صحيفة المثقف

مقاربات فنية وحضارية

البسطاءُ يبتسمون، البسطاءُ يضحكون، البسطاءُ يلامسون شغاف الحياة، البسطاءُ يحتضنون وجودهم، البسطاءُ يستقطرون نفحات الروح، البسطاء ينبتون كالحشائش البرية، البسطاء يذهبون حيث تذهب الأحلام ... اختصاراً البسطاء بشرٌ ككل البشر: يفرحون، يحلمون، يتمنون، يقتنصون الأفراح من بين العيون.

هكذا يلتقط الفنان محسن أبو العزم (لحظات الحقيقة) بين الناس البسطاء. تمثل اللوحات تجليات أصيلة لجوهر هؤلاء الناس. عند (جذور الحياة)، لا يمثل الناس العاديون وجودهم بصورة زائفةٍ، ولا يتركون مكاناً للأكاذيب بينهم. إذا عاشوا عاشوا بملء الوجود. وإذا ماتوا، ماتوا بكل حقيقةٍ. وإذا تجملوا، خرج جمالهم من بين الركام.

هل معنى هذا أنَّ الحياة لا يعرفها إلاَّ من يعيشها بصدق؟

في بعض لوحاته، جسّد أبو العزم الروح الشعبي على الأصالة. أظهرت خفاء الحياة، حين تتجلى عبر تفاصيل لا تكاد تُرى. الأمل، الحب، الحزن، الصبر، الشجن، الرغبات، معنى الوجود، الاندماج، التواصل، الانصات، الاهتمام، البراءة، الانفعال، الغضب، الهدوء، القوة. وهي أشياء تعبر عن وحدة الحياة بين الناس جميعاً. ليس هناك مستوى أقل من ذلك، حيث يقف هؤلاء الشعبيون على حافة الواقع. فلا يوجد حيلة أخرى سوى الحياة ثم الحياة. وأكثر الأشياة واقعيةً لدينا نحن البشر، عندما لا تترك الحياة لنا أية فرصة للخروج منها، أي يجب أنْ توجد في وسطها حياً أو ميتاً.

ونتيجة الحياة المليئة بالتناقضات، يندمج هؤلاء مع النغم الذي يعشقونه، مع الروايات الشعبية التي يتلوها مطربون شعبيون على المقاهي. تبدو (لوحة المغني) دالة ومعبرةً عن النغم وروح الحياة. فالسرد القصصي يضع هؤلاء داخل أحداث الحكي مباشرة، إنه يعطيهم أملاً لتحقيق بطولات متخيلة وحياة ليست مثل هذه الحياة. وهذا ما يفتقدونه واقيعاً. كل ذلك يظهر على الوجوه المتحلقة حول الراوي. حيث يحمل الأخير ألة الربابة لمصاحبة الحكي بالموسيقى.222 محسن ابو العزم

يبلغ تماهي المستمعين مع السرد درجةً بعيدةً، كأنَّ المشهد لا يوضح أيهما يحكي للآخر؟! هل الراوي يروي القصص أم المستمعون يسردون له؟ إنه يعزف لهم من أنغامهم ومن عواطفهم وهم يطرحون أثقال الحياة ويندمجون في لحظات فارقة هي الإنسان. وبخاصة أن السرد الشعبي يعزف على هموم الناس، وليس أبعد من اتخاذها مادة مشوِّقة وخصيبة لإفهامهم: كيف يعيشون؟ وكيف يجدون حلماً في الحياة؟ وماذا عن مآلات الناس خيراً وشراً؟

يظهر المستمعون بين منصتٍ بعناية مُحلقاً في عوالم بعيدة، وآخر يترك ذاته مسرحاً لتقلبات الأحداث ساعياً إلى النهاية المطلوبة، وغيرهما مراقب يجسد إشارات التشويق أثناء السماع رافعاً أصبعه أو ملوحاً بيده. وبخلاف هؤلاء ثمة من يختلس الوقت للانهماك في الاستمتاع عبر حالة الشجن. وفي الأثناء لم يكف الراوي عن مواصلة الغناء المشوِّق، وفيما يبدو كان صوته قوياً مما يُنبيء عن طبقاته المتنوعة ومساحته بين انخفاض وارتفاع مع انحناءات السرد.

هناك راوٍ آخر غير مُبصر، وهذا حال أغلب الرواة الشعبيين، حيث يمارسون عملاً اجتماعياً، وليس مجرد التكسب والتسلية. فالروايات الشعبية تحقق نوعاً من رتق اللُّحمة بين الواقع والخيال، وهو الأمر الذي يتطلب تغذية مستمرة. اللحمة أخطر ما يُوجد في اللاوعي الشعبي. لأنَّ ما يمسك بنية الفئات المهمشة هو رصيد الصبر، وانتظار الغد الأفضل، وتحقيق الأمنيات، وإطلاق الأحلام إلى عنان السماء والتمثيل المتخيل لدراما الواقع ... وهذه جميعها تستمد وقودها من القصص الشعبي بالدرجة الأولى.223 محسن ابو العزم

اسندت الدول هذه الفجوة إلى وسائل الاعلام تحت نظر وأنف الحداثة مع وجود السلطة. ومع ذلك لم يستطع الاعلامُ بكل آلياته الراهنة أنْ يستقطب الاسماع كما كان يفعل الراوي الشعبي. أصبح الاحساس الشعبي يهفو ويرنو إلى وسائل أخرى من صناعته وأخيلته. لقد ظهر الأمر المهمل في الأغاني الشعبية الراهنة لدى قطاع كبير من الحارات والمناطق المترامية على نواصي المدن وداخل القرى والأرياف والنجوع.

- الراوي هو الحكي المنتظر في غير مناسبةٍ حيث يتطلع إليه الناس.

- علاقة الراوي بالمجتمع علاقة حميمة، لأنه عادة شخص من الفئات نفسها.

- الراوي يسرد ما يحلم به الناس ومن جنس الشعبيات.

- لا يوجد وسيط بين الراوي ومستمعيه.

- الروايات الشعبية هي التمثيل المتخيل الذي يجد فيه الناس نهايات مأمولة.

- الاعتقاد بكون الرويات الشعبية أكثر صدقاً ويقيناً من أية روايات أخرى.

ولذلك ستكون الروايات الشعبية من إلقاء شيوخٍ لا تبصر عادة، لأنَّ السلطة الغالبة تبصر، بل تتميز بحدة البصر. لا توجد سلطة لا ترى كل شيء، إنها تزعم معرفة دبيب النمل تحت حجر الوعي الأصم وداخل الأدمغة المقفلة. فكيف لا يقبل الناس ما هو أعمى لا يراقبهم ليلاً ونهاراً؟! إن الحس الشعبي بسيط لدرجة الذوبان من أول تواصل. ولهذا نقول دوماً إنَّ فلاناً بسيط في تعامله معنا. وهذا فحواه أنَّه يترك نفسه تلقائياً دون حواجز تماماً مثل الناس الذين لا يأبهون بالفوارق بين البشر. هو إنسان غير مفتعل عندما يتكلم وعندما يتوجه إلى هدف ما وعندما يريد ما يريده من أمور.

في إحدى اللوحات يرسم الفنان ابو العزم الملامح النفسية للرجل الشعبي. لوحة (بائع الشاي) فيما يبدو، وهو رجل يقدم مشروب الشاي في المناسبات الشعبية مقابل قروش زهيدة، ويضع أمامه أدوات تحضير الشاي، ويأخذ مكاناً مجاوراً من مظاهر الاحتفال. إذ يتمتع بقدر كبير من السكينة كأنه يعرف المصير، مولع بالانتظار حين يرى غيره يتكالب هنا وهناك بحثاً عن الفرص ويدخن سيجارته بنفس طويل طول الحياة التي يحياها. وتلك شخصية شعبية بسيطة إلى درجة لا توصف وعندما يصفها أبو العزم فنيا إنما يغوص بفرشاته في قعر المجتمع حيث الصدق والحقيقة دون تغيير. كان أبو العزم يردد أنه يتجول كثيراً في المناطق الشعبية تنقيباً عن هذه النماذج الأصلية، حيث قال ذات مرة: " أنا بحب أشوف المجتمع على أصوله بدون تغيير أو تزييف".

تعبير " المجتمع على أصوله" هو الجانب الذي لم يدخل عليه تغيير، أي لم يتحول بعد، لم يتطور إلى شيء آخر، لم يتزيف وبقى صامدا إزاء تيارات الحياة الجارفة. وهذا الجانب مازال موجوداً في المهن والأعمال والاحتفالات والأسواق الشعبية تحديداً. فليس هناك من تطور قد طرأ عليها وكذلك يبقى الناس مدينين لما في داخلهم من تلقائية وبساطة مفرطة. ليس ذلك لقلة عهدهم بالراهن من الحياة، ولكن لا مفر من تجليات ما يعتقدون أنّه أقرب إلى طبيعتهم وتكوينهم الثقافي، هو الفضاء الذي يشعرهم بالانطلاق وتحقيق الوجود الخاص.

"طول ما الشخصية بتعبر عن الروح المصرية الأصيلة، ليه أرسم غيرها؟!".. هكذا كان يردد الفنان محسن أبو العزم دائما واتخذ من المقولة السابقة معياراً، وكأنه يريد إزاحة التراكم الذي يدخل على طابع الشخصيات ويمزجها بملامح غريبة عن روحها.225 محسن ابو العزم

حتى التكنولوجيا تعد من الوسائل الطارئة في الأجواء الشعبية، هي لا تنفصل عن أساليب الحكي الشعبي، بل الأخير مازال معياراً في هذا المجال. وهناك لوحة تجسد هذا التحلق الشعبي حول جهاز التليفزيون داخل أحد المقاهي. ويبدو التليفزيون كأنه عفريت ظهر فجأة في الطريق العام، يتحلق حوله الشعبيون بين متعجب ومحملق ومتطلع نحوه بصبر وبين قريب منه وبعيد عنه. وكحال الأشياء الجديدة، تتقهقر الروح الشعبي إلى الوراء قليلاً حتى تستوعب ماوراء هذا (الجهاز الخرافي).

بالفعل كانت الروح الشعبي متوجسةً من هذا التلفاء كأداةٍ بامكانها المساس بجوهر وجودهم والأصالة التي يسعون إليها. فلن تستطيع الدول أنْ تمس هذا الجوهر ولم نذهب بعيداً، حيث عادة ما تحاول الدول أن تغير من نهج هؤلاء الناس، ولكن جهازاً صغيراً كالتلفاز يمثل تهديداً عبر الرؤية. إن النظر والفهم والعاطفة هي منافذ للروح، دليل إلى مكامن الأصالة فينا.

وأقسى ما يؤثر على وجود الشعبيين عدم الحفاظ على (الأشياء الصغيرة) التي هي مصدر بهجتهم. في لوحة بائع الذرة، ينحصر العالم وتختزل العواطف وتعبر أصدق تعبير عن مصادر البهجة البسيطة في حياة هؤلاء الناس.226 محسن ابو العزم

هناك اسقاط بديع وتجسيد لا يفهمه إلا الشعبيون. فالبائع يسخن النيران التي تنضج الذرة، وفي الوقت ذاته يبادر بنظراته الغزلية إلى الفتاة التي تشتري الذرة. والمعنى أن هناك مشاعر مشبوبة بالاعجاب تجاه الفتاة التي تلبس زياً تقليدياً. في الجوار تظهر ابتسامة خجولة على فم صديقتها تترجم هذا الغزل، وتلك النظرات نظرات كاشفة بينما تظهر علامات الغضب على الصبي الصغير، لأنه رأى المرأة التي ربما هي أخته أو أمه تتعرض لكهذا موقف.

هل النيران خيط بين المشاعر وشي الذرة وغضب الصبي؟ إن التلقائية هي المفسرة لهذا الموقف، تلقائية الموقف المشمول بالبساطة والبراءة، فلا يقصد بائع الذرة شيئاً غير محمود العواقب، ولا النيران تستطيع أن تشوه الذرة ولا غضب الصبي سيخرج إلى فعل متهورٍ، لكون الأخير لا يقدر. والإبتسامة من الفتاة في الجوار هي الخلاصة التي تؤول إليها المعاني. مجرد موقف طريف تعرضت له إحدى النساء الشعبيات حين ذهبت لشراء الذرة المشوية.

إن الغزل في الأوساط الشعبية يكشف عالماً لم يكن واضحاً لأول وهلة. وسيلقى استحساناً بين الناس كنوع من الطرافة التي تُخلع الابتسام والآمال على كآبة الواقع، ويعطي فرصة للبوح والتعبير عن رموز وخصائص الثقافة.227 محسن ابو العزم

يبدو الغزل في اللوحة بالأعلى أنَّ العرقسوس (المشروب الشعبي) أخذ يروي الأرض نتيجة انشغال البائع بمغازلة الفتاة التي تقترب للشراء منه، وأخذ وجهه يتهلل بالتشوف نحو النساء وهي رغبته المبدئية، لكي يوجد على سطح الحياة بدلاً من الاندثار داخلها. والغزل جزء من متنفس شعبي لا يجد هناك باباً آخر، لأن هذه الفئات لا ترضى بتجاوز الحدود، ولكنها تستعرض قدراتها كنوع التهيئة المتواصلة لمعرفة الجنس الآخر.

إن الغزل العفيف هو (مجاز الحياة الشعبية) على الأصالة، ويبدو استعراضاً للقوى أمام الآخرين. فالبطولة التي لا تذهب بعيداً قد تنحصر في ألعاب شعبية أو في علاقات إنسانية بمضونها الاجتماعي بين الناس أو إبداء ألوان الغزل والتسابق على هذا الأساس في حلبة الاستعارات تعبيراً عن علاقات الحب والاندماج مع القصص الشعبية.228 محسن ابو العزم

لم يخلو الأمر من ممارسة (الغزل الرياضي) أيضاً إن صح التعبير. فالرياضات الشعبية هو (مغازلة اجتماعية) للطبقات الأوفر حظاً بأن هؤلاء الفئات يمارسون جوهر الحياة. فليس مصادفة أن هناك أبطالاً من الأحياء الشعبية في مصر وغيرها من الدول الأخرى. والرياضة في لوحة الفنان أبي العزم تصغير لآمال يمكن أن تزور أحدهم يوما ما. والروح الشعبي نفسه أحد أشكال التجلي العام للمجتمعات، فلا تخلو مساحة الأصالة من التعبير عن الحياة كما ينبغي أن تكون. وهي الرغبة العميقة عمق الوجود الإنساني.

أكاد أجزم أن كل الأفعال تنتسب إلى هذا العرق البشري من الرغبات. فالأمهات الشعبيات يسعين إلى إبراز ابنائهن في أجمل صورة مقارنة بأبناء الطبقات الراقية. إن المقارنة عند نظرها الغائر لا تكف عن عقد الصلاب بينهم هنا وهناك. فعندما تحرص الأم البسيطة على استحمام ابنها وتأحمله عنوة على ذلك كما يظهر في اللوحة، فلا تذهب بعيداً إلا مقارنة بصورة الأولاد في المناطق الراقية. وتبدو مأخوذة بهذا المشهد بصورة جادة، على أمل أن تصنع من ابنها أو بنتها شيئاً تفتخر به أو ينتشلنها من هذه الأوضاع مستقبلاً.229 محسن ابو العزم

ورغم أن الفوارق كبيرة بين الفئات الشعبية وغيرها إلاَّ انها تظل فوارق قابلة للعبور، لأن الطبقات ليست منفصلة في المجتمع وأحلام عبور الطبقات أمر يراود الجميع ويجعلها الواقع أمراً حاضراً. بل يظل أمراً يراود الفئات الشعبية طوال الوقت. والأم هنا بمثابة الثقافة التي تغسل ابناءها أمام التلقي عارضة قدرات الإنسان على أن يبدو كما هو، وفي الوقت نفسه يطرق أبوابا اجتماعية موصدة.230 محسن ابو العزم

حتى على الصعيد الشخصي، يتحول الأنا لدى الفئات الشعبية إلى مرآة ثقافية كذلك. مرآة تجسد صورة الفرد وقد حلّقت أحلامُه مع آفاق الجمال أو الثراء أو القوة أو المكانة الإجتماعية. وكل ذلك من أجل أن يقول الإنسان (ها أناذا). أي ها أنا إنسان له كامل الكيان للتعبير عن نفسه بلا تزييف. وأنا سأبدو لنفسي كما أنا كبصيص من الأمل في حياة رغدة أخرى. فالمرأة في اللوحة السابقة (تتزين وتتمكيج making up) من أجل أن تبدو في مرآة (الثقافة) مميزةً ومحط الاعجاب، أن تبدو إمرأةً جميلةً. هي تعتني عندئذ بجمالها الذي تراه كامناً وآخاذاً، وأنْ تبحث عنه بما يليق مستحضرةً المرأة الآخرى داخلها. هذه المرأة التي تريد أن تكونها طوال الوقت. ولذلك تحاول المرأة أمام المرآة ابداء الاعجاب بذاتها المتخيلة. واللوحة تقول إن المرأة هي المرأة تبحث عن جمالها الدفين، سواء أكانت شعبية أم غيرها رغم معاناة الواقع والحياة.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

سعى المتحمس لألعاب الذكاء الاصطناعي وعالم الكمبيوتر كاميرون براون  لجمع ووصف واختبار العديد من ألعاب الطاولة التقليدية. وكان ينجح، في بعض الأحيان، في العثور على القواعد المفقودة.

"هذه هي لعبة الملك في أور"، يوضح براون الذي يحمل بين يديه لوحة ألعاب خشبية بها عشرين صندوقًا مربعًا تحتوي على رموز هندسية بها أزهار وعيون. لقد تم العثور على لوحات ألعاب مماثلة في مدينة أور السومرية القديمة، في جنوب بلاد ما بين النهرين. ويرجع تاريخ أقدم لوحة إلى ما بين 2600 و2400 قبل الميلاد.

عندما تم العثور على هذه الألواح، لم يكن من الواضح وجود لعبة على أحد هذه الالواح. ويرجع الفضل في ذلك الاكتشاف إلى المؤرخ البريطاني وعالم المسماريات إيرفينغ فينكل Iring Finkel  الذي قام بدراسة الألواح الطينية البابلية في المتحف البريطاني والتي بدت وكأنها تصف حركات اللعبة.3725 لعبة الملك اور

لعبة الملك أور التي تم بالفعل اللعب بها في بلاد ما بين النهرين.

إن لعبة الملك أور هي واحدة من 1029 لعبة لوحية جمعها براون وطاقم العمل البحثي في جامعة ماستريخت (هولندا) في قاعدة بيانات الألعاب التاريخية الخاصة بهم.  بحسب قوله ،إن هذا المشروع، Digital Ludeme Project (DLP)، على وشك الانتهاء، وهناك  كتاب عنه في طور الإعداد.

ويضيف وهو في مكتبه، حيث توجد مكتبة أخرى مليئة بألعاب الطاولة الغريبة، من ألعاب M-N  القديمة والغامضة التي وجدت في بلدان من مدغشقر إلى سوراكارتا الحديثة، بأن قاعدة البيانات هذه تمتد من عام 3500 قبل الميلاد إلى حوالي عام 1870. وهي قاعدة البيانات الأكثر اكتمالا لألعاب الطاولة.3726 لعبة الملك اور

لعبة فورونا من مدغشقر نشأت من اللعبة العربية "الكرك".

أهمية البيانات التاريخية

إن قاعدة البيانات هذه هي نتيجة منحة بحثية أوروبية مدتها خمس سنوات بقيمة مليوني يورو، ساهم  فيها أربعة باحثين بالإضافة إلى براون. فهي تصف البيانات التاريخية والأثرية الموجودة حول الألعاب، ولكنها تصف أيضًا ما نعرفه عن قواعد اللعبة. على سبيل المثال، يمكنك العثور على اللغة اليونانية القديمة Pente Grammai (في خمسة أسطر)، والشطرنج ولعبة الداما في جميع أنواع المتغيرات، ولكن يمكنك أيضًا العثور على اللغة الإنجليزية Three Men's Morris، أو اللغة الصينية القديمة Wo Shu ، التي نعرف فقط أنها كانت شائعة طوال 200 إلى 500 سنة. إنها ألعاب "استراتيجية" أو "اندماجية"، وألعاب تقليدية تركز على الجانب المنطقي أو الاستراتيجي، ولا تشبه ألعاب الورق أو ألعاب النرد الخالصة أو الألعاب الحديثة المعقدة مثل المخاطرة أو الاحتكار مثل لعبة Risk of Monopoly.

بحسب براون، لم يكن الهدف من قاعدة البيانات هذه التوثيق فحسب، بل التحليل أيضًا. فإذا تمكن فريق العمل من تعلم ما يكفي عن لعبة ما، آنذاك يبرمجها في مشغل Ludii الخاص به وذلك حتى يتمكن من تحليل الأشكال المختلفة للقواعد وتحديد مدى نجاحها. ومن بين السبعمائة لعبة التي نجح هذا الفريق في برمجتها، كانت حوالي مائة منها غير مكتملة. لكنه تمكن، في نهاية المطاف، من إعادة بنائها.

إن كلمة "Ludii" تعني "ألعاب" باللاتينية وهو الاسم الذي اطلقه براون على مشغله. إنه  مهووس، منذ سن مبكرة، بلغة البرمجة واختبار ألعاب الطاولة. إنه يقوم بتهجين أو ادماج جزءًا من التعليمات البرمجية للعبة اللوحة الأفريقية Ashanti ، ثم يستحضرها على شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص به. هناك مفتاح (كود)  يصف لوحة اللعبة، وكيفية تحرك القطع ومتى تفوز، أي مخطط اللعبة. ويطلق على هذه المجموعات من عناصر اللعبة اسم Ludemen، وهي مستوحاة من جينات من علم الأحياء.

الذكاء الاصطناعي

ولكن كيف نجعل اللعبة ممتعة؟ للتحقق من ذلك، قام الباحثون بتطوير الذكاء الاصطناعي (AI)، الذي يلعب اللعبة ضد نفسه بضع مئات من المرات، وبالتالي يتعلم طريقة اللعب قليلاً. بحسب براون، يمكننا، بهذه الطريقة، أن نرى كيف تتصرف اللعبة.

على سبيل المثال، اللعبة التي تفوز بها في خطوة واحدة ليست مثيرة للاهتمام للغاية. لكنك أيضًا لا تريد القيام بآلاف التحركات دون الحصول على نتيجة نهائية. إذا كان بإمكان لاعب واحد أن يفوز دائمًا، فيمكن أيضًا إلقاء اللعبة التي تم إنشاؤها حديثًا في سلة المهملات. ويضيف بأننا نأخذ أيضا قياسات لمعايير أكثر تعقيدًا، مثل ما يحدث في الدراما. إذا تقدم أحد اللاعبين كثيرًا، فأنت بحاجة إلى تحركات ذكية لتغيير الاحتمالات فجأة وبشكل كبير.

أما المعيار الآخر فهو وجود سلم استراتيجي. عندما تتعلم لعبة ما، فإنك تلتقط بعض الاستراتيجيات البسيطة. لكن الاستمرار في اللعب يتطلب أيضًا ظهور استراتيجيات أعمق على كل مستوى. لذلك تريد أن تكون هناك أشياء جديدة لتتعلمها بغض النظر عن مستوى لعبك. الشطرنج لديه سلم استراتيجي جيد، لكن لعبة "التيك تاك تو" لا تمتلكه.

سهولة انتشار الألعاب الشعبية

في البداية، كان الباحثون يأملون أيضًا أن يتمكنوا من متابعة تطور الألعاب على مر القرون. يقول براون أن هناك عائلات معينة من الألعاب. مثل لعبة الملك أور، ومحاكاة المعارك مثل الشطرنج، أو ألعاب منقولة من أفريقيا والمناطق المحيطة بها، والتي يتم فيها توزيع الحجارة على ثقوب في دائرة.

لقد تم العثور على الألعاب وألواح الألعاب وقطع اللعب في الحانات والأسواق وأحيانًا في المعابد، وفي أي مكان يلتقي فيه الناس ويريدون قضاء بعض الوقت أو التعرف على بعضهم البعض. وهذا يدل على أن الألعاب الشعبية تنتشر بسهولة.

هكذا تم العثور على لوحات لعبة أور الملكية بمناطق ممتدة من جزيرة كريت إلى سريلانكا الحالية. وقد لعبت الجالية اليهودية في الهند نوعًا مختلفًا من هذه اللعبة في الخمسينيات من القرن الماضي. قد تكون مقدمة لتطور لعبة الطاولة Backgammon.

لقد أدرك براون أن تجميع شجرة عائلة ألعاب الطاولة هدف بعيد المنال. وأنه ليس من الضرورة أن تكون لعبتان متشابهتان منحدرتين من بعضهما البعض.  ومن الأمثلة الصارخة على ذلك لعبة باتشيسي Pachisi  الهندية، التي تشبه إلى حد كبير لعبة Azteek Patolli أزتيك باتولي، والتي كانت تُلعب بالفعل قبل عام 1492، عندما وصل كولومبوس إلى أمريكا. ويستشهد بأحد زملائه الباحثين بأن لا يوجد شيء وراثي في الألعاب.

تخمين القواعد

وفي كثير من الحالات، لا توجد معلومات كافية لإعادة بناء قواعد اللعبة، كما هو الحال في لعبة سينيت المصرية. وبحسب قول براون، إنها ثاني أقدم لعبة نعرفها أيضًا على وجه اليقين. كما تم العثور، أيضا، على صور في مقبرة توت عنخ آمون، بالإضافة إلى مئات من لوحات الألعاب، التي مازلنا نبحث على قواعد اللعب بها.3727 لعبة الملك اور

سينيت لعبة مصرية قديمة

إن هذا ليس غريبًا، بحسب براون. غالبًا ما تكون قواعد الألعاب بسيطة، أو يتم تمريرها شفهيًا، أو تتعلمها للتو من خلال اللعب. وليس من الضروري أن نتحدث لغة بعضنا البعض. ويضيف أن هناك العشرات من المقترحات لقواعد سينيت الجيدة، لكننا لا نعرف شيئًا على وجه اليقين. هناك ببساطة القليل من البيانات. أما بالنسبة للعبة المشتبه بها بأنها أقدم لعبة، M-N، فإننا لسنا متأكدين حتى مما إذا كانت لعبة على الإطلاق. والدليل الوحيد هو وجود صورة مصرية قديمة. ومع ذلك، لا يزال لدى براون صندوق به نسخة منها على رفه، التي تحتاج إلى تخمين قواعد لطرحها كلعبة قابلة للاستخدام.

***

نجاة تميم

إذا كان لنا أن نتناول بمثل هذه اللمسات النقدية تجربة الفنان خالد القصاب، فذلك يعني بأننا إنما نجري في تيار الزمن من مبتدئ حركة التشكيل في العراق ونعود إليه في استذكارات عذبة من تاريخ الرسم الخمسيني ل (جماعة الرواد).

ما الذي يعنينا هذا التاريخ الذي قرأنا عنه بما يكفي من إشارات، أو ربما البعض القليل من عايشه؟ نقصد بذلك ان تجربة الفنان القصاب ارتبطت بالمراحل التأسيسية للفن المعاصر في العراق، وكانت له منذ البدء علاقات واسعة مع أقطاب الفن الرواد  وفي مقدمتهم جواد سليم وفائق حسن واسماعيل الشيخلي وعيسى حنا وحافظ الدروبي وغيرهم.

هو ذا عبير الماضي إذاً الذي يذكرنا بالزمن الذي تشكلت فيه أول المحاولات والمشاريع الفنية الصغيرة في حقل التشكيل العراقي، وسرعان ما يكتشف الفن طرائقه الخاصة للتوازن مع نقلات العصر وتحولاته، وهو ما حصل في عام 1950 حين ساد الاعتقاد بين عدد من الفنانين الشباب بأن تكوين (جماعة) يعني إيجاد حلقة وصل تربط الفن بالمعرفة، كما تخرج في الوقت نفسه بصيغة جديدة تلتمس فيها قوة الفعل الجماعي المشيد على قاعدة العمل المشترك والمستجيب لنقد الذات، وهذا ما جرت عليه (جماعة الرواد) وما أخذت به على نفسها طيلة وجودها بفعالية داخل المشهد.

ان ظهور هذه الجماعة كمجموعة فنية تتجاوز مرحلتها الطفولية الاولى في الأربعينات الى مرحلة شبابها جاء معبراً عن موقف جديد اقترن بالدعوة إلى الرسم بأساليب مطلع القرن العشرين ومنتصفه في أوربا، كما يذكر ذلك شاكر حسن آل سعيد في كتابه (فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق ج1).219 خالد القصاب

لقد عثرت هذه الجماعة على منظورها الخاص، ليس من خلال الفلسفة، بل من خلال المحاولات التشكيلية المتّسمة بطابع (التجريب) وهكذا فقد ارتمت منذ البداية في أحضان الطبيعة، ومارست الجماعة فعلاً ارتيادها بساتين (الجادرية) استغراقاً وتماهياً مع المشهد الطبيعي.

