضارية والثقافية التي اتاحت الابداع..واعتبرها سبيلا لتكميل الرؤية الوحدوية الثرية انطلاقا من التجربة المحلية لكل إقليم فضلا عن العوامل البيئية التي تنعكس على المزاج والروح وعلى الطابع واللون..

واعتبر الإقليمية جواز المرور الى العالمية الإنسانية حين تنصهر تلكم العوامل في آفاق الكون الواسع..

ان المغرب مؤهل لهذا التفاعل بموقعه الجغرافي الافريقي واطلالته على بحرين متحكما في منافذهما ومنفتحا على ما ورائهما..

لقد رسم الموقع وجهة المغرب التاريخية وجعله يقوم بدور الربط والاتصال والتاليف بين الشعوب والحضارات..

مما يكشف عن عقلية واقعية تعتمد الحس والتجريب والميل الى تجسيد الأفكار المجردة الى حقائق ملموسة وبذلك يكتسب إرادة قوية لا ثبات كيانه وتحقيق مطامحه مع قدرة على الاخذ والعطاء والتفاعل والتبادل..

وما يلبث الدور ان يتجدد بسريان الروح الإسلامي في اعماقه وأعاد خلقه وغير مجرى الحياة فيه وفتح له افاقا حضارية وثقافية جديدتين اهتدى في بنائهما بمثل عليا نابعة من تمازج العقل والروح..مما اهله ليتحمل في نطاق الفكر والعقيدة رسالة تخاطب الإنسانية عامة في كل زمان.. وهي رسالة تقوم على العلم والعمل وعلى التدبر والاقناع والتعايش والتساكن والتاخي والتراحم..(نفس المصدر ص180).

الثقافة ورسالة تجديد الفكر والإصلاح المجتمعي

تناول الأستاذ عباس الجراري في كتابيه (الثقافة في معركة التغيير /1972) وبقليا كلام في الثقافة/1999) دور الثقافة في عملية التجديد والحاجة الى ثورة ثقافية تؤسس لثقافة وطنية..و الحسم في قضايا التقليد والتراث في مقابل المعاصرة..

الا ان ذلك لم يتحقق على النحو المامول لاسباب موضوعية ومفتعلة..بدليل ان تلك القضيا مازالت معروضة للنقاش..

ورغم التطور الكبير الذي عرفته الثقافة ما زال الرهان قائما بأكثر مما كان.. نتيجة الصراعات في مواجهة التحديات المحلية والإقليمية والعالمية..

يرى ان مفهوم الثقافة يتضمن الثقافة العامة والثقافة التخصصية..فالتخصصية تتمثل في جميع المعارف التي تتصل بالتخصص اما الثقافة العامة فهي ما يشترك فيه الجميع من اثار وتقاليد وآداب ومعارف إنسانية..

ان توسيع دائرة المعارف اسهم في تكوين عقل المتلقي وتربية فكره وتنمية ملكاته الخلاقة..

وينبغي ان تكون الثقافة تعبير عن مظاهر التاريخ الوطني والإنساني ومعالم الاداب القومية والعالمية.. ونظرات في العلم و القانون والدين.. وغيرها من أنواع المعرفة دون حصرها..

وقد ربط الحاجة الى ثورة الثقافية بالحاجة الى ثورة أخلاقية لانه يعتبر ان الجانب الخلقي مكون أساسي من مكونات الثقافة.. وان الهدف من تثوير الثقافة ليس الهيمنة والسيطرة..

فالهدف هو تحريك المقومات الحية في الثقافة لكي تنهض بالدور المنوط بها في التوجيه والتقويم بتوازن واعتدال وتسامح وعقلانية.. لتؤدي بذلك رسالتها العلمية والمجتمعية.. وهي رسالة ريادية تعمل على تحديث المجتمع وتنوير فكره وتوعية قادته وجماهيره بقيم الحرية والعدل والمساواة وكذلك قيم العمل والإنتاج..مما نعني ان نؤسس لثقافة قادرة على التعامل مع الواقع وتحليله وفهمه ونقده وقادرة كذلك على فتح افاق الابداع والاجتهاد وخلق مجالات الحوار مع الذات والأخر على أساس القبول والتبادل والتعاون..وهذا يتطلب وضع استراتيجية ثقافية وطنية تتشكل من جميع الأنماط الثقافية التي يزخر بها المجتمع الذي يتسم

بالتعدد والتنوع مما يغني الثقافة الوطنية ويمنحها البعد الوطني.. والقوة على التبلور والالتئام مع الثقافات الأخرى عربية وإسلامية وعالمية.. وان تكون لها القدرة على اثارة القضايا الشائكة والعويصة مع الاجتهاد في إيجاد حل لها..

وبهذا تخرج الثقافة من تقليدها وجمودها وعزلتها وخشيتا من ان تهيمن عليها المؤسسات والتنظيمات الرسمية..

فتتوسل بالتحليل العلمي والتخطيط المستقبلي لصد المحاولات التي تسعى الى اجهاض العمل الثقافي ومحاربة الإصلاح والتغيير.. (يراجع الحوار في العلم الثقافي /1/2/ 2024).

تجديد الفكر الإسلامي بين التحدى واليقظة والإصلاح

تطرق عباس الجراري في في مؤلفاته الفكرية الى قضايا تطور الفكر الإسلامي وآفاق تجديده وما واجهه من تحديات منذ الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي..

الفكر الإسلامي هو خلاصة ما انتجه المسلمون في مضمار الحضارة والثقافة وكل المبدعات العقلية والشعورية وما يرتبط بها من تصورات وآمال..و اليقظة بها يقظة بالفكر..، واما التحدى فيعني تحدى خصوم هذا الفكر.. والتحدى يولد اليقظة..

اذا نظرنا الى الفكر الإسلامي برؤية مستقبلية سنتعرف على الطريقة التي يواجه بها التحديات التي تعترضه..وعلى الأساليب التي يتوسل بها المسلمون في الصد التحديات..

يرى عباس الجراري ان اول هذه الأساليب يعتمد على تطوير التراث وعلى امتصاص ما عند الاخرين ودمجه بوعي وعمق في الفكر الإسلامي دون اية عقدة..

الأسلوب الثاني لجأ اليه مفكرو الإسلام طوال قرون وبرز فيه "الغزالي وابن تيمية" واضرابهم من العلماء الذين بذلوا جهودا جبارة في ابطال اباطيل خصوم الإسلام من المبتدعة..

الأسلوب الثالث في هذا المضمار هو أسلوب حركة الإصلاح الحديثة التي ظهرت في الشرق على يد جماعة من المصلحين..منهم محمد بن عبد الوهاب الذي اهتم بإصلاح العقيدة والافغاني الذي اهتم بالإصلاح السياسي ووحدة المسلمين وتلميذه محمد عبده الذي اهتم بإصلاح التعليم وتربية النفوس..

وفي المغرب ظهرت حركة سلفية إصلاحية تزعمها ابوشعيب الدكالي والتي نشأت عنها الحركة الوطنية المغربية التحم فيها العمل الثقافي بالعمل السياسي..

وهكدا احتفظ الفكر الإسلامي بحد ادنى من الحيوية والفعالية ومن القدرة على التفاعل والصراع والصمود والمواجهة..

ويضيف الأستاذ عباس بان البديل هو طرح المنهج الإسلامي الصالح للعصر، والاخذ باسباب البحث العلمي الجديد وما يظهر من مقاييس وادلة وطرائق ومناهج عقلية وتوظيفها دون السقوط في حبائلها الاستلابية..، يحمينا رصيدنا من التقاليد الراسخة في هذا المجال..(كتاب فكر الوحدة /ص 30).

ومن نافل القول ان طلب العلم في الإسلام فريضة والتفكير أيضا فريضة.. والمعرفة الإسلامية تقوم على الحس والتجريب وتلح على اسعمال العقل بالتامل والقياس والاستنباط خدمة للحياة العملية للمجتمع..

وان تقديم قراءة جديدة لاصول الفكر الإسلامي تبتعد عن النقل والتقليد وتعتمد العقل والراي والنقد.. بحثا عن حقائق الأشياء وسعيا للوصول الى الجوهر والعمق وتصفية لهذ الفكر من كل الشوائب التي علقت به خلال التاريخ ليكون مقنعا للعقل العلمي المعاصر..تتجانس فيه واقعية العصر ومثالية الإسلام.. ومبشرا بالمستقبل.. يحفظ للمسلمين وحدتهم العقدية والفكرية..ويجعلهم قادرين على مواجهة التحديات واحباطها والتغلب عليها..

ويكون صالحا تستظل به جميع المجتمعات البشرية انطلاقا من انسية جديدة تتميز بالاصالة المستمدة من إيجابيات الماضي وتفتح على المستقبل واستيعاب كل ما يغنيه من الفكر الإنساني..

هذه القراءة الجديدة هي التي تجعلنا نستعيد خط الاصالة الحق الذي ضاع منا او كاد..(المصدر السابق /ص 38).

ولا شك بان التعليم يعتبر انجع وسيلة لاحداث التغيير وبث مفاهيم جديدة والانطلاق منها الى الى جميع الأصعدة والمستويات..

الفكر الإسلامي الجديد عند عباس الجراري مؤسس على ظاهرتي الوسطية والتجديد باعتبارهما من ابرز نتائج التفاعل الذي حدث بين الإسلام والشخصية المغربية عبر التاريخ.. وتتجلى الوسطية في عدة مظاهر أهمها التمسك بالاعتدال المذهبي ورفض التطرف.. والثاني يكمن في الموقف بين العقل والنقل في مسائل العقيدة.. واما الثالث فيتجلى في التوازن بين الحقيقة والشريعة بين الظاهر والباطن او الظاهر الفقهي والباطن الصوفي.. وهذا موقف يحث على التزام تصوف معتدل سني ينضبط بحدود الشريعة..

اما التجديد فهو وسط بين التقليد والابتداع.. ويكاد التجديد يقترن عند المغاربة بالاتباع الذي نعني اتباع الحق ويقتنعون بالدليل ويحترمون راي الائمة الذين يقتدون بهم..(يراجع في هذا الموضوع كتاب دروس حسنية / ص1127الى 119).

خاتمة

هذه بعض اللمحات والومضات اردنا من خلالها ان نقف عند جانب وملمح من صور التجديد في فكر استاذنا عباس الجراري رضي الله عنه.. وما عرضناه من إشارات بهذا الصدد لا يعدو سوى غيض من فيض من فكره الثري الشامل..

فقد تناول مظاهر التأثر الواقع الجديد الذي فرضته الحضارة الغربية على المجتمعات الإسلامية.. هادفا من وراء ذلك تحرير الفكر من التبعية للغرب.. وكان واعيا باننا لن نتحرر سياسيا اذا لم نتحرر ثقافيا واعتقاديا وعقليا من التبعية للغرب..

فالحضارة الغربية تنطوي على فكر عقلاني احادي النظرة ، لا يومن بغير سيادته المطلقة ونزعته للهيمنة على الاخرين..