كان خالد القصاب يحلم أن يكون رساما، أو مهندساً معمارياً، ولعدم وجود هذا الاختصاص في جامعة بغداد، مطلع اربعينات القرن الماضي، اضطر للتقديم الى كلية الطب، فتخرج طبيباً رغماً عنه، الا ان سنوات الدراسة الأولى كشفت عن قدراته في الرسم، وتعلقه فيه، وتعرّف حينذاك على الفنان فائق حسن الذي أحسن توجيهه ورعايته، ومن خلاله تعمقت علاقته بالفنانين الرواد، وشارك في معارضهم، وكان منزله قد استقبل أول معرض للرواد شارك فيه بعدد من الأعمال.

بعد هذه الانعطافة التاريخية، اكتسبت أعمال القصاب شيئاً من خصوصية  الارتباط الفني بتاريخ تلك الجماعة، وما نجد في أعماله من ملامح ذات جذور مدرسية - انطباعية، لا يبعده كثيراً من احتفاليات الجماعة أيام كانت البساتين وحقول ضواحي بغداد مسرحاً لنشاطاتها الدائبة، لذا استمر خالد في العمل من دون  رفض للاقتناع بذلك القانون الذي يعتبر الطبيعة هي هبة الله للفنان. وهو يعلم بما يملكه من ثقافة فنية عالية، ان ما يفعله الآخرون حينما حينما بدأوا بتحطيم الأشكال والبحث عن أبعاد جديدة من خلال تركيبات واستبطانات مبتدعة، انما يحمل في طياته مخاطر واحتمالات لا يجد انه مدعو للخوض فيها، ما دامت الحركة تأتي ذاتها يومياً بالجديد المضاف الى القديم أو الابداعي الذي يقصي مألوفاً في الساحة الفنية.

ان أمانة التقييم التاريخي تقتضي أن نضع الاشارات الدّالة بموضوعية لتجربة القصاب التي تميزت باقتناص اللحظات الجميلة في الطبيعة والمحيط والحياة بكل معناها، فهو لا يرسم من أجل قتل الوقت أو للهواية فحسب، بل يرسم للتعبير عن رؤيته في معنى الحياة، اعني به التعبير الأمثل عن مسراته الداخلية وسعادته الدائمة، بملوناته التي تنقلنا بالإيماء أو الإشارة الخفية إلى المعنى المطلق لهذه الطبيعة.220 خالد القصاب

نقول استطاع الفنان خالد القصاب أن يقول لنا ببساطة: ان عالمه الأثير ما هو إلا جنة سحرية هيأت للمشاهدة الشعرية، لذا فقد حمّل ريشته أكبر قدر من طاقة اللون، وأكد على النور الوهاج في حال، والظل البنفسجي العميق في حال أخرى، ناثراً ما بين الألوان: نقاط الفضة الخالصة، ولمعان الصدف المشع، وقطرات الذهب المشع، غير ناسٍ ما يحمله الطين العراقي من لون  ترفعه الى قمة الرؤية يقظة الخضرة الماثلة، وتطامن البيوت وهيبة الجبال والوديان والنخيل والأنهار، حتى لكأنها تستعيد في أذهاننا ما بين قوانين الطبيعة الصورية، وبين التنوع اللامحدود للظواهر من علاقات.

ان ما تحقق خلال تجربته الفنية تضع الفنان القصاب إلى جانب أبرز الفنانين العراقيين المهتمين في رسم الطبيعة وبلورة واقعية تفصح عن أعماق رسامها، أي عن رؤيته وتكوينه النفسي وبالتالي عن أسلوبه المميز في توزيع اللون والكتل ورسم الخطوط والحركة. وفي ضوء آراء النقاد يحيل البعض منهم أسلوبه الى اسلوب الرسام الانطباعي الفرنسي " بول سيزان" ويؤكد الناقد والروائي جبرا ابرهيم جبرا هذه الحقيقة في اشارته الى استرسال القصاب في استقصاءاته للطبيعة، ليضيف كل مرة عمقاً جديداً الى رؤيته.

لم تقتصر حياة خالد القصاب (1924-2004)على الرسم فقط، فهو الى جانب كونه طبيباً جراحاً ماهراً، واستاذاً للجراحة في كلية الطب، كان القصاب عنصراً فعالاً ونشيطاً في المشهدين الفني والاجتماعي، وله اسهاماته المتعددة والمتميزة في الحراك التشكيلي والمشاركة المعارض، وتأسيس الجماعات الفنية، فكان أول سكرتير لجمعية(الفنانين) التشكيليين العراقيين فيما بعد، إثر أول مؤتمر تأسيسي لها عقد في النادي الرياضي الملكي في الاعظمية، أواخر عام 1955، وانتخب المعماري محمد مكية رئيسا للجمعية، وأكرم شكري نائباً له، والأعضاء كل من: اسماعيل الشيخلي، جواد سليم، فائق حسن، قحطان المدفعي.221 خالد القصاب

صدر للفنان القصاب في عمّان كتابه (ذكريات فنية)، عام2007 الذي تصدرته مقدمة الكاتبة والناقدة مي مظفر، التي جاء فيها:

" يغوص القصاب في كتابه إلى أعماق ذاكرته ويمسك بخيوطها فيستعيد ملامح أحداث عايشها بملامسة ساخنة. انه لا يذكر ذاته إلا من خلال الآخرين، فالجماعة، كل فرد فيها، هم أبطال هذه المذكرات، والوطن الذات الطاغية.

تتناول المذكرات نشأة فنون الرسم والنحت والخزف، كما تتحدث عن العمارة، وبذلك يضعنا أمام صورة متكاملة لحقب من تاريخ العراق الحضاري.

يلوذ القصاب بذاكرته هارباً من سواد اللحظة، محاولاً استرجاع جانب من وقائع تؤول للمحو، فأعطانا درساً بالتوثيق والروح الانسانية المتسامحة لزمن لن يعود".

كانت بينه وبين الفنان الراحل ناظم رمزي مراسلات، مكتوبة بعاطفة حميمة تذهب الى الخصوصيات والمزاح، واللمحات الطريفة نشرت في كتاب رمزي ( من الذاكرة)، تلك الرسائل بينهما، سردية تكشف عن ذاتين انتهيتا الى نفس المصير... الموت بعيداً عن الوطن .

***

جمال العتّابي

هل تُؤثر الطقوس ثقافياً في حياة الإنسان؟ هل تحتل الطقوس منطقةً واضحةً أم غامضةً من تكويننا البشري؟ بأية معانٍ تسقط عباءةُ الطقوس هنا أو هناك داخل المجتمع؟ ماذا لو تمَّ تجسيدها فنياً؟

الخيط الناظم داخل أغلب لوحات الفنان محسن أبي العزم هو الطقوس. خيط امتدّ ضمناً وصراحة رغم اختلاف الموضوعات التي تجسدها. وهو الرابط الذي يتأصل وراء اللوحات التشكيلية نتيجة فهم عميق لمنطق الإنسان. إنه تعبير عن ثقافة المجتمعات العربية إجمالاً، مجتمعات(تستمدُ أسرارها) من الطقوس و(تصْنع الطقوس) إلى درجةٍ كبيرةٍ، حتى أنَّ الأحداث والمظاهر المؤثرة في ذاكرتها ذات طبيعة طقوسية مع رمي الخيط إلى منتهاه. فلكي تكون مجتمعاتُنا ذاتَ تأثيرٍ في الذاكرة، لابد أنْ تُدخِل فاعليها عبر طقوس حيةٍ. والطقوس هي أقرب الصور التي تتجلى خلالها نقاط إلتقاء بين (الدين والسياسة ورؤى العالم والحياة).

هذا الأمر يفكُ شفرات اهتمامنا المتواصل– نحن العرب والمصريين- بالطقوس (دينياً أو غيرها) بقدر تنوع مظاهر الحياة. في الدين طقوس، في السياسة طقوس، في الاقتصاد طقوس، في التعليم طقوس، في المناسبات طقوس، في المجال العام طقوس، في سلوك الأفراد طقوس. ولعل تلك سمة تميز المجتمعات البشرية لا العربية حصراً. وذلك لكي يواصل المجتمع ممارسة وجوده الرمزي أمام فاعليه طوال الوقت، فالمرجعيات تدخل من باب الطقوس إلى عقول ووجدان الناس. وهي أقرب وسيلة لإقناعهم بالأفكار والأفعال والانجذاب إلى نظام عام يؤطر الرؤى ويجدد المبررات التي تمسك وعي الأفراد.210 محسن ابي العزم

حيث يمثل كيانُ الإنسان (هدفاً وإداءً)، (وسيطاً ومعنى) في الوقت نفسه. وتكشف الطقوس قدرتنا نحن البشر على انتاج الغموض كجزءٍ لا يتجزأ من وجودنا. الغموض هو المسافة التي تركها (البعدُ الميتافيزيقي) داخلنا أمام بعضنا البعض. فالإنسان مسكون بالمقدس، الاسرار، الألغاز، ولن يتعايش معها إلاَّ بالأداء الذي يجسد الأفكار. كل إنسان أسير لغموضه المأخوذ بتجليات حياته عبر أداء قلَّ أو كثُرَ. وفي المقابل، يؤكد ذلك أننا لم نعمق جوانب الإنسان الأخرى، لكي يختار صور حياته بشكل حر. وأنَّ مسئوليتنا العامة لم تعد محل ثقة إلاَّ بمقدار ولائه لأشياء واعتبارات أخرى مثل المعتقد والقوى الغالبة والمصالح. ونحن لم نرتق بعد إلى تأسيس مجتمعاتنا على عقد اجتماعي حُر يعطينا كل الحقوق ويأخد منا كامل الواجبات.

تستحضر الطقوس عدة أشياء:

1- الجانب المغيّب من الطقوس (عالم الغيب- المقدس – الأسرار – الإله).

2- نمط الطقوس مثل: (تحصين البيت من الجان- قراءة القرآن – إطلاق البخور – زيارة الأولياء – الرقية- التبرك – مراودة الأقدار).

3- الوسيط (الشيوح – العرافون- أهل البركة- الأولياء).

4- مظهر الطقوس بين الناس والقائمين بهذه الطقوس.

5- أداء الطقوس (الانهماك – الاستغراق – التجلي – التعبيرات الرمزية).

هي سمات توافرت في لوحة (الرُقية أو التعويذة incantation) التي يقدمها أحد الشيوخ لفتاة تعاني- فيما يبدو- من عثرات مقتبل العمر. والمشهد طقس ثقافي لا مجرد احضار لأحد الشيوخ بالمعنى الدراج. فالرجل مندمج في اشعال البخور ورسم الصورة وتلاوة آيات من القرآن أو من الكتاب الذي يقرأ منه. وتتفتح الفتاة مع التبخير الذي يتصاعد بين يدي الشيخ، وكذلك من جانب الخادمة الواقفة بالوراء والتي تعد جزءاً من الطقس. لم تشعر الفتاة بالحرج من وجود الشيخ الغريب، المجهول، بالرغم من أنَّ كيانها يدخل دائرة المحظورات، وكذلك لا يعبأ الشيخ بهذه الدائرة، لكونه منشغلاً بأسرار العمل. والثلاثة يرسمون دائرة من الطقس الملغز الذي يشد انتباه المشاهد.

ولكن ما الجديد الذي يجسده (طقس الرقية)؟ إنَّ الأسرار في مجتمعاتنا العربية – وبخاصة مجتمعنا المصري- لا يعلنها إلاَّ سرٌ آخر أكثر تأثيراً. الأسرار تزحم آفاق الإنسان وتتجاوب معها القوى الرائجة لديه. وكأن المسألة الإنسانية تظل طي الكتمان إلاَّ من إنفجار مخاوف البشر. فالحريم وحياتهن وأحوالهن وما يعانين منه .. موضوعات غير قابلة للمساس(المحرمات). ولكن استطاع الشيخ (القائم بالطقس) أن يدلف إلى تلك الدائرة المغلقة. ويرى الفتاة مكشوفة الوجه وبعض الجسم من غير حائل. وهو الانكشاف نفسه بالنسبة لمروضي السلطة حين يقتربون من بعضهم البعض باسم (التعاويذ) لطرد الشياطين والمناوئين.

كلُّ سرٍ مستغلق على الانكشاف عادة ما يُنتهك باسم الطقوس أحياناً، حتى أن جوف المنازل والبيوت يتعرى لمن لا يعنيه الأمر. وهذا ما يوجد بالطبع على الصعيد الاجتماعي والسياسي العام أيضاً. فالسياسة واقعة في مجتمعاتنا عبر دائرة المحظورات، ولن يدخلها أحد من غير حمل (مشاعل الأسرار)، ومن غير قدرته على التأثير النافذ، سواء أكان عن طريق سلطة مقدسة أم دنيوية أم مادية أم بشرية.211 محسن ابي العزم

ولذلك يصل إلى المتلقي إحساسٌ بأن الطقس يتعلق بشيء متجاوز للواقع عادة. وأن الحقيقة ليست حاضرة لذاتها بالنسبة إلينا، فهناك شيء آخر يجعل الأسرار أكبر من وجود الإنسان. وهذا السبب في أن الإنسان يعرض نفسه للنظر مقابل غموض الأسرار. لأنه يعلم أنَّ هذا الإنسان ستأخذه الحقيقة أبعد من التفاصيل الضيقة. فالبخور مع التلاوة ونظرات الفتاة والخادمة في اللوحتين السابقتين يجذب المتلقي نحو واقع فائق على الوصف. وأن السر بإمكانه الانتقال الغامض إلى المتلقي بالنظر المدقق. وربما الفنان محسن أبو العزم يدرك هذه الفكرة إدراكاً فنياً يجعله يواصل هذا الخيط في أغلب إبداعاته الفنية. هو في لوحة أو اخري يسعى إلى ثلاثة مسائل:

أولاً: تشكيل طقسٍ ما حتى لو من مواقف إنسانية عامة.

ثانياً: إبراز الطقوس بوصفها مرتهنة ببنية المجتمع المصري.

ثالثاً: ربط الطقس بلاوعي المتلقي، وبالتذوفق الجمالي حين يعطي اللوحات عمقاً بخلاف الصور والألوان الجاذبة للرؤية المباشرة.

تأكيداً لهذا، فإن السمات الآنفة التي تميز الطقوس توجد في المشاهد الإجتماعية التي يترصدها الفنان إزاء مظاهر الحياة الشعبية الأخرى. فالإحتفال بميلاد طفل يأخذ الإطار والأداء نفسه الذي يفرزه الطقس الديني. إن الاثنين شعيرتان أحداهما ذات تجلي ديني غيبي والآخر تجلي إجتماعي ثقافي. والفنان يعبر عنهما بمنطق التكوين والحركة الثقافية التي تولد النتائج. فالطقوس الإجتماعية تجسد بدورها ما يلي:

1- قوة الانجذاب إلى الفعل (الحضور – الانشداد للمعنى- الإهتمام الوجودي).

2- التجسد (اخراج النوايا- التلقائية - العمل – استدعاء المغيب).

3- السرد (الاحداث المتشابكة – الصور المتداعية- الحبكة الدرامية).

4- الأداء الذي يشكل الواقع (حالة فرح– حالة تواصل- ممارسات شعبية – مشاهد من الحياة).

5- المشاركة الجماعية (النساء والأطفال والرجال وخلفيات المجتمع).

6- المعنى الكلي (تداعيات الثقافة - صورة المجتمع – الآثار البعيدة).212 محسن ابي العزم

ففي المناسبات، يحرص الفنان أبو العزم على رسم جوانب الطقس الاجتماعي مع التفاعل بين عناصر المشهد، وتحويل السر من ورائها إلى معنى كلي يجب أن يتوافر بمساحة اللوحة – الحياة. لأنَّ اللوحة تأخذ جانباً طقوسياً هو الأعم للممارسة مما يعطي المتلقي مساحة لإلقاء المعنى إلى أبعد نقطةٍ ممكنةٍ. ففي اللوحة السابقة، يصور مجموعة من السيدات أثناء أحد الأفراح. تبدو الصورة معبرةً عن تبادل الفرحةِ كل بحسب ما تنخرط فيها. فهناك من تزغرد، وهناك من وضعت الحناء على يديها مع الحوار أو الشد والجذب. وهناك من تقف مشاركة في تجسيد المعنى وغيرهما تترقب المشهد ولا تبتعد عنه.

ورغم وجود نوع من المشادة بين النساء إلاَّ أن حناء اليد والخيمة المستعملة وبعض الآلات الموسيقية مثل طبلة الأعراس تشي بوجود مظاهر الفرحة. وهو التناقض الذي يحدث عادةً في الاعراس، فمع الأفراح تحدث بعض المشاكل التي تظهر على السطح كما هو حادث في اللوحة.

ومعنى الطقس يُبرز هذا التناقض، فالطقس يحتوي على الترهيب والترغيب. إن العرس يأخذ دلالة السعادة والفرح وكذلك لا يخلو من منغصات بين أطراف مختلفة. حتى ولو كانوا أطرافاً رئيسة مثل أهل الفرح أنفسهم. وهذا ما يحدث في الأفراح الشعبية عادة من ارتباطها بالعراك الذي يؤدي إلى أحداث أكبر. وهو مظهر كرنفالي عام.

ومعنى الطقس يدخل إلى اللوحة عبر صورة الكتاتيب الدينية، فالشيخ له كامل التقديس جالساً في مهابة لا تخطؤها العين. مهابة آتية من مكانة الدين في البيئات الشعبية بشكل عام، لأنه ركيزة في الخلاص من شظف العيش وتدهور الأحوال. وهي أمور بادية على مظهر التلاميذ داخل الكتّاب. بجانب التقديس يضع شيخ الكتاب رجل لمراقبة ومعاقبة التلاميذ، لأن الشيخ لا يرى. وقد يكون هذا المشهد فعلياً من أحد الكتاتيب(شيخ ضرير ويقف بجواره رجل مبصر)، لكن هذا الأمر له دلالة ثقافية، إذ أن الشيخ مصدر التقديس في الوسط المحيط به، ولكنه يترك آثاره من خلال مساعده الذي يمتلك النظر والقدرة على العقاب.

بدا العقاب ظاهراً، من قبل التلاميذ الواقفين وجها للحائط والآخرين المستبعدين أمام الباب والآخرين الذين بيشفقون على أنفسهم من مواجهة الشيخ (مصدر التقديس) وتحسباً لوقوع نظر مساعد الشيخ عليهم (مصدر العقاب) ويحمل الأخير عصا العقاب. وهي (عصا الطاعة) التي تجد مكانتها في الثقافة وتعد جزءاً من الطقس إجمالاً. وقد تجلى وجه اللوحة كزمن وحياة معاً، لم تكن اللوحة مظهراً لما يحدث ولا ناقلة لتفاعل الشيخ ومساعده مع التلاميذ في أحد الكتاتيب طي التاريخ، لكنها كانت مشهداً حاضراً لتوّه عن طريق دلالة الطقس. فالأخيرة لامست شغاف الثقافة من أعماقها وباتت حاضرة ومفسرة لما يجري.213 محسن ابي العزم

استمر المعنى ذاته عند الفنان ليصنع طقساً من مائدة بين مجموعة من الناس. الطقس يتجلى في أسلوب تناول الطعام، فلا يوجد أحدٌ منهم لم يفتح فيه، وبدا الأمر لا يصور طعاماً بقدر ما يرسم الجوع والعوز، وكذلك أتضحت طريقة تعامل هؤلاء مع الطعام. فوجود الخيمة يدل على أنها مناسبة تقدم فيها الأطعمة سواء بجوار أحد الأولياء أم ضمن إحدى المناسبات.

لكن تناول الطعام يكشف مدى نهم هؤلاء الناس، فجميعهم يكشفون عن فقر ليس بالقليل. لأنَّ الرجل ميسور الحال ليس نهماً إلى هذه الدرجة، فالمفترض أنه يتمتع بإشباع احتياجاته ولو بالكاد. بيد أنَّ الفقراء يحددون طبيعة المجتمع ومكانتهم فيه كذلك. لأن الجوع هو جوع اجتماعي بالمقام الأول وإنْ تناول الفقير كافة الأطعمة. لا يشبع الإنسان الفقير أبداً، لكونه يجوع ثقافياً بقدر ما تعضه الفاقة ويقليه الاحتياج مرمياً بين الناس بلا قيمة.

إذن هؤلاء الناس يشعرون بالجوع الاجتماعي لا المادي، فالمظهر الخارجي باد للعيان. وكذلك الرجل الذي يقدم الطعام متعجب من المشهد، وكأنَّه يقول يوجد طعام كثير، ولكنه أُخذ بالتعبير متعجباً من درجة النهم والشراهة. وكذلك ذهب أحدهم لحمل حذاءه ليضرب كلباً أكله الجوع مثلهم تماماً. والبيئة التي تجوع فيها الحيوانات لا تخلو من مؤشرٍ غير طيب من جهة الفقر. فبالاقبال الشره نفسه على الطعام كانت يد أحدهم تمتد لتضرب الطلب بكل قسوة.214 محسن ابي العزم

والسؤال: ما الخلفية التي تربط الطقوس بين الدين والاجتماع والإقتصاد؟ إنها السلطة، فالخلفية فيما بين السر والغموض والإجتماع والفقر والطعام هي القوة التي يتوسل بها الطقس لإفرازها أو لمحاولة استحضارها. والفنان محسن أبو العزم – ربما بلا قصد- كان يرسم في بعض لوحاته العراف ورجال الموسيقى بالزي العسكري والأطفال والنساء والراقصين وغيرهم داخل المجال العام(الشوارع). هذا الخليط الذي يترك للطقوس مساحة غير قليلة للإفضاء ولربط جنبات المجتمع تعبيراً عن الحالة السائدة.215 محسن ابي العزم

لا يخلو معنى الطقس أيا كان من سلطة ما. وقد عبر الفنان عن ذلك بحضور قوى المجتمع: الدجل(رجل البخور)، الناس (القوة الصامتة)، الفن (القوة الرمزية)، المسجد في الأفق (مركزية الثقافة)، الاغنياء (قوة الاقتصاد السياسي) كما بدا في مظهر الرجل الذي يمتطي الخيل. والشكل العام يشي بكونه مرسوماً بفرشاة الطقس. وقد تظهر السلطة في أقل المشاهد وضوحاً من جهة علاقته بالسياسة مثلاً ولكنه مشهد سيكون على موعد مع هذه السلطة في أعماق الثقافة.

كما ظهر ذلك في شكل أحد العمداء المحليين عندما مثُل أمامه أحد الناس العاديين وسط مشهد يبرز تغول قوى السلطة على الإمساك بجوانب الحالة. وقد جعلت الصورة المشهد طقساً لا يخلو من معنى الهيمنة والأسرار التي توجد بشكل أو آخر.216 محسن ابي العزم

لقد امتثل (المتهم المحتمل) أمام العمدة، بينما يضع الأخير الأرجيلة في فيه، والأرجيلة أداة عابرة للطقوس من خلال الدخان الذي يستمتع به أصحابها، وهو الدخان الموجود في طقوس التعويذة وإطلاقه مع فك السحر والأعمال المعقودة لدى إيقاع الاضرار بالناس وكذلك موجود مع نيران انضاج الطعام في المناسبات والأعياد.

ويطفح مشهد العمدة بالجانب التمثيلي، لأنَّ كل طقس لا ينضب تمثيلياً وسيظل قابلاً للأداء بمقدار السر المنطوي عليه. والعمدة يمثل السلطة السياسية في مكانه ومكانته. أي يتاح له دائماً إقامة طقوس السلطة بمعناها الأوسع، وكذالك له الإمكانية التي تأخذها الأخيرة (أي السلطة) في تفاصيل المجتمع. والطقس هاهنا يجري كشعائر بعد اقامة المراسم واستحضار الأسرار واختزال كيان الإنسان كمجرد متهم يأخذه التعجب من وقوفه الطويل دون داعٍ. ويتعامل العمدة مع المحيطين به ومع الناس باعتباره سراً ملغزاً يصعب فك شفراته. ومن ثمَّ، فإنَّ أنفاس العمدة التي يلتقطها من الأرجيلة تغلي في الأفق العام للوحة كاستحضار لمعاني الغموض والقوة في المجتمع جنباً إلى جنبٍ.

وليس أوضح إزاء التمثيل والأداء من مشهد مُروض القرد (إحدى لوحات أبي العزم)، حيث يطوف الرجل بالقرد أمام الناس للاستعراض والفرجة ويجرى وارءه الأطفال محصلاً ما يدفعونه من قروش قليلة لتوفير قوت يومه. وهذه - في عصره- كان مشهداً مألوفاً داخل الحارات والأزقة والمناطق الشعبية. غير أن المشهد في مناخ الطقس العام يطرح دلالات طريفة. فالقرد أساساً – سواء بوعي الفنان أو بدونه - رمز الأداء والتمثيل والمحاكاة البلهاء. فلو تم تدريب القرد على أداء مشاهد معينه من القفز والحركات الخاطفة والجري هنا وهناك وسرعة الأكل، فلن يكف عن تكرار العملية، كي ينال بعضاً من التصفيق وبعضاً من حبات الفستق والموز والفول السوداني إنْ وجدت. والطقوس الاجتماعية تأخذ المسار ذاته، من حيث التكرار والقدرة على الأداء الذي ينال تصفيق سلطة المجتمعات، وتجديد الثقة في الأسرار وتوسيع مساحةَ الغموض من حياة الناس.217 محسن ابي العزم

اختصاراً ثمة مفارقة فحواها: أنَّ الفنان جسد الأداء الطقوسي في عناصر لوحة (مروض القرد)، حيث خلع ملامح القرد على وجه صاحبه وعلى وجوه الأطفال من حوله، بينما أخذ وجه القرد ملامح الإنسان. هذا التبادل الفني يوضح أن ممارسة الأفعال دون فهم وبلا وعي والانخراط في طقوس مكرسة لحالات الركود أمرٌ لا يخلو من تروض الإنسان كترويض القرود. إنَّ ثقافة الطقوس لا تليق إلاَّ بغير الإنسان، وليس تجني المجتمعات من ورائها سوى بعض المكاسب قصيرة النظر. لكن الإنسان تليق به حياة إنسانية حرة، تفجر طاقاته وابداعاته وتليق به صناعة عالمه الرحب في المقام الأول.

***

د. سامي عبد العال

هل يتلون القهرُ بنكهةٍ من السعادةِ في حياة الناس؟! هل الإنسان البائس يرفلُ في بهجة قريبةٍ أو بعيدةٍ حتى؟! كيف يجتمع الشقاءُ مع السعادة في رأس واحدٍ؟! إنَّ مثل هذه الأسئلةً تستدرجها لوحاتُ الفنان المصري محسن أبي العزم عبر إجابات فنية مشفرةٍ. والإجابات الفنية هي إلتقاط (لحظات إنسانية وجودية) تُظهر مفارقة اجتماع النقائض (القهر والسعادة - البؤس والبهجة - الشقاء والفرحة). فالواقع موروث بأشكاله المشبعة بالركض وراء فرص العيش، بل إنَّ كيان الإنسان باتَ وثيقةً تاريخية، باتَ حفرية للأزمنة الثقافية المختلفة. والنقائض السابقة تجتمع كجانب من مناكفة الواقع وتحولاته. وهي صيغ للتحايل على تقلبات الزمن وانكار البؤس والشقاء بزيادة طعم السعادة ولو مخاتلةً وافتعالاً.

ولكي نؤكد ذلك، هناك فكرة مؤداها: أنَّ التاريخ لا يذهب إلى أوراق المؤرخين وقصص الرحالة وصفحات الرقائق والوثائق والحفظ الإلكتروني الديجيتال مع التطور التكنولوجي المتأخر. فالتاريخ يُختزّن ويُسجل في جينات البشر، ضمن جوانب الحياة المشتركة، وداخل أبنية المجتمعات. إنَّ أنماط حياة الناس وطرائق ممارساتهم للطقوس والشعائر ترتهن بالموروثات طويلة الأمد. فهذا الشخص أو ذاك من الناس هو تراكم خبرات ومفاهيم وصور ثقافية، تدمغه بخاتمها النوعي في نظراته وحركاته وأساليب التعبير عن وجوده.

لعلَّ المجتمع- أي مجتمع - سيترك بصماته ضمن ملامح الناس وعبر وجوههم وداخل عيون أصحابه. إنَّ (لفةً بسيطةً) من إنسان عابر تستطيع إخبارنا عن كونه مشحوناً بمعانٍ معينةٍ ليست راهنة، لكنها تداخلت مع وجوده التاريخي بفضل الثقافة العميقة. لقد ركحَ الفرد إلى السراب في مجتمعاتنا العربية – ولاسيما المجتمع المصري- بما يكفي أجيالاً وأجيالاً. الفرد العادي في ذاته يتكون عن عصور وممارسات منعكسة داخله وهو الحلقة الضعيفة في دائرة الواقع. لم يكف طوال حياته عن المسير وكأنه في ماراثون نحو المصير، نتيجة صعوبات العيش والكد اليومي الذي ينتظره من وقتٍ لآخر.

حيث ألقت به الأحوال هنا وهناك، وكأنَّ وجوده نتاج مراس طويل من التحايل على المشكلات والأحداث والظواهر. فالتغيرات الحاصلة نتيجة عوامل عدة ترتد إليه بما لا يُحتمل، ومع ذلك فالفرد يمزج وجوده بنوع من البهجة (النكتة - السخرية – الابتسامة- روح الدُعابة – المسرّحة – الكلام الهازل- الرقص – الدجل– الهوس بالطقوس- الانشغال بالعادات والتقاليد – تقديس الأضرحة والأسياد – التمحُك بالخطابات والعبارات الرائجة – التلون مع السلطة – السذاجة المريحة- الانقياد السعيد) حتى يتمكن من ابتلاع الواقع. وقد نسمي ذلك (طبيعة الحياة) بألف ولام التعريف أو (أكل عيش) أو قدرتنا على (مسايرة الأوضاع) أو البحث عن (موطئ قدم) أو الهروب من الواقع.3700 السعادة قهرا

تحكي لوحات أبي العزم (سعادة القهر- بهجة البؤس- فرحة الشقاء) إنْ صحت التعبيرات. وهي مسألة  ترك (المسحة السعيدة) على شقاء شخصياته الفنية. فكل إنسان لا يخلو من آثار الظروف الحياتية المنقوشة على وجوده فرداً ومجتمعاً. وتوضح اللوحات أنَّ ثمة تاريخاً من البؤس مرتبط بالسعادة، وتلك اللحظات خافية حتى عن أصحابها. ليس كلُّ الناس يدركون أنَّ السعادة مبنية على وجوه من القهر والبؤس. فلوحات أبي العزم واضحة المعالم في عالم الشعبيات وتصوير حياة البسطاء والدهماء الذين يوجدون كملح الأرض في كل مكانٍ. وهؤلاء الناس يشكلون حائطَاً عالياً تتلاطم عليه جميع أمواج وتوجهات المجتمعات البشرية. فهم قد شكلوا جلداً سميكاً للمجتمع .. يحميه، ويصون ساحته من الانزلاق نحو النهاية. وفي الوقت نفسه، تنقش على الجلد أثار الضرب واللطم المُبرح نتيجة يد الظروف الاقتصادية ونمط العيش الجاري.

إنَّ تلك المرأة التي تدخن الإرجيلة هي (مومياء معاصرة) في مقدمة المشهد الفني. مومياء مصرية على قيد الحياة - كما أشرت- لكونها وثيقة مدموغة بمنعطفات الحياة الإنسانية. تلك الهيئة الشعبية، وهذا الوجه الشرقي، وتلك الملابس، وهذا الكيان الهش.. متعلقات توضع في متحف إجتماعي. هي لوحة ساردة بالمقام الأول لما مرت به من أحوال. وتلخص كلَّ ذلك هذه الاستراحة التي تدخن المرأة خلالها الأرجيلة، وتنظر نظرة فاحصة حول موضوعٍ ما. وكأنها تتفحص المستقبل الذي لم ترتح له.

وهذا اللون من النساء لم تعركهم الحياة فقط، بل دهستهم بالفعل، حتى جعلتهم والأرض سواء بسواءٍ. والدهس يعني أنهن إمتلأن تجارب ومماسات وخبرات بكل ألوان الطيف الاجتماعي. وبتن على شفا الانفلات من القواعد والتقاليد، ولكنهن أذكى من الظروف عادة. حيث تفهم هذه المرأة الحياة فهماً عملياً، وتعيش كما تريد أنْ تعيش، مع أنها لم تدرس فلسفةً، ولم تتلق تعليما ًجامعياً، ولم تعرف أبجديات الواقع المتحول.

بدا الأثاث التي جلست المرأة عليه رثاً، وجلست جلسة المحنكات من النساء (المعلمات)، غير أنها أتت من الأخر مع الزمن. فكأنها تقول: كم دقّت فوق الرؤوس طبول، وكم عجنتني الحياة لدرجة الذوبان. وها أنا الآن آخذ استراحة محارب من لهاث الحياة الطويل. وها أنا أضع ظهراً إلى غوائل الواقع متوسدةً خيبة آمالي سواء التي مرت أو التي ستأتي. فالمرأة في مجتمعاتنا العربية هي مصفاة لكل الظروف الإجتماعية بوجوهها المتباينة.

وعلى الرغم من وفرة الطرافة في لوحة (المرأة – الأرجيلة) بالنسبة لمن لم يرها هكذا من أول وهلةٍ، إلاَّ أنّها (إمرأة منقوعة) في مكابدة الواقع، إلى حد أن الفنان ترك عليها غبار معارك لم تنته بعد. ولاسيما أنَّ المرأة في اللوحة علامةٌ فارقة نستشف من ورائها أبعاداً إنسانية كثيرة. ليست أقلها مكانة الإنسان وتعامل المجتمع المصري مع الموروثات الاجتماعية. وكيف تتحول المرأة إلى كائن غريب حتى عن نفسها؟!

من جانبٍ آخر، ظهر أن هناك مفتاحاً في يد المرأة اليمنى أثناء حمل ذراع الأرجيلة، وهو يرمز إلى الباب الذي يجب فتحه من الحياة، وقد يشير إلى إغلاق الأبواب دونها مما دفعها إلى هذا الطريق. والجلسة واضحة كأنها جلسة رجل لا إمرأة، مما يسرب إلى المتلقي كون الذكورة هي الشكل النهائي للتعامل مع الواقع. والثقافة المصرية ترفض في سرها هذه الصفات بصدد المرأة، سواء إذا كانت تمتلك مفتاحاً لحل المشكلات أم إذا أخذت دلالة الرجل. فما كان من المرأة إلا أن تواصل وجودها على هذه الشاكلة المحنكة والمتمردة.

ولذلك سرعان ما تعود لوحات أبي العزم إلى تصدير (المرح) كمصْل لإزالة الكآبة والحزن. فعلى الرغم من بؤس الواقع، إلاَّ أن اللوحة تلتقط لوناً من البهجة الراقصة. كما في لوحة تصور إمرأة ترقص بينما القائم بكي الملابس (المكوجي) يغازلها مع أنَّه يقوم بعمله. وكأنَّ هناك سيناريو متفق عليه سلفاً بين الرجل والمرأة. ولكن الفنان يقصد هذه التيمة صارفاً الأنظار عن مظاهر الحوائط المتهالكة والأثاث القديم والأجواء الخانقة.3701 السعادة قهرا

وهذه المشاهد تعالج ثقل الواقع بنوع من الدواء السريع. فالسعادة لا تقضي على الشقاء، بالأحرى لا تخفي البهجة تجاعيد الشقاء. فالإنسان- رجلاً وإمرأة- توقف عند تلك الهيئة من الحياة، لم يتطور بعد. ولوحات أبي العزم تقتصر على رسم هذه الفئات الإجتماعية.

فالرجل ذو ملامح فوضوية ومُوغلة في التكوين الشعبي ويجسد ابتسامة متوددة للمرأة الآتية من المستوى الاجتماعي نفسه. لكن ما الذي يجعلهما سعداء إلى هذه الدرجة؟  بالطبع لا يوجد داع لذلك، فلا الموقف يعبر عن البهجة حيث ينهمك المكوجي في العمل، ولا المكان مناسب لذلك، فمن المفترض أنه مكان عمل بالأساس.

إذن هناك شيء ثالث هو تدخل الفنان كمنتج للوحة والمشهد برمته. وهنا يظهر التفاعل الثقافي معها من باب الدوران مع الأسباب وإخفائها كذلك. حيث لو كان المشهد مجرد إمرأة بتلك السمات ذاهبة إلى كي الملابس لما أثار فضول المتلقي، غير أن الرقص والحركات الهزلية كانت أدعى لصرف النظر عن أحوال هذه الطبقة الشعبية. وقد مسحت مسحاً خفيفاً على تضاريس الأوضاع البائسة، وجعلت الشقاء البادي في الأركان يتراجع إلى خلفية اللوحة.

ومن ذلك يحرص الفنان محسن أبو العزم على ايجاد لون من الزحام داخل بعض لوحاته، وهو يريد أن يعبر فنياً عن ضجيج المشاهد، حتى يغطي على حقائق أخرى. ففي إحدى اللوحات نرى الدجال والأطفال والنساء يزغردن والفرقة الموسيقية  تعزف والأصوات ترتفع وبعض الأفراد في حالة فرحٍ وابتهاج .. وكل هذا لرسم صورة خالصة لذاتها من غير التساؤل عن أية أشياء أخرى. فليس خافياً اجتماع الدجل بالنساء والموسيقي وسط الناس العاديين، فلربما هناك مناسبة معينة أو لربما هناك حالة من البهجة المنتظرة. بيد أن ذلك كله يعنى كون الصورة هي ما ستقول ذلك في التو واللحظة، وأن هناك اكتفاء بالمعنى المباشر ليس أكثر. وهناك فكرة مطروحة أن العراف بجانب الفرقة الموسيقية يدلان على السعادة والأريحية دون عناء. وأن الناس لو لم يكونوا سعداء بهكذا حال لما اندمجوا في المشهد.3702 السعادة قهرا

وعليه، فلا ينبغي للمتلقي أن يجهد عقله في فهم المشهد ككل، ولا ينبغي عليه التساؤل: لماذا هؤلاء الناس بهكذا هيئة؟! وهل مازالوا على تلك الوضعية إلى اللحظة؟! فمن المفترض أنْ يعطينا هذا المشهد أو ذاك من روحه الجمالية حتى يفيض على حدود وجودنا. ولكن لوحات أبي العزم تُطلعنا بطرف من السعادة أن (منقوع البؤس) ليس عابراً هو الآخر. لكأن اللوحات تقول إن تلك الشخصيات ستنخرط في بكاء ونشيج طويل بمجرد أن يغرب المشاهدون عن ساحتها. وأن الشخصيات الفرحة بشقائها ستنزل من مكانتها الجمالية إلى تجسيد تراجيديا الواقع وأحوال الشعبيات.

بطريقةٍ أخرى أنَّ اللوحات تدفع المتلقي للإبتسام، كي يشعر بأحوال هذه الشخصيات على أصالتها. ليست كل أصالة تدعو إلى الإعجاب، فبعضها يناشدنا للتساؤل عن بقائها كما هي. فالأصالة دعوة لتشييد أصالة أخرى لا عودة إلى الوراء دائماً. وتلك حيلة جمالية تُمرر بعض المشاعر بالنقيض كمن يبكي مع الابتسام أو يبتسم مع البكاء. أو كما يقول المثل الشعبي: " يابخت من بكّاني وبكى عليّ، ولا ضّحكني وضّحك الناس عليَّ".

ليس بالضرورة أن يسير الفن وفقاً للمعاني المباشرة ولن يفعل، لأنه سيترك العكس أو النقيض للمتلقي. كما في لوحة المرأتين اللتين تتهامسان حول شيء معين من الأسرار أو الأخبار التي يتقرب بها النساء أحيانا.3703 السعادة قهرا

فاللوحة توثق حالة واسعة الانتشار بين نشاء المناطق الشعبية، حين يجتمعن بعلة احتساء مشروب الشاي كما يبدو، ولكن تلك الجلسة عبارة عن تناقل أخبار المنطقىة برمتها والأفعال التي تمت فيها خلال الفترة الزمنية القريبة. وتمثل هذه المشاهد أمراً اعتيادياً في غالب الأحيان. ولكن بإمكاننا التفتيش عن أجواء التخلف الاجتماعي وتكريس الجهل وإدامة أجواء التكتم والغياب الاجتماعي عن التطور. وهو ما يساعد على انتشار النميمة والاشاعات. فصحيح أن اللوحة ترسم وتؤصل، ولكنها تطرح أسئلة عن الحلقات المفقودة التي أدت إلى هكذا أوضاع.

***

د. سامي عبد العال

أعمال فنية متعددة وللألوان أسرارها وأمكنة تجليها.. سفر حيث الأحوال مجالات قول ونظر وتأمل

تميزت تجربة الفنانة التشكيلية عزيزة بحر الباجي بتعدد تلويناتها بين مشاهد وأمكنة وحالات حيث تظل جربة الجزيرة الساحرة مجال نشاط فني عملت عليه من سنوات مستلهمة منها رغباتها الجامحة تجاه عوالم الرسم والتشكيل..  برز ذلك من خلال لوحاتها في مشاركات فنية متعددة بين المعارض الفردية والجماعية..

هكذا نلج عوالم طفولة مفتوحة على الأزمنة والأمكنة.. حياة بطعم الألق والود والمحبة تمنح سرها عبر الألوان للآخرين نشدانا للجمال وتقصدا للابداع وقولا بحميمية فارقة تجاه الآخرين والعالم.

وهكذا فللألوان أسرارها وأمكنة تجليها.. ولها من سفر الحال والأحوال مجالات قول ونظر وتأمل بعناوين شتى منها الحنين الآسر والذكرى في بهائها السمفوني كلحن بدوي لم يعرف المدن وضجيجها المقرف.. للألوان حميمية الأفعال والأسئلة والنظر.. انه النظر العميق بعين القلب لا بعين الوجه.

الألوان هنا عنوان وجد وأمنيات ونشيد كامن في الوجوه والتفاصيل واليومي بما هو حياة وحلم.. ان الألوان تصرخ وتغني وتنتبه وتصغي وتفعل كل شيء كالكائنات الأخرى.209 عزيزة بحر الباجي

نعم العالم يبدأ من البيت والحي والقرية ليظل مجال حوار يأخذ الفنان في حله وترحاله يستدرجه لبيت الابداع والامتاع والمؤانسة بكثير والآه.. هي آه الحنين والوفاء النادر للجمال وممكناته وحكاياته وأشيائه المبثوثة في المشاهد والأمكنة والعناصر والتفاصيل.

ندخل عوالم الفنانة عزيزة التي هامت باللون والرسم منذ طفولة ما زالت تقيم فيه حيث الفن عندها حالات تذكر جمالي تجاه القبيح والمربك والساقط في أكوان بمتغيراتها المدوية تسعى لتشييء الكائن وجعله مقيما في أزماته  ومتروكا مثل متحف مهجور.

الفن حمال معان راقية ومجمل حالات ومكمن أحلام عالية تجاه الضجيج والانهيار.. انها لعبة الفن يستعيد معها الفنان شعرية الفكرة وهي تنبثق من الأمكنة في بهائها النادر.

المكان هنا معتبر ونعني الجمال والحلم حيث الخطى الأولى والتلوين البريء والبدايات.. المكان مكانة.. نعني جربة.

هي حكاية فنانة بدأت الرحلة الفنية من جربة وتعددت بعد ذلك أمكنتها وجهات الهامها لتتعدد ألوانها وأعمالها الفنية تعدد حالات حلمها وأحاسيسها.

الفنانة التشكيلية عزيزة بحر الباجي نهلت من المكان كذاكرة وحياة وبرمزية ضاربة في الزمن..  من جربة انطلقت لتتعدد معارضها ومشاركاتها الفنية.. لوحاتها توزعت على تلوينات شتى بين المشاهد والامكنة والبورتريه والطبيعة الميتة وغيرها.. تنظر في اللوحات لتسافر في المشاهد الأخاذة منها عطور الحالات الجربية في الشارع والسوق واللباس التقليدي وصولا الالوجه المنتصف الحالة والنظر ووجه الطفلة غزالة الطافح بالبهجة العارمة حيث اللون عنوان براءة وحلم في تناسق جمالي دال على التشبع بالموضوع والمشهدية العميقة.

هامت عزيزة بفنون الرسم لترى العالم علبة تلوين ومتنت صلتها في كل ذلك عبر الفنانين  الايطالي ديماتشيو والجزائري أحمد بلاب والتونسي طارق الفخفاخ وهي التي تخصصت في دراستها في العلوم القانونية.. مضت مع الفن التشكيلي تحمل جربة في القلب وما به تزخر من سحر وبهاء جمالي نادر تستنطق حالاتها ووجدانها وتاريخها العريق بتعدد ثقافاته والحضارات العابرة به وصولا الى جربة الآن وهنا.

جربة هذه الفاتنة.. وأنت تمضي اليها.. تشعر بشيء من السحر ينتابك بحيث يصعب أن تغفل للحظة عن القول بالعذوبة والدهشة والحنين تجاه ما تراه  العين.. وأما النظر هنا فهو بعين القلب.. لا بعين الوجه.. هي الأرض التي تأنقت عبر العصور.. من الحقب التي مرت بها تعلمت فن الجمال.. كيف لا وهي المحفوفة بالماء.. الأزرق سرها الدفين.. القباب عناوينها.. والمنازل المثقلة بالحكايا.. وهل ثمة حكايات باذخة المتعة غير تلك التي عرفتها الأرض القديمة قدم ناسها..209 عزيزة بحر الباجي

قمر..

ونخيل ناعس

و أحلام زرقاء..

و خضراء

للرعاة

وللبحارة  في غنائهم الأبدي

المأ خوذ بالشجن العظيم..

ثمة اذن ما يغري بالنشيد وبالنظر..

من الفينيقيين والبونيقيين والنوميديين والرومانيين والبيزنطيين.. إلى الفتح الإسلامي.. كانت جهة للراحة وللعناق الرومانسي بين الأرض والبحر.. جربة.. المكان والمكانة.. هكذا كانت.. وهكذا ارتسمت في الكلام وفي الألوان وفي الخيال الفادح.. البشير الكونيالي.. المنوبي زيود  محمد الخانس.. وغيرهم  لتبقى الحكاية مفتوحة على مصراعيها مثل أبواب المنازل بميدون وحومة السوق وقلالة والمحبوبين.. انها حكاية وجد من حكاياتنا العربية التي يغمرها الق هذا الكائن الانساني في حله وترحاله..

تمضي اذن مع الجادة فترى البسمة على وجوه الاطفال عنده تقترب من مدرسة سيدي ياتي.. هي البراءة المأخوذة من موسيقى البحر الفاتن والتربة الناعمة.. تجلس في الفضاء الانيق المحلى بالمرقوم وبالادوات التقليدية الجربية حيث الشاب الحالم العائد من أرض الامارات وقد شذب المكان وزينه دون خروج عن جماليات المكان الوفيرة.. تجلس وتحتسي القهوة وترسل نظرك بعيدا لترى جواهر الأشياء وعناوينها البارزة بعيدا عن هموم العولمة ورياحها الملوثة.. والقاحلة.. وبلغة أخرى تذهب مع الاصل.. أصل العناصر والتفاصيل..

في فضاء القبة تشرب شايا وتستمتع بالنقوش.. لا كوبول.. فسحة أخرى من الجمال المبثوث في اللوحات المعلقة.. وفي كل ما يرتسم وينحفر على الخشب الناعم.. تلقي بالنظر فترى الأشجار.. النخيل والظلال والقباب والأبواب والاقواس والازقة حيث عبث الاطفال الممزوج بايقاع النسوة العابرات لشؤون الحياة الشتى.. والرجال من صناع مجد الجزيرة والمجد هنا هو الحلم والتواريخ..

" البحر..

القباب..

الابواب..

الحوانيت..

المنازل..

الأقواس..

الازقة المتسعة في ضيقها..

الباعة..

الرجال..

صخب الاطفال..

.......

لكل هؤلاء ولاجلهم..

تقف المرأة ملتحفة بالدهشة..

و بالبياض.. "209 عزيزة بحر الباجي

اذكر الان ألوان  وأحوال وأشجان جربة التي ابتكر ظلالها  ونقلها الفنان الكبير الكونيالي  الى بياض القماشة.. فضاءات لوحاته بكثير من المتعة والابداع.. وهو في خلوته الفنية بحومة السوق.. من هذه الاحوال الفنية لجربة هذه الايام.. تلك المساحة التشكيلية من شتى التلوينات والاتجاهات والاشكال.. وأنت تتجول بالمكان الذي هو ميدون.. تقودك خطاك طوعا وكرها الى عوالم التلوين والرسم والفنون..

من كل هذا ملأت الفنانة عزيزة بحر الباجي خزان ذاكرتها ودأبها اللوني وعشقها للرسم.. فنانة حملت شيئا من روح وعطر وأنفاس جربة حيث ألق التواريخ وجمال المشاهد بين سماء وأرض وبحر وأهل في تناسق مفتوح على الهدوء والموسيقى الخافتة..

تنوعت أعمالها وعناوينها ونذكر منها غزالة والنسوة ومشهد السوق وعم سعيد  وقلالة وقهوة الشجرة بميدون والتغمبيزة والزكار والطبال والتراث وللا حضرية والانتظارو القرنيط وشاطئ الجزيرة والقافلة والبطيخ وغيرها..

الفنانة عزيزة بحر الباجي تعمل على مواضيع أخرى وبنفس متجدد وتو ترى في الفن واحة سلام وحوار في حس انساني بليغ وتحلم بمعرض دولي باليونسكو مثلا فيه لوحات تختزل مكونات التراث الجربي من لباس وعادات وتقاليد ولباس ومشاهد وفق رسالة من فنانة للعالم تقول بالحوار والتعايش والتسامح  تحت عنوان الفن بما هو ابداع انساني.

***

شمس الدين العوني

 

1 - يتميّز الخط العربي بقدرته على الانسياب التشكيلي في مساحات انزياحية تمتد من شرنقات الحيّز الورقي إلى رحابة الامتدادات البعيدة في ذهنية المتلقي، في تكوينٍ جماليِّ يمارس تموجاته المترنحة، آناً، في وضوح تسطيري يدغدغ عاطفة القارئ السطحي، وآناً، في تجلّياتٍ زئبقية تحقق نوعا من التوتّر الجميل في أنساق التلقي.. من هنا عبقرية هذا الخط-دون ادّعاء تفرّده الشوفيني بهذه الخاصّية-لكنه يذهب بها بعيدا في اجتهادات نوعيّة تجعل المتلقي في وضعية المُحاوِر لإمكانيات اكتشاف الأنماط الخطيّة التي تسبح فيها كفُّ الفنان وروحُهُ معاً.. ومثال ذلك قدرة بعض الحروف على الخروج من دائرتها التقليدية الموسومة بالهندسة الأكليدية إلى قابلية الانرسام العبقري الهيولاني الدائري الحلزوني المفتوح دائما، والقادر، إبهاراً، على احتضان مجموعة من الحروف في تجانس غريب غرابة جمالية ذات حمولة استيطيقية دلالية، لا غرابة فرجة فولكلورية..

2 - إن ما يحدث من تراكم في الإنتاجات التشكيلية في مجال الخط العربي الإسلامي، لا يعدو أن يكون احترافا يمارسه حرفيون متمكنون من آليات الخط العربي وضوابطه وقياساته وورقه وأقلامه وأنواعه وأضربه وهلمّ جّراً مما يدخل في علم الخط العربي وقواعده، والذي يحسب له ألف حساب في التراكم الإبداعي الحضاري الكوني.. لكننا في هذا السياق نود الإشارة إلى إمكان النقد الباني لا في تهجم نرجسي ولا في تحامل مرضي، وإنما في توجّه مسؤول وغيور على حِمى هذا الفن الجميل.. من هنا أقول إن الاحترافية وحدها لا تكفي لنبني ثراءً وتراثا تشكيليا متميزا لا على مستوى النوع فحسب وإنما حتى على مستوى الخطاب..

ما أقصده هنا هو ضرورة البحث عن تشكلات الفن الخطي العربي داخل الخطاب، حتى يتم إخراجه من شرنقة المعنى. والفرق بين هذا وذاك فرق شاسع لا مشاحة فيه ولا جدال.. الأول، وأقصد “المعنى” تبدو فيه اللوحة الخطية جزيرة معزولة عن الجسد الكوني الباني لنسغ الإنسان العربي في خصوصية مستقلة بهوية تشييدية لا بهوية جاهزة، كما تبدو فيه اللوحة عروسا مستكينةً إلى قدر الفرجة، حيث المتفرج أو المشاهد يمارس نوعا من الذكورية الهجينة على كل الخلق الجميل الذي تحتضنه اللوحة، في غياب نظر فني ناضج..

وفي هذا السياق تتحول اللوحة الخطية إلى بؤرة منزلقة مليئة بثقافة الاستدرار للحظات العجائبية والغرائبية، سواء تعلق الأمر بمشاهد عربي من صميم اللحمة العربية، أو بمشاهد أجنبي يمارس على فن الخط نوعا من السادية الفنية وهو يعزل تراثا كبيرا بهذا الحجم داخل شرنقة الغرائبي المدهش في نسق الدغدغة لعاطفة عابرة لا في نسق المحاورة الثقافية..

وفي الثاني وأقصد “الخطاب” تبدو اللوحة الخطية كائنا فنيا يمارس نوعا من التميّز والحضور المستقل والهوياتي والمندمج في المساءلات الكونية لا من باب الاندهاش والتقليدانية والإعجاب الدوني والاستلاب الرخيص، وإنما من باب المثاقفة المؤسسة على فكرة التدافع.. والتدافع هنا يسقط من حسابه كل أشكال الصراع الحضاري، القائم على فكرة الصدام كما ذهب الى ذلك “صمويل هنتنجتون” وتلميذه “فرانسيس فوكوياما”، على اعتبار أن الصدام يلغي الآخر فيما التدافع يبقي عليه حتى تستقر الحضارة على الأصلح دون القضاء على الآخر..

إن الخط العربي مسؤول جدا عن حضوره كقوة مدافعة عن التراث والهوية العربيين والاسلاميين في رؤية تتبنى فلسفة التغيير لا شعارات الفن البرناسي المتعالي على هموم الإنسان العربي الإسلامي.. هكذا تتبدى على السطح قوة الواجب قبل قوة الحق.. واجب الذود عن الهوية العربية الإسلامية خارج الإمتاع وخارج الاندهاش وخارج السلبية المستحضرة للآخر في مرايا التميز الصوري.. لا بد من الانطلاق من رؤية استراتيجية في بناء الفن وبدون رؤية تتسع بقع الضبابية وتضيع الطريق.. إن فن الخط العربي الذي اكتسح الذائقة العالمية الآن هو نفسه الخط العربي الذي يخلط بين الفنان الاحترافي القابض على آليات الرسم، وبين الفنان الممتلك لقوة الخطاب، وهذه القوة لن تتأتى إلا بامتلاك رؤية واضحة للذات وللوجود وللآخر وللعلاقات المفروضة حضاريا بين هذه الأقانيم الثلاثة في محاورة نديّة لا في استجابات انفعالية.3679 الخط العربي

3 - ليسَ خطّاطاً أو فنّاناً في مجال الخط العربي من يبدع عملا فنيّاً ثم يدعونا إلى استهلاكه في سلبيةٍ استمتاعية رخيصة، أو في استمناءٍ جمالي محدود، تنتهي صلاحيتهما بانتهاء مسلسل الفرجة. إن الفنّان الفعلي هو من يرسِلُ إبداعه طائرا بأجنحة من ذكاء، تدْعونا دون قصدٍ إلى قراءة بؤر الفنّ في هذا التحليق، وتستبيح كل بكارات المخيال عندنا كي نرسم معه اللوحة في اكتمالها وفي تجلّيها الجمالي الجمعي، وتفتح أمامنا كل إمكانيات التأويل لعمله الفني.

العمل الفني، وخاصة البصريّ منه، هو عمل ماكر، يخدعنا في سطحيته الأمكر.. لهذا لا بد أن يكون الرهان فيه هو تجسير التواصل معه عبر إمكانيات التأويل لمغاليقه ولمساربه ولاستغلاقه ولانفتاحه أيضا، في اتجاه المساهمة في بناء رؤية تفاعلية تتسم بالدينامية عوض الستاتيكية المنخلقة في جنينية الألوان والأصباغ التي اقترحتها ذائقة هذا المبدع.

الفن، ومن منظور حركي لا بد أن يخرج بالمُنجز الفنّي من شرنقاته الخصوصية الضيقة القابعة في ذهنية المبدع، إلى حيوات تستدرج ثقافة المحاورة التي تُشغّل ذهنية المتلقي أيضا، وتدعوه في لباقةٍ سيميائية إلى ممارسة التأويل لا كحق مشروع، فحسب، ولكن وأيضاً، كواجب أنطولوجي يتحدد أساسا في الإيمان بالنقص الذي يطال كل عمل فني، الذي لا يكتمل إلا بمعية المتلقي الذكي.