فكان يرى ان نهضة العالم الإسلامي تقوم على عوامل أربعة: التجديد الديني واحياء الثقافة الإسلامية وبعث تراثها والاتصال بالثقافات الأخرى اتصال تثاقف واقتباس.. من اجل تغيير واقع المجتمعات الإسلامية السياسي والاجتماعية تغيرا يفرض الاخذ واصطناع الكثير من الأنظمة والمناهج الحضارية الجديدة..

ومن نافل القول ان الثقافة الإسلامية ثقافة تفاعلية باعتبارها منظومة مبادئ وقيم ومنهج حياة..

يمارس علماؤها ضروب الاجتهاد مما يمكنهم من الاستفادة من كل ما ينتجه العقل ويتمخض عنه من التجارب الإنسانية من منطلق ان ثقافة الإسلام وحضارته ثمرة تفاعل مستمرة بين الاتباع والابتداع والوحي والعقل والثابت والمتحول..

وبرى عباس باننا امة لها تاريخ وتراث وحضارة ولها مبادئ وقيم ومقدسات ولن تقبل ان تعيش في عزلة ولن تقبل أي تسلل يمحو معالم شخصيتها.. ويضيف باننا نحتاج الى ثورة ثقافية وتخطيط ودراسة تبحث في أصول ثقافتنا وما ألم بها من تطور وتغيير لمعرفة المراحل التاريخية التي مرت بها والتأثيرات التي خضعت لها.. والتفاعلات التي حدثت لها.. مع غيرها من الثقافات..(بقايا كلام في الثقافة /ص45).

ان الثقافة تفيد التسوية والاتقان والحضارة وتشمل الفنون والاداب والقانون والأخلاق والعادات والتجارب الإنسانية وكل ما يثقف الذهن ويهذب الطبع ويربي العقل..انها الحافز على الحياة والبناء والسير في مضمار التقدم والحضارة..والانطلاق لافاق جديدة من اجل خلق ثقافة جديدة أساسها الأصول القديمة..اننا لن نستطيع الاسهام في الثقافة الإنسانية ما لم نضف من انتاجنا المطبوع بروح وطنيتنا..فمن تراثنا نبعث كل مفاهمنا للحياة..

من هنا تصبح الحاجة ماسة الى فكر نا هض يطرح بديلا للفكر المزيف..(ص51 نفس المصدر..).

ان ما نريده من الفكر هو ان يجعلنا نعشق التقدم والعمل من اجله باستمرار..

ان التفكير والنظر هما المصباح الذي يجب ان يكون معنا في سيرنا وتوجهنا وان نمضي مستنيرين بعقولنا..مقتبسين ماهوصالح لانبعاثنا..ان الوجود بغير فكر حر لهو العدم ، وان مدنية لا تقوم على التحرر والتبصر لهي التوحش ولو كانت في احدث طراز.. واستقلال الفرد او الامة لا يتم الا بالفكر الصحيح الذي يضمن الوصول الى ماهو اسمى وادراك الغاية التي يكافح المرء من اجلها للتقدم..

وان التفكير بالمثال هو الذي يربط مستقبلنا بحاضرنا وبماضينا القومي والإنساني..وقضية الدين هي مسالة المسائل في العالم واما ان تكون هي الفكرة المالكة لكل الشؤون واما ان لا تكون بالمرة.. ومن خطل الراي محاولة اخذ الدين كشيئ خاص بجانب من جوانب الحياة دون غيرها وليس هناك امر يماثل الطبيعة في شمولها وسريانها مثل الدين..

ان في اطوار التاريخ امثلة ان عدم الاعتداد بالدين في امة يؤدي حتما الى التقهر والانحلال..

وما حافظت امة على المثل الأعلى الإلهي الا احتفظت بحياتها وفخرها ومكانتها.. (علال الفاسي النقد الذاتي بتصرف..).

***

أحمد بابانا العلوي

 

استمراراً لسرد القرائن التي ساقها الباحثون الغربيون ومنهم على سبيل المثال لا الحصر لكسمبورغ وفيرنر داوم، وخاصة فيرنر لأنه، هو من أتجه بنسب القرآن نحو الجهة الجنوبية من الجزيرة العربية، متخذاً من النقوش اليمنية دليلاً لنظريته التي تجعل من القرآن أمتداد لها أو محل لتناص نصوصها القديمة، وهنا ننقل نصاً لفيرنر ذكره في مقالته (ديانة ماقبل الإسلام في حضرموت ومكة)، حيث يقول (فإن القرآن ليس نتاج العصور القديمة المتأخرة، ولا نتاج الأوساط المسيحية اليهودية في الشام، إخ، بل هو نتاج دين الجزيرة العربية بعدما استحال كتاباً)، ويقول في مقام آخر من المقالة (ويجب أن يكون المعنى والإطار الأسطوري خلف العمرة والحج واضحاً الآن- مكة وعرفة هما التعبيران المحليان عن ديانة العرب العامة التي استطعنا تشكيل ملامحها في حضرموت)، وحضرموت هو المكان الذي أتخذ منه فيرنر كمحل شاهد لقرائنه التي ساقها لأثبات مزاعمه هو وزملائه من أمثال فرانسوا دوبلوا وروبرت سيرجنت. في الحلقة الثالثة نستعرض لقرينتين أستند أليهما فيرنر في سياق بحثه، والتي يستشهد من خلالهما على أصل منابع ما جاء بالقرآن من نصوص . فيرنر يتناول قبر النبي هود ومراسيم زيارته كأحد هذه القرآئن التي كان لها وجود قبل الأسلام، ولكنها أستمرت وأندمجت ضمن سلسلة الطقوس الأسلامية، وأصبحت جزء منها ناسياً أو متغافلاً أن هود من الأنبياء الذين ينضمون الى سلسلة الرسل والأنبياء التي يقر بهم الأسلام كأنبياء مرسلين من الله أبتداءاً من آدم الى محمد ص خاتم الرسل والأنبياء، لذا لا يُعتبر ما جاء من ذكر لهود هو نوع من التناص لما سبقه، بل هو أقرار لأيمان فرضته السماء على الدين الجديد، كما أن وجود هود في جنوب الجزيرة، وبالخصوص بحضر موت، لا يمكن أن يكون دليل على إن منابع القرآن ومصادره الأساسية هو جنوب الجزيرة، والدليل في نفي هذا الأدعاء، هو أن القرآن ذكر أنبياء لهم مراقد في العراق أمثال العُزير والكفل، كما هناك من ولد وعاش بالعراق كالنبي أبراهيم، والعراق بلد خارج الجزيرة العربية، ويحدها من الشمال، بالأضافة على ذلك أن القرآن ذكر أنبياء كان لهم وجود على أرض فلسطين ومصر، كيعقوب وأسحاق،ويوسف وموسى وداود وسليمان وهي أرض خارج حدود الجزيرة العربية، بل وتقع في شمالها . أذن ذكر نبي في القرآن لا يعني أنه أستوحى من الرقعة الجغرافية التي عاش بها كمصدر أستوحى منه ما ترشح من طقوس ونصوص دينية .

هناك ملاحظة جداً مهمة ينبغي الألتفات أليها، هذه الملاحظة تتلخص بالممارسات التي يقوم الناس بممارستها بالعادة، وعندما تحصل أنتقالة دينية أو حضارية وأجتماعية، ترى الناس تستمر في ممارسة هذه العادة، ولم ينسلخوا عن ممارستها، وهنا نذكر مقولة لغوستاف لوبون بهذا الصدد يقول فيه (فأن تجديد روح الأمة يتطلب في الغالب قروناً طويلة)(الآراء والمعتقدات-ص133)، كما يقول في مكان آخر من كتابه (الآراء والمعتقدات ) في صفحة 264 .(ولكنه يعجز من سيطرة المعتقدات على الدوام)، فالأنسان يستلهم المعتقدات ببطء ولاشك يفقدها ببطء لأنها مغروسة في عمق مشاعرة، ومنزوية في لاشعوره، لذلك هي تنتقل معه أينما حل، وحتى أن أكتشف عدم جدواها، فهو لم يغادرها الا بالتدرج  وهناك الكثير من الأمثلة في أستصحاب الكثير من العادات والتقاليد التي أستمرت لآلاف من السنين، فمثلاً نحن العراقيون أستورثنا الكثير من الطقوس من زمن السومرين والبابلين، ومازال بعضها موجود ليومنا هذا، حتى في أوربا هناك عادات تمارس منذ العصور القديمة ولازالوا يُمارسوها، هذه الظاهرة موجودة في كل الشعوب، حتى تسمى احياناً بالدين الشعبي، أذن فالأمر لايتوقف على الشعوب الأسلامية. عندما يستورث بعض الممارسات والطقوس من أزمنة غابرة يحسبها بعض الباحثيين بأنه تناص بين القديم والجديد، وتُحسب وكان الدين الجديد هو من أستورثها من الديانة القديمة، ومثل ذلك هو طقوس الزيارة وما يُضحى لها عند قبر النبي هود، وخاصة في مسألة العقيرة (وهي طريقة ذبح الثور بطريقة التعقير) وهي لا علاقة لها بالأسلام بالبتة، والباحث أشار الى ان الأسلام حاربها، وقد أقر الباحث ذلك، ويقول (وتأثير الساده المتزايد، ورغبتهم في تطهير الأحتفال مما يعتبرونه (بحق) بقايا وثنية) (القرآن ونقوش اليمن 150)، وهناك حديث نُسب الى أبن عباس في خصوص تحريم العقيرة (وهو أن الرجل يقتل الحيوان عن طريق قطع عصب ساقه)، يقول أبن عباس في حديث نبوي (لاتأكلوا من تعاقر الأعراب فإني لا آمنُ أَن يكون مما أُهل به لغير الله) . أذن هود هو أساساً نبي الله، وأحد حلقات السلسلة النبوية التي تنتهي بمحمد ص، وأن الممارسات الوثنية لأهل اليمن مرفوضة في الأسلام، وقد حرمها وان أستمرت ممارستها من البعض، فهو ينفي أستيحاءها من النقوش اليمنية القديمة . هذا من جانب، ومن جانب أخر ما يحتج به الباحث الى العلاقة التناصية للقرآن من النقوش اليمنية هو موقع قبر النبي هود الذي يتوسط الوادي، ويكون في طريق مجرى السيول، وهذا ما يشبه موقع مكه، والأثنان في أودية من غير ذي زرع، هنا أرد على الباحث بالقول، أن مكة وقبر هود في مواقع جغرافية متماثلة من حيث طوبغرافية الأرض، فالأنسان يختار للأستقرار أو عند بناء معلم معين، يختار الأرض المنبسطة في أقامة ذلك المَعلم، وخاصة أذا خُصص لمحل أجتماع عدد كبير من الناس. كما أن الموقع المقدس في حضرموت هو قبر أما ما يقع في وادي مكة فهو بيت الله، مع الفرق الزمني بين هود والنبي أبراهيم، وأن محمد ص لادخل له في أختيار موقع مكة ولم يكن هو المؤسس لها، ولا أعرف ما هي العلاقة بين القرآن وقبر هود، مادام القرآن والأسلام غير مؤسس للكعبة حتى يلتقط موقعها الجغرافي من موقع النبي هود، وبهذا لا يعتبر موقع قبر النبي هود كدلالة على تناص بين الأثنين. كما من المهم الأشارة الى أن بئر الماء القريب من مكة (زمزم) والبئر القريب من قبر النبي هود هو تحصيل حاصل لتجمع السيول في المناطق المنخفضة والتي تكون مخازن مائية في جوف الأرض، ويشكلون ما يُسمى بالآبار الجوفية، وهذه حالة طبيعية، والأنسان عرف ذلك بحكم تجربته، لذلك يقع أختياره على أقامة معابده وسكناه في هكذا مواقع.