ما مسوّغُ هذا التحبير؟ إن التأويل يأخذ مصداقيته من العمل الفني ذاته، لأن اللوحات الفنية الآتية من سديم الخط العربي أو من سديم الرسم والتشكيل، هي مجموعة من الرموز بخلاف النصوص المقروءة التي تحبل بالرموز لكن بدرجة أقل، لأن اللغة تحمل معجمها الشارح والمسهّل لعمليات التلقي التي لا تستعصي إلا في عالم المتون المفعمة بالانزياح.. أما لوحات الخط العربي فهي كتلة من الرموز التي لا تقف عند حدود الأحرف العربية المتراصة والمؤدية للمعنى.. هي أكبر من ذلك، إنها عوالم فنية مبطّنة بكثير من الرؤى.. من هنا ضرورة التأويل باعتباره إضاءات قويّة لكل ما هو فنّي آتٍ من لا وعي المبدع ووعيه بدرجة ثانية.

التأويل، ليس تقليعةً يمارس فيها المحلل قدرته على التعسف على العمل الفني في تسيّبٍ لا ضابط له.. التأويل منهج لقراءة الأعمال الفنية العامرة بالدلالات والأبعاد. من هنا وجب تقدير سلطة التأويل في حدود القراءة المنتجة والمضيفة والداعمة للفن قبل أن تكون قاضيةً عليه قابضةً على تلبّسه في أقفاص الاتهام.

4 -  يقول بعض المحسوبين على مجال النقد الفني “إن التقارب بين رسم الحروف يقود الى تحريف بعض الكلم كالذي يحصل بين الراء والدال والحاء والميم”.. إنّ مثل هذه الخرجات بعيدة كل البعد عن موضوعية الطرح وعلميته لأسباب، منها،

أولاً: انّ خطاب التشكيل العربي يقتضي متذوقا عربيا ملمّاً برسم الحروف العربية، وبالتالي فنسق التلقي يتطلب متلقيا عارفا قادرا على التمييز بين حرفي الراء والدال وبين حرفي الميم والحاء على اعتبار أن من يعرف الأصل يسهل عليه معرفة تقلبات هذا الأصل وتموجاته وتحولاته الجمالية الانسيابية في سياقات متعددة لا تحول دون استيعاب المتذوق لنواة الحرف مهما تغيرت ملامحه، ذلك أن معرفة الفرع هي من جنس معرفة الأصل.

ثانيا: إذا كان المتلقي عاديا من البسطاء الذين لا رصيد لهم في التلقي الجمالي، فإن الأمر لا يعدو أن يكون عتبة عابرة، فقد يكفي أن يتم توجيه هذا المتلقي بإشارة بسيطة بإحالته إلى موضوع التشكيل ليستكمله، هو، بانسيابية فطرية لا يعوقها عائق، مادام هذا المتلقي العادي محملاً بمشتركه الثقافي وتمثلاته الذهنية للمنطوق، فيسهل عليه تحويله إلى مقروء طوع البنان.

ثالثا: إن رسم الراء يختلف عن رسم الدال في كل الأنماط الخطية، وربما يود هؤلاء التلميح إلى الرسم الديواني الذي يمثل لديهم حساسية مغلوطة.. فالراء في الديواني لا علاقة لها بالدال الديواني مهما تقاربا لأن المسألة ترتبط بتكوين الحرف لا بتفرعاته.

5 - خارج رهان الجمال، ماذا يمكن للفنان المهتم بالخط العربي أن يبحث عنه من رهانات؟ إن سؤالي هذا يمكن أن نقرأه في صيغةٍ أخرى أكثر جرأة: هل يكتفي الخط العربي بالتعبير عن ذاته داخل ثنائية الإمتاع والمؤانسة؟ فحسب؟ وهل لنا الحق في مساءلة المهتمين به والمالئين ساحاته بإبداعاتهم الغزيرة، لنقول لهم: كيف يمكن لكل أشكال الإبداع المتعلقة بهذا الفن أن تساهم في التغيير؟ وسؤالي هذا سؤال آثمٌ لأنني أرفض أن ينبري لي أحد من السّدنَة الحاملين لفكرة الوصاية ويقول لي: إن فن الخط العربي يكفيه وجوده “البرناسي” المتعالي عن هموم الإنسان العربي والإسلامي بشكل عام.. ويكفيه أنه سليل ثقافة دينية حمتْ التراث ونافحتْ عنه.. لا ننكر هذا البتّة، ونثَمّنه أيما تثمين، ولكن لا أحد له الحق في أن ينكر علينا حق المساءلة وحق البحث عن إمكانٍ آخر أكثر توغلا في نسغ الإنسان وهو يمارس هذا الفن، سواء من قبيل الإنتاج أو من قبيل الاستهلاك أو من قبيل إعادة الإنتاج..

إن هذا التراكم الحاصل في سيولة الإبداع في مجال الخط العربي تراكم جميل وجليل وقوي الحضور، لكنه في نظريات التغيير إذا لم يتحول فيه الكمّ إلى كيف، فإن السؤال سيكبر فينا ويتعملق جدا. ونحن في هذا السياق لا نملك القدرة على صناعة البدائل بقدر ما نملك فقط بعض القدرة على المساءلة في أفق بناء الإنسان العربي الإسلامي

6 - نظرا للرداءة التي بلغَ سيلُها زُباها في رسم أبنائنا للخط العربي في كراريسهم اليومية، أصبح من الواجب التفكير في إبداع حلول لهذه الأزمة التي يبدو للبعض أنها جانبية لا تؤثر على الناشئة وعلى هوياتهم وامتدادات هذه الهويات.. فيما الأمر إشكالي وعميق..

من هنا، يصبح التفكير في الحلول الموسمية أو الترقيعية أو المعالجات المعزولة عن السياق الجمعي الحضاري العربي الإسلامي.. تفكيراً مجرّداً من صيغِهِ المسؤولة والغيورة، ويتحول إلى مجرد صرخة باهتة في وادٍ أبهت.. إن المسألة لا تتعلق بناشئة لا تتحكم في رسم الحرف العربي، بقدر ما تتعلق بصيرورة وجودية تنغرس يوميا في ثقافة الاستلاب الحضاري.. والأمر موكول لصناع القرارات الثقافية الوازنة، بضرورة التفكير الجاد في إطلاق مشروع عربي اسلامي كبير تحت عنوان “خطّ عربي جميلٌ للجميع” على غرار مشروع “قراءة للجميع”.. مشروع تتجند له كل الطاقات المؤسسية وكذا المدنية كي ينجح باقتدار.

***

نور الدين حنيف أبوشامة \ المغرب

 

ليس أدعى إلى الإشارةِ نحو الناسِ إلاَّ وجودهم المتنوع الثري. إذْ تعبر كلمة " الناس" عن عواطف ومعانٍ حدّ الإدهاش، الناس أزمنةٌ وأمكنةٌ وصورٌ وحالات من العيش. بالتحديد يتجلى وجودهم كما هم دون أشياءٍ أخرى. حيوات الناس تجسدُ واقعاً حياً، لا أفكار هنالك تسقط فوقهم من أعلى ولا تنبثق من أسفل. فأنت كما أنت على أصالتك من غير قشور ولا رتوش. ونحن سنذهب إلى عيشنا بلا وعي ونسكن إليه بكل أريحية وإطمئنان.

تماماً مثلما هي حياتنا الإنسانية كمقولةٍ معتبرةٍ فلسفياً داخل ذاتها. الحياة أكبر مُفسّر لما تفيض به من طاقاتٍ وأحوال ومستويات وجوانبٍ وظلال بين البشر. التعريف الأولي للحياة: أنَّها هي الحياة وكفى. تقريباً هذا التعريف هو ما يسمحُ لنا بالنظر إلى جوهرها. أي أنَّها حياة غير قابلة للتبرير، حياة هي صورتها الأصلية، حياة ليست قائمةً على هُوةٍ إزاء عالمنا ولا تمنياته الغامضةٍ.195 محسن ابو العزم

هؤلاء الناس الأحياء في لوحات الفنان المصري محسن أبو العزم1 منحوتون من لحمٍ ودمٍ، معجونون من أسرار الأحداث والطقوس، مرقعون من أسمال الظروف والتحولات، منسوجون من شرائح وظلال المجتمعات الحية. اختصاراً هم ناسٌ داخل الحياة وضمن رواسب الواقع، ناس يجسدون أفراحه وأتراحه. شخصيات أبي العزم جاءوا من أحراش الحارات والمدن والقرى والنجوع وقطنوا اللوحات بكل امتلاءٍ. جاءوا وقد علقت بهم روائح الأماكن والإحتفالات وصقلتهم العلاقات مع الآخرين. يكاد أحدُهم يقفز في وجهك بكامل طقوسه، بوافر وجوده الحياتي. كلُّ حالٍّ يجسده الناس إنما هو مرسوم بالملامح والمناسبات الاجتماعية الزاخرة بالمعاني. الوجوه والأجسام والملابس والأشكال والأنوف والعيون صيغ حياتية على الأصالة. لن يتجنب نظركُ أيا من التفاصيل، بل سيأخذك إلى حيث جوانب العيش.196 محسن ابو العزم

كسر الحاجز

لم ترسم لوحات محسن أبو العزم التفاصيل بمعناها التقليدي. إنها شرائح  من طقوس الحياة وممارساتها اليومية. هي لقطات كاملة المعنى، تشعر كأنها مخلوطة بزخم وروح الواقع إلى حد التماهي، التفاصيل ساحرة دون مسافة فنيةٍ مقصودة. الشخصيات جاءت إليك بكل محمولاتها الثقافية، ولن تكلفُك عناء الذهاب إليها، فهي مثقلةٌ بكل الأجواء الحميمية. في الفن التشكيلي، قد تشعر عادةً بأنَّ لوحةً ما تقول لك: ها أنا لوحة مرسومة بالألوان! وقد تقول لوحة أخرى: تأمل في جوانحي كي أعطيك ما أجسده.

ولكن لوحات أبي العزم ترفع هذا الحجاب فوراً، تهبك نفسها بكل بزخ وإشباع فني طافح. لوحات تندلق بكامل رصيدها الحي في مشاعر المتلقي وعواطفه ووجدانه وإحساسه. التلقي ليس عمليةً حياديةً ولا واقفة بالخارج، فجأة ستجد نفسك داخل اللوحة مباشرة، كأنك جزءٌ من تفاعلاتها، كأنَّك أحد شخوصها الحميمين. أنت كذلك بالفعل كشرطٍ للشعور مع شخوصها، أنت جزء من الوجود والعيش معها.197 محسن ابو العزم

اللوحات باضة بالأفعال من أقرب المشاهد والزوايا، اللوحة عبارة عن ناصية حرة تترك شخوصها يمارسون وجودهم كما يشاءون. لن يأبهون برؤيتك لهم، ولا حتى بوجهة نظرك التي تلامس أطراف عالمهم. ذلك أنهم نماذج حية إلى درجة الإعجاز، يقولون ما يريدون ويمارسون أعمالهم بكل استمتاع وانهماك. الحب كما هو بكل التفاصيل الحية بين الناس، والتواصل يجري عفوياً من غير حواجر، والأعمال المنزلية كحال صانعة الجبن البلدى تتم على قارعة اللوحة كما هي بأعماق الحياة، والحلاق يمارس مهنتة منطلقاً من المشهد الأصلي إلى الصورة  والعكس مباشرة.198 محسن ابو العزم

ليس ثمة إعداد من الشخصيات كي تتهيأ إليك أيها المتلقي. لا تقول اللوحات هيئت لك، فالواقع مشبع بالإغواء حد التخمة، شخصيات أبي العزم لا تجيد فن التحضير للقاء فني مع مشاهدها من بعيد. فهي تأتي عبر تداعيات عالمها إلى صدارة اللوحة وتظل كذلك في الذاكرة، تخلق ذاكرتها النوعية. ولذلك تبدع تجاربها الفنية التي يمكن تسميتها ( فن العيش).199 محسن ابو العزم

صحيح اللوحات تنثرُ مضامينها الحياتية بشكل دلالي مبهر، غير أنَّها تغرقنا عبر سحرها المنتظر في الخلفية. سحر لوحات أبي العزم فائض، وافر، مندلق بين التفاصل والمنمنمات الجمالية مع أعماله الفنية. إنها لون من الواقعية السحرية التي تتجاوز حد التعبير الفني، هي تكمل وجودها لدى مستويات أخرى من الإغراق في الخيال والتمثل اللاواعي. هي حالة من كسر الحواجز بين الواقعي والمتخيل، تفتح طاقات الممارسة البديلة دون استئذان.200 محسن ابو العزم

وذلك نتيجة كون اللوحات حاملة رمزية بعيدة بحكم ذاكرة المجتمع المصري. ليست الطقوس الاجتماعية مثل الاحتفال بالمولود وهو في حضن أمه كما يبدو من تلك اللوحة طقوساً جافة، ولكنها طقوس احتفاء بالميلاد، بالحياة ، بالبهجة. لاتوجد شخصية تشذ عن القاعدة. كل مفردة فنية ترسم تقاليد المجتمع كما لو كانت مقدسات تستدعي الرغبة والرهبة، السعادة والاستغراق. كما لو كانت تلك التقاليد تتجلى لأول وهلة في عالمنا الحي. فالنساء رمز الحقائق والحافظات لها على طول التراث المصري. والاحتفال هو احتفال إيزيس بعودة |وزيريس في مواسم الحصاد والزراعة وجنى المحاصيل. كل طفل بين ذراعي أمه التي هي الثقافة في الوقت نفسه.201 محسن ابو العزم

البوح

الناس الذين هم نسيج الحياة لا يضجون ولا يتأففون. تبدو المشاهد في حالة تراتيل فنية رغم مفرادتها البسيطة. إن قدرة الفن على ابداع وجود حقيقي قدرة أكبر من أي شيء آخر.

هذا فلسفيا-كما يوضح فيلهلم دلتاي- ذات رأي: أن الحياة تتجلى بكل وجودها الحيوي في التو كما لو كانت نحن. الفن يجعلك تبوح إلى نفسك، لأن حياتنا هي الوجود الذي يتاح معه وضع ذواتنا موضع الآخرين. أي أنْ ترى ما تراه كأنك تشعر بحياتك مكان الآخر، وأنْ تعيش بقدر ما تعيشض كما لو كنت أنت الآخر. الناس يمثلون بوُحاً بما في الحياة من أصالةٍ وعراقةٍ طويلة الأمد. الحياة هي عملية الفهم المتواصل الذي يظهر في كافة المعاني. ومن ثمَّ، ستكون عمليات التأويل بمثابة فنون العيش معاً. تلك هي الشخصيات تسكن لوحات أبي العزم، لكونها بهذه المعالم الداخلية والخارجية في الواقع. إنها تسكن الحياة ممتلئة وزاخرة وطافرة بأعمق المعاني.202 محسن ابو العزم

رُبَّ متسائل يطرح: ما الذي يجعل شخصيات أبي العزم سعيدة ومتميزة بحضورها القوي؟ إنها شخصيات مبهجة بهجة الحياة. هناك مساحات عميقة من الرضا والسكينة تنضح بها، يبدو شكلها هو العمق المنعكس بحرارة في الأشكال والمظاهر المتبدية. ولذلك تمارس الشخصيات كافة أفعالها عند الحد الأقصى للحياة، أي تجسد يقينا بما تفعل يفوق أية قدرات أخرى. تغلف الشخصيات غلالة من السخرية التي تطل من الاغراق في الملامح والإحوال البادية من الأجساد والأعمال.

ها هو أحدهم يجلس إلى المقهى واضعاً الإرجيلة بين شفتيه ناظراً إلى الآخرين، بل إلى العالم كله نظرة ساخرة. سلطان زمانه الذي لا يعبأ بشيء واقفاً على مملكته، وقد غلفت هيئته لمحة كاركاتورية بادية للعيان. هو يهزأ ضمنياً داخل المشهد وكأنه يمتلك الوجود بالفعل. وتصبح السخرية نبض اللقاء مع الأصدقاء والقرناء على المقهى. إنه يردع خواطرنا التي تحوم حوله بصدد شكله أو أحواله الاجتماعية. إنَّ السخرية هي فن احتمال العيش تحت حمأة الظروف على نحو باسم. فمن باستطاعته أن يتحمل ثقل الواقع إلا بسخرية هو نفسه موضوع لها؟203 محسن ابو العزم

الشكل الكاريكاتوري بجانب الجدية حيلةٌ جمالية لتسهيل ابتلاع الواقع. فبعض السلبيات تبدو من وراء المظهر غير خافيةٍ. وجدية الملامح هي اليقين المباشر لدرجة تمرير المواقف والأحداث دون توقف. حيث قد يلاحظ المتلقي بعض الأشياء غير المقبولة، بيد أن الابتسامة الفنية تدفع المشاهد، وتلفت النظر إلى الخلفيات الباسمة. ويبدو تمسك الشخصيات بالواقع وفتح نوافذ الابتسامة خلاله أمر يدعو للدهشة. لأنه واقع منطوٍ على المفارقات التي تتلاعب بالإنسان وتثري عالمه.

مع أن البوح الفني يطرح نوعاً من الإفضاء بخشونة الحياة ونمط الثقافة السائدة. حيث مازالت لوحات أبي العزم تحتفظ بالزمن في أشكال من الوظائف الاجتماعية والعلاقات والظواهر مثل قراءة الصحف والاعمال اليدوية وبيع السلع والمواد الغذائية في الأزقة والشوارع. ويسرب إلى ذائعة المتلقي الطابع الإنساني من وراء صعوبات العيش.204 محسن ابو العزم

رهان الفن

الابتسامات والمسحة الإنسانية في لوحات أبي العزم وثائق لا سمات شخصية فقط. بمعنى إن الإبتسامة هي التفاعل الأخير مع الوقائع وأحوال الحياة المتقلبة. وهي نتيجة وليست مقدمة، فالبسطاء والشعبيون وأناس الحياة اليومية يبذلون كل ما لديهم من بهجة لمراوضة الحياة، كنوع من التغلب على منعرجاتها المفاجئة. ولذلك يحضر في اللوحات ذهاب الناس إلى العرافين والدجالين ومطلقي البخور  وضاربي الودع وكاشفي الطالع والمستقبل. لتسهيل الزواج وجلب الحبيب وعودة المفقودين وغيرها من أشياء.

وهذا أحد ألوان الجوانب التي يحملها المجتمع ويفك شفرتها هؤلاء الناس الشعبيون. فهذه الطبقة واسعة الانتشار هي حامل ثقافي بالمقام الأول. وهي التي تتنفس التاريخ وتشغل الجغرافيا وتملأ الشوارع والمقاهي. هم حافظو كنوز الأيام والوقائع التي تترك آثاراً غائرة في الذاكرة. ذاكرة المجتمعات العريقة ذاكرة حية لا ميتة.

يهتم فن محسن أبو العزم بتلك الشرائح التي تمثل لوحة اجتماعية – ثقافية أخرى داخل المجتمع. لأن الناس العاديين هم أصل الحقائق الإنسانية، إذ تتجلى عبرهم التغيرات البعيدة على نحو بارز. فالطبقات المرفهة تستطيع تغطية التحولات بكم من المساحيق الثقافية جسداً وفكراً. غير أن الناس هم وقود تلك التحولات، ولن يفلت منهم شخص واحد إزاء الاستغراق في قاع المجتمعات. وقد يسمى ذلك أصالة أو تراثاً، لكن في أغلب الوجوه لا طريق آخر سوى رصد الخربشات الزمنية وتضاريس الظروف.205 محسن ابو العزم

ليست لوحات أبي العزم سياسية ولا هي إعلان أيديولوجي عما يجري، لأن الفن ليس مانيفستو. إنه- في جميع أعماله- يرسم ويوثق ويتطلع ويدقق في التفاصيل النفسية والثقافية للشخصيات. ذلك من أجل اكتشاف مواطن الجمال والإدهاش. فقد يكون المشهد مجموعةً من النساء اللائي يزغردن أثناء مناسبة اجتماعية، وقد يكون المشهد إمرأة عجوزاً تتنمر على جيرانها في إحدى الأحياء الشعبية، وقد يرسم مشهداً آخر أثناء عراك بأحد الدكاكين التجارية الشعبية. وعلى خلفية سياسية، يطرح ابو العزم مشهداً في إحدى المرافعات داخل المحكمة، حيث تؤكد الجلسة صورةً من رهانات الحياة الاجتماعية، وأن السياسة ليست فقط فن الممكن، بل هي فن ادارة العيش بقدر ما يُفهم من اللوحة. فالشخصيات حادة الوجوه والنظرات متبادلة عن كثب والتداخل بين الحوارات بات مسموعاً، ولا تُوجد خطوط توضح الفوارق بين الأشخاص. مع فوضى التواجد بين فئات المجتمع المختلفة نساء ورجال وأطفال.

ينتج محسن أبو العزم مشاهد فنيةً عالية الوصف لا يرسم فقط. هو يلتقط حواراً وحركة وأعمالاً بكل حمولاتها الثقافية. ولا يترك المشاهد تتداعى هكذ، بل يدفع بألوانه لاكتشاف معانيها بين الناس. لعله يجعلها تحكي وتطرح ما يفيض في جوفها، هو يعيد انتاجها مؤولة داخل اللوحة مع تربة الحياة في كل مكان. والتأويل قد يكون سخريةً أو ملامح شديدة الأغراق في التكوينات الشعبية وقد يكون صورة تشعرك بالامتلاء النفسي. والمعاني تتباين أحياناً وتأتلف أحياناً بقدر ما تعبر المشاهد ككل عن جوانب الحياة.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

.............................

1- محسن أبو العزم  فنان تشكيلي مصري. يعُد من أهم الرسامين الذين جسدواً ملامح الحارة الشعبية المصرية، عضو  نقابة الفنانيين التشكيليين، وعمل بالعديد من الوظائف منها التدريس بالجامعة وكرسام صحفي، ونظم عشرات المعارض الفنية. وشارك بالمعارض المحلية والدولية. ولد عام 1959 بمحافظة الفيوم، وتخرج من كلية الفنون الجميلة قسم التصوير جامعة حلوان عام 1981 ثم عمل بالتدريس في الخارج من 1982 حتى 1996، وعمل كرسام صحفي في مجلة صباح الخير، روز اليوسف وأخبار اليوم المصرية.

 

تحوّل الحرف العربي الى عنصر مهم في العمل التشكيلي، حتى أصبح ظاهرة يلجأ اليها العديد من الرسامين والنحاتين  على حد سواء كصيغة أساسية في تجاربهم الفنية، واذا أردنا أن نستعرض أسماء الفنانين التشكيليين من العراقيين والعرب الذين خاضوا التجربة في توظيف الحرف العربي، فاننا نقف أمام اسماء فنانين عدّة من جيل الرواد  كانوا في مقدمة من أسهم في تأصيل هذه التجربة واغنائها من قبل فناني الأجيال التالية، نذكر على سبيل المثال: جميل حمودي، شاكر حسن آل سعيد، فائق حسن، قتيبة الشيخ نوري، محمد غني حكمت، مديحة عمر، ضياء العزاوي، رافع الناصري، تركي حسين، محمد سعيد الصگار.

ولغرض تأكيد مشروعية هذا الاتجاه، وجدنا من المفيد أن نلقي الضوء على الأبعاد الفنية والجمالية التي تحدد أهمية الحرف في العمل التشكيلي، والمنطلقات الفكرية والتاريخية التي أسهمت في إنتشار الظاهرة؟

من الصعب النظر الى تجربة الفنانين في هذه الميدان على انها محاولات تجريب متسرعة لخلق فن عربي جديد من دون البحث في الأصول التاريخية لهذا الفن. فمنذ ظهوره في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر القديمة، كانت التماثيل والصور قد ضمّت كتابات مسمارية أو هيروغليفية، وكانت هذه الكتابات بحسب نظامها الفني أداة جمالية لابد منها في تقويم العمل الفني وتقويمه واكماله، ومع ان هذه الكتابات كانت تحمل دلالات معنوية مفيدة، فان وجودها كان له تأثير فني مهم بطابعه الزخرفي، ثم تأكيده الطابع الابداعي في العمل الفني بما يميزه عن الأصل.

ومع أن فنون الصين واليابان والفنون البيزنطية فيما بعد، قد تبنت الحرف والكتابة في الفن التشكيلي، فان الخط العربي تمتع في الدولة العربية - الاسلامية باهتمام واسع، وأصبح الفن الأكثر تعبيرًا عن الجمالية " الإسلامية " المتمثلة في الاعمال التي زينت المنابر والأبواب، وجدران وواجهات المساجد والقصور، ونقشت أو حفرت على ألواح (القاشاني)، الى جانب الزخارف على الخشب والحجر. وبلغ الفن الحروفي أوجّه في العمارة العباسية، والفن المغربي الاندلسي، وفي رسوم الأحجيات والتعاويذ والسحر والرقى.

لقد أصبحت الكتابة العربية من أهم العناصر الزخرفية في الفن العربي الاسلامي، بل ان بعض المخطوطات أصبحت بما حفلت به من تنميق في الخط والتلوين، قطعاً فنية كاملة يتناقلها الناس والهواة وتقتنيها المتاحف العالمية لقيمتها الفنية العالية، ثم ان المصاحف لقيمته القدسية كانت حافلة بأروع الخطوط والنقوش والألوان كمظهر للتكريم والتمييز. وكانت المخطوطات الفنية مظهراً من مظاهر قوة السلطة ورقيها الحضاري، يتجلى ذلك في اهتمام الملوك والسلاطين بهذا الفن الرفيع، ولما يتضمنه الخط الجميل من معنى فكري أو أدبي أو قدسي. شأنه في ذلك شأن الأعمال الفنية التي تعنى بالشكل والمضمون كعنصرين أساسيين لعلم الجمال . وهذا هو شأن الكتابات القرآنية والشعرية التي نفذت بخطوط نمطية جميلة، وهي ضمن هذه الحدود تدخل حيز الجمال، جمال التعبير والتنميق الذي يتطلب مهارات وقدرات عالية.

ان نظرة الى الخط الجميل من خلال مفهوم الفن، يحتل الشكل المرتبة الأولى، أما المضمون فمتروك للتقويم الفكري والأدبي، وهو ينفي صفة التجريد المطلق التي استحوذت على النقش العربي، ومع ذلك فان جماعة (البعد الواحد) وخطابها: الفن يستلهم الحرف ترى أن الحرف العربي يمثل مدى عناية الفن المعاصر بالمضمون الفني كقيمة وليس كمهارة…انه (قيمة) بمعنى كونه (شكلاً - مضمونياً).

ان مهمة الفنان إذن هي أن يتدخل في معالجة الشكل معالجة ابداعية، بحرية تمتد من مراعاة قواعد الخط إلى ممارسة التشكيل الحر.

ان القيمة التي يتضمنها الحرف العربي، وهي ما نسميه بالبعد الروحي والحضاري، هو المخزون التراثي للكلام المكتوب الذي تحدث عنه الفلاسفة والصوفيون،إذ يبتدىء هذا البعد بالحرف قبل الكلمة،  وللحروف جميعا أبعادها الخاصة، وبعضها ما يميزه عن الآخر : الألف، والواو، والحاء، والهاء، والميم.

ومن المفيد أن نشير الى ظهور الخط العربي كعنصر فني منذ عهد بعيد في أعمال الفنانين في العالم، والعمارة الأوربية، وفي بعض الكنائس كما هو واضح في النحت البرونزي  البارز على باب كنيسة القديس بطرس، ثم دخلت هذه المحاولات في صميم الاتجاهات الفنية الاوربية منذ بداية القرن الماضي، وفي مقدمة الفنانين العالميين (بول كلي) الذي حاول فعلاً تعلم الكتابة العربية، رآها سهلة نظراً لانه كان أعسراً يكتب باليد اليسرى، وترك (كلي) لوحات عديدة بعد زيارته الى تونس تضمنت كتابات عربية، بل انه يعد أول من استعمل الحرف اللاتيني في الرسم . ويأتي محمود حماد، وأدهم اسماعيل، من سورية، ووجيه نحلة، ورفيق شرف من لبنان، في مقدمة الفنانين العرب الذين وظفوا الحرف في الرسم.

ان هذا الاتجاه الذي ظهر غالباً في أعمال الرسامين التجريديين خلق ظروفاً مناسبة لايجاد حلول لمشكلة التجريد الحديث، واذا كان من الفنانين من استعمل الحرف اللاتيني مثل براك وبيكاسو في ملصقاتهما، فان للحرف العربي دلالات قد لا يكون لها نظير في لغات أخرى، هذه الدلالات الصوفية والرمزية كثيراً ما تحدث عنها الفلاسفة المسلمون. وللفنان شاكر حسن آل سعيد نظريته الخاصة في البعد الواحد، موضحاً ان الحرف انما يستعمل (كقيمة تشكيلية بحتة)، وليس (كبناء موضوعي مجرد)، والقصد هو الكشف هو الكشف عن أهمية الحرف (كبعد)، وليس كموضوع، ذلك ان القوام الحقيقي للحرف هو الحركة والاتجاه، فالبعد الواحد كفكرة يقصد به اتخاذ الحرف كنقطة أنطلاق للوصول الى معنى الحرف كقيمة شكلية.