ولو أنتقلنا الى الأضحية التي تُقدم عند قبر هود عند أقوام اليمن القديمة فالهدف منها هو الأستسقاء عن طريق نزول المطر، وهي عملية أسترضاء للأله، وأن هدف الأضحية في الأسلام غير هدفها عند الأقوام اليمنية ما قبل الأسلام، حيث إن اليمنين القدماء يعتبرون صيد الوعل عبارة عن صيد طقسي، وهي كعادة لازالت تمارس كما يقول الباحث حتى اليوم، والتي يذكرها على حد قوله (من بقايا الدين السابق على الأسلام) (القرآن والنقوش اليمن - ص177) . تشير النقوش اليمنية الى ألهين هما عثتر وشمس تمارس طقوس صيد الوعل لغرض الأستمطار، ويذكر الباحث سيرجنت قصائد تؤكد ذلك (إن كان ماقنصنا: المطر ما يجينا) (القرآن ونقوش اليمن - ص178)، في حين أن الأستسقاء بالأسلام هو الصلاة، وهذا ما لا يتماثل مع الطقس اليمني القديم.

نستنتج من كل ما جاء أعلاه بأن موقع قبر هود في وسط الوادي، والأضاحي التي تقدم إليه لا علاقة لها بالبته في القرآن، ولم يكن هناك أي أثر لتناص بين القرآن والنقوش والآثار اليمنية بهذا الخصوص، وأن الصيد الطقسي، المراد منه الرغبة في أستمطار السماء، لا علاقة لها بصلاة الأستسقاء والتي كانت من السنة النبوية، حيث كان الرسول ص يصليها ركعتين طلباً للغيث، وهو مايلجأ أليه الأنسان الى الله كملاذ عندما تنسد كل السبل أمامه، ولم يكن لها من نص في القرآن الكريم .وهي لا تنحصر فقد قبل الأسلام عند اليمنيون القدامى، بل نجدها عند شعوب أخرى مثل الأمازيغ، حيث عندهم أسطورة آنزار)، ويذكر الدكتور فوزي رشيد ان المصارعة كانت جزء من طقوس أستنزال المطر (صلاة الأستسقاء) في شمال العراق (رشيد فوزي: من هم السومريون) (طقوس أستنزال المطر في العراق القديم- وليد يوسف عطو) . يتضح أن الأنسان بشكل عام عندما تضيق به السبل يتجه الى قوة عظيمة تمنحه مراده، ولكن الوسائل مختلفة، فنرى الأنسان القديم يتجه الى أسطورة أله المطر، وبطقوس معينة كما بطقوس الصيد اليمنية، وهناك من يأتي بالبنات الجميلات لتكون القوة الجاذبة لأله المطر كما في الأسطورة الأمازيغية، في حين في الأسلام تكون الوسيلة هي الصلاة والدعاء من الله بنزول الغيث بعد حلول الجدب على الأرض، وهذا فارق كبير في أجراء الطقوس، وأن كان الهدف واحد، ووحدة الهدف نتيجة لوحدة الحاجة الأنسانية، ولكن مايفرق الأسلام عن غيرة هو نوع وطريقة الوسيلة . وأن ما أراه ليس إلا عملية أراد بها فيرنر لوي عنق الحقيقة، في محاولة لا تخلوا من تدليس الحق بالباطل ....يتبع

***

أياد الزهيري

 

في الوجود لا توجد حقيقة بينة وواضحة وراسخة أكثر من حقيقة الوعي بالذات. فلا أحد يستطيع أن يعرف ذاتك أكثر منك.

نعم قد يداخلك الشك أحيانا حتى في ذاتك ولكن هذا الشك- كما علمنا (ديكارت)- هو الطريق الأمثل لإثبات الذات.

قال: "أنا أشك إذن فأنا أفكر وكل مفكر موجود إذن فأنا موجود".

فالشك هو نشاط عقلي ثنائي أي (شاك و مشكوك فيه) فهي ذات تفكر .

ومهما بلغ الشك من قوة ففي النهاية لا يصمد أمام شكك إلا شكك لأنك مهما شككت فلن تشك في أنك تشك.

والشك تفكير والتفكير دليل قاطع على وجود ذات تفكر . ومن هذا الفكر تتبرعم كل ثمار العلاقة بين الذات والذات وبين الذات والموضوع.

العلاقة بين الذات والذات تجد ثمرتها في أنك تستطيع أن تقف خارج ذاتك فتتأملها وهنا يولد الحوار الذاتي حوار الذات للذات شكا ونقدا وهذا هو قمة الوعي الذاتي الإنساني فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يقف خارج ذاته.

والعلاقة بين الذات والموضوع تجد ثمرتها في تأكيد إنفصال الذات عن الموضوع حيث تحكم الذات بوجود موضوع خارج عنها وهنا تكتمل علاقة الذاتي بالموضوعي فتبدأ المعرفة المنطقية وتتأسس قوانين الإدراك.

من هنا نستطيع أن نزعم إن للوعي الذاتي شقان:

الأول: معرفة الإنسان بذاته حيث تحددت ماهيته ككائن يحمل وعيا ذاتيا.

الثاني: قدرته على الخروج من وعي الذات إلى معرفة الموضوع.

الوعي الذاتي إذن هو المائز الأساسي بين الإنسان والحيوان وهو الصفة المتفردة التي تجعل من الإنسان كائن واعي لمفهوم العلاقة أي ادرك قانون (مؤثر- استجابة).

وهذا القانون يعني الربط بين شبكة علاقات العالم الخارجي والذات الفردية باعتبارها جزء من كل.

من هنا نستطيع أن نؤكد أن الوعي الذاتي هو ماهية الفكر الإنساني حصرا دون باقي الأحياء على الأرض.

وفلسفيا نستطيع أن نعرف الذات كتجوهر متميز عن الجسد يحدد طبيعة أو ماهية الإنسان المتفردة.

الإنسان بالتعريف كائن عاقل مفكر ومن هذا التفكر أدرك أن الوعي الذاتي ميزته الخاصة التي يتعالى بها عن باقي أحياء الأرض أنه سيد هذا العالم بلا منازع أو غريم.

ومن رحم الوعي بالذات تولد الأنانية كدفاع غريزي عن الشخصية لغرض توكيدها في مواجهة الآخر المختلف. وبفضل وحدة الوعي الذاتي هذه والتي تصمد أمام جميع التغييرات التي تخضع لها الذات تكون الأنا والذات الشخصية وحدة واحدة أمام الآخر بحسب العلاقة معه فتارة تكون العلاقة علاقة ضدية أي علاقة صراع وتارة تكون علاقة انسجام أي تكامل وتارة تكون علاقة دونية أي علاقة تابع ومتبوع.

هنا تقيم الشخصية فرقا تاما بين الذات والأشياء حسب الترتيب الماهوي فتقول الذات (أنا أولا) ومن هذا المبدأ تتحدد جميع علاقات الأنا مع الآخر.

ومن هذا نفهم لماذا لا يستطيع الإنسان أن يخدم غرضا أسمى من تحقيق ذاته.

الموروث والمكتسب:

الإنسان هو الكائن الوحيد على الأرض-دون بقية الحيوانات- الذي أمتلك الوعي الذاتي فأين يكمن سبب هذه الميزة؟

يولد الإنسان وهو مزود بأجهزة جسمية تختلف عن الأجهزة الجسمية لأي حيوان راقي حتى ذلك الحيوان القريب منه في سلم التطور البايولوجي ويبلغ الإختلاف أشده في أهم هذه الأجهزة الجسمية وهو الجهاز العصبي وعضوه المهم (الدماغ).

إن هذا الاختلاف يصبح اختلافا نوعيا وفريدا بهذا الكينونة لكنه يظل مشروعا غير مكتمل الإركان فالإنسان يولد مشروع إنسان وإنسانيته لا تكتمل إلا من خلال الهيئة الاجتماعية التي تمنحه هذه الصفة فتكتمل بذلك كينونته.

وبديهي ان هذه الكينونة أو الذات الطبيعية البشرية تظل تشترك مع أي كينونة أو ذات طبيعية حيوانية بحاجات بايولوجية ضرورية للاستمرار في بقاء هذه الذات كذات نامية تمر بمراحل معينة ومتعددة من التطور البايولوجي كالحاجة للطعام أو الحاجة للنوم او الحاجة للجنس ..ألخ.

على هذا الأساس فإن الإنسان كائن طبيعي كأي حيوان آخر سواء بسواء ذو حاجات بايولوجية أما السبب الدافع لهذه الحاجات فهو «الرغبة في البقاء على قيد الحياة». وعلى الرغم من وجود الإختلافات الكبيرة بين البيئة الداخلية للإنسان والبيئة الداخلية للحيوان (الأجهزة الجسمية الداخلية) وخاصة في أعظم أقسام هذه البيئة أي في الجهاز العصبي المركزي الصادر منه والمسيطر على جميع أنماط السلوك سواءا كان هذا السلوك بشريا أو سلوكا حيوانيا فإن الإنسان لا يبلغ أية درجة من الإنسانية التي يتميز بها عن حيوانية الحيوان إذا ظل معزولا عن المجتمع وغير متفاعل معه.

هذا معناه أن المجتمع هو الذي يمنح الإنسان إنسانيته ومقدار هذه الإنسانية يتوقف على مقدار إنسانية المجتمع الذى يتفاعل معه الانسان وعلى مقدار هذا التفاعل. وبذلك فإن إنسانية أي إنسان ستختلف حتما عن إنسانية أي إنسان آخر تبعا للإختلاف الحاصل في كل من هذين الشرطين وفي النهاية ما الإنسانية إلا مجموعة قيم والقيم هي التي تحدد السلوك.

هذا الاستنتاج يجد صداه فيما أورده (مستر جيسل) في كتابه (طفل الذئاب وطفل الإنسان).

إذ كشف لنا بمزيد من العمق والوضوح الوهم الذي كنا نظنه جزء من موروثنا الجيني إذ تبين إن هو إلا جزء من تراثنا الاجتماعي المكتسب من خلال التفاعل الايجابي المستمر والحاصل بين الإنسان وبيئته الاجتماعية.

ففى حالة الأطفال البشريين الذين اختطفتهم الذئاب لوحظ إن الطفل البشري المختطف يصبح كطفل الذئاب يعوي ويصرخ عند الحاجة إلى ذلك لكونه لا يعرف الكلام وبالتالي لا يجيد التفكير كما أنه يعدو بخفة على أربعة أرجل بدلا من أن يمشي منتصبا على قدميه

وينام في النهار ويستيقظ في الليل ويأكل الرمم بفمه مباشرة.

كان المستر (جيسل) مؤلف كتاب (طفل الذئاب وطفل الانسان).1. يعيش مع زوجته في الهند عام 1920 يدير ملجأ للايتام. وبينما كان في أحد الايام يمارس رياضة المشي عند حافة غابة وقت الغسق شاهد ذئبة مع (صغيرها). وعندما استعمل ناظوره تبين له ان الصغير كان بشرا يسلك سلوك الذئبة في الحركة ويجري على أربع.

كان المستر (جيسل) قد سمع وقرأ قصصا حول هذا الموضوع لكنه كان لا يصدقها رغم تكرارها لذا عمد الى بندقيته وتعقب الذئبة الى حجرها فقتل الذئبة وقبض على الصبية التي بدأت تصرخ صراخ الذئاب ووضعها في الملجأ.

يرجح انها ولدت عام 1912 أي ان عمرها كان يقدر بثمان سنوات ولا يُعرف كيف و متى واين خطفت.

كانت الصبية تنام في النهار وتصحو في الليل وان نهضت من النوم جلست ووجهها نحو الحائط. فإذا جاء منتصف الليل نشطت وصارت تمشي على أربع. كانت تشرب الماء لعقا بلسانها بعد ان تنحني فوقه ولم تكن تخشى الظلام. وفي ساعة معينة من الليل كانت تعوي عواء الذئاب. وإذا اقترب منها احد كشرت عن أنيابها. وكانت تفتش عن الفضلات وتأكلها. كانت تحب جراء الكلاب وصغار القطط لكنها كانت تنفر من اطفال البشر.

وبعد الإغراء المستمر والمواظبة على التدريب الذي دام سنتين وقفت على قدميها وأكلت من الطبق بيديها. بدلا من أن تأكل بفمها مباشرة. ولكنها بقت الى هذا التاريخ تلعق الماء. بعد سنتين من التأهيل المكثف تعلمت لفظة (ما). وإذا عطشت وطلبت الماء أو جاعت وطلبت الطعام قالت (هو هو). ولم تكن قد نطقت قبل ذلك بكلمة مع انها كانت تصيح وتصرخ.

وفي عام 1925 شربت من كوب على الطريقة البشرية. وفي عام 1926 بلغ مجموع الكلمات التي تعلمتها عشرين كلمة ومشت مع الاطفال. ورفضت أكل الفضلات. وعندما بلغت (14) سنة ظهر عليها الحياء الغريزي ورفضت الخروج من غرفة نومها بدون كساء. وفي عام 1927 بدأت تخشى الكلاب إذا نبحت. بعدها بسنتين ماتت وعمرها 17 سنة. ولنا في حياة هذه الفتاة الهندية المخطوفة طائفة من العبر والملاحظات:

1-إن السلوك البشري يستقر في السنوات الخمسة الاولى من الطفولة لكن بعد ذلك يشق علينا تغيير هذا السلوك. ونعني بالسلوك الاستجابات العقلية التي ينشأ عنها التصرف.

2-إن ما نسميه طبيعة وغريزة انما هو في احوال كثيرة تعليم وتنشئة اجتماعية. حتى بعد سنوات فذهن هذه الطفلة لم يتطور الى الدرجة التي كان يبلغها الاطفال عادة في هذه السن لأن الطفل يولد ولوحة ذهنه خالية تتقبل التعليم الجديد لكن هذه الطفلة التقت بالبشر ولوحة ذهنها حافلة بالعواطف البهيمية التي بعثتها فيها عشرة الذئاب ومن هنا صعب تعلمها.

3-إن أسلوبنا الذي نتخذه في المشي والأكل والشرب كذلك في الخوف والغضب والمرح كل هذا مكتسب وليس وراثي.

4-إن اللغة هي التي تعين لنا السلوك والتصرف البشريين وهذا هو ما قصدناه في هذا الحديث. فإن هذه الفتاة التي قبض عليها وهي في الثامنة أحتاجت الى سنتين كي تتعلم لفظة (ما) وبدأ ذكائها ينمو. فكان استظهار الكلمات ترافقه تغيرات في السلوك وهذه التغيرات برزت نتيجة نبضات ذهنية ظهرت بفعل التمازج الذي حدث بين الفتاة والبيئة الجديدة.

واللغة والفكر يتبادلان الفعل والتأثير نحو بناء الفهم وهذه الفتاة حرمت من اللغة ولهذا حرمت من الفهم وشرعت تفهم السلوك البشري وتمارسه بدلا من السلوك الحيواني حين تعلمت بعض الكلمات وكانت كل كلمة جديدة تعلمتها تعين لها فكرة جديدة او عاطفة جديدة ثم سلوكا جديدا.

الأمر الذي يتضح معه أن التراث الاجتماعي المكتسب وليس التراث الطبيعي الموروث هو الذى يشكل إنسانية الإنسان من حيث كونها ذاتا إنسانية تتفاعل مع ذوات الآخرين من حيث كونهم ذوات إنسانية وعلى قدر إنسانية هذه الذوات وعلى قدر تفاعل ذات الإنسان معها يكون قدر إنسانية هذه الذات. معنى هذا إن العمل الذى تأتي به الذات سواءا كان هذا العمل نبيلا او شائنا يتوقف حسب هذا التصور على جودة أو رداءة ذوات الآخرين وعلى حجم مجال التفاعل الذي يمنح للذات مع ذوات الآخرين.

إن الذات الإنسانية تجد نفسها كاملة كذات إنسانية في التوحد أو التفاعل مع ذوات الاخرين إذ لا يكفي ان تملك الذات الإنسانية التراث الطبيعي الموروث لتحقيق هذا التكامل مالم تملك إزائه التراث الاجتماعي المكتسب الذى يسبغ عليها مسوح الانسانية.

بعد هذا المستوى من الفهم للإنسان لابد وأن يواجهنا السؤال عن فحوى أو مضمون تلك الإنسانية أو بالأحرى عن ماهية هدف تلك الهيئة الاجتماعية التي منحت الإنسان إنسانيته أي عن ذلك الهدف الآخر الذي يكمن وراء هدف "الرغبة في البقاء على قيد الحياة" وهو الهدف الذي قلنا أننا نشترك مع الحيوان في السعي اليه.

لكن ما لا نشترك فيه مع الحيوان وهو ميزة فريدة لنا هو هدف إجتماعي هذا الهدف يمنح الإنسان إنسانيته إذ من دونه لا يصبح الإنسان إنسانا. وقطعا الحيوان لا يملك قدرة السعي إليه والوصل له بمقتضى ماهيته ولذلك فهو لن يتعدى طور الحيوانية ولو تربى في حضن الإنسان وعاش في مجتمع إنساني.

من هنا تأتي فرادة الإنسان هذا الكائن العجيب الذي يشترك مع الحيوان في البايولوجي ويفترق عنه في الإنساني بفعل الهيئة الاجتماعية التى تفرض عليه هذا الهدف الذي يزيد على هدف الرغبة في البقاء على قيد الحياة.

ومن خلال هذا الادراك يتضح لنا ان الإنسان كائن بايولوجي واجتماعي في آن واحد أي كائن مزدوج فهو كائن ذو حاجات بايولوجية كالحاجة للطعام أو الحاجة للشراب أو الحاجة للجنس .. حيث يكون السبب الدافع لهذه الحاجات هو الرغبة في البقاء على قيد الحياة وهو كذلك كائن اجتماعي يصبح لرغبته في البقاء هدف أساسي لا يحيد عن تحقيقه اكتسبه من المجتمع الذي يحيا فيه.

الحقيقي والواقعي في الطبيعة البشرية:

تبين لنا إن "الانسان كيان ذاتي" بمعنى أن الغاية من وراء مختلف أشكال السلوك هي بناء الذات وتوكيد هذا البناء وبذلك فأن منجزات الإنسان الثقافية والحضارية، ومنذ أن أكتسب الإنسان إنسانيته في الهيئة الاجتماعية هي نتائج للسعي إلى هدفه الخاص أي لهدف "تحقيق بناء الذات وتوكيدها".

إن سعي الإنسان الجاد من أجل البناء الذاتي وتوكيده هو الحقيقة التي تشكل محتوى القانون العام الذى يشترك به جميع البشر فدوافع مختلف أشكال السلوك البشري واحدة لأنها تتجه جميعها نحو غاية مشتركة.

أما الاختلاف الكائن فيما بينها فيكمن في اختلاف الوسائل الموصلة لتحقيق تلك الغاية حيث إن هذا الاختلاف الحاصل في الوسائل الموصلة ناجم عن الاختلاف في الظروف التي يتعرض لها إنسان معين في البيئة الطبيعية أو الاجتماعية ولا يتعرض لها انسان آخر يعيش في بيئة أخرى مختلفة. إذ يتعرض لظروف أو لمواقف أخرى في تلك البيئة تفرض عليه نمطا مختلفا من السلوك.

على إننا حينما نقول إنها تختلف فإنما نعني بهذا الاختلاف أنها لا تتشابه إلى حد التطابق إذ إن هناك درجات معينة من التشابه والاختلاف.

ولعل معرفة هذه الحقيقة قادرة على أن توضح لنا سبب الاختلاف الحاصل بين سلوك إنسان ما وسلوك إنسان آخر.

ومما هو جدير بالتنبيه إليه هنا هو ضرورة التمييز بين ما هو "حقيقي" وبين ما هو "واقعي" فللطبيعة البشرية حقيقة كما أن لها واقع ملاحظ.

فحقيقة الطبيعة البشرية هي إنها تخضع لقانون (الصراع) الذي يعم لا الكائنات الحية فقط وإنما هو قانون كوني عام وشامل وعلى كافة التقديرات فقد تصارع الإنسان مع الحيوان في الغابات في بدايات وجوده الأولى حيث مكنته قوة عقله من البقاء وأضعاف الكائنات الاخرى فدجنها وتسيد عليها.

ثم صارع الإنسان الطبيعة بكل قساوتها وقاوم ظروف البرد القارس والحر اللاهب ببناء البيوت واختراع وسائل التدفئة والتبربد. لكن أقسى أنواع الصراعات كان صراع الإنسان مع الإنسان هي حرب منذ أن وجد وإلى حد الآن حيث الغزو والقتل والسبي والاغتصاب والتهجير والإبادة الجماعية أحيانا.

ورغم التقدم العلمي والحضاري الذي شهدته البشرية في جميع مجالات الحياة و في كل مكان من العالم في العصر الحديث وسن القوانين والتشريعات ذات المضمون الإنساني والمؤسسات الدولية والتي تدعو الى احترام حق الانسان بالحياة لازال الإنسان يمارس أنواع مختلفة من الصراعات من أجل التملك والتسيد والسيطرة على حساب حياة وراحة أخيه الإنسان.

ثم أخذ الصراع أبعادا إيديولجية فكانت صراعات وحروب الأديان أقسى الحروب ثم الصراع الأنكى والأمر وهو الصراع الطائفي الذي ليس له نهاية واضحة في الأفق ثم الصراع العشائري في البلدان المتخلفة ثم الصراع الحزبي في مؤسسات السياسة ثم العائلي ثم الفردي ثم الصراع الذاتي حيث يتصارع الإنسان مع ذاته عندما تضطرب مبادئه وتختل قيمه.