على العموم  ان هذا الفن يرتبط بالذائقة برباط عميق وقديم، وهو قادر أن يرتفع بها الى مستوى التشكيلات الابداعية الجميلة، التي أكدت حضورها وقبولها لما تتميز به من اسلوبية جديدة وتقنيات تجريبية حديثة، فضلاً عن ايقاعات اللون والهندسة بمستويات بصرية معبرة تجمع بين المعاصرة الفنية والتفرد الروحاني.

بلا شك، اسهم كل من  ضياء العزاوي ورافع الناصري وجودت حسيب ومحمد الصگار وجميل حمودي، وفنانين  من جيل آخر في توظيف الحرف العربي بطاقته الجمالية والحسية، كما في تجارب الفنان ضياء حسن الاعرجي، ومرتضى الجصاني.

***

جمال العتابي

يتميز فن ماهود أحمد بالأساليب التصويرية والواقعية والذي جعلته رساما بارزا، إذ كثيرا ما كنا نقرأ مقالات تحليلية في الصحف العراقية في القرن العشرين عن أسلوبه وفنه الذي يعترف به من قبل الجميع في الاتحاتدات والجمعيات الفنية. يقول ماهود أحمد:" أثرت بشكل كبير على فرشاتي في الكثير من أعمالي الفنية أعمال أساطين الفن الروسي والأكثر روعة مثل فروبيل Vrubil وسوريكوفSurikov وريبينRepin وليفيتان Livitan . وليس أقل من الفن المكسيكي الذي يمثله ريفيراRivera وسيكويروسSiqueroos وأوروزكو Orozco المشهورة عالميا. أدمج هذه التأثيرات وأتنفس روحا عراقية و يبقى عمل فني جيد في جميع الحالات ولا يهم المدرسة الفنية التي ينتمون لها والاتجاه في العمل. ما يهم هو جودة الأعمال".

لكن ماهود أحمد درس الفن في معهد سوريكوف في موسكو، وكان التأثير الكبير للواقعية السوفيتية على أعماله، سواء اللوحات الصغيرة الحجم أو الضخمة والكبيرة ويتجلى فيها أكثر وضوحا من تأثير الفن المكسيكي. "أنا أعمل تحت تأثير مدرسة الفن الروسية. إنها مدرسة جيدة تقوم على المعرفة النظرية والإتقان العملي. أنا أقيًم مدرسة الفنون الروسية أعلى من المدرسة الفرنسية المعترف بها من قبل الجميع في الأوساط الفنية كما أن أساتذتي الروس هم الأكثر شهرة في العالم".

وعلى عكس الاتجاهات الشائعة غير التصويرية، فهو يتمسك بالأشكال الكلاسيكية وهذا يجعله فنانا متميزا في عصرنا. يشير النقاد، من بين أمور أخرى، إلى أنه "في لوحاته، يتم وضع شخصيات للفولكلور العراقي جنبا إلى جنب مع تعليق درامي من التاريخ الوطني. أن المهم هو العمل الفني الجيد، أما المدرسة التي ينتمي لها والاتجاه هما ليست بالمسألة المهمة جدا. الشيء المهم هو جودة الأعمال".191 ماهود احمد

طقوس قبل الزواج

"تأتي مواقفه السياسية في اللوحات كصدى قوي للأحداث. واللوحات ذات الزخارف السياسية هي جانب مهم من ابتكاره. هنا الرمزية من نوع مختلف عن الفولكلور، ولغة الفن مقتضبة. بعد احتلال فلسطين في العام 1948، شمل الوضع المأساوي كيانه بأكمله، كمواطن وفنان على حد سواء. يتخلل حزن عميق تكوين اللوحة الثلاثية التصويرية (تريبتيخ باللغة الروسية) "الموت والولادة في فلسطين" (1970)"، - يكتب الأستاذ الدكتور أندريه بوغدانوف. حصلت هذه اللوحة على جائزة في العام 1970 وقام الفلسطينيون بشرائها وتصور الأجزاء الثلاثة من اللوحة مشاهد التجربة الدرامية التي لا يزال الفلسطينيون يتعرضون لها أثناء احتلال إسرائيل. العمل الأول هو "الموت والولادة في فلسطين"، والثاني هو "الهجوم الصهيوني" (1973)، والثالث – في الجزء الأوسط، هو "فدائيون فلسطينيون" (1973). في الجزء الثالث، يصور الفنان بفخر أولئك الفلسطينيين الذين حملوا السلاح لحماية عائلاتهم. يعتمد اللون على تنافر درجات اللون الأحمر الدموي والأزرق والأسود ويعبر عن كابوس الحرب القاتم والمؤثر. على خلفية كستنائية، يظهر مناضل فلسطيني مسلح في حركة عنيفة. الخطوط العريضة شخصية حادة تسليط الضوء على الدراما. شجرة جافة في المقدمة ترمز إلى التربة الفلسطينية الفقيرة. تظهر اللوحة اليسرى "الهجوم الصهيوني" شخصية ممدودة لامرأة مقتولة، مطلية باللون الأزرق، يقف القاتل خلف جسدها المسجى على الأرض، يلمع انفجار القنبلة. في القسم الأيمن – "الموت والولادة في فلسطين" – هناك أم تبكي على طفلتها الميتة. يصور الفنان في هذه الصور الوضع الإنساني المريع بتعاطف كبيرٍ. وهذا كما يجري الان في غزة.

ويشمل فنه العديد من المواضيع والأنواع المختلفة من الحوادث.، إذ يمكن أن تكون مشاهد حياتية من هذا النوع، مثل "الفلاحون" (1970) وصور المناظر الطبيعية مثل "الزقاق في بغداد" (1973).

أن جزءا كبيرا من التعبير الفني لماهود أحمد عبارة عن لوحات بأسلوب أكاديمي كلاسيكي جنبا إلى جنب مع مواضيع رمزية من الحياة الشعبية. توفر فلسفة الحياة العميقة التي يغرسها في عمله للأعمال مستويات معقدة من الإدراك وتجعلها جذابة: "كل عمل أقوم بإنشائه هو مركب من عنصرين: الفكرة والطريقة. غالبا ما تستند أفكاري إلى القصص الخيالية والحكايات الشعبية المألوفة لدى العراقيين. أود أن أشير إلى أن الأحداث التاريخية في الماضي هي التي ألهمتني هذه الافكار، من أجل إنشاء أعمال ذات صلة، لها أيضا أهمية بالنسبة للحاضر" يؤكد الدكتور ماهود.

ويعالج الدكتور أحمد في فنه المشاكل الشخصية في المجتمع العراقي، وكذلك يعكس العلاقات الاجتماعية بين البشر. فمثلا الصراع الأبدي بين الشر والخير كما في تكوين "الشمر"، الذي له فكرة تاريخية فولكلورية. (زيت على قماش، 75 × 90، 1973) تظهر المواجهة بين القوى الغامضة بمساعدة الألوان الحمراء والخضراء التكميلية. الأحمر هو تجسيد للشمر الشرير الذي قتل حسين (ع)، ابن علي بن أبي طالب ابن عم الرسول(ص). يتحول الشمر التاريخي هنا إلى بقرة حمراء تغذي البشر بروثها. يعتقد البشر أنهم يأكلون شيئا جيدا، لكن هذا لأنهم سمموا من قبل البقرة الشريرة ونسوا كل شيء آخر. لكن الخير، الذي لا يزال يعيش داخل أرواحهم، يبدأ في العمل. وفجأة يتذكر الناس ما هي طبيعتهم الحقيقية، وتتسامى أرواحهم في الأمل. توضًح الرمزية المعقدة في الصورة طقوس المسلمين الشيعة المتمثلة في القتل الرمزي للشر داخل أنفسنا والتي تحدث في شهر "عاشوراء" الديني. يتم حساب وقت الطقوس كل عام حسب التقويم القمري. ثم تثار الكراهية لقاتل حسين للقتلى. التحركات الرمزية بمعانيها المعقدة موجهة للجمهور العراقي المحلي الذي يعرف الأساطير العربية والإسلامية ويمكنه تفسير الرمزية.

بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما يعمل ماهود أحمد بزخارف توراتية. يصور في إحدى لوحاته النبي يونس محاصرا في بطن الحوت. يصور الفنان عالم المحيط المغامر مع حوريات البحر والأسماك في كل كان من هذا العالم السحيق والمترامي الأطراف.

ويحول ماهود أحمد المغامرات إلى إبداعات فنية، إذ يقول "يحتل المغامر جزءا مهما من اهتمامات الإنسان. وما زالت تفعل ذلك على الرغم من التطور التكنولوجي. إن عودة المغامرات مع تقدم التصنيع تمنحنا انسجاما حقيقيا يمكن أن نفقده بسهولة في دوامة اليوم. وهو يقول "في أعمالي، أسعى جاهدا للوصول إلى توازن بين الإنسان والتكنولوجيا، بين الحقيقي والوهم»، اعتاد الفنان أن يروي ويكرر ذلك.

 كما اختار ماهود أحمد مواضيع من قصص "ألف ليلة وليلة" وحولها الى الأعمال. اكتسبت هذه المواضيع بجهود الفنان الراحل جواد سليم أهمية كبيرة لمعظم الفنانين العراقيين في القرن 20. كانوا يمثلون التقاليد المحلية وينتمون إلى مدرسة "بغداديات" الذي أسسها جواد والتي كانت من بنات أفكاره. ومع ذلك، في العديد من مؤلفات ماهود أحمد، تتمتع شخصية شهرأزاد بميزات حديثة.193 ماهود احمد

أهوار العمارة

يتجلى الاهتمام بالثقافة الغربية في أعماله مثل "في قارب" عندما تكون اللوحة مستوحاة من عمل همنغواي "الرجل العجوز والبحر". ولكن بدلا من السمكة، تخرج امرأة عراقية جذابة من الماء برغبة واضحة لإغراء الرجل. الشخصيات النسائية هي رمز مهم للفنان ويتم تصويرها بزخارف مختلفة. "علاقتي بالنساء مبنية على أسس إنسانية. وهو يتعاطف مع النساء اللواتي يصورن، على الرغم من كونهن مصدرا للحياة، الحلقة الأضعف في المجتمع الأبوي.

أشار المعلم الصوفي بن عربي إلى أن الله أخذ وقته عندما خلق النساء ليجعلهن أكثر كمالا وجمالا. وكذلك يتخيلون تجسيد الطبيعة. لذلك، فإن الشخصيات النسائية التي أدخلها في مؤلفاتي هي رمز رئيسي ". تدور لوحة "طقوس المرأة" حول احتفالات العبادة الغامضة والسرية التي تمارسها نساء العراق. في فضاء الصورة نرى دائرة من النساء الجالسات. تفتح الدائرة في المقدمة وتظهر شخصية أنثوية عارية في المنتصف. تقوم النساء بأعمالهن السحرية التي، وفقا للمعتقدات المحلية، تساعد إحداهن على تكوين أسرة وبهذه الطريقة لتحقيق رغبتها الانثوية.

رسم ماهود أحمد عدد من اللوحات التي تنتمي الى الفكرة المهيمنة عليه والتي هي الثور. يعتقد الفنان أن الثور كائن يتمتع بالقوة والحنان وهو في نفس الوقت رمز قديم للخصوبة السومرية والبابلية. في صورة "الصرخة" (75 × 85 سم)، يصور الثور القوة الذكورية. يتم ضغط جسم الثور بقوة في إطار الصورة. يقول الفنان: "أعرف الشكل ويمكنني استخدامه كيفما أريد". المرأة في الصورة هادئة، بينما يرمز الثور الصارخ إلى الصراخ الداخلي للروح. في لوحة أخرى، تختلف نفس الرمزية، هنا تجلس المرأة على رأس الثور. هناك تشعر بالهدوء والأمان، محمية بقوة وحكمة الثور (85 × 65 سم).

 رمز آخر من عمق الزمن هو القارب العراقي التقليدي - غالبا ما يكون المردى ذو العمود حاضرا في أعماله. هذه هي الرموز التي جاءت من ذكريات مسقط رأسه مدينة العمارة في جنوب العراق حيث نشأ وترعرع فيها. جاءت أنواع القوارب المختلفة الموجودة في المنطقة من الحضارة السومرية. استخدم العرب هذه القوارب على نطاق واسع ووصلوا إلى قارة أمريكا الشمالية في العصور الوسطى. وكان هذا هو السبب في أن مشروع إنشاء قارب عربي تقليدي كبير تم تنفيذه في مدينة القرنة بالقرب من مدينة البصرة من قبل الباحث النرويجي تور هيردال في العام 1973.

تم تكوين معظم أعمال ماهود أحمد بأسلوب كلاسيكي وتتميز بالرمزية المحلية. وهكذا، أصبحت واقعيته، المرسومة بأحجام جريئة من الشخصيات الثابتة، تحقيقا في طقوس من سحر المرأة والتقاليد الشعبية القديمة في بلاد ما بين النهرين إلى مسار غير مسبوق في الفن العراقي. ماهود أحمد فنان مميز احتفظ طوال حياته بإيمانه بالأشكال التصويرية، جنبا إلى جنب مع المحتوى الفلسفي.

 وبعد أن استقرت قوات الاحتلال في العراق، انتقل ماهود أحمد من بغداد إلى أربيل في كردستان العراق. هناك في كردستان، أسس صديقه الحميم محمد عارف مركزا للفنون ودعا ماهود أحمد للعمل معه. كما ويمثل الدكتور ماهود أحمد مدرسة تشكيلية واتجاه فني خاص به لا يشبه المدارس الفنية التشكيلية العراقية والعربية.194 ماهود احمد

الميثولوجيا العراقية

الأستاذ الدكتور ماهود أحمد في سطور

1940-2021

3575 ماهود احمد- أكمل دراسته الفنية في معهد الفنون الجميلة في العام 1959 في بغداد.

- نال شهادة الماجستير في الفنون التشكيلية من الاتحاد السوفيتي من معهد سوريكوف سنة 1967 في موسكو.

- نال درجة الدكتوراه في فلسفة الفن من المعهد العالي للدراسات النظرية –موسكو). روسيا 1979- الإتحاد السوفيتي).

- حصل على درجة الاستاذية من جامعة بغداد في العام 1996.

- أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه ما يقارب 27 (أطروحة).

- عضو مؤسس لكلية الفنون الجميلة - جامعة صلاح الدين- أربيل

- عضو نقابة الفنانين العراقيين، عضو في جمعية الفنانين التشكيليين، عضو جماعة الرواد، عضو جماعة بغداد للفن الحديث.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

......................

* أصل المقالة هي جزء من كتاب تطور الفنون التشكيلية في العراق في القرن العشرين باللغة النرويجية قمنا بتأليفه أنا وزوجتي آلا بوغدانوفا في العام 2005.

الفن العراقي – تشكيل وتطور رؤاه وصفاته في القرن العشرين.

Irakisk kunst – dannelsen av egne visjoner.

Kunstutviklingen i Irak i 20 århundre

الثقافة الاوربية إحدى مصادر المعرفة الانسانية المهمة في العالم، تركت أثرها القوي في الحضارة العالمية، لتنوعها الثقافي، وتاريخها الغني في الادب والعلوم والفلسفة والفنون فأصبحت إحدى اهم مصادر الابتكار والنهوض، وبفضل ذلك استطاع الانسان الأوربي من اكتشاف مصادر حضارة الشعوب الأخرى. ثم نقلها الى متاحفه في حملات واسعة رافقت بداية النفوذ الاستعماري في مناطق مختلفة من العالم ومنها البلدان العربية، ولاسيما العراق ومصر، اذ تمثل حضارتهم أهم واقدم حضارتين في العالم، (وادي الرافدين،والحضارة الفرعونية).

 علينا أن نعرف كذلك في مقابل معاناة شعوب تلك البلدان التي كانت عاجزة في مواجهة مصيرها، وخاضعة لارادات الدول الاستعمارية، لم تكن تدرك حجم السرقات التي تعرضت اليها كنوز حضارتها، كانت التماثيل السومرية مثلاً لا تنتمي لعالم النحت وحده، بل الى عالم الجمال وهذا هو بالذات ما عناه الفنان العالمي (خوان ميرو)* حين أشار يوماً إلى الجناح السومري في متحف (اللوفر) قائلاً :

(هذا هو جناحي… لقد كنت أحضر في الماضي إلى هذا المتحف لتأمل اللوحات الفنية بشكل خاص، أما الآن فإني أحضر لرؤية هذا) مشيراً إلى الجناح السومري.

   ترى ما هو التفسير المنطقي لاشارة الفنان ميرو ؟

  لأول وهلة، سنفتقد القدرة على الاجابة الصحيحة في الحال، أمام دهشتنا للاشارة، غير اننا سرعان ما نكتشف بعد لحظة من التأمل الهادىء والتفكير العميق، بأن الفنان ادرك عبقرية النحات السومري في اعقد مناطق النص التشكيلي وأكثرها إشكالاً، كما فتح ذات الباب الذي عالجه (بيكاسو) حين أطل على الفن الأفريقي من خلال عيون تماثيله،فغدا في الحال، وغبّ الانتهاء من لوحة(فتيات أفنيون)** أحد أهم ينابيع الالهام في الفن الحديث، كما شكل المنعطف التحولي الأكبر بتياراته ومذاهبه. ولعل ميرو قد فاجأنا بالتنبيه إلى حقيقة كانت غائبة عن أذهاننا من قبل، وهي ان أبواب كنوزنا الفنية ما زالت موصدة بأختام الاهمال والغفلة والشعور الخاطىء بالصغر، فيما أصبحت (كلمة السر) طوع أيادٍ أخرى.

 إذ يعرض متحف اللوفر واحدة من أهم روائع المنحوتات البارزة Rellef السومرية في عصره الذهبي منذ اكتشافها من قبل أحد الآثاريين الفرنسيين في أوائل القرن العشرين في مدينة لگش، كما يعرض المتحف واحدة من أهم روائع النحت السومري، ونعني بها مسلة النسور أو العقبان، والجدار السومري النادر، كما يفتخر المتحف باحتوائه على مجموعة تماثيل كوديا الجميلة،

ولعلنا سوف لا نخطىء الطريق الى هذه الابواب إذا ما اعتبرنا بأن إشارة موحية لميرو كهذه، يمكن أن تكون مدخلاً يفضي بنا الى فهم أعمق لفنون حضارتنا العظيمة،كما يسمح لنا بالتوصل الى درجة أعلى من حدة الرؤية وقوة التحكم في ادراك : أن لا نكون أمام الأشياء، بل في داخلها، وهذا ما سيقودنا الى استدعاء الخزين المضموم كله من كنوز تلك الحضارات، أملاً في تحقيق الوحدة بين مستويين من شروط حياتنا الثقافية الجديدة : الماضي والحاضر.

 من هذا المنظور الذي يشكل نقطة انطلاق مفترضة تحمل دلالاتها الخاصة كما تحمل توجهاتها المستقبلية، يمكن أن نبدأ خط سيرنا الفكري السليم لترسيم حدود أنظمة فنية قادرة على العمل وفق أسس صحيحة.

***

د. جمال العتّابي

………..

*خوان ميرو: (1983-1893)، الفنان التشكيلي الاسباني ولد في برشلونة، اكتسب شهرة عالمية في الرسم والنحت من خلال أعماله التي تجمع التجريد بالسريالية، اختار الإقامة في باريس أثناء الحرب الأهلية الاسبانية في أواخر ثلاثينات القرن الماضي.

** فتيات أفينون:

مثلت لوحة آنسات أفنيون للفنان بابلو بيكاسو نقطة تحول في أعماله، اللوحة لآنسات عاريات، لكن الوجوه غريبة، والعيون غير طبيعية وغير متناسقة، هذا التحول ظهرت بعد ان غادر بيكاسو اسبانيا واستقر في باريس، عام 1900 واكتشف الحياة البوهيمية فيها، وعاش في فقر مدقع. وفي اربعينات القرن الماضي قام بيكاسو بعدة رحلات الى الكونغو لتعلم تقنيات الرسم من الفنانين المحليين، واستكشاف الفن الأفريقي مما أثر على أعماله اللاحقة. 

 

وفق نظرة فنية مخصوصة فيها من سردية العناصر والأحوال تمضي الفنانة التشكيلية ايناس الزيلي نحو العوالم تبث في الجهات شيئا من تلويناتها وحكاياتها حيث القول بالرسم والتلوين في تجاور وتقاطع مع الكولاج وغير ذلك من تقنيات مختلفة ليبرز العمل الفنية بمثابة حالة جمالية تعبيرية نحو الذات والآخرين والعالم.

فمن حكايات العناصر والأشياء مجال للتذكر والذكرى كأن يسافر الكائن عبر الفنانة ايناس في مذكرات صبار يشهد حيزا من جوهر الحكاية وهنا تكمن لعبة الفنانة الزيلي في هذا العالم من الحكايات المفعمة بالتلوين مثل أطفال ينشدون الحلم والاكتشاف والفرح ..3471 ايناس الزيلي

أعمال فنية متعددة للفنانة ايناس الزيلي التي تواصل تجربتها الفنية ضمن المشاركات الفنية الثقافية الخاصة والجماعية والتي منها مشاركتها الجديدة ضمن المعرض الفني الجماعي لمجموعة من الفنانين التشكيليين في عدد من الأشكال والانواع الثقافية والتجارب المختلفة والذي ينتظم ضمن عنوان لافت هو " عوالم متقاطعة " بفضاء فن وثقاف الهادي التركي بتونس وذلك في الفترة من يوم السبت 24 فيفري الجاري الى غاية يوم 10 مارس 2024.

و ايناس الزيلي  فنانة تشكيلية ضمن التركيب البصري، ومساعدة جامعية في المدرسة العليا لعلوم وتقنيات التصميم (ESSTED). حصلت في عام 1999 على درجة الماجستير في الفنون الجميلة، وفي عام 2003 حصلت على دبلوم الدراسات العليا (DEA) في علوم وتقنيات الفنون. في عام 2007، أصبحت مساعدة جامعية. وتتميز ممارستها الفنية بلغة تصويرية خيالية تهدف إلى الابداع ضمن انجاز الروايات والقصص. تعمل جميع الصور التي تنجزها سواء من خلال الكولاج أو الرسم على التعاطي مع المسائل الإنسانية والوجدانية في علاقتها بالبيئة وبالآخرين وبالتاريخ وبالتجارب الشخصية ..تشتغل ايناس فنيا وابداعيا ضمن عالم مجازي تلتقي فيه الشخصيات والأشكال والأجواء في عالم يقع في منتصف الطريق ..عالم مقيم بين الأحلام والواقع.3472 ايناس الزيلي

الفنانة ايناس كانت على علاقة بحلمها الفني حيث كانت طفلة، التحقت بمرسم حمادي بن سعد وزاد عشقها واهتمامها بالألوان والمواد فغالبًا ما كانت تحضر في ورشة الصور مع والدها الفنان الفوتوغرافي الراحل رضا زيلي كما  تمكنت من ملاحظة الصور الفوتوغرافية المختلفة التي تشير الى تاريخ تونس ما بعد الاستقلال والتعرف عليها والتي تمت أرشفتها سابقًا وإدراجها في خدمة التصوير الفوتوغرافي بوزارة الشؤون الثقافية. وفي عام 1995، بدأت دراستها في المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، حيث حصلت على الإجازة في علوم وتقنيات الفنون. وفي عام 2001، انضمت إلى المدرسة العليا لعلوم وتقنيات التصميم كمساعدة جامعية. في عام 2018، عرضت للمرة الأولى تركيباً بعنوان "الحلم" بالتعاون مع الفنان أسامة عمار، في قصر خير الدين بمعرض الفن المعاصر. ومن هناك، شاركت في العديد من المعارض الجماعية، كان آخرها مشاركتها في أيام قرطاج للفن المعاصر (JACC) عام 2023، في معرض "6 تحيات" بقاعة مكام. لديها اهتمام خاص بالصور بجميع أشكالها. تجمع الأشياء الصغيرة، التي تعدها وتلصقها وتواجهها بعناصر أخرى وفق العمل على انجاز لغة مصورة من خلال عناصر معنى، سرد، رواية... أي صورة تم إنشاؤها أو لصقها أو توضيحها أو رسمها فقط تستجوب الإنسان وعلاقته مع بيئته: الآخرين، التاريخ، التجارب... بيئته عبارة عن عالم مجازي تلتقي فيه الشخصيات والأشكال والأجواء في عالم في منتصف الطريق بين الحلم والحقيقة..

هكذا تواصل ايناس الزيلي تجربتها الفنية ومنها هذا المعرض بفضاء الفن والثقافة الهادي التركي مبرزة هذا الجانب الخصوصي في تجربتها التشكيلية المحكية ببناء عناصرها السردية والجمالية الساحرة تجاه الواقع والحلم.

***

شمس الدين العوني

يمضي الكائن الى ذاته التي يحاورها تقصدا وسؤالا بحثا عن ملامح صوته الضائع في الزحام في كون من التداخل والحركة والضجيج حيث الفن هنا مجال حيرة نشدانا للخصوصية وللكامن في الكينونة من أصداء تناغما مع رغبات شتى في اكتشاف العادي والذي يمر به الآخرون دون انتباه حسي وجمالي.. ووحده الفنان هنا يعيد تشكيل علاقاته وفق هذا النحو ليرى أناه في هذا الصدى الطالع مثل نشيد آخر فيمضي مع المادة في سياقها المفتوح على التشكل والبوح والتعبيرية اليانعة منصتا لذاكرة الأشياء.. انها لعبة الفن وهو يعدد من ممكنات الافصاح عن المخفي..عن الصدى.. صدى الأعماق في الأشكال..3405 ايمان حامد

هكذا.. ومن شواسع الذات تمضي الفكرة الى ما به تفصح العناصر عن أصواتها الأخرى حيث القول بالأصداء الطالعة من الكنه والجوهر في ضروب من التعاطي الجمالي وفق اعتمالات شتى فكأن المشهد حالات من تجريدية القول والأصوات.. والخزف هنا حمال حيز مهم من هذا النزوع الجمالي نحو الخصوصية فاللعبة الفنية الخارجة لتوها من  القلب والسائرة في الطرق غير المطمئنة لم تكن ترنو الى غير الكشف في كثير من الابتكار عن الممارسة الفنية الابداعية التي تروم الاختلاف ضمن البحث والانجاز الفني..

وعندها ماذا لو قال الطين كلمته للفنان وهو يدعكه بحثا ونحتا وتشكيلا ملتحما بكون أفكاره ضمن الجدوى التعبيرية الموغلة في الأصوات وبوحها المبين عن عوالمها المدهشة والقائلة بالفن عنوانا يعلي من شؤون وشجون الكائن في حله وترحاله..انها الرغبة في الانصات للكائنات والعناصر والتفاصيل  تفاعلا وجوابا عن بعض ما يخالج جواهرها من أحاسيس وانفعالات الأمر المحيل الى الانسان في هذه الأزمنة وهو في هيجانه الانفعالي في عوالم مربكة ومتداعية تتلاطم فيها الأحداث والمتغيرات واللامنتظر من المسارات والسياقات المدوية بمكوناتها وتفاعلاتها..3406 ايمان حامد

انها تلوينات الفن ومغامراته الآخذة ملابسات عناصره وفق رغبة الفنان وهو يعي ما يفعل ويحلم في فعله هذا وأثناءه وقبله متخيرا نهجه.. وهنا نمضي مع الفنانة الدكتورة ايمان حامد التي تخيرت هذا النهج الجمالي في تعاطيها مع اللعبة الفنية الابداعية وضمن بحثها الأكاديمي من سنوات لتصل الى هذا المعرض الشخصي لأعمالها التي هي ثمرة هذا التمشي المذكور والمتقصد..

هذا المعرض الخاص للفنانة التشكيلية والدكتورة ايمان حامد تم افتتاحه يوم الاثنين 05 فيفري 2024 بحضور جمع من الفنانين التشكيليين وأحباء الفنون والباحثين في مجالات الفنون البصرية والأساتذة بمعاهد الفنون وذلك برواق المركز الثقافي الجامعي بالمنستير وضمن عنوان لافت ودال هو " صدىRésonance "..معرض مثل نشاطا ثقافيا جماليا ابداعيا وعلميا لخصوصياته العديدة..حيث تقول صاحبة هذه التجربة ايمان ما يلي ".. يجمع بين أصداء أفكاري بتشكل طيني خزفي في نسق تعبيري معاصر، تصورات صدويه تنبع من العمق الكامن في بناء خزفي يتشكل في لغة مشهدية صامتة، تفسر ما يخالج كامن الانسان المعاصر لخفايا انفعالات"..3407 ايمان حامد

الأعمال المعروضة في هذا المعرض الشخصي تبرز جانبا من جمالية الرؤية الفنية لايمان وعمق تعاطيها من حيث الفكرة المشكلة للأعمال الفنية والتقنية المتبعة وكذلك الأسلوب..انها تروم الاصغاء للمادة وعوالمها في هيئاتها المشكلة وهي تفعل ذلك على سبيل تطويع الاشكال الخزفية والطينية اللينة، اذ تحاور المادة وتحاولها وصولا للجوهر والقيمة فكأننا مع كل عمل نلامس بالنظر والقراءة والتأويل مشهديات متعددة تفضي بالنهاية وبالأساس الى الكشف وتفكيك ما خفي من أصوات أخرى نحتاجها فهما وتفاعلا وهي أصواتنا الأليفة والقريبة بل هي منا..انها لعبة الفن الشاعرة وهي تنتبه بالاصغاء الى التفاصيل.