وإذا كان الصراع بين أفراد المجتمع يشكل جوهر هذه الحقيقة فلا يعني ذلك أنه السبب في الواقع المزري الذي يعيشه أفراد المجتمع متمثلا باستعباد الرجل للمرأة أو في استغلال الرأسمالي للعامل أو في استعمار دولة لدولة اخرى.

وإنما لكون الصراع الذي تتضمنه حقيقة الطبيعة البشرية يتجه من أجل ديمومته نحو علاقات غير عادلة متمثلة بالاستعباد أو الاستغلال أو الاستعمار.

وفي كونه لا يتجه الى علاقات مغايرة في الوفاق الفردي والاجتماعي.

وأظن ان هذه المعرفة -معرفة تشخيص الداء- تشكل نصف وظيفة العلم في عصرنا الراهن أما نصفها الآخر فيكمن في ترشيد ذلك الصراع نحو وفاق يضمن ذوبان التناقض الحاد الكائن بين حقيقة الطبيعة البشرية في الصراع وواقعها المعيب في العلاقات الفردية والاجتماعية غير العادلة على هذا الأساس فإن الإجراء الإيجابي الوحيد يكمن في توجيه ذلك الصراع ما دام إن القضاء عليه يعني القضاء على الطبيعة البشرية نفسها.

وبديهي إن مثل هذا التوجيه لا يتم من خلال أفكار تعتمد على الإيديولوجيا أو على الدين لمعالجة أحوال اجتماعية معينة.

فعلى الرغم من إن حلول الإيديولوجيا أو الدين لا تخدم ذلك التوجيه لأنها بصراحة تساهم في تأجيج حدة ذلك الصراع نحو مزيد من التناقض الجائر . إنما الحل يتم عبر أفکار تقدمية تعتمد أسس منهج العلم بعيدا عن مؤثرات الإيديولوجيا والدين والطائفة.

***

سليم جواد الفهد – باحث عراقي

...............

1- أقتبست معلومات عن المستر (جيسل) من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لمؤلفه سلامة موسى.

 

هل يمكن ان يكون الفرد مثقفا او باحثا من دون ان يكون مفكرا نقديا؟

التفكير النقدي هو "التقييم الصحيح للمعلومات". يوصف أيضا على أنه "التفكير في التفكير". أحد التعريفات الشائعة هو "التفكير التأملي المعقول الذي يهدف إلى تقرير ما يجب تصديقه وما هي الاستجابة الصحيحة"(1) . التعريف الأكثر تفصيلاً هو "التحليل النشط والفعال ووضع المفاهيم والتطبيق والتوليف، و/أو تقييم المعلومات التي تم الحصول عليها أو المتولدة من خلال الملاحظة والخبرة والتفكير أو الاتصال كدليل للإقناع والعمل" (2). يتميز التفكير النقدي بإجراء استنتاجات منطقية وتشكيل نماذج منطقية تتسق مع نفسها واتخاذ قرارات مستنيرة حول رفض أو الموافقة أو تأجيل النظر في أي حكم مؤقتا.

ويعّرف التفكير النقدي ايضا بأنه القدرة على تحليل المعلومات بموضوعية وإصدار حكم منطقي. يتضمن تقييم المصادر، مثل البيانات والحقائق والظواهر التي يمكن ملاحظتها ونتائج البحث. وتساعد مهارات التفكير النقدي على تحديد المصادر الموثوقة وتقييم الحجج والرد عليها وتقييم وجهات النظر البديلة واختبار الفرضيات مقابل المعايير ذات الصلة (3).

يمثل التفكير النقدي اشكالا اخرى من المهارات والقابليات منها التفكير الذاتي التوجيهي والانضباط الذاتي والمراقبة الذاتية والتفكير التصحيحي الذاتي. ويتطلب منك أن تكون على دراية بالتحيزات والافتراضات الخاصة بك عند مصادفة المعلومات، وتطبيق معايير متسقة عند تقييم المصادر. انه مهم لإصدار الأحكام حول مصادر المعلومات وتشكيل حججك الخاصة في السياقات الأكاديمية والمهنية والشخصية.

والتفكير النقدي ضروري لنمو المجتمعات ثقافيا وعلميا فهو غذاء العقل. إنه عامل بناء مهم لأي مجتمع. يمكّن الناس من تنمية قدراتهم ونموهم الذهني، ويبرز الإمكانات الخفية للأفراد ويطورها.

بعض الأمثلة على التفكير النقدي

- مقارنة نتائج إحدى الدراسات بأبحاث أخرى جارية وتحديد ما إذا كانت النتائج معقولة أم منحازة.

- تحليل منطق الحجة ودليلها وتحديد نقاط قوتها وضعفها.

- النظر في التفسيرات أو المنظورات البديلة لظاهرة أو قضية ما وموازنة إيجابياتها وسلبياتها.

- تطوير فرضية بناءً على المعرفة الموجودة واختبارها مقابل المعايير أو البيانات ذات الصلة.

نظرية التفكير النقدي وتاريخها

يُعتقد أن مصطلح "التفكير النقدي" تم صياغته لأول مرة من قبل جون ديوي في كتابه  الصادر في 1910: كيف نفكر (4). قبل ذلك لم يتم استخدامه في مجال العلوم والمفهوم المماثل كان هو التفكير التأملي. ويعتبر جون ديوي من أوائل الفلاسفة والتربوين الذين استخدموا التفكير النقدي في التعليم، وهو الذي رسم أوجه تشابه بين ظروف التعلم والتواصل والتفكير التأملي، واقترح تطوير التفكير الانعكاسي (النقدي) كأحد أهم أهداف التعلم في التعليم.

يجب اعتبار الشرط الأساسي لظهور نظرية التفكير النقدي في الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين هو التوتر الاجتماعي وعدم الاستقرار المرتبط بالكساد الكبير والأزمة الاقتصادية العالمية. دفعت هذه الميزات الرئيسية بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع للبحث عن أفكار تحول الفلسفة إلى عملية نشطة وعملية تساعد الناس على البقاء في عالم سريع التغير.

من أهم أسباب ظهور نظرية التفكير النقدي أزمة التعليم وإصلاحاته. وهكذا، لم تعد أسئلة التفكير النقدي مسألة ذات أهمية حصرية للفلسفة.

تعتبر الفلسفة التحليلية للتعليم مهمة للغاية في صياغة وتطوير نظرية التفكير النقدي.

اشار عالم الاجتماع والفيلسوف وليام سومنر (5) إلى الحاجة العميقة للتفكير النقدي في الحياة والتعليم وضرورة تعليم التفكير النقدي والى إن تطوير الجوانب المنهجية الهامة لنظام تكوين مهارات التفكير النقدي مكرس لعمل المعلمين الأمريكيين، الذين بدأوا، تحت تأثير التفكير ما بعد الحداثي، في الحديث عن الحاجة إلى إجراء تغييرات في النظام التعليمي بأكمله، ولكن في عملية إنشاء وتطبيق نظريات وأساليب تدريس جديدة. ويشددون على أن مثل هذه الأساليب تهم الطلاب في عملية التعلم، وتكثف عملهم لتحقيق أهداف التعلم الخاصة بهم، ومراقبة وتقييم مستوى المعرفة لدى بعضهم البعض بشكل مستقل، وتوفر فرصة لتطوير مهارات التفكير النقدي والإبداعي.

لذلك، في أوائل الستينيات من القرن الماضي وفي الولايات المتحدة وإنكلترا، ظهرت فلسفة تحليلية للتعليم، أصلها أنظمة المثالية الألمانية التي تعود الى بداية القرن التاسع عشر.

بعد سقراط، كان كانط هو ثاني أهم شخصية في تاريخ الفلسفة، الذي يدين له جميع الفلاسفة الرئيسيين للعقلانية النقدية، على الرغم من نهجهم النقدي في التدريس. يتضمن التفكير النقدي لكانط أسئلة حول نظرية المعرفة في مجالات التعليم ونظرية المعرفة والدين. في تعاليمه حول المكان والزمان، اكتشف كانط أن المعرفة تتضمن أحكاما تحليلية (وصفية) وتركيبية (تفصيلية) كما هي التجريبية.

بدءا من الشك البشري فيما يتعلق باستحالة إثبات صحة المبدأ الاستقرائي، يعمم المذهب النقدي الكانطي "المشكلة الإنسانية" على الأسئلة: كيف يمكن العلم باستخدام الأحكام التركيبية "بداهة"؟ كيف يمكن تأكيد الأحكام المصطنعة من النوع "المسبق"؟

لعب كارل بوبر - عالم اجتماع نمساوي وبريطاني، أحد أكثر فلاسفة العلم تأثيرا في القرن العشرين، من أتباع فلسفة كانط، دورا مهما في تاريخ تطور التفكير النقدي. يمكن اعتباره بحق مؤسس المفهوم الفلسفي للعقلانية النقدية. ووصف موقفه كالتالي: "قد أكون مخطئا، قد تكون على صواب.. لنحاول، قد نقترب أكثر من الحقيقة" (6).

اشتهر بوبر بأعماله في العلوم والاجتماع والفلسفة السياسية، حيث انتقد الفكر الكلاسيكي. بطريقة علمية دافع عن مبادئ الديمقراطية والنقد الاجتماعي ودعا إلى التمسك بها لجعل ازدهار مجتمع مفتوح ممكنا.

يشكل التواضع الفكري الأساس الأخلاقي لما يسميه بوبر "العقل السقراطي"، وهو مفهوم يصف العقل النقدي الذي يدرك حدوده وضعفه. لا يؤمن العقل النقدي بالعقل أو العلم كمصادر مطلقة للحقيقة ، ولا يتبع "الإرهاب العقلاني" أو التشبث بالمعتقدات دون تحليلها. بدلاً من ذلك، يتسم العقل السقراطي بالتشكيك والتحقيق والتجريب في كل ما يدعي أنه معرفة، ولا يقبل أي سلطة نهائية في الفكر.

وفقًا لبوبر، العقلاني هو الشخص الذي يرغب في التعلم من الآخرين من خلال السماح لهم بانتقاد أفكارهم الخاصة وبانتقاد أفكار الآخرين أنفسهم.

علم نفس التفكير النقدي

كنشاط معرفي وفكري، يعتمد التفكير النقدي على قواعد وتقنيات المنطق الرسمي وعلم النفس المعرفي وعلم نفس الإبداع ونظرية صنع القرار والممارسة الجدلية والبلاغة (7). يتجلى هذا النوع من التفكير في القدرة على التنبؤ بالمسار المحتمل للأحداث المستقبلية ومعرفة من خلال التحليل والمنطق وتعزيز الإيجابية ومنع النتائج السلبية للقرارات والإجراءات المتخذة. الشك المنهجي (ما هو معقول للشك) والعمل بالأفكار والأسئلة، والتعبير الواضح والعادل عن الفكر والبحث عن الأخطاء وتحديد درجة المخاطرة في المواقف المختلفة - هذه كلها أسس التفكير النقدي، والآلية الرئيسية هنا هي العلاقة بين الفكر والمعرفة.

على سبيل المثال، تشير عالمة النفس ديان هالبرن في كتابها علم النفس للتفكير النقدي (8): "نحن نتحدث عن نوع من التفكير يسمح لنا باستخدام المعرفة المكتسبة سابقا لإنشاء معارف جديدة. لا توجد معرفة موجودة بشكل مستقل - بل هي نتاج إبداع البشر. التفكير النقدي - الذي يتطلب استخدام المعايير التقييمية بشكل منطقي - تم بناؤه على أساس التفكير الناقد للمفكرين السابقين. ماذا لو؟ ... هو السؤال الأساسي للتفكير النقدي ويشير إلى القدرة على تكوين وجهة نظر حول قضية معينة والدفاع عن وجهة النظر هذه بالحجج المنطقية. يتطلب هذا النوع من التفكير الانتباه إلى حجج الخصم وفهمها المنطقي.

انماط ومهارات التفكير الاخرى

بالرغم من وجود اشكال عديدة للتفكير من حيث التعريفات والأهداف والمهارات والمجالات الا اننا يمكن اجمالها بالاضافة الى التفكير النقدي في الانماط او المهارات التالية:

التفكير العلمي هو التفكير في محتوى العلم ومجموعة العمليات المنطقية التي تتخلله. يتطلب القدرة على استخدام المنهج العلمي والتجربة والملاحظة والاستنتاج. هدفه هو اكتشاف القوانين والنظريات التي تحكم الظواهر الطبيعية والاجتماعية. يحتاج إلى مهارات مثل التحقيق والابتكار والتخطيط والتوثيق والتعاون. يستخدم في مجالات مثل العلوم الطبيعية والرياضيات والهندسة وغيرها.

التفكير الخلاق هو التفكير في إنشاء أو ابتكار شيء جديد أو مفيد أو جذاب. يتطلب القدرة على استخدام الخيال والابداع والانحراف عن المألوف. هدفه هو حل المشكلات بطرق غير تقليدية أو توليد فرص جديدة أو تحسين المنتجات أو الخدمات. يحتاج إلى مهارات مثل التخيل والابتكار والانسجام والانشاء. يستخدم في مجالات مثل الفنون والإعلام والإعلانات وغيرها.

التفكير المجرد هو نوع من التفكير الذي يتعامل مع المفاهيم والأفكار التي ليست مرتبطة بالواقع الملموس. يتطلب هذا النوع من التفكير القدرة على استخدام الخيال والمنطق والتحليل لفهم وحل المشكلات المعقدة. بعض الأمثلة على المفاهيم المجردة هي الحب، والحرية، والخيال، والنجاح، والسعادة، وغيرها. وهو مهارة أساسية للتفكير النقدي وحل المشكلات. يستخدم هذا النوع من التفكير في مجالات مختلفة مثل الرياضيات، والفلسفة، والعلوم، والفن، وغيرها.

التفكير الملموس هو أحد أنواع التفكير الذي يتناول الواقع بعين الحواس دون أي إضافات أو اعتبار لكون مفاهيم هذا الواقع قد تكون جزء من مفاهيم أكبر أو تأخذ معان متعددة بل يفهمها في إطار التفسيرات الدقيقة للمعطيات المادية الملموسة الموجودة ودون الحاجة إلى الرموز والمفاهيم المطلقة.

التفكير التقاربي هو عملية إيجاد أكثر خيار سليم أو منفرد لمشكلة أو سؤال معين، مثل الحصول على إجابة سؤال الاختيار من متعدد أو معرفة كيفية تقويم وتعديل سلوكيات غير سليمة الخاصة بالفرد. ويشير إلى القدرة على وضع عدد من القطع أو وجهات النظر المختلفة لموضوع ما معا بطريقة منظمة ومنطقية للعثور على إجابة واحدة.

إذا، يمكننا رؤية أن أنواع التفكير تتشابه في بعض الجوانب، فجميعها تستند إلى المنطق، وتسعى إلى تحقيق أهداف محددة، وتستخدم في مجالات مختلفة من المعرفة. كما أن لها بعض الاختلافات، فكل منها يركز على جانب معين من التفكير، سواء كان تحليليا أو استقصائيا أو خياليا، ويتطلب مهارات وأساليب مختلفة. كما أن هناك بعض التداخلات بينها، فالتفكير العلمي يحتاج إلى التفكير النقدي لفحص النظريات والتفكير الخلاق لابتكار الحلول، والتفكير الخلاق يحتاج إلى التفكير النقدي لتقييم الأفكار والتفكير العلمي لتطبيقها.

خصائص التفكير النقدي

يمتلك المفكرون الناقدون العديد من السمات الإيجابية التي تساعدهم على تعلم معلومات جديدة وفهم المفاهيم المعقدة واتخاذ قرارات أفضل. بعض الخصائص الرئيسية للتفكير النقدي (9):

- الفضول: المفكرون الناقدون حريصون على تعلم أشياء جديدة واستكشاف وجهات نظر مختلفة. يطرحون أسئلة لتوضيح فهمهم وتحدي افتراضاتهم. التساؤل هو المحرك الرئيسي للتفكيرلذلك فأن طرح الأسئلة هو الذي يضفي على التفكير حيويته.

- التراحم: المفكرون الناقدون يتعاطفون ويحترمون آراء الآخرين ومشاعرهم. يحاولون فهم الأسباب الكامنة وراء آراء الآخرين وأفعالهم ، وتجنب إصدار أحكام متسرعة.

- التواصل: يستطيع المفكرون الناقدون التعبير عن أفكارهم بوضوح ومنطقية. يستمعون بنشاط للآخرين ويستجيبون بشكل بناء. كما أنهم يسعون للحصول على تغذية راجعة لتحسين تفكيرهم.

- الإبداع: المفكرون الناقدون مبدعون ومبتكرون. يبحثون عن طرق جديدة لحل المشاكل وتوليد أفكار جديدة. إنهم لا يخشون المخاطرة وتجربة الأساليب المختلفة.

- المرونة: المفكرون الناقدون قادرون على التكيف ومنفتحون على التغيير. هم على استعداد لمراجعة آرائهم ومعتقداتهم بناءً على أدلة أو حجج جديدة. إنهم لا يتشبثون بمفاهيم أو عقائد مسبقة.

- التواضع: المفكرون الناقدون على دراية بحدودهم وانحيازهم. يعترفون بأخطائهم ويتعلمون منها. إنهم لا يدعون أنهم يعرفون كل شيء أو لديهم الإجابة النهائية.

- الاستعداد: المفكرون الناقدون لديهم الحافز والتصميم على التفكير النقدي. لديهم موقف إيجابي تجاه التعلم والتحسين. إنهم لا يخجلون من التحديات أو الصعوبات.

التفكير النقدي هو مهارة قيمة يمكن أن تعزز العلاقات الشخصية والمهنية. يمكن أن يساعدنا أيضًا على تحقيق النجاح في جميع مجالات حياتنا. من خلال تطوير خصائص التفكير النقدي هذه، يمكننا أن نصبح أكثر فاعلية في التعلم وحل المشكلات وصنع القرار والاتصال.

ادوات التفكير النقدي

أدوات التفكير الناقد هي الأساليب والتقنيات التي تساعد في تطوير وتحسين مهارات التفكير الناقد، والتي تمكن من تحليل وتقييم المعلومات والحجج بشكل منطقي وموضوعي. بعض هذه الأدوات هي:

-الرسوم التخطيطية:  تساعد في تحديد المشكلة أو الموقف والعوامل المؤثرة عليه، وتنظيم الأفكار والأدلة بشكل هرمي.

-الخرائط الذهنية:  تساعد في رسم الفكرة المركزية والأفكار الفرعية والروابط بينها بشكل مرئي، مما يسهل فهمها وحفظها.

-تدوين الملاحظات : يساعد في جمع وتخزين المعلومات المرتبطة بالمشكلة، وإضافة الصور أو الفيديو أو الروابط إذا لزم الأمر.

-الاستنتاج: هو القدرة على الوصول إلى نتائج مقترحة أو بدائل ممكنة لحل المشكلة.

-التفسير:  هو مهارة توضيح طبيعة المشكلة وتحليلها بطريقة مبسطة.

-الاستدلال: هي مهارة البحث عن الدلائل التي تدعم أو تنفي الأفكار أو الحجج.

-التقويم: هو التأكد من صحة وقابلية التنفيذ للحلول المقترحة.

ما هي مهارات التفكير الناقد؟

مهارات التفكير الناقد هي مجموعة من المهارات التي تساعد الشخص على تحليل وتقييم المعلومات والأفكار والحجج بطريقة منطقية وموضوعية ونقدية. هذه المهارات تمكن الشخص من اتخاذ قرارات سليمة وحل المشكلات بفعالية.

لا يوجد عدد محدد أو ثابت لمهارات التفكير الناقد، لكن بشكل عام يمكن تصنيفها إلى مهارات نظرية ومهارات عملية (1 و 7).

المهارات النظرية هي تلك التي تتعلق بالقدرة على فهم وتفسير وتحليل واستدلال وتقويم المعطيات والأدلة والحجج المطروحة في موضوع ما. بعض أمثلة هذه المهارات هي:

-الاستنتاج: هو القدرة على الوصول إلى نتائج مقترحة أو بديلة اعتماداً على المعطيات المتاحة.

-التفسير: هو القدرة على شرح وتوضيح طبيعة ومغزى المشكلة أو المسألة بطريقة مبسطة وواضحة.

-التحليل: هو القدرة على تفكيك المشكلة أو المسألة إلى جزئياتها والبحث عن العلاقات والأنماط والأسباب والآثار بينها.

-الاستدلال: هو القدرة على استخدام المنطق والبراهين لإثبات أو دحض فرضية أو حجة ما.

-التقويم: هو القدرة على تحديد مدى صحة وموضوعية وجودة المعطيات والأدلة والحجج المستخدمة في حل المشكلة أو المسألة.

المهارات العملية هي تلك التي تتعلق بالقدرة على تطبيق وتنفيذ وإظهار مهارات التفكير الناقد في مواقف حقيقية. بعض أمثلة هذه المهارات هي:

-البحث: هو القدرة على استخلاص المعلومات من مصادر مختلفة وتحديد مصداقيتها وأهميتها للمشكلة أو المسألة.

-الفضول: هو القدرة على طرح الأسئلة التي تساعد على استكشاف وفهم المشكلة أو المسألة بشكل أعمق.

-الابتكار: هو القدرة على ابتكار حلول جديدة أو مبتكرة للمشكلة أو المسألة باستخدام الخيال والإبداع.

-التعاون: هو القدرة على التفاعل والتواصل والتشاور مع الآخرين لتبادل الآراء والخبرات والمعلومات المتعلقة بالمشكلة أو المسألة.

-النقد البناء: هو القدرة على تقديم واستقبال ملاحظات وتعليقات تهدف إلى تحسين وتطوير الحلول المقترحة للمشكلة أو المسألة.

الوضع الحالي للتفكير النقدي في التعليم العالي العراقي

للأسف، تظهر المشاهدات ثلاث حقائق مزعجة، لكنها بالكاد تكون جديدة:

-يفتقر معظم أعضاء هيئة التدريس بالجامعات وعلى جميع المستويات إلى مفهوم جوهري للتفكير النقدي.