انها فعلا تجربة ومسار مواءمة بين البحث المضني والمنجز الفني تخيرا ومغامرة وفق اشتراطات الفن الجمالية والوجدانية وذلك في حيز من السياق الزمني الثري بالمشاركات والحضور والنشاط لايمان حامد ومن ذلك الحصول على الشهادة الوطنية للدكتوراه في جماليات وممارسات الفنون بعد سنوات من نيل الشهادة الوطنية للإجازة الأساسية في الفنون المرئية في مادة الفنون التشكيلية خزف.3408 ايمان حامد

وهي حاليا أستاذة متعاقدة بالمعهد العالي للفنون والحرف بالمهدية مادة "dessin analytique  " لمستوى سنة أولى إجازة تطبيقية في تصميم الصورة وتنوعت أنشطتها فقد نشطت نادي الفنون التشكيلية بالمركز الثقافي والرياضي الجامعي يحي بن عمر سوسة ولها تربصات وعديد المشاركات منها مشاركة مميزة في المعرض الجماعي بعنوان research creation in the arts  ضمن المؤتمر الدولي من 17 الى 20 ديسمبر 2023  تحت اشراف الجامعة التركية SELCUK UNIVERSITY مع الجمعية التونسية للفنون البصرية ATAV  برواق المعارض بمتحف الجامعة بكونبا  في تركيا ومشاركة في معرض الصالون الدولي للخزف المعاصر تحت اشراف اتحاد الفنانين التشكليين التونسيين بمتحف قصر خير الدين من 13 أكتوبر الى 6 نوفمبر2023.

الفنانة التشكيلية الدكتورة ايمان حامد وضمن هذا الجانب الفني والعلمي تواصل نشاطها وفق برامج قادمة من المشاركات والاسهامات العلمية فضلا عن المعارض حيث مثل هذا المعرض الخاص بعنوان " صدىRésonance " محطة مهمة وفق المضامين الجمالية في سياق اشتغالها الفني وهو معرض يتواصل الى غاية يوم الخميس 15 فيفري الجاري.

***

شمس الدين العوني - تونس

تعد مدينة بابل من المدن المهمة في بلاد بين النهرين على نهر الفرات، فقد جاء ذكرها في الكتب السماوية الثلاث: التوراة والانجيل والقرآن الكريم. اصبحت عاصمة لامبراطورية عظيمة لسلالة البابليين الأولى وكان عدد ملوكها 11 ملكاً حكموا ثلاثة قرون ( 1894 - 1594 ق.م)، وكان ابرزهم ملكها السادس حمورابي(1) (1792-1750 ق. م) الذي اشتهر بمسلته التي دون فيها القوانين التي تنظم الحياة العامة في الإمبراطورية. في هذه الفترة بلغت حضارة العراق أوج عظمتها وازدهارها وانتشرت فيها اللغة البابلية بالمنطقة كلها حيث ارتقت العلوم والمعارف والفنون وتوسعت التجارة لدرجة لامثيل له في تاريخ المنطقة. دمر بابل الحيثيون(2)عام 1595 ق.م، وحكمها الكيشيون(3)عام 1517 ق.م.  وبين عامي 626و539 ق.م حكمها الكلدان(4)، حيث قامت الإمبراطورية البابلية الحديثة والتي امتدت من البحر الأبيض المتوسط وحتي الخليج العربي وكان من ابرز ملوكها نبوخذنصر الثاني(5)(605-562 ق.م) الذي استطاع تدمير مملكة يهوذا وعاصمتها اورشليم(6) ودمر هيكل سليمان(7) وسبي اليهود الى بابل. استولى كورش الاخميني(8)على مدينة بابل سنة 539 ق.م وضمها الى مملكته. احتلها الاسكندر المقدوني(9) وأتخذها عاصمة له سنة (333 ق.م). وبعد وفاة الاسكندر المقدوني سنة (323 ق.م) خضعت للدولة السلوقية(10) التي اسسها سلوقس الأول(11)، فتم نقل سكان بابل الى مدينة سلوقيا(12)على الضفة اليمنى لنهر دجلة.

بعض مما كتبه المؤرخون اليونان في مدوناتهم عن مدينة بابل:

بابل في مدونة هيرودوت(13):

يعد هيرودوت أول من كتب عن العراق بشيء من التفصيل، فادعى انه قد زار بلاد بين النهرين ورأى بنفسه معالم عاصمتها بابل، ولكن الادلة تجعلنا عدم صدقية ادعائه بزيارة بابل، فقد استعمل لفظي بلاد بابل وآشور كمنطقة واحدة (في بلاد آشور مدن كثيرة منها مدينة بابل)، ولكن الحقيقة ان بابل ليست مدينة في بلاد آشور، كما ذكر (ان نسبة المطر في بلاد آشور قليلة الامر الذي جعلها تعتمد على أنهار المنطقة في سقي المزروعات)، والمعروف ان مياه الامطار في بلاد آشور أكثر بكثير من المناطق الوسطى والجنوبية من بلاد بين النهرين. كما ادعى هيرودوت ان الحبوب (الحنطة والشعير) في بلاد بابل تدر بين 200 – 300 ضعف من بلاد آشور، ولكن السهول الآشورية تنتج كمية من الحبوب اكبر من بلاد بابل، كما ادعى ان النخيل موجود في بلاد آشور، بينما الحقيقة ان النخيل موجود في وسط وجنوب بلاد بين النهرين ولا وجود له في بلاد آشور(14). يتضح من ذلك ان هيرودوت لم يزور بلاد بابل خلال رحلاته،  وانما اعتمد على مشاهدات اشخاص آخرين.

وصف هيرودوت مدينة بابل بصورة مفصلة حيث قال عنها انها تقع في وسط سهل واسع، رباعية الشكل قطرها اربعمائة وثمانون ستاديا(15)وطول كل ضلع منها مائة وعشرون ستاديا (وهي ارقام مبالغ فيها)، وتحاط مدينة بابل من كل الجهات بخندق عميق وعريض مليء بالماء (ظهر من التنقيبات التي اجريت في بابل عدم وجود خندق حول المدينة). اما السوران اللذان يحيطان بالمدينة واللذان ذكرهما هيرودوت فقد أيدت وجودهما النصوص المكتوبة، والحفريات الآثارية في المدينة، الا ان الارقام التي ذكرها هيرودوت فيما يتعلق بعرض وارتفاع السورين من الصعب تأكيدهما وخاصة بالنسبة الى الارتفاع(16). اما ادعاء هيرودوت من ان بيوت بابل كانت تصل الى ثلاثة او اربعة طوابق فمن الصعب تصديقه الى جانب كون الاسوار التي اطنب في وصفها قد خربت منذ سنين قبل ولادة هيرودوت مثلها مثل المعابد التي وصفها والتي لم يكن لها وجود على تلك الصورة بوقت طويل قبل زمان هيرودوت(17).

وعلى ذلك فان معلومات هيرودوت بصورة عامة عن جغرافية بلاد بين النهرين وأحواله تحوي الكثير من العوائق التي تجعل من الصعوبة تصديقها.

بابل في مدونة زينفون:

زينفون (430 – 354 ق.م) ولد في أثينا، انضم في سنة 310 ق.م الى جيش كورش الصغير(18) حاكم ليديا(19) واصبح قائد حملة العشرة ألاف يوناني من المرتزقة في جيش كورش الصغير في حملته الى العراق ضد اخيه الملك ارتحششتا الثاني(20) ملك الفرس الاخمينيين(21) للمطالبة بأحقيته بالحكم وبعد مقتله قاد زينفون الجنود في تقهقرهم من العراق الى آسيا الصغرى اثر موقعة " الكناسة(22)" قرب بابل سنة 401 ق.م. الف كتاباً عن الحملة عرف (حملة العشرة آلاف مقاتل) وهو مؤلف من سبعة أجزاء(23).

لقد دون زينفون في مدونته: بدأ كورش الصغير حملته من سارديس(24)عاصمة ليديا، واجتاز الممر المسمى كيليكية(25) الذي يفضي من هضبة الاناضول الى سهل كليلية حتى بلغ طرسوس(26)، ثم اجتاز الممر السوري نحو انطاكيا(27) وحلب(28)، وبعد زهاء أربعة أيام من السير اجتاز حلب وعبر نهر البليخ (خالسبس) ثم عبر الفرات حتى بلغ الخابور (نهر أركسيس)، حتى وصل موقع شمالي بلدة الرمادي الحالية بنحو خمسين ميلاً، وقد سماه زينفون "الأبواب البابلية"، ثم تاهت الحملة من بعد ذلك أسبوعين، فدخل بعدها أرض بابل. لاقى كورش الصغير أخاه الملك ارتحششتا الثاني في موقعة "الكناسة"، التي قتل فيها كورش الصغير(29).

بعد مقتل كورش الصغير سمح للأغريق بالتقهقر، فسارو نحو عقرقوف(30) ثم اجتازوا السور الماذي الذي بناه نبوخذنصر حتى وصلوا الى ملتقى وادي العظيم (فساكوس) ومكثوا قليلاً عند مدينة (أوبس(31)). حدثت مؤامرة غريبة، فلقد اقترح القائد الفارسي (تيسافرنس) المكلف بمراقبة الاغريق، وعندما كان قائد الاغريق (كليرخوس) يعقد مؤتمر يحضره قواد الاغريق جميعهم، غدر بهم القائد الفارسي وقتلهم جميعاً، فانتخب الجند الاغريق قائداً جديداً لهم هو (زينفون) الذي سار بهم عبر الزاب الأعلى حتى وصلوا الى منطقة زاخو(32)،  ثم الى جزيرة ابن عمر(33) ودخلوا آسية الصغرى حتى وصلوا البحر الأسود(34).

بابل في جغرافية سترابو (سترابون)(35):

لقد قسم سترابو بلاد الرافدين الى اربعة اقسام من الناحية الطبيعية(36):

1- المنطقة الجبلية في الشمال: حيث اعطى معلومات عنها قليلة، بضع جبال، وأنهر قليلة جداً ومدن أقل.

2- منطقة السهول: حيث قسمها الى نوعين، الاول الذي يسير بموازاة سلاسل الجبال، والثاني المحاذي لشواطئ الانهر الكبيرة وروافدها.

3- الصحراء: التي تقع بين نهري دجلة والفرات قبل ان يصلا الى مدينة بابل.

4- منطقة الاهوار: في القسم الجنوبي من البلاد.

ذكر مدينة بابل بمؤلفه عن جغرافية العالم في الجزء السادس عشر، الفقرة الخامسة بكونها مدينة مهجورة(37)، وذكر وجود الجنائن المعلقة(38). وقد وصفها سترابو بالاعتماد على المعلومات التي ذكرها هيرودوت، ولكنه قلل من تقديراته للأسوار حيث جعلها 385 ستاديا بالطول، ولكنه احتفظ بوصف هيرودوت لبيوت بابل ذات الطوابق الاربعة، فوقع في نفس خطأ هيردوت. ثم تعرض الى شهرة بعض رجال بابل بعلم الفلك، فذكر ان هنالك قبائل (قصد بها سكان المدن) من الفلكيين الكلدانيين  مثل البورسبيين (أهل بورسيبا)، والاوروكيين (اهل اوروك)، ثم وصف مدينة بورسيبا ومعامل نسج الكتان فيها(39).

***

صباح شاكر العكام

..........................

الهوامش:

(1) حمورابي: سادس ملوك سلالة بابل الاولى الذي حكم بين (1792- 1750 ق. م)، أسس امبراطورية ضمت العراق وبلاد الشام حتى سواحل البحر الابيض المتوسط وبلاد عيلام، أشتهر بمسلته التي ضمت أول تشريع للقوانين في العالم. (طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ص42).

(2) الحيثيون: أحد الشعوب القديمة المتحدثة بلغة هندية أوروبية وأنشأت مملكتها المتمركزة في خاتوشا في شمال الأناضول في القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وفي القرن الرابع عشر قبل الميلاد، بلغت مملكة الحيثيين ذروتها، شاملة وسط الأناضول وجنوب غرب سوريا وصولًا إلى أقصى حدود أوغاريت وبلاد الرافدين العليا وحكمت جزء كبير من الهلال الخصيب. (الموسوعة العربية الميسرة مج3 ص1421).

(3)  الكيشيون: سلالة قديمة حكمت العراق وعرفت باسم سلالة بابل الثالثة التي دام حكمها اربعة قرون (1595 ق.م – 1126ق.م)  (المصدر نفسه  ص 493).

(4) الكلدان: قبائل آرامية استوطنت في بابل، وفي سنة 625 قبل الميلاد فتحوا بابل وأسسوا امبراطورية بابلية كلدانية عظيمة استمرت الى سنة 539 قبل الميلاد (سلالة بابل الحادية عشر) عندما سقطت على يد كورش الاخميني . (طه باقر، مصدر سابق ص601).

(5) نبوخذنصر الثاني: هو أحد ملوك الكلدان الذين حكموا بابل بين (605 ق.م – 562 ق.م) وقد جعل من الامبراطورية البابلية أقوى الامبراطوريات وقد قام بإسقاط مدينة اورشليم مرتين الاولى سنة (597 ق.م) والثانية سنة (587 ق.م) وسبى سكانها الى بابل. (المصدر نفسه ص542)

(6) اورشليم: عاصمة مملكة  يهوذا التي اتخذها الملك داود سنة 1003 ق.م، وبقية عاصمة للملوك من سلالته لمدة 400 سنة حتى احتلالها من قبل البابليين. (المصدر نفسه ص124)

(7) هيكل سليمان: المعبد اليهودي الأول في أورشليم الذي بناه الملك سليمان والذي دمره الملك البابلي نبوخذنصر الثاني سنة 587 ق.م. (شارل سنيوبوس، تاريخ حضارات العالم، ص43)

(8) كورش الاخميني: هو أحد ملوك الفرس الاخمينيين حكم بين (559 ق.م – 530 ق.م) استولى على آسيا الصغرى وبابل وميديا وأسس امبراطورية مترامية الاطراف باحتلاله الكثير من الممالك بضمنها بابل سنة (538 ق.م). (طه باقر، مصدر سابق ص612)

(9) الاسكندر المقدوني: ويسمى الاسكندر الاكبر والاسكندر ذو القرنين تتلمذ على يد الفيلسوف الاغريقي الشهير (ارسطو)، يعد من أشهر الفاتحين عبر التاريخ ولد سنة (356 ق.م) وأسس أكبر امبراطورية في العالم القديم، اصبح على عرش البلاد سنة (336 ق.م) وقد استطاع دحر الفرس الاخمينيين واطاح بملكهم دارا والاستيلاء على ممتلكاتهم، توفي في مدينة بابل سنة (325 ق.م). (المصدر نفسه  ص649)

(10) الدولة السلوقية:  وهي الدولة التي أسسها سلوقس الأول بعد موت الإسكندر والتي شملت آسيا الصغرى والهلال الخصيب وبلاد فارس. (المصدر نفسه ص656)

(11) سلوقس الأول: (358 ق.م. - 281 ق.م.) كان أحد قادة جيش الإسكندر المقدوني ومؤسس الأسرة السلوقية الحاكمة، وبعد موت الإسكندر أسس الدولة السلوقية التي ضمت آسيا الصغرى وبابل وبلاد فلرس.(المصدر نفسه ص656)

(12) سلوقيا: مدينة في العراق تقع على ضفة نهر دجلة اتخذها السلوقيون عاصمة لهم سنة (307 ق.م) أنشأها سلوقس الاول، وعندما استولى عليها الفرس الفرثيون سنة (10 ق.م) سميت طفسيون واتخذت عاصمة للدولة الساسانية، وبعد الفتح الاسلامي اصبح اسمها المدائن. ( المصدر نفسه ص657)

(13) هيرودوت: (484ق.م – 425ق.م) اشهر المؤرخين الاغريق ولقب (أبي التاريخ)، قام بالعديد من الرحلات الى بلدان العالم القديم، جمع كل المعلومات  التي حصل عليها من البلدان التي زارها في رحلاته، وتدوينه للأخبار والحوادث بسرد القصص والحكايات والاساطير خالطاً اياها في كثير من الأحايين بالأخبار التاريخية دون أن ينبه عن الحد الفاصل ما بين الاثنين، ودون ذلك كله في كتابه (تاريخ هيرودوتس) والذي يعد من أقدم الكتب التاريخية.  (المصدر نفسه ص125).

(14) سامي سعيد الاحمد، العراق في كتب اليونان والرومان، ص114.

(15) ستاديا: وحدة قياس يونانية قديمة للأطوال والمسافات، ووفقا للمؤرخ اليوناني هيرودوت فإن قيمة 1 ستاديون تساوي 600 قدم يوناني (185م تقريباً).

(16) سامي سعيد الاحمد، مصدر سابق، ص125.

(17) المصدر نفسه ص116.

(18) المصدر نفسه ص 117.

(19) كورش الصغير: حاكم آسية الصغرى الذي استطاع تكوين جيش من المرتزقة اليونان مؤلف من عشرة آلاف شخص لمحاربة أخيه الملك الاخميني ارتحششتا الثاني ومطالبته بأحقيته في الحكم، وبعد مقتله سنة 401 ق.م تسلم قيادة الجيش المهزوم المؤرخ زينفون الذي استطاع ان يعيد جنوده الى الوطن باقل الخسائر. (طه باقر، مصدر سابق صص582 – 583).

(20) ليديا: اقليم قديم يقع غرب آسية الصغرى، عاصمته أزدهر بين (687 – 546 ق.م) واصبح امبراطورية عقب سقوط الحيثيين. كانت ثروتها مضرب الأمثال وحضارتها راقية، انتصر الفرس على كرويزوس ملك ليديا سنة 546 ق.م وادمجوها في امبراطوريتهم (الموسوعة العربية الميسرة، مج6 ص2928).

(21) ارتحششتا الثاني: ملك فارسي حكم بين (404 – 359 ق.م) خلف والده دارا الثاني في الحكم. حكم فترة تقارب نصف قرن. وفي أواخر حكمه ازدادت الثورات والاضطرابات. (طه باقر، مصدر سابق ص639).

(22) الاخمينيين: أسرة حكمت بلاد فارس أكثر من قرنين (550 – 330 ق.م)، ويعد كورش الأول المؤسس الحقيقي للمملكة وذلك باستيلائه على مملكة ليديا، سقطت الدولة الاخمينية على يد الاسكندر المقدوني سنة 331 ق.م. (الموسوعة العربية الميسرة، مج1 ص130)

(23) الكناسة: يرجح ان موقعها على طريق حلة بغداد قرب المسيب.

طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، صص582 – 583 وينظر سامي سعيد الأحمد، العراق في كتابات اليونان والرومان ص117).

(24) سارديس: مدينة تقع في الجنوب الغربي من آسيا الوسطى يعود تاريخها إلى 1300 ق.م وكانت عاصمة مملكة ليديا .( طه باقر، مصدر سابق ص643).

(25) كيليكية: مدينة تقع جنوب شرق آسية الصغرى، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهي حلقة وصل بين آسيا الصغرى وسورية. (سامي سعيد الأحمد ورضا جواد الهاشمي، تاريخ الشرق الأدنى القديم، صص368 – 369)

(26) طرسوس: مدينة تركية تقع في مقاطعة كيليكية على نهر طرسوس، انشأت في عهد هارون الرشيد سنة 19هـ، فيها قبر الخليفة العباسي المأمون، احتلها نقفور ملك الروم ودمر مساجدها واحرق المصاحف التي كانت فيها.   (يحيى شامي، موسوعة المدن العربية والإسلامية ص316).

(27) انطاكيا: العاصمة الغربية للدولة السلوقية، تقع شمال سوريا القديمة على نهر العاصي، بناها سلوقس الأول وسماها تكريماً لابيه انطيوخوس، خرلها الفرس سنة 540م، احتلها العرب سنة 636م، ودخلها الصليبيون سنة 1089م، وهي اليوم تقع في تركيا  (جورج شحاته، المسيحية والحضارة العربية صص71 – 72، وينظر يحيى شامي، مصدر سابق ص308).

(28) حلب: مدينة قديمة تقع شمال سوريا، مرت عليها عهود كثيرة فقد كانت مملكة مستقلة سنة 1200 ق. م بعد انهيار الدولة الحيثية، وحكمها الآشوريون سنة 738 ق.م، ثم حكمها اليونان سنة 333 ق.م، والرومان سنة 65م، ثم دخلها العرب سنة 637م، وأصبحت عاصمة للدولة الحمدانية سنة 944م. ( يحيى شامي، مصدر سابق ص52)

(29) زينفون في العراق ص228.

(30) عقرقوف (دور ـ كوريكالزو ): من المواقع الاثرية في بغداد، وكانت واحدة من اهم مدن وادي الرافدين في القرن الرابع قبل الميلاد، ومن ابرز معالمها "الزقورة" التي يعود تأسيسها الى احد الملوك الكشيين  أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد. (مواطن الآثار في العراق ص27).

(31) مدينة أوبس: مدينة بابلية كلدانية تقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة , بالقرب من مدينة بغداد، بنيت في القرن 14 ق م، كان فيها الجدار الميدي ألذي بناه نبوخذ نصر الثاني لحماية بابل من هجمات الميديين، في سنة 539 ق.م. دافع الملك البابلي نبونيد عن هذه المدينة عندما هاجمها الفُرس الأخمينيون بقيادة ملكهم كورش الكبير عندما كان ابنه قائداً للجيش وقد قتل فيها،  وكان ذلك بفضل قائد الجيوش البابلية آنذاك جوبارو ذي الأصل الميدي الفارسي والذي قرر الوقوف مع الأخمينيين ضد بابل. (طه باقر، مصدر سابق صص611 – 612).

(32) زاخو: مدينة تقع شمال العراق قرب الحدود مع تركيا على نهر الخابور أحد روافد نهر دجلة. (يحيى شامي، مصدر سابق ص67)

(33) جزيرة ابن عمر: مدينة تقع جنوب شرق الاناضول على الحدود السورية في المثلث بين العراق وسوريا وتركيا، وسميت جزيرة لان نهر دجلة يحيطها من ثلاث جهات الشرق والشمال والجنوب ، وهي مدينة إسلامية عقرها الحسن بن عمر بداية القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). ( محمد يوسف غندور، تاريخ جزيرة ابن عمر صص20 – 25)

(34) طه باقر، مصدر سابق صص228-229.

(35) سترابو (سترابون): (54 ق.م – 25م) رحالة كتب كتابًا مهما باللغة اليونانية في سبعة عشر جزءًا سماه "جغرافيا" وقد وصف فيه الأحوال الجغرافية الطبيعية لمقاطعات الإمبراطورية الرومانية الرئيسية، وتاريخها، وحالات سكانها، وغريب عاداتهم وعقائدهم. وللكتاب شأن كبير؛ إذا اشتمل على كثير من الأخبار التي لا تتيسر في كتاب آخر. وقد اعتمد فيه على ما ذكره الكتّاب السابقون. (احسان الملائكة، اعلام الكتاب الاغريق والرومان، ص252).

(36) سامي سعيد الاحمد، مصدر سابق، ص 123.

(37) هجر سكان بابل الى مدينة "سلوقيا" بعد خضوعها الى الدولة السلوقية بعد موت الاسكندر المقدوني.

(38) طه باقر، مصدر سابق، ج1 ص127.

(39) سامي سعيد الاحمد، مصدر سابق، ص125.

المصادر:

1- احسان الملائكة – اعلام الكتاب الاغريق والرومان – دار الشؤون الثقافية / بغداد، 2001م.

2- جورج شحاته – المسيحية والحضارة العربية – مطبعة الرشيد / بغداد، 1984م.

3- زينفون - حملة العشرة آلاف اغريقي – ترجمة فؤاد جميل – مجلة سومر مجلد 20، 1964م.

4- .سامي سعيد الاحمد - العراق في كتابات اليونان والرومان - مجلة سومر، مديرية الآثار

القديمة العامة، مج 16،1972م.

5- سامي سعيد الاحمد ورضا جواد الهاشمي – تاريخ الشرق الادنى القديم – مطبعة جامعة بغداد، 1990م.

6- شارل سنيوبوس – تاريخ حضارات العالم – ترجمة محمد كرد علي – الدار العالمية للكتب والنشر، 2012م.

7- طه باقر – مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – دار الوراق للنشر، 1986م.

8- محمد يوسف غندور – تاريخ جزيرة ابن عمر – دار الفكر اللبناني / بيروت 1990م.

9- مواطن الآثار في العراق – مطبعة الرابطة / بغداد 1953 م.

10 - الموسوعة العربية الميسرة – مجموعة من العلماء – المكتبة العصرية /صيدا، 2010م.

11- يحيى شامي – موسوعة المدن العربية والاسلامية – دار الفكر العربي / بيروت،1983م.

الفنان العراقي قاسم سبتي عاش ظروف ومحنة العراقيين ايام الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 وما خلفه من دمار للثقافة العراقية حيث حرق الاحتلال اكثر من 20 مكتبة في العراق منها مكتبة كلية الفنون الجميلة في بغداد وكان قاسم شاهدا عليها. وهو يذكرنا بما فعله هولاكو عندما احتل بغداد عام 1258 وحرق مكتباتها وحولها الى رماد وركام. وقد شاهد قاسم كيف تتطاير اوراق الكتب المحترقة وتتبعثر وتداس ببصاطيل الغزاة الاوغاد.. (الشمس شمسي والعراق عراقي.. ما غير الدخلاء من اخلاقي.. داس الزمان على جميع مشاعري.. فتفجر الابداع من اعماقي.. / كريم العراقي).

كنت كلما ازور بغداد امر على كالري حوار فيستقبلني قاسم بالعناق ويوقد النار. واتذكر في يوم من ايام المحنة زرنا انا والصديق الكاتب والاديب جبار ياسين وصديقته الفرنسية في مقره في كالري حوار فاشعل النار وبسط السمك المسقوف، وكان يوما عربيا كريما جميلا لا زال في الذاكرة.186 قاسم سبتي

و كان من عادات العرب في ذلك الوقت اشعال النار في الصحراء كعلامة للضيافة والكرم حيث يهتدي اليها المسافرون من بعيد ويعتبرونها اجمل نجمة على الارض واجمل من نجوم السماء. حيث يحلون على احد الكرماء العرب ضيوفا. وهؤلاء الكرام العرب يستقبلون ضيوفهم بالفرح والبشاشة والابتسامة رغم عدم معرفتهم بهم. وقال احد شعرائهم:

أُضاحك ضيفي قبل إنزال رحله

ويُخصب عندي والمكان جديب

وما الخصب للأضياف من كثرة القرى

ولكن وجه الكريم خصيب

فن قاسم سبتي

قرأت كل ما كتب عن اعمال قاسم سبتي فوجدت المديح والاطراء هو المسيطر عليها. الواقع ان عملية النقد تحتاج الى موازنة. ويجب ان تجري وفق سياق اخلاقي وان يكون فيما يقول الناقد ما يدل على ان في المنبع يكمن الحب.. وان خلا من الحب فقد خلا من الكثير من الفهم ويدخل في متاهات الكراهية والاحقاد. حسب رأي جبرا ابراهيم جبرا. وعندما سالوا جبرا لماذا نجد نقدك خاليا من ذكر السلبيات. قال نحن بشر لدينا سلبيات وايجابيات فعلينا ذكر الايجابات وتنشيطها للحب والجمال. اما السلبيات فيمكن للفنان بمرور الوقت ان يرممها ويصلحها.188 قاسم سبتي

ومن المعروف ان الانسان لديه تجارب ذاتية وهناك تجارب اخرى لدى الاخرين. والناقد يحاول السعي بين هاتين التجربتين. وفي كل الاحوال تبقى اراء الناقد تعبر عن وجهة نظر شخصية. وان اخطر شئ في كل امة او فرد اقامة الحواجز بينهما فيؤدي ذلك الى الانغلاق واسدال الظلام على الحياة.