-لا يدرك معظم أعضاء هيئة التدريس أنهم يفتقرون إلى مفهوم جوهري للتفكير النقدي، ويعتقدون أنه ليس مهما طالما "يفهم" الطلاب الدرس.

-المحاضرة، والحفظ عن ظهر قلب، وعادات التذكر قصيرة المدى لا تزال هي القاعدة في التدريس الجامعي والتعلم اليوم.

تمثل هذه الحقائق الثلاثة مجتمعةً عقبات خطيرة أمام الإصلاح المؤسساتي الأساسي وطويل المدى، فلا يمكن تبديل طرق التدريس الا عندما تستند اهداف ومخارج التعلم والاختبارات على تحقيق مضامين التفكير النقدي وسيتم تحقيق ذلك فقط عندما يدرك المسؤولون وأعضاء هيئة التدريس طبيعة ومضمون وقوة مفهوم التفكير النقدي، وكذلك عند اكتساب نظرة ثاقبة إلى السلبيات والآثار المترتبة على فقدانه، ويبقى السؤال المهم بدون إجابة وهو هل هم قادرون على تحقيق اصلاح اكاديمي فعال؟ فعندما يكون لدى أعضاء هيئة التدريس فكرة غامضة عن التفكير النقدي، أو اختزاله إلى نموذج تخصص واحد (كما هو الحال في تدريس التفكير النقدي من خلال نموذج "المنطق" أو "مهارات الدراسة")، فإنه يعوق قدرتهم على تبديل طرق تدريسهم، أو الى زيادة ممارسات التدريس والتعلم الفعالة.

يمكن الحكم على مناهج التعليم العراقية من خلال نتائج الامتحانات. قد يبدو هذا غريبا بالنسبة للمناهج المعتمدة على الحفظ والتلقين، لكن بالاطلاع على توزيع الدرجات النهائية لامتحانات البكلوريا الإعدادية يمكن لنا من تقييم اهتمام المنهج بالتفكير النقدي (بغير قصد) وعلى قدرة الطالب في استخدام مجموعة من المهارات المنطقية لتقييم المعلومات المعطاة وإصدار الحكم. تُظهر نتائج الامتحانات توزيعا غير معياريا منحرفا نحو الدرجات العليا للطلبة في الفرع الاحيائي وفيه تظهر نسب عالية جدا للدرجات الأعلى من 90% فما فوق. ويظهر توزيع درجات الفرع التطبيقي اكثر اقترابا من التوزيع المعياري. على عكس نتائج الفرع الاحيائي يظهر توزيع درجات الفرع الادبي توزيعا معياريا مناسبا. فما هو السبب؟ مناهج الفرع الاحيائي وطرق التدريس منحازة نحو تعليم الحقائق، والامتحانات تتطلب من الطالب النقل الالي للمعلومات التي احتواها المقرر الدراسي والذي وجب على الطالب تعلمه مما يؤدي الى التركيز على كمية المعلومات التي يتضمنها الكتاب التدريسي، وهذا الأسلوب يؤدي الى ظهور نسب متساوية لجميع الطلبة الممتحنين. ولكن كما يبدو فان معدلات الفرع الادبي تعكس قبول الممتحن لما يتوصل اليه الطالب من استنتاج خاص من خلال إعداد موقفه الشخصي على قضية تطرحها الأسئلة، وعلى قبول التفكير النقدي للطلبة او شاكله من حيث ان الممتحن لا يقبل البيانات فقط وانما يبحث على روابط منطقية بين الأفكار ويحترم التفسيرات البديلة.

هل من تمايز في مهارات التفكير النقدي بين الطلاب في العالم؟

هناك العديد من العوامل التي قد تؤثر على الاختلاف في التفكير النقدي بين الطلاب العراقيين والعرب من جهة والطلاب الأوروبيين من جهة اخرى، مثل خلفيتهم الثقافية ونظامهم التعليمي وكفاءة اللغة والمعتقدات الدينية، وما إلى ذلك. لذلك، من المهم لنا تجنب التعميمات أو الصور النمطية حول أي مجموعة من الطلاب.

تتمثل إحدى الطرق الممكنة لمقاربة هذا السؤال في إلقاء نظرة على بعض الدراسات التي استكشفت أصول التدريس وممارسة التفكير النقدي في سياقات مختلفة. على سبيل المثال، حللت إحدى الدراسات وجهات نظر الشباب المسلم في هولندا الذين التحقوا بالتعليم الإسلامي غير الرسمي (NFIE) الذي قدمته المساجد أو المنظمات الخاصة (10). وجدت الدراسة أن التفكير النقدي كان غائبا إلى حد كبير في NFIE، وكانت هناك فرص محدودة للطلاب للتفاعل أو السؤال أو النقاش أو تحدي سلطة المعلمين الدينيين أو النصوص الإسلامية. حددت الدراسة أيضا بعض التحديات والعوائق التي تحول دون دمج التفكير النقدي في NFIE، مثل النهج التربوي التقليدي وتثبيط مواقف المعلمين والأقران ونقص إتقان اللغة وصغر سن المتعلمين والنقص الملحوظ في الحاجة إلى المداولات النقدية. اقترحت الدراسة أن إصلاح أصول التدريس في NFIE للسماح بمزيد من التعلم الانعكاسي والفضولي والحواري من شأنه أن يفيد الشباب المسلم في أوروبا.

أجرى جون دوركين (11) بحثا حول مهارات التفكير النقدي لطلاب جنوب آسيا الذين ذهبوا إلى المملكة المتحدة من أجل التعليم العالي. وخلص إلى أن هؤلاء الطلاب يميلون إلى الاتفاق مع آراء معلميهم، حتى عندما يرون أن المحاضرات تم تصميمها بطريقة تشجع النقاش والجدل. يوضح دوركين أن هذا السلوك يتم غرسه في التلاميذ منذ صغرهم كقاعدة ثقافية فالدخول في جدال لم يكن يعتبر غير مناسب فحسب، ولكن أيضا لم يكن هناك مجال للخلاف (لأن المعلم في الجزء الخاص بهم من العالم كان يُعتبر مثالا للمعرفة). أجرت سعيد شاهين (12) بحثا مشابها حيث ذكرت أن الطلاب الباكستانيين في المملكة المتحدة عانوا من اتباع نهج أكاديمي في التفكير النقدي لم يكونوا على دراية به لأنه كان يفتقر إلى ثقافتهم. وقد انعكس هذا أيضا في مهاراتهم الكتابية التي كانت قاصرة في التعبير عن الذات والإبداع. في باكستان كما هو في العراق، يعتبر التعلم عن ظهر قلب أيضا القاعدة. ولا يتم دعم أهمية التفكير النقدي في التعليم العالي والدراسات العليا والبحث بالرغم من انه متفق عليه في الدول الغربية ان البحث يزدهر بشكل أفضل عندما تكون هناك مجموعة من الباحثين او المفكرين النقديين يمكن للمرء التفاعل معها. ويبدو أيضا أن أحد أساسيات الجامعة المثالية هو وجود مجموعة من المفكرين الناقدين المشاركين في أبحاث الدرجة الأولى، والتي تشمل كل مجال يمكن تصوره. ومع ذلك، لا يبدو لي ان أي جامعة في العراق تنتهج مثل هذا النهج فالطلاب ليس على دراية بالأسئلة التي تلبي مهارات التفكير النقدي لديهم ولا يرتاحوا لمناقشة الافكار المجردة ولا الى الاسئلة التي تحتوي على مصطلحات مثل "المقارنة والتباين" و"التوضيح" و "دعم الحجة" و "تحليل" و "تقييم نقدي". وينتابهم القلق من هذا النوع من الأسئلة لأنهم لم يتعودوا على هذا الأسلوب في المحاضرات.

هذه بعض الامثلة على الاختلافات في التفكير النقدي وممارسته في سياقات مختلفة. قد يكون هناك العديد من الاختلافات والتشابهات الأخرى بين الطلاب من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة من حيث قدرات التفكير النقدي لديهم. باختصار، التفكير النقدي ليس مهارة ثابتة أو عالمية، ولكنه مهارة ديناميكية وسياقية يمكن تطويرها وتحسينها بمرور الوقت.

بدلا من الإجابة على هذا السؤال بطريقة نظرية، يمكننا أيضا الاستفادة من بعض الأمثلة العملية عن كيفية تطبيق التفكير النقدي في بيئات التعلم المتنوعة. فمثلا، في إحدى محاضرات Technology, Entertainment, Design   (TED)، شارك محمد الجناحي (13)، وهو مدرس وشاعر قطري، تجربته في استخدام الشعر والفن والموسيقى لتدريس اللغة العربية والرياضيات لطلابه. وأكد على أن الشعر هو وسيلة فعالة لتنمية مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب في جميع المواد، لأنه يمكنهم من التواصل مع مشاعرهم وسردها والتأمل في القضايا وإحداث تغيير. كما ذكر كيف اتبع نهجا تعليميا يستند إلى الغوص في الثقافة والفن، مستلهما من تراث الشعر والأدب العربي.

اهمية التفكير النقدي في البحث العلمي

التفكير النقدي هوأسلوب تفكير تأملي وتحليلي يتضمن طرح الأسئلة وتقييم الأدلة وتحدي الافتراضات. إنه ضروري للبحث العلمي لأنه يساعد الباحثين على إنشاء الفرضيات واختبارها  وتجنب التحيز والأخطاء وإنتاج معرفة موثوقة وصحيحة. ادناه بعض الأمثلة على مدى أهمية التفكير النقدي في البحث العلمي:

- يساعد التفكير النقدي الباحثين على تصميم دراسات صارمة وأخلاقية تعالج أسئلة البحث ذات الصلة وتستخدم الأساليب المناسبة وتقنيات تحليل البيانات.

- يساعد التفكير النقدي الباحثين على التقييم النقدي للمصادر وتحديد ما إذا كانت خالية من التحيز البحثي، وتقديم أدلة لدعم النتائج التي توصلوا إليها، والنظر في وجهات النظر البديلة.

- يساعد التفكير النقدي الباحثين على تفسير النتائج وإيصالها بطريقة واضحة ودقيقة، مع الاعتراف بالقيود والآثار المترتبة على أبحاثهم.

لذلك ، فإن التفكير النقدي هو مهارة حيوية للبحث العلمي تمكن من صنع الاكتشافات والابتكارات وتعزيزها.