قاسم سبتي ينتمي الى المدرسة التجريدية التعبيرية التي اسسها الفنان الروسي كاندنسكي حوالي عام 1910. وهي مدرسة معروفة بخصائصها الفنية حيث تحيل الاشكال الى سطوح وخطوط ونقاط واختزال والى اشكال هندسية ورموز وغيرها. وعمت هذه المدرسة العالم وتأثر بها الفنانون العرب. وكانت حوادث عام 2003 قد الهبت في قاسم الالم والغضب حيث اخذ يتعاطى مع مواضيعه تعاطيا عميقا جادا شجيا. بحثا عن المضمون او ماهية الاشكال وعمقها واستنطلفها.. وعلى اثر تلك الحوادث قام قاسم بمعرضين الاول حمل عنوان – اقنعة النص – والثاني – حروف مخبوءة - لقد احال مشاهد الحرق والرعب الى قصصات ورقية متراكبة تعبر عن عمق الماسات والدمار. حولها الى مشاهد بصرية حية مؤثرة. وهو بمثابة شاهد على جريمة العصر. وكانت بعض القصاصات الورقية تحمل عناوين متآكلة لكتب محترقة وكأنها تقطر حبرا او دما... وهو يذكرنا بماساة حرق كتب العرب في غرناطة. فبعد طرد العرب من مدنهم واراضيهم جمعت المخطوطات العربية في احد ساحات غرناطة وقيل كان عددها اكثر من مليون مخطوط تمثل عصارة الحضارة والثقافة والعلوم العربية في الاندلس. واشعلوا فيها النار. حتى ان بعض الجنود كانوا قد اخفوا بعض المخطوطات تحت ارديتهم لما فيها من زخارف وخطوط مذهبة جميلة.190 قاسم سبتي

قاسم سبتي احال اشكاله الى سطوج ورموز واحرف مختبئة بطريقة الكولاج مما جعل المتلقي يبحث عن دلالاتها وفك معانيها. حيث تحمل هذه المعالجات رسائل شجية واحتجاجات تحرق القلب على مأساة ثقافتنا الضائعة. كما نشعر من خلال القصاصات المحترقة بالصراخ المنطلق منها كصرخة لوحة ادوارد مونخ.. وتذكرنا اعمال سبتي باعمال الفنان الاسباني مانويل ميارس Manuel mellares 1926 -و قد تاثر به معظم الفنانين المغاربة مثل مكي مغارة.

قاسم سبتي ولد في بغداد عام 1953 وتخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1980 وقد شغل عدة مرات رئيس جمعية الفنانين العراقيين في بغداد وقد شارك في المعارض المحلية والدولية وهو لازال طالبا. عمل عدة معارض شخصية وجماعية وحاز على جوائز عديد. ولازال يقيم ويشارك بطاقات ابداعية لا تستنزف.

وقد عمد اصحاب التجريد اليوم الى التقليل من ايقاعات الشكل فحذفوا كثير من التفاصيل بحثا عن الروحه او المضمون. ولهذا كان الفن التجريدي سائدا قبل ظهور مدرسة التجريد من قبل كاندنسكي او غيره.. وقبل ان يتطرقه ويتذوقه موندريان الذي يرى ان تقديم الجمال مجردا وجافا خير من ترطيب العمل الفني برمز واقعي (حسب رأيه). كما ذكر جاك بولوك ان كل ما قدمه من لوحات واقعية لا يعادل لوحة واحده من اعماله التجريدية الاخيرة.189 قاسم سبتي

د. كاظم شمهود

إن الفن الحقيقي لا يعيد الأشكال ولا يكرر الصوَّر المفتعلة، بل يكمّل كلَ جميل ببراعة تكتيكية أجمل. والصورة الواقعة والمنطبعة تثير وتستنير بتفاعل وصراع جدلي مع ما في حقيقة الواقع من متناقضات، وأن قيمة الفنان عالية بقدر ما يتمكن من الاقتراب أكثر من قضية المتناقضات الأكثر جوهرية في عصره.

الفنان سعد علي العراقي المقيم حالياً في اسبانيا، يستمد ويستفيد من التجارب الفنية الأخرى، ليخرج بتجربة خاصة، تنتمي إلى ذاته أكثر مما تنتمي إلى مدرسة أخرى، والثلاثي الأقدس في مخلوقاته (المحبة، الأمل، الفرج)، هي الثيمة والمحور في التجربة.

وتجربته الفنية فيها (الأتباع والإبداع)، يعشقها بمفردات تشكيلية تعكس ماهيات الحياة واشكالات وأزمات الإنسان في الوجود. حيث يعد الفنان التشكيلي سعد علي المخضرم في زواغير الليل وبألوان مصحرة ذات ضجيج صارخ في الأفكار.

فسماوات اللوحة تصاغ بصخب رافض حتى لو كانت هذه الأفكار والمواضيع تشع من ردهة محنطة ليخور القداسة لمرجعيةٍ ما، لذلك نجد أعماله اقرب ما تكون إلى تخطيطات منفذة؛ تعطي مواضيع ترمز إلى عالم مثالي بعيدة عما هو معروف من انماط قابعة مألوفة في الرسم، فهيَّ من دون أن تتولى تأسيس رؤية لذلك العالم.184 سعد علي

في لوحة سعد علي تفاصيل محتشدة بسردٍ من الحكايات وما خلف الأبواب القديمة المرصعة بالمسامير الصدئة، من طقوس لها بعد (زمكاني) مختوم بالعاطفة من فكرة الأبواب العراقية المشيدة في ذاكرته؛ ويتعداها إلى حدود العالم ومحيطه الجديد، لأن فكرة الأبواب فكرة أزلية وكونية معروفة بالدلالات. ونحن لا نعرف أي شعب استبق أو اصطنع استعمالها قبل من!!.

انطلق الفنان سعد بسماته الفراتية وبزيّ (اليشماغ) المرقط نحو العيون الواسعة المبالغة بالهدوء وما فيها من احلام العودة لزمن الخيال، فيئن سعد بنواح الزواجل للعودة إلى الجنة والرجوع إليها باستفزاز الأشواق وتكوين ما في قلبه مع وجع الحنين، وبشفافية عالية غاية في المتعة والحساسية الفنية الخاصة جداً بزمن كان.

فيحلم سعد بهدوء مصطنع، وبحلم يقود احلامه الوردية، ليجد الأجيال القادمة عمّتها السعادة ولم تعد تعاني من خيبة الأمل التي عانينا وعانى الفنان منها في حياته القاسية. نرى في ممارساته الفنية استخدم الحواس والمشاعر كلها في وقتٍ واحد، يقوم بذلك تلوين افكاره، ويسلط عليها الأضواء وبقفزة واحدة "تسبح في النيران وفضاء الجمال والدهشة"، مثلما كتب الاستاذ مفيد الجزائري عن أحد معارض سعد الفنية.

سعد علي يستعيض عن الحقيقة بالخيال الفني الساحر راكباً مركب الثبات الالهامي لعصرنة المواضيع، متجهاً صوب المحبة، المحبة لا حصر لها وليس لها حدود، ولا تعرف الأزل، وهي تنصهر وتطحن بفيض الأنفعالات مع خراب الوجود والواقع المتناغم رومياً والمزري والغارق في لجة الأحلام ورواسب الذكريات وما فيها من رموز (لباب الفرج) المتلاحم  مع التراث، مع الواقع وباستعارات وابتكارات مؤطرة بالتجديد وكسراً للإطار. مثلما نرى لوحة (السبايا) في واقعة الطف، وتسفير الأسرى إلى الشام على ظهر سفينة بدلاً من الخيول أو الجمال أو ما شابه ذلك، مشياً على الأقدام كما ذكروا من قبل. ومن شأن الاستعادة هنا أن يزداد التشبيه فضاءً، كي تزداد الاشارة جمالاً وقوة مؤثرة خارج المعروف والمألوف، وباتجاه لوني فعال بقوة الإخراج لذبذبات ابداعية وايقاعات مائزة في العلاقة اجمالية المدهشة للأشياء والطبيعة. ويقيناً أن ما يراه المبدع لا يمكن أن يراه غيره، لكن مشاهدة دقة الأعمال المستعرضة على صفحات التواصل الاجتماعي تستعر فيها الروح والعين.185 سعد علي

في اغلب لوحات الفنان سعد نرى الوجوه خاضعة، مشوهة الأشكال والتناسب والقياسات في الأجساد، والعجب فيما نرى احساساً ولذة جمالية؛ حيث التشويه هنا لا يثير الاشمئزاز ابداً، وهذا هو الفرق بين الصورة الشمسية أو (الفوتو) بأنواعه، والعمل الابداعي الخلاق، حيث الشكل غير المألوف عند سعد معبراً عن الحب النقي الشفاف المندفع والمتحد بكل ما أوتيّ من عنفوان، حيث الغموض يمزق الوضوح في المعنى والعكس صحيح. والمعنى الذي يفتش ويتحدث عنهُ سعد يربط الغموض بسلسلة الوضوح الذهبية وبتشبيهات.

مجازية للشكل العام. من خلال ذلك يحاول الفنان غرس المفاهيم ولو بوشائج بصرية لماعة من ظهير ثقافي يصور بخلقه ذلك، إنهُ اكثر رفعة من البشر لأن واقعه الفني اكثر تطوراً من الواقع. الصفاء الفني الذهني في مخلوقات سعد سابح في تخوم الأحلام المشتهاة، شيء فوق الوصف والخيال، فوق العواطف والاحساس، فوق العقل والأفكار وما فيها من روابط في الأهداف، رغم أن بعض الأهداف عبودية. ولكن فيها مواثيق من الأمل الحزين والغربة والأغتراب. فيها تأملات مفتوحة على عالم واسع اوسع من الرغبة العارية.

نلاحظ في اعمال أخرى أن سعد حاول اذابة روحه وجسده على جغرافية اللوحة، مفتتحاً بالألوان صياغة الأشكال من ثنايا الجسد كما لأفعى إلى حركات الأيادي والأرجل لأتمام الوحدة العضوية داخل التعدد. بينما العيون تتحدث راجفة باللذة لجذب الاهتمام، وبعملية وحركة ابداعية تشبه السحر.

سعد بأسلوبه الفني يقوم بتبسيط الخطوط محاولاً بتكرار ابداعي تجسيد فكرته ثم تعقيد الموضوع لخلاصة روحية تمثل فلسفة المستقبل الصافية. ويعتقد أنها تحفظ صورتها من قبل المشاهد عن ظهر قلب، لما لها من تأثير حاسم في سايكولوجية المتلقي.

تتجسد تجربته شأن تجربة الجيل الثالث، إذا صح التعبير كما ذكر ذلك إسماعيل زاير حين قال: (أي جيل ما بعد الرواد العرب محاولاً تجسيد المفاهيم الفكرية المرتبطة بفلسفة الفن، سواء بجناحها الذي يركز على المعنى الواقعي أو الآخر الذي يصور التجربة البصرية من خلال الخلاصات العلمية والمستقبلية كإشارات للمضمون الجديد الذي لم يتم حسم الجدل أزاءه).

وسعد بانفعال صادق يوظف قدراته الفنية بعمق لا متناه كي لا تفنى أو تهمل غائيته، لذلك نراه يقشر العمل الفني ويستعمل لبّ المعنى اللوني بفظاظة تتجلى في اللامعنى باحتبال الواقع والفكرة الملونة بالقسمات والأطياف، لأنه يخاف الفراغ الملوث بسواد الأعظم للمتاهة، ويحاول صهر روح الأشياء في عناصر متصارعة بعشق خيالي قاهر لكل ما هو قسري في بانوراما المنظور المتصور، وإن كل الكوابيس لا تستطيع كبح جماح الخيال. ثم يقوم باخضاع ذات المرسوم بتحيز النزوات الباحثة بشغف عن الاضطرابات المحركة للأعصاب وبادراك جمالي، ووحي عقلي غايته الأثارة ببهرجة الفوضى الخلاقة المنضوية تحت مظلة الأندهاش الفني لأنهيار الواقع المزري؛ وبحمى تشكيلية لا تهدأ.

دائماً يكر كما قلنا مواضيع حياتية وتاريخية شتى محاولاً الوصول إلى الكمال الفني في عوالم مثل (ألف ليلة وليلة)، وبلا شروخ جمالية ليظل محافظاً على سميته الشرقية وجذوره الرافدينية رغم ضغوط التيارات العالمية وعلاقتها التوجيهية والمعرفية للفن، حيث كل المدارس والتيارات آتية من الغرب.

يؤكد الناقد ياسين النصير على أن لوحات سعد (تؤكد أن منحاه ذاتي بحت وثمة خلفيات شرقية كثيرة، لكن هذه الذاتية تمتلك خصوصيتها عن طريق تجاورها اتجاه اجيال من فناني الشرق والفن الإيراني، والفن المصري القديم، وفنون الصين واليابان، والفنون السومرية ذات البعد الواحد على ابراز قياسات الجسد الداخلية والوجوه المتلفتة إلى جهةٍ ما).

والفنان سعد وباستباق فني يمور فيه الإخلاص لشيءٍ ما كتعبير عن المبادئ، ابتكر اسلوبه الفني بفرادة، وبحجوم وسطوح وضعية متمردة. لأن الفن عنده لا يعرف الركود أو السكون، لذلك رسم بحداثة موضوعية مثل (لوحة الفانوس السجين)، ولوحة (صندوق الدنيا)، وغازل في لوحة أخرى سيدة الغناء الشرقي (أم كلثوم)، وصديقه الشاعر الشعبي الراحل (عزيز السماوي)، فضلاً عن ما في لوحاته من اشارات لمواضيع مختلفة متعددة الأفكار، وفي مفردات تراثية وشعبية، لنبش الماضي وما فيه من خرق وصرائر العجائز وحاجيات الأمهات السرية؛ كما الطلاسم وقصاصات التعاويذ، حيث يؤكد منعم الفقير أن لوحات سعد (تتخذ اللوحة الواحدة أكثر من نقطة كمراكز لاستقطاب النظر، ثم تتشعب ببناءات لونية وخطية تنحني بالألم وتتقاطع لرغبة، وتتمازج بالحيرة لكي تنتهي إلى تكوين يتعدد بتعدد الحالات والمواقف).

وهو ينتقل بطاقيته المشهورة على رقعة الشطرنج كبيدق يحارب من اجل عيون محبوبته، وعلى كل الجهات، متراقصاً بسهامه الشعرية التي تغزوا لوحاته.

لذلك نجد المتابع للواحات سعد علي يلاحظ الألوان تتمرغ بالدماء الفضية كلون الشمس لخلق نمط جديد في الرسم يهاجم به ابصار المتلقي، المبهور بتوهج الاغماض. وحتى اللوحة ذات اللون الواحد، المستكشف الواضح في المتأمل للوحة لا يقع في مطب الرتابة البصرية، ولا يشعر بالملل، لأنه اتخذ مسلكاً فنياً غاية في التنسيق والمضمون بتناغم روحي في فضاءات اللوحة، محاولاً تثوير مختزلاته وآراءه الفكرية بذكاء ابداعي قاتلاً بذلك الطريقة التعليمية الفجة لما فيها من عسف فني مربك للموهبة، مملوء بالكبوات والكبح الانعاكسي الفني على ذات الفنان المنطلقة بقوة سحرية جمالية خلاقة، يتسامى بها الفنان سعد علي إلى مصاف الفنانين الكبار.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

ولد جميل حمودي في بغداد عام 1924 وتخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1945ـ وشارك في معارض جماعة اصدقاء الفن وجمعية الفنانين العراقيين. كما شغل حمودي مدير المتحف الحديث ـ كولبنكيان ـ في بغداد خلال فترة الستينات، وفي وقت لاحق اسس قاعة اينانا (احد الهة سومر). ومنذ كان طالبا في معهد الفنون الجميلة اصدر مجلة طلائعية عام 1945 اسمها الفكر الحديث تهتم بشؤن الفن، حيث شكلت هذه المجلة الريادة في التنوير الثقافي والفني في وقت كان فيه المجتمع يرضخ تحت نير التخلف والتحجر والاستعمار.

 سافر حمودي الى باريس لاكمال مشروعة الثقافي وهناك اسس مجلة ثقافية فنية عام 1949 اسمها ـ عشتار ـ واقام له اول معرض هناك عام 1950. وقد كتب عنه عدد من النقاد الفرنسيين منهم ميشيل سي فور وكاستون ديك وغيرهم. ويعتبر حمودي موسوعة ثقافية وفنية فهو بالاضافة الى الفن له بحوث في النقد والعمارة والشعر وقد اصدر مجموعتين شعريتين باللغة الفرنسية بعنوان: احلام من الشرق.3273 جميل حمودي

جميل حمودي والحرف العربي

يذكر ان جميل لما حل في باريس انتابه الحنين الى ارضه ومجتمعه، ولكي يطفي هذه النار العاطفية الملتهبة فقد لجئ الى استخدام الحرف العربي في لوحاته فهو خير كهف وملاذ من قساوة الغربة.. فقد استخدم الحرف العربي في لوحاته كعنصر تشكيلي وكذلك كمفهوم خطابي لغوي. وذلك حتى يشعر بالطمأنينة والانتماء الى تراثه واصله. وهو اقصى ما يستطيع عمله في تلك البلاد البعيدة. وقد تكون حركة الكرافيتي التي انتشر في الشوارع في باريس في ذلك الوقت احد الاسباب التي لفتت نظر حمودي الى اهمية الحرف في التشكيل. وكانت تلك الحركة العفوية قادها شبان من الطبقة الفقيرة حيث اخذوا يرسمون في الشوارع وعلى الجدران ومحطات المترو. ومزجوا في اعمالهم بين الحرف اللاتيني والشكل. وكانت بمثابة نوع من التعبير والاحتجاج على الظروف المأساوية التي يعيشونها.

وشعر حمودي بان جمال الحرف العربي بخطوطه المتنوعة يشعره بهويته ويهدئ من لوعة الغربة ويمنح اللوحة فضاءا جماليا رمزيا ولغويا مثل لوحة ـ الله والبشر، 1959 ـ ولهذا فان الكلمات التي ظاهرة في هذه اللوحة يمكن قراء تها. وبالتالي فان استخدام الحرف عند حمودي جاء بصورتين الاولى هو كعنصر تشكيلي والثاني كرمز لغوي يمكن قراته وفهمه...3274 بنت جميل حمودي

وهو بهذا الاتجاه والاداء يختلف عن بعض الفنانين العراقيين مثل شاكر حسن ال سعيد الذي طرح الحرف كعنصر روحي صوفي كوني يثير التأمل والتفكير كما ظهر ذلك في نظرية البعد الواحد التي طرحها عام 1971. وكذلك يختلف عن الاخرين الذين استخدموا الحرف كعنصر تشكيلي جمالي يساهم في بناء اللوحة مثل رافع الناصري وقتيبة الشيخ نوري ومديحة عمر وغيرهم.

في عام 1950 اقام له اول معرضا في باريس استوحى اعماله من الحرف العربي وجمال تشكيلاته التي تصرخ بهويتها العربية، فنرى الحرف يسبح في فضاء اللوحة باشكاله الهندسية المتنوعة والمتقاطعة والمتعانقة وكأنها في توادد وتراحم. واحيانا يصعب قراءة هذه الاعمال، ورغم ذلك فحمودي يضع اسماء او عناوين لهذه الاعمال، مثل لوحة ـ الله والمرأة الخالدة ـ والنفط يحرر الشعوب والمرأة الخالدة والسمفونية الخالدة.. ونجد الخلفية تشكل حركة متماشية ومنسجمة مع حركة الاحرف، كما نرى احيانا كثافة في التشكيلات الحروفية مما يصعب قراءتها.3275 جميل حمودي

التجريد في اعمال حمودي

يذكر هربرت ريد انه يعتقد ان وراء هذه المظاهر المتعددة في الطبيعة حقيقة خالدة واحدة وان مهمة الفنان هو اكتشاف تلك الحقيقة وهذا هو الاتجاه الميتافيزيقي. والحرف العربي حرف في حقيقته تجريدي رمزي له كيان روحي وهو ينطق من خلال صوت الانسان العربي، ولهذ نجد ان شاكر حسن ال سعيد ربط الحرف بعالم الكون. وبهذا الاتجاه التجريدي ذهب الفنان الروسي كاندنسكي الذي اقام مذهبه على اساس فلسفة شبنهور الجمالية والذي يرى ان كل الفنون تطمح الى ما وصلت اليه الموسيقى من تجريد، فهي تدخل الى المستمع دون اذن او واسطة مادية.  في اعمال حمودي نشاهد عالم معقد من الاشكال الهندسية من مثلثات ودوائر واقواس ومربعات ونقاط. ويحملنا كل ذل الى عالم كاندنسكي ومدرسة التجريد. ولكن اين تكمن القيمة الجمالية في هذه الاعمال؟. يقول افلاطون ان الدوائر والمربعات والمخاريط هي جميلة بحد ذاتها جمال مطلق. والحرف العربي هو حرف تجريدي وظاهرة صوتية رمزية وجمالية مطلقة.3276 جميل حمودي

وقد تنوعت انشغالات حمودي بين التجريد والحروفية وكذلك بين التمثيل الواقعي والالوان الشرقية الحارة. فنجد احيانا ان حمودي يجمع بين الحروفية والشكل الواقعي. ورغم المسحة التجريدية التي تطغي على اعماله الا ان مواضيعة تنتمي الى الثقافة والمفاهيم الشرقية. وكان لحمودي دور كبير منذ الخمسينات في تحويل الفن العراقي من التقليد الواقعي الى الحداثة، فعمد الى تهديم الاوضاع الفنية القديمة وبناء شيئا جديدا متأثرا بالاساليب الاوربية الحديثة. وربما هو اكثر الفنانين العراقيين جرأة وبحثا وعمقا في التراث.

وكان بول كلي الذي حط في تونس عام 1914 هو اول من لفت نظر الفنانين العرب الى اهمية الحرف العربي وقيمه الجمالية في التشكيل، وقد رسم عددا كبيرا من اللوحات يظهر فيها الحرف العربي عنصرا فريدا تشكياليا جميلا في اللوحة.

***

د. كاظم شمهود

 

رفعت الجادرجي احد قامات فن العمارة في العراق وقد وصفته الباحثة الفرنسية في فن العمارة الحديثة سيسيليا بييري بانه (احد عمالقة العراق في القرن العشرين). نعم يعتبره البعض احد عمالقة الفن المعماري في العراق في فترة الخمسينات.. وقد صمم اكثر من مئة مبنى لازال بعضها قائما، اما البقية فقد هدمت او احرقت... ولد الجادرجي في بغداد عام 1926. وكان والده كامل رجلا سياسيا معروفا، اسس الحزب الوطني الديمقراطي في العهد الملكي. وكان جده احد الباشوات ومديرا لبلدية بغداد في العهد العثماني. ويعتقد انهم من اصول تركية او يهودية.3245 الجندي المجهول في بغداد

وفي عام 1954 تزوج الجادرجي من الناشطة الشيوعية بلقيس شرارة - 1933 - وكان الاثنان ملحدان وقررا الا يجنيا اطفالا لانهما يعتقدان ان البشر يخرب الارض. ولكن يبدو ان الجادرجي هو وزوجته قد نسيا انهما من جنس البشر وانه حسب قولهما قد ساهما في خراب الارض. اما اذا كانا يقصدان النظام البعثي السابق وخرابه للعراق فهذه مسألة اخرى. ويذكر الجادرجي ان الاديان نشأت من السحر؟. وطلب بعد وفاته ان لا يصلى عليه وان يحرق جثمانه..؟

وبعد اكمال دراسته الثانوية في بغداد سافر الى بريطانيا عام 1946 ليدرس فنون العمارة والتصميم في جامعة همرسمث للفنون التشكيلية واكمل دراسته عام 1952. ثم عاد الى العراق. وكان الجادرجي قد استغل منصب والده السياسي وتاريخ عائلته الباشواتي المشهور للوصول الى العديد من المراكز العليا والمهمة في الدولة والتي تؤثر في الحياة السياسية والاجتماعية. والتي يصعب على احد من الوصول اليها.3246 بناية الاتصالات في بغداد

مميزات عمارته

كان الجادرجي احد اعضاء – مجموعة بغداد الحديثة – التي تاسست عام 1951 وكانت هذه المجموعة تهدف في فكرها وعملها الجمع بين التراث العراقي القديم والفن المعماري الحديث. وتعتبر هذه المؤسسة المعمارية اول طلائع الفن المعماري في الوطن العربي. وقد تاثر الجادرجي بحركة الحداثة الاوربية في العمارة ولكنه مزجها بالطابع المحلي حيث استخدم الطابوق العراقي وعليه اشكال تجريدية تشبه الشناشيل. ويذكر الجادرجي بان العمارة هي مجموعة من العلائق تمتزج فيها بيئة المجتمع وتراثه والفنون الاخرى. وكذلك فكرة الجمال بابعادها الفلسفية والثقافية. والعمل على الاستفادة من عناصر كثيرة مهمة في التراث وتطويعها وليس استنساخها.. اهتم الجادرجي بعمارة شارع الرشيد في بغداد وما فيها من عناصر تراثية غنية بالجمال. وقد اعتمد على بعضها في تصميم بعض الشناشيل والنوافذ الخشبية والاقواس والمقرنصات الحديدية البارزة في تلك المباني القديمة.

ويذكر انه اول من فكر في واجهات المباني وايجاد كاسرات ضوء الشمس بطريقة ابداعية لتخفيف حدة الحرارة. ومعالجتها بممر خارجي يحيط بالمبنى. كما مارس عمارة التهوية الطبيعية لضبط درجة الحرارة واستخدام الاقواس المرتفعة.3247 نصب الحرية

الحكم بالسجن المؤبد

كان الجارجي ايام حكم عبد الكريم قاسم مديرا للاسكان وقد تم تكليفه بثلاثة نصب تجسد ثورة 14 تموز، وهي: 1 - الجندي المجهول. 2- نصب الحرية. 3- نصب تذكاري لثورة 14 تموز. وقد صممها ثم قدمها الى عبد الكريم فوافق عليها. ويذكر الجادرجي انه صمم عمارة الجندي المجهول عام 1959 واستوحى شكله من نصب القوس المماثل لطاق كسرى في المدائن. وقد اشارت التخطيطات الاولية انه عبارة عن ام منحنية على طفلها الشهيد. فجاء البناء بشكل تجريدي. ويذكر الجادرجي انه في زمن صدام حسين جاءت اوامر من صدام لتهديم نصب الجندي المجهول فهدم. وفي نفس الوقت اقيم نصب اخر للجندي المجهول في جانب الكرخ كانت الفكرة من احمد حسن البكر وتصميم النحات خالد الرحال. وكان الجندي المجهول الذي صممه الجادرجي يقع في ساحة الفردوس. واقيم في مكانه تمثال لصدام حسين ولكن عندما احتل الامريكان العراق عام 2003 هدموا تمثال صدام وسحبته دبابة امريكية بالحبال. ويذكر الجادرجي انه عندما هدم الجندي المجهول ذهب اليه ووقف على اطلاله والعيون تدمع حزنا والما. فصوره ووثقه. وكان اثناء التشييد يزوره يوميا لمتابعة العمل. واصبحت معه علاقة روحية. فعندما هدم كأن روحه هدمت معه.

 اما نصب الحرية فقد صممه على شكل لافتة قائمة على قاعدتين عموديتين ثم كلف بتنفيذها جواد سليم.3249 رفعت الجادرجي

وفي عام 1978 حكم على الجادرجي بالسجن المؤبد في زمن احمد حسن البكر بتهم غير واضحة. وفي هذا الوقت كانت هناك موجة من الاعدامات طالة عدد كبير من الشخصيات العراقية بتهمة العمل والتجسس لصالح اسرائيل. ؟ وربما الجادرجي اتهم بنفس التهمة.؟. وفي عام 1980 اطلق صراحه في زمن صدام حسين بعدما اراد صدام اعادة تخطيط بغداد واعتمد على الجادرجي لتنفيذ هذا المشروع مع غيره من المعماريين. ويذكر الجادرجي ان صدام غير مهذب في ذوقه الفني، وسلوكه خشن. وقد ادخل نوع من التأثيث الذي كان السبب في تشويه العمارة في البلد.

اما عبد الكريم قاسم فيذكر ان تدخلاته سطحية لم تؤثر على جوهر التصميم، وهو رجل دولة ترك الامور الفنية لاهل الاختصاص.

وكان الجادرجي بالاضافة الى صفته المعمارية، كان رساما وكاتبا صدرت له عدة مؤلفات حول فن العمارة، حيث كانت فترة الخمسينات التي عاشها تعج بالحركة الثقافية والفنية وكانت له علاقة ودية مع كثير من الفنانين مثل جواد سليم وتحولت هذه العلاقة الى مشاركة فعلية في الانشطة الفنية مثل نصب الحرية.3248 رفعت الجادرجي

منجزاته المعمارية

صمم الجادرجي اكثر من 100 مبنى منها من نفذ واخر هدم ومنها من ترك واهمل. وقد تعرضت عدد من اعماله العمرانية الى الهدم والحرق وكان شاهدا عليها مثل ما حدث لعمارة شركة التاميم في الموصل حيث احرقتها داعش عام 2014. وتعرضت بناية البريد المركزي للقصف عدة مرات عام 2003 من قبل الامريكان. كما هدم الجندي المجهول امام عينيه عام 1982. وكأن بنايات الجادرجي التي تعرضت للهدم مقصودة ومتعمدة، وربما نتيجة لاتجاهه الفكري الشيوعي الالحادي، يضاف الى ذلك انه حكم عليه بالسجن المؤبد في زمن احمد حسن البكر وهي اشارة الى تهمة خطيرة جدا وربما كونه ايضا من اصل يهودي.

و عندما سقط النظام عام 2003 كلف الجادرجي بتصميم علم جديد للعراق. وجاء التصميم على غرار العلم الاسرائيلي حيث ظهر فيه خطان ازرقان يمثلان نهري دجلة والفرات. وقد اثار هذا التصميم انتقادات وسخرية الاوساط السياسية والاجتماعية وخرجت مظاهرت في الشوارع تندد بذلك فحرقوا العلم الجادرجي، ورفض التصميم. ويبدو ان الجادرجي لم يتعض من تاريخه في زمن النظام السابق وما فعله في اعماله العمرانية من تهديم وحرق. ثم عاد العثرة مرة اخرى في زمن نظام اكثر تشددا في عداءه الصهيونية.

صمم الجادرجي عدة اعمال عمرانية، منها عمارة البريد المركزي في شارع الرشيد عام 1975 ومبنى شركة التامين الوطنية في الموصل عام 1966 ومجمع مجلس الوزراء ببغداد عام 1975 ومبنى اتحاد الصناعات في بغداد عام 1966 وعمارة فرع مصرف الرافدين في بغداد عام 1967. وعمارة دار كتحدا 1959 ومبنى الجوربه جي عام 1953. وغيرها.

وفي عام 1982 انتخب عضو شرف في المعهد الملكي للعمارة البريطانية، وكذلك المعهد الامريكي عام 1987، ومنحته جامعة كونفتري البريطانية دكتوراة فخرية عن مجمل منجزاته العمرانية. وللجادرجي عدة مؤلفات منها الاخيضر والقصر البلوزي. وكتاب شارع طه وهامرسمث. وكتاب سببية وجدلية العمارة، وغيرها من البحوث التي تصل الى العشرات الحداثوية.

زار العراق عام 2009 فراى كل شئ متغير ومهدم فقرر مغادرة العراق مع زوجته والاستقرار في لندن حتى وفاته عام 2020. وبعد وفاته اخرجت زوجته بلقيس شرارة كتابا بعنوان – حياة بين ظلمتين – يتناول سيرة حياة رفعت الجادرجي. ويعتقد ان زوجته شرارة من يهود العراق.

***

د. كاظم شمهود

من المعروف ان الفن عطاء حضاري وموقف اجتماعي راق. فعندما تصبح غاية العمل الفني سواء كان تشكيلي او معماري، ثقافية وجمالية فانه يعني ان الفنان قد بلغ ارقى مراحل التكامل الذهني. وقد كان ولازال تصميم المباني يتمشى مع الحاجات النفعية والوظيفية . ثم تطور التصميم واظيف اليه العنصر الجمالي الذي يخلق البجه للمشاهد.. وقد اتخذت بعض التصاميم نهج المدارس الحديثة مثل التكعيبية والتجريدية حيث ظهرت انماط مختلفة من التصاميم مثيرة للاعجاب والدهشة.

قحطان المدفعي واحد من ابرز المعماريين العراقيين الذين تشهد لهم اعمالهم المنتشرة في العراق على نبوغه وحداثته في التعامل مع تصاميم وجمالية البناء.. وخلال تجربته ركز المدفعي على ثلاثة عناصر معمارية هي 1/ الوظيفة. 2/ الجمال 3/ الحركة. يضاف الى ذلك البعد الحضاري في الاشكال حيث استخدم مادة السيراميك خاصة في جامع آل بنية. وهي مادة استخدمها البابليون والاشوريون في عماراتهم. وقد شكلوا السبق العالمي في الاستخدام كما هو ظاهر في باب عشتار.3205 قحطان المدفعي

وكان المدفعي دائم العشق للفكر والفن العراقي القديم. ولهذا فهو دائما يربط الهوية العراقية مع الحداثة اي بين الماضي والحاضر.. وكان المدفعي يؤمن بالخطوط المنحنية في تصميم عماراته حيث يرى وحسب نظرية انشتاين ان العالم مكور وبالتالي فانه ابتعد عن الخطوط المستوية والزوايا القائمة والسطوح المتعامدة الا ما ندر وحسب الحاجة وتمثل ذلك في تصميم جامع آل بنية الذي يقع في منطقة العلاوي في بغداد. ويعتقد المدفعي ان التقدم الحضاري للعمارة يجب خرق المألوف بالابتكار والاختراع. ولهذا فان المدفعي لم يعتمد على الشكل المربع او المستطيل المتعامد في الخطوط وانما اعتمد على المنحنيات .

و يقول المدفعي (بعد نصف قرن من ممارستي سلفية عادية مالوفة متوارثة انتقلت الى عالم الحياة بل هي صنوة وتوأمة، فلا انسان بدون عمارة ولا عمارة بدون انسان) وكان المدفعي اثناء دراسته في ويلز فتحت له ابواب فنية جديدة تسودها الحداثة والتجريد. واصبح له اسلوبا وفكرا مميزا عن غيره من المعماريين العراقيين. فكان فكره حداثوي يتماشى مع حركة الفن في العالم، وقد ركز على الديناميكية في الاشياء.3206 قحطان المدفعي

.. ولد المدفعي في بغداد عام 1927، من عائلة اشتهرت بالعلم والفن والادب والشعر. ولهذا فانه ولد في بيئة مثقفة وخصبة. وكانت هذه من الاسباب التي دفعته الى دراسة العمارة والفن. ويذكر المدفعي انه رأى في احد الايام جواد سليم بعمل نحت بارز يمثل شعار مصلحة الركاب في بغداد. وانه رأي الشعار محاطا بزخارف واحرف جذابة.. ومنذ ذلك الحين اصبحت لديه رغبة كبيرة في دراسة فن العمارة.

ويذكر ان والده توفى مبكرا وترك خمسة اولاد تحت رعاية والدتهم. وكان هؤلاء الابناء قد خرجوا نوابغ كل في اختصاصه.. وقامت الوالدة ببيع احد املاكهم السكنية ودفعت مبلغها الى قحطان كي يكمل دراسته في الخارج في جامعة ويلز في مدينة كارديف في فسم الهندسة المعمارية. وبعد تخرجه عام 1952 عاد الى العراق وقام بعدة تصاميم عمرانية نفذت في حينها. وكان المدفعي احد اعضاء جماعة الرواد حين تاسيسها عام 1950 وشارك معهم في النشاطات الفنية. وايضا كان من مؤسسي جمعية الفنانين العراقيين، وكان احد اعضاء الهيئة التدريسية الاولى المؤسسة لقسم الهندسة المعمارية في جامعة بغداد في منتصف الخمسينات مع الدكتور محمد مكية وهشام منير المخزومي وناصر الاسدي . وكان المدفعي واسع الثقافة والحركة فهو ليس معماريا فقط وانما رساما وشاعرا ورجل محاور القى الكثير من المحاضرات واللقاءات حول تطور العمارة والفن واهمية التراث في ذلك..3207 قحطان المدفعي

و في عام 1984 عاد المدفعي الى جامعته الاولى التي تخرج منها في مدينة كارديف وعمل شهادة الدكتوراه في العمارة ثم عاد الى العراق ليكمل مشاريعه الكثيرة التي تنتظره.. ويذكر المدفعي ان ابن عمه زيد محمد صالح كان رساما ومهندسا. وقد فكر زيد بانشاء جمعية تضم كل الفنانين العراقيين وانه كلف المدفعي بتنفيذ هذا المشروع. وفي عام 1957 خصص الملك فيصل الثاني ارض في منطقة المنصور وكلف المدفعي في تصميم البناء. وقد تبرع كولبنكيان في دفع كلفة المشروع. علما ان الملك فيصل كان رساما هاويا. وقد تم انشاء الجمعية بكلفة 30 الف دولار وهو ما ادهش كولبنكيان متسائلا كيف انجزتم هذا البناء الضخم بهذا المبلغ الزهيد. وهو مبلغ عادة ما ادفعه هدية (بخشيش) للعاملين. نعم كان الصدق والجدية والنبل من صفات ذلك الزمن فلم يكن هناك غش وتحايل واستغلال كما يحدث اليوم..

ويقول المدفعي ان آلة المجرشة التي يستخدمها اهل الحنوب في طحن الحبوب هي اساس الملوية في سامراء حيث تدور حول نفسها بدون نهاية. وهي جزء من الحركة الطبيعية التي تمثل ثقافة اهل الجنوب السومرية القديمة. كما يذكر المدفعي ان قوس طيف الشمس الملون هو في حقيقته يمثل عمارة الفنانين سواء كانوا معماريين او رسامين بالوانه وانحناآته.

ومن اعمال قحطان المدفعي. تصميم دور مصفى الدورة 1952. دور شركة النفط 1955. جامعة ست نفيسة 1954. مصرف الرهون 1957. مبنى جمعية الفنانين العراقيين. وغيرها من المشاريع يضاف الى ذلك حاز على عدة جوائز عالمية ووطنية ..

توفى المدفعي عام 2021 في اثينا عاصمة اليونان ثم نقل جثمانه ليدفن في بغداد.

***

د. كاظم شمهود

محمد مكية يعتبر احد زعماء الفن المعماري الاسلامي في الوطن العربي قاطبة. ولد في بغداد عام 1914 واكمل دراسته الاولية فيها ثم سافر الى بريطانيا ودرس في جامعة ليفربول وحصل على شهادة البكلوريس عام 1941 ثم شهادة دبلوم في التصميم المدني من نفس الجامعة. ثم حصل على شهادة الدكوراة عام 1946 من جامعة كمبريدج في بريطانيا. وكان عنوان اطروحته – تاثيرات المناخ في تطور العمارة في منطقة البحر المتوسط – وبعد انتهاء دراسته عاد الى العراق. و اسس اول قسم للهندسة المعمارية في العراق في جامعة بغداد واصبخ عميدا للكلية منذ عام 1959 حتى عام 1968.. وقد اتجه مكية الى الاستفادة من التراث فتضمنت تصاميمه الزخرفة الاسلامية والخط العربي في محاولة منه لدمج العناصر العربية المعمارية التراثية مع الحداثة.وقد صمم كثير من المباني في عدد كبير من الدول العربية والاسلامية وحصل على جوائز عالمية من هيئات متخصصة في اعمال الهندسة المعمارية.2172 جامع الخلفاء بغداد

و بعد عودته الى بغداد اسس شركة – شركاء مكية الاستشارية المعمارية والتخطيط – وافتتح لاحقا مكاتب فرعية في البحرين ومسقط ولندن والكويت وابوظبي ودبي والدوحة وغيرها. وكانت اول اعماله المهمة هي جامع الخلفاء عام 1960 في بغداد. حيث طور تصميمه مستوحاة من المسجد العباسي الذي يعود الى القرن التاسع والذي كان سابقا قائما في نفس المكان. ونال مكية شهرة في الخليج وقدمت له عروضا كثيرة لتصميم صروح معمارية سواء كانت مساجد او قصور للامراء او عمارات حكومية. وقد اهتم مكية بالقضايا المعمارية التي لها علاقة بالتراث والبيئة المحلية والفلكلور والحرف اليدوية. ونتيجة لاهتمامه بالتراث كان يطلق عليه عالميا اسم – المهندس المعماري الاسلامي – وقد جمع مكية مئات الصور عن الطراز الاسلامي ونشرت في كتاب – العمارة العربية الماضي والحاضر – عام 1983.

كان مكية عضو شرف في الجامعة البريطانية وعضو في تخطيط انكلترا وعضو مؤسس في مجمع دبلوس المعماري في اثينا وعضو تحكيمي في لجان دولية معمارية عديدة وعضو في بعثة الخبراء بجنوب شرق اسيا وحاز على جائزة اليونسكو..

و كتب عنه المفكر الراحل محمد اركون استاذ تاريخ الفكر الاسلامي (ان محمد مكية نفخ حياة جديدة في العمارة الاسلامية بدمج تراثها الفني بافضل ما في الثقافة التكنولوجية الحديثة) وقال عنه السير هيو كاسيون الرئيس السابق لاكاديمية الفنون الملكية في انكلترا (ان اعمال محمد مكية تستحق ان تثير اهتمام اوسع في العالم الاسلامي والعربي).

مركز الكوفة

2171 محمد مكيةفي عام 1986 اسس مكية مركزا ثقافيا في لندن اطلق عليه اسم كالري الكوفة. وذلك لان مدينة الكوفة كانت مركزا حضاريا ومدنيا وكانت عاصمة الدولة الاسلامية في زمن الامام علي -ع- ولهذا كان مكية قد اراد التعريف بدورها التاريخي الحضاري في العراق حيث قورنت في ذلك الوقت بمدن اوربية مثل روما واثينا. ويذكر انه لما جاء البعثيون للحكم صدر قرار باعتقال مجموعة من المعارضين منهم مكية وكان بوم ذاك مكية يعمل في البحرين فقرر ان ينتقل مع زوجته الى لندن. وجاء تاسيس مركز الكوفة الثقافي والمعماري والفني بمثابة تحدي للبعثيين واجرامهم واصبح هذا المركز تقام فيه النشاطات الثقافية والفنية والندوات المختلفة وحلقات النقاش المفتوحة خاصة المعارضة السياسية للنظام في ذلك الوقت.

واصدر مكية كتابا اسمه – خواطر السنين – كلف به الكاتب المعروف رشيد خيون حيث يتحدث عن حياته وانجازاته منذ الطفولة الى الكهولة ومنذ العهد الملكي وعصر الانقلابات الى اقامته في لندن. ويصف مكية في هذا الكتاب الاحياء البغدادية وصفا بعين مهندس ذاقب النظر.

وكتب محمد مكية في مذكراته (ان النكهة الجمالية والاصالة المتميزة التي وصلت اليها العمارة الاسلامية، ولا تكاد العمارة الغربية تعرف عنها شيئا.. لم اتردد في تطعيم عمران ليفربول بها (اي بالعمارة الاسلامية) وان كان بشكل خفيف. كما اغمرتني بمحاكات بعض معطيات عمراننا  الشعبي. حيث كنت اذهب اثناء الدراسة الى الريف الانكليزي لاعداد تدريباتي المعمارية مفضلا بدافع من روحيتي العربية الاسلامية. العمل في الهواء الطلق على العمل في المختبرات المغلق) (مما عزز لدي هذا التوجه هو ان الكثير من المعماريين الدوليين الذين اعرفهم اكدوا لنا بان وجودهم في البلدان العربية والاسلامية ولبره من الوقت كافي ليقودهم الى اكتشاف القدرات الهائلة الوظيفية والجمالية. التي يتمتع بها الترث العربي الاسلامي). وكان مكية اثناء تجواله في الارياف الانكليزية يمتطي دراجة هوائية بصحبة زوجته مارغريت كروفورد والتي انجبت له كنعان 1949 وهند 1952.. بعد ذلك توفت مارغريت عام 2013 وتوفى بعدها مكية عام 2015.2173 جامع باكستان

انجازاته العمرانية

نفذ محمد مكية عدد كبير من الصروح المعمارية التي لازالت منتشرة في عالمنا العربي كما ترك مجموعة كبيرو من المشاريع الهندسية التي لم تنفذ مخطوطة على الورق. ومن اهم اعماله هي :

– جامع الخلفاء 1960.– مصرف الرافدين في البصرة 1970. - مبنى الشيخ مبارك -البحرين 1973. – فندق هلتون الدولي 1974. – مسجد الصديق-الدوحة 1978. -مسجد الدولة الكبير في الكويت 1978. – جامع السلطان قابوس الاكبر 1995. – مقر جامعة الدول العربية في تونس وجامع اسلام اباد في باكستان وجامع روما في روما ايطاليا. وغيرها من المباني المعمارية في داخل وخارج العراق.

 كما يذكر ان الدكتور مكية كان اول رئيس لجمعية الفنانين العراقيين في بغداد عند تاسيسها عام 1956. وانه نتيجة لغياب قاعات العرض في بغداد في الاربعينات فتح بيته لاقامة اول معرض معاصر للفنان جواد سليم.2175 محمد مكية

معرض ملحمة الطف

في عامي 1997 و 2007 قمت بمعرضين تشكيليين في كالري الكوفة في لندن. وفي الاول طلب مني الدكتور مكية ان يرى اعمالي التي ستعرض في الكالري فقدمت له نماذج منها فاستعرضها بتفحص الخبير الفني الناقد. وهو ينظر باستغراب وتسائل فقال (اين الاهوار اين مناظر الجنوب؟؟). فقلت له اساذ مكية، هذه اعمال حديثة تعبيرية.. فهز رأسه رافضا. (اين الاهوار؟؟ ، لك مو الله اهناك.؟. ليش ما رسمتها؟؟).و يقصد هناك بداية الحضارة الانسانية. (شنهو هذه الزعبلات والشخبطات؟؟ لك وين التراث؟).. وفي هذه الاثناء كان هناك المشرفين على الكالري متواجدين ينظرون ويضحكون بصمت  ولا يجرئء احد ان يتكلم مع مكية بكلمة واحدة حيث كانت له هيبة وشخصية كاريزما وتاريخ ساطع. وكلمته هي الفصل. وكان المشرف على الكالري الاخ الصديق جواد الخزرجي. وكذلك الصديق الكاتب رشيد خيون فقالا لي بعد ان ذهب مكية : لا عليك انا غدا سانتكلم معه.. واخيرا وافق مكية واقمنا المعرض عام 1997.. ومن الغريب ان هذا الخلاف (والاهانة للاعمال ) شكل لنا قاعدة صداقة قوية طويلة جدا حتى وفاته. وبعد عشرة سنوات عدت مرة ثانية لاعرض في الكالري وسط ترحيب وعناق اخوي كبير (عام 2007). وقد اشترى مكية من المعرض عدد من اللوحات.. في هذا الوقت قال لي مكية اريد ان تعمل لي معرضا شخصيا عن ملحمة الطف (عاشورا) وانا اشتري كل لوحاته؟ (كان يوم ذاك عمر مكية 93 عام). ومن الفرحة القلبية كانت ارجلي تهتز وكاني طائر في حلم؟. فرجعت الى مدريد وبدأت اخطط واعمل للمعرض بدون توقف. واكملت الرسوم التحضيرية وعددها بالعشرات.. ثم سافرت الى لندن وعرضتها على الاستاذ مكية لنرى رأيه فيها. وكان معي الفنان المصور حسين الاسكافي.. فاستبشر بها مكية واختار منها مجموعة. ثم عدت الى مدريد وبدأت بتنفيذ ما اتفقنا عليه.. وبعد عام من العمل جاء وقت العرض. فاتصلت بالاستاذ مكية في لندن لاخبره بجهوزيتي للعرض وتحديد تاريخ المعرض.. فجاء الجواب كارثيا ومحزنا وغير متوقعا ابدا؟. ان الاستاذ مكية مريضا؟. وان ابنه كنعان قام بغلق الكالري وعرضه للبيع.؟؟؟ حاولت الاتصال بمكية عدة مرات فلم يسمح لي (انه مريض) كما اتصلت ببعض الاصدقاء في لندن لشرح الموضوع فلم افلح؟؟. وهكذا انتهت معركة الطف باستشهاد معرض كاظم شمهود.

***

د. كاظم شمهود

 

ظهرت الدمى المتحركة في الحضارات القديمة على شكل اقنعة او تماثيل او غيرها تتحرك اجزاء منها وكانت منذ القدم مقرونة بالعبادات والكهنة. وقد استخدم الانسان في العصور الحجرية القديمة بعض الدمى وتحريكها لتساعده على الصيد والقنص. فقد استخدمها للتمويه على فصائل الحيوان التي يتعذر على الانسان الاقتراب منها دون حيلة، مثلا يصنعون انواع من التماثيل او الدمى يرتديها الصياد فيحاكي مظهر النعامة او الضبا فيدنو من قطيع هذا النوع او ذاك دون استغراب الحيوانات فينقض عليها دون مشكلة... وكثير من الشعوب البدائية كانت تصنع الدمى لاغراض سحرية على شكل اقنعة يحرك تقاطيعها الساحر الذي يرتديها وقد تصنع على شكل تماثيل مجوفة لاشغال الحيوانات او الوحوش الكاسرة. كما يرتديها الكهنة ويؤدون بها رقصلت مختلفة.. وكانت هذه الحيل والتقاليد منتشرة في افريقيا وجزر المحيط الهادي. ولازال البعض منها الى اليوم. وبذلك فهي مرتبطة بالحكايات الشعبية والف ليلة وليلة والاساطير القديمة والتي تعكس الجهل والتخلف لدى عامة الناس..2160 الدمى المتحركة

وقد استخدم الكهنة في الديانات القديمة بعض الدمى والتماثيل في ابهار انظار الناس بما زعموه من معجزات تعتمد على قوى خارقة. وكانوا قد استخدموها في تحريك الابواب والسراديب او التماثيل التي يعظمها الناس. دون الانتباه الى ما وراء هذه من حيل الكهنة حيث كانوا قد سخروا العلم ومناهجه في تمويه الناس وخداعهم.. ويذكر سعيد الخادم في كتابه – الدمى المتحركة عند العرب – بان بعض المراسيم الدينية الفرعونية كان يقتضي اقامة حفلات جنائزية تستخدم فيها الدمى المتحركة كما ان الكاهن فيها يرتدي قناع المعبود – انوبيس – وهو على شكل ابن آوى. ويذكر ان هناك تمثال فرعوني متحرك بمتحف اللوفر للمعبود الفرعوني انوبيس يفتح فمه ويغلقه. كما ان الكثير من التماثيل والدمى كانت تصدر اصواتا بطريقة معينة عندما تهب الرياح عليها مثل ما حدث لقوم موسى -ع- عندما صنع بعض قومه عجلا جسدا له خوار.2161 بغداد المدورة

وقد استخدم العرب العلم بما فيه – الحيل الميكانيكية – في توظيفها لخدمة الانسان كاخراج المياه من باطن الارض وسقي الزرع وتشكيل الجداول والنافورات. كما هو في كتاب ابن الجزري – الحيل الميكانيكية – في بداية القرن الثالث عشر (ربما 1222 م) . وكانت الاجهزة التي صنعها تتكون من اذرع ودواليب (نواعير) واشكال حيوانية واوعية او جرات تغطس لرفع الماء الى الاعلى. وغيرها من الاشكال التي تؤدي اغراض نفعية مختلفة..

ويذكر انه لما استولى هرقل ملك الروم عام 624 م على احد عواصم خسروا الثاني ملك الفرس وجد في ايوانه ساعة هائلة اتخذت فيها الدمى المتحركة صور الالهة لتحديد الوقت والزمن. وفي وقت متأخر استخدم المسيحيون الدمى المتحركة في اغراض كثيرة منها لابهار السفراء الوافدين على البلاط. او استخدامها في قرع اجراس الكنائس حيث تخرج دمى من مخابئها عند الدق لتعد الساعات.. وكان هارون الرشيد قد اهدى ساعة مائية متحركة للملك الفرنسي شارلمان الكبير في القرن التاسع ميلادي وكانت قد ابهرت البلاط واعتقدوا ان فيها جن تحركها2162 مسرح العرائس

و الشئ بالشئ يذكر كان عبد الرحمن الداخل الاموي واليا على الاندلس في زمن هارون الرشيد بعد هروبه من دمشق وبعد سقوط الدولة الاموية على يد العباسيين عام 132 هجرية . وكان عدوا لدودا لبني العباس. وكان العباسيون يحرضون ويدعمون شارلمان الكبير ملك فرنسا في احتلال الاندلس وضرب عبد الرحمن الداخل.. ويبدو ان المصالح السياسية والشخصية والفئوية كانت ولازالت تلعب دورا كبيرا في تقارب وتحالف الدول او تباعدها..

و لنعود الى موضوعنا الرئيسي، حيث يذكر انه كان هناك في دمشق ساعة كبيرة مثبتة على احد الاعمدة في جامع المدينة وكان بها تماثيل متحركة لطيور وثعبان وغراب. وكانت في تمام كل ساعة تغرد الطيور ويتحرك الثعبان ويصدر الغراب صوتا.. وقد اهدى صلاح الدين الايوبي الى فردريك الثاني سنة 1232 م ساعة يقال انها اشهر ساعة في القرن الثالث عشر تحتوي على صور الشمس والقمر وسائر الكواكب وفيها اشكال متحركة.. كما ورد ابن ريان الطبري في كتابه فردوس الحكمة سنة 850 وصف ساعة في سامراء من صنع الاخوين محمد واحمد ابني موسى. وكانا فلكيين وميكانيكيين ماهرين. وكانت تلك الساعة تسير بدفق المياه فتمثل ابراج الشمس. وكان فيها دمى متحركة تتحرك حسب الاوقات والمشارق والمغارب وتصدر بعض الاصوات.. كما يذكر عن وجود ساعة في باب المستنصرية ببغداد التي انشاها المستنصر العباسي عام 633 هجرية (حوالي 1235م) وفيها وصف غريب لحركة الدمى التي تتحرك حسب الاوقات وتصدر الاصوات.. وفي عام 145 هجرية 762 م بنى الخليفة العباسي المنصور بغداد وبنى له قصرا عظيما كان فوق فبته الخضراء تمثال لفارس يحمل رمحا ويدور حسب هبوب الرياح . ويذكر ابن خلدون 1332 م وصف اللعب التي تتخذ في الحفلات والاعراس في زمن بني العباس. وكانت قد انتشرت في كثير من البلدان الاسلامية.2163 الحيل الميكانيكية

ولم يظهر استخدام الدمى المتحركة في اوربا الا في القرن الرابع عشر وكانت ملحقة بساعات الكنائس وكان استخدامها مقتصرا على الامبراطور ومجالسه. وكانت اوربا قد تباهت بصنع ساعة ستراسبورج عام 1352 حيث الحقت بها تماثيل اشخاص تدق الوقت في ساعات الزمن وتنحني في كل مرة امام تمثال مريم العذراء -ع-

وفي كثير من التقاليد القديمة لازالت يمارسها بعض الناس البسطاء خاصة في افريقيا وجنوب اسيا وذلك لاعتقادهم بطرد الارواح الشريرة وشفائهم من الامراض المستعصية من خلال لبس الاقتعة وتحريكها من قبل كهنة المعابد الوثنية.. وربما احدكم شاهد المسلسل التلفزيوني يوسف الصديق حيث يظهر فيه كيف يختفي شخص كاهن وراء التمثال ويصدر اصوات لمراسيم طقوسية. وهذا في الحقيقة هو واقع ما كان يعمل به سابقا في المعابد الوثنية واستخدام الكهنة الدين لمصالحهم الشخصية. ولازال ذلك قائما نعيشه في بلداننا اليوم. ..

***

د. كاظم شمهود

 

يذكر بان نجاح اصحاب الحكايات المصورة كان في بعث الامال في القارئ واعطاءه حياة ايجابية متنورة. ويرجع ذلك الى سببين الاول هو نتيجة تجارب اجيال من الرسامين السابقين الذين وضعوا قواعد راسخة اصيلة لطرق الرسم وتقنياته وتعبيراته. وان الحديثين من الرسامين سيطروا على المادة المرسومة في رسم الفكاهة. والثاني هو ان الجمهور اخذ يتقبل الفكاهة بروح شفافة وذلك لغياب الرقابة ونشر النظم الديمقراطية.

وكان من اشهر رسامي الحكايات المصورة هو السويسري رودولفي توبفير Rodolfhe Topffer 1845. ويذكر انه مخترع القصة المرسومة. وقد رسم عدة روايات لكتاب معروفين. وكان توبفير ابن لرسام مختص برسم المناظر الطبيعية. ولكنه لم يتابع مسيرة والده , وقد اتجه الى الادب وكتابة الشعر. ولكنه لم يترك الرسم فاتجه الى الكرافيك والطباعة على الحجر وكان بارعا في رسم الوجوه.. وقد اتبع توبفير في رسم الحكايات المصورة طريقتين الاولى هي ان يكتب فصول القصة باسلوب الكلمات السردية. والثانية هي ان ترسم القصة على شكل صور متتابعة للحوادث بمعنى يترجم النص الى صور ويعلق عليها بالكلمات والجمل.2145 صورة متحركو

وقد حققت الحكايات المصورة نجاحا كبيرا بفعل العامل البصري حيث تشعر القارئ بالواقعية اكثر من القصة الادبية الخيالية المكتوبة. ولان في ذلك الوقت كانت الناس اولا الغالبية لا