التفكير النقدي والبحث العلمي في العراق

في السنوات الاخيرة، زادت الجامعات العراقية إنتاجيتها البحثية بشكل كبير، كما يتضح من الزيادة من 840 مقالة بحثية منشورة في 2010 إلى 12821 في 2019 وبلغت عددها منذ 1996 الى 2019 ب 41489 (14) أجريت تحليلاً علميا لمخرجات البحث في الدول العربية واكتشفت أن جميع الدول العربية تسير على طريق زيادة الكم وأن إنتاجها البحثي في ارتفاع مستمر. ارتفعت عدد البحوث في العراق نتيجة زيادة عدد طلبة الدراسات العليا وربط ترقية أعضاء هيئة التدريس بناءً على عدد المنشورات، واشتراط نشر الأوراق البحثية لمنح درجة الماجستير او الدكتوراه. على الرغم من أن مثل هذه السياسات قد ساعدت في زيادة عدد المقالات البحثية المنشورة سنويا، إلا أن جودة هذه المنشورات لا تزال موضع شك. حيث يبدو ان 80٪ من هذه الأبحاث لا تستوفي المعايير العالمية، بمعنى آخر، تنشر بحوث تفتقر إلى الجودة ذات الصلة. يتم تعريف البحث الجيد هنا على أنه شيء يضيف إلى المعرفة العالمية من خلال طرح أسئلة مهمة تم اختبارها تجريبياً. يؤثر هذا البحث على المجتمع إما بشكل مباشر أو غير مباشر مما يجعله ذات أهمية عالمية. وفقا لموقع سيماغو، يتبوأ العراق المرتبة 13 بالنسبة لجودة البحوث بين جميع دول منطقة الشرق الأوسط والبالغة عددها 16. وبالمثل، يبدو أن الأوراق التي تم الاستشهاد بها بشدة من العراق لا تضعه الا في المرتبة الأخيرة.

ويبدو لي ان فعالية انتاج البحوث من قبل طلبة الدراسات العليا مشكوك فيها، الامر الذي يشير إلى أن التعليم العالي في العراق لا يمكن تحسينه حتى يتم تحسين التعليم قبل الجامعي (وهو أساس التعليم الجامعي) بشكل كبير. وارى أنه على الرغم من توسيع القاعدة في التعليم العالي، إلا أنه لا يمكن الحصول على نتائج مثمرة ما لم يتغير نظام التعليم على مستوى المدرسة. إن مجرد زيادة عدد الملتحقين في الدراسات العليا وتوفير الحوافز دون التدريب اللازم للباحثين قد يضر أكثر مما ينفع.

من أجل الوصول إلى التميز، من المهم أن يغرس في الطلاب مهارة القرن الحادي والعشرين الأساسية للغاية في التفكير النقدي. وهو "عملية منضبطة فكريا لتصور المعلومات وتطبيقها وتحليلها وتوليفها و/أو تقييمها بفاعلية ومهارة جمعت من، أو تولدت عن طريق الملاحظة او الخبرة او التفكير او المنطق أو التواصل" (15).

ومع ذلك، وعلى العكس، لا يمكن لنا اكتشاف مهارة التفكير النقدي في أي مكان في وثائق او استراتيجيات او سياسات التربية والتعليم في العراق، وبالتالي، فإن تطوير عقل تفكير يتمتع بخصائص كونه موجها للبحث والإبداع، دون التركيز على تطوير مهارات التفكير النقدي يبدو وكأنه فكرة بعيدة المنال.

أوافق على أن نقص التمويل والفساد السياسي والاداري قد يكون جزءً كبيرا من المشكلة بالنسبة للعراق، لأنه من خلال زيادة اعداد طلبة الدراسات العليا والبعثات، تمكن العراق من تحقيق نمو مطرد في عدد المقالات البحثية المنشورة سنويا. لكن تظل الحقيقة أن 80٪ من الأبحاث تفتقر إلى الجودة وبالتالي فإن الدراسات العليا قد تكون عديمة الجدوى. يبدو أن هناك مشكلة لا يمكن لزيادة العدد والتمويل حلها: هذه الحقيقة تؤدي إلى عدم إصدار منشورات بحثية مؤثرة. أنا أرى أن العمل البحثي الجيد لا يمكن تحقيقه إلا إذا تم تعليم الباحثين (وجميع افراد المجتمع) التفكير بشكل نقدي.

هل يمكن ان يكون الشخص مثقفا بدون القابلية على التفكير النقدي؟

لا، لا يمكن وصف أي شخص بأنه مثقف دون امتلاك القدرة على التفكير النقدي، حيث يعتبر التفكير النقدي مكونا أساسيا من عناصر الفكر لأنه يشير إلى مهارة التحليل والتقييم الموضوعي للمعلومات والأفكار والحجج. وهو ينطوي على التشكيك في الافتراضات وفحص الأدلة والنظر في وجهات النظر المختلفة وإصدار أحكام مستنيرة. يمتلك المثقف عادةً مهارات قوية في التفكير النقدي، مما يسمح له بالمشاركة في التفكير المنطقي والتحليلي والمدروس. بدون القدرة على التفكير النقدي، قد يمتلك المرء المعرفة أو المعلومات، لكنهم سيفتقر إلى عمق الفهم والقدرة التحليلية التي تعتبر أساسية للفكر.

تتطلب عقلية المثقف الواعي التعامل بموضوعية مع جميع وجهات النظر، دون الانسياق لمشاعره أو مصالحه الشخصية. وتقوم على إدراك حقيقة أننا، بطبيعتنا، نميل إلى التحيز لآراء الآخرين، وتصنيفها إلى فئات (متفقة معنا) و (مختلفة عنا). نحن نميل إلى إهمال الآراء المخالفة مقارنة بآرائنا.

يتمتع المثقف النقدي بالصفات التالية:

التواضع الفكري

إدراك تحيزات الفرد  وحدود وجهة نظره ومدى جهله. على سبيل المثال ، يفكر العديد من الناس بقيمهم التي تفوق قيم وعادات غيرهم. فهمهم لمفاهيم مهمة في العلوم الاجتماعية والفنون والعلوم الإنسانية تختلف عن الاقوام الاخرى.

الشجاعة الفكرية

الوعي بالحاجة إلى مواجهة ومعالجة الأفكار أو المعتقدات أو وجهات النظر بشكل عادل والتي يكون لدى المرء مشاعر سلبية قوية تجاهها والتي لم يسمعها الشخص بجدية. الاعتراف بأن الأفكار التي يعتبرها المجتمع خطيرة أو سخيفة أحيانا ما تكون مبررة بشكل عقلاني - كليا أو جزئيا.

التعاطف الفكري

الوعي بضرورة أن يضع المرء نفسه بشكل خيالي في مكان الآخرين حتى يفهمهم حقا.  لفهم سلوكيات الآخرين ونواياهم بشكل شامل، يحتاج المثقف إلى اكتساب القدرة على أخذ وجهة نظر الاخرين في موضوعاتهم.

النزاهة الفكرية

الاعتراف بالحاجة إلى أن يكون المرء صادقًا مع تفكيره وأن يلتزم بنفس المعايير التي يتوقع المرء أن يفي بها الآخرون. كما يعني أيضًا الاعتراف بأمانة بالتناقضات في فكر الفرد وأفعاله. على سبيل المثال، اصبح الفساد والغش أمرًا منتشرا في المجتمع.  ماذا ان يكون المثقف فاسدا؟ يتطلب قبول أوجه القصور في تفكير المرء نفس القدر من الشجاعة التي تتطلبها المعالجة العادلة لوجهات النظر التي يختلف معها المرء بشدة.

المثابرة الفكرية

الميل إلى العمل من خلال التعقيدات الفكرية على الرغم من الإحباط المتأصل في المهمة. إجابات على القضايا الصعبة، أو عندما تظل تلك الإجابات غامضة.

حرية العقل

الاعتقاد بأن المصالح العليا للفرد ومصالح الجنس البشري بشكل عام ستخدم على أفضل وجه من خلال منح العقل الحرية، من خلال تشجيع الناس على التوصل إلى استنتاجاتهم الخاصة من خلال تطوير ملكاتهم العقلانية: الإيمان بأنه، مع التشجيع المناسب، يمكن للناس أن يتعلموا التفكير بأنفسهم. الثقة في العقل هي أيضا الثقة في الآخرين. إنه مبدأ تربوي.  إن تجربة الحرية والتشجيع لحل المشكلات بطريقة الفرد الخاصة يساعد على خلق نضج فكري. وهذا يشمل حرية المرء في ارتكاب الأخطاء والتعلم منها.

الاستقلالية الفكرية

دافع داخلي يقوم على فكرة التفكير الذاتي، امتلاك قابلية ذاتية عقلانية لمعتقدات الفرد وقيمه وطريقة تفكيره، عدم الاعتماد على الآخرين في التوجيه والتحكم في تفكير المرء. التفكير النقدي يضع المثقف في السيطرة وتجعله مسؤولا عن التعلم الخاص به.

اخيرا، دعني اقترح بعض الخطوات التي يمكنها ان تساعدك في استخدام التفكير النقدي في حل المشكلات واتخاذ القرار:

حدد المشكلة أو الهدف بوضوح ودقة.

اجمع المعلومات ذات الصلة من مصادر متعددة.

حدد الافتراضات والآثار والنتائج المترتبة على المشكلة أو الهدف.

قم بتقييم المعلومات للتأكد من دقتها وأهميتها واكتمالها.

قم بتوليد الحلول أو البدائل الممكنة بناءً على المعلومات.

قارن بين الحلول أو البدائل باستخدام معايير مثل الجدوى والفعالية والأخلاق.

اختر أفضل حل أو بديل بناءً على المعايير والأدلة.

تنفيذ الحل أو البديل ومراقبة النتائج.

***

محمد الربيعي

.........................

المصادر

1- Paul, R., & Elder, L. (2006). Critical Thinking: What It Is and Why It Counts (2nd ed.). New York: Pearson.

2- Bloom, P. (2011). Critical Thinking: A Guide to Evaluating Information. W.W. Norton & Company.

3- Critical thinking:  Definition, History, Criticism, & Skills. https://www.britannica.com/topic/critical-thinking

4- W. G. Sumner (1906). Folkways: A Study of the Sociological Importance of Usages, Manners, Customs, Mores, and Morals. New York: Ginn and Company

5- Karl Popper (1945)  The Open Society and Its Enemies. https://www.goodreads.com/author/quotes/349707.Karl_Popper

6- Sternberg, R. J., Roediger III, H. L., & Halpern, D. F. (Eds.). (2007). Critical thinking in psychology. New York: Cambridge University Press.

7- Halpern, D. F. (2014). The psychology of critical thinking (5th ed.). New York, NY: Psychology Press.

8- Kılıç, S. & Öztürk, M. (2022). Critical thinking skills among Dutch Muslim youth: The role of non-formal Islamic education. Journal of Applied Research in Education, 28(2), 125-144.

9- Dorkin, J. (2008). The development of critical thinking skills in international students: A case study of students from South Asia studying in the UK. Higher Education, 55(6), 689-706.

10- Shaheen, S. (2012). Critical thinking skills of Pakistani students studying in the UK: A case study. Journal of Studies in International Education, 16(2), 173-191.

11- Al-Janahi, M. (2021, March 17). The power of poetry to teach math and Arabic. TEDx Talks.

12 - محمد الربيعي (2015) حقيقة الواقع العلمي العراقي.

https://akhbaar.org/home/2015/2/185089.html

13- مهارات من أجل تحسين الإنتاجية ونمو العمالة والتنمية (2008). مؤتمر العمل الدولي، الدورة 97. اصدار: مكتب العمل الدولي، جنيف

 

الصفحة 1 من 5

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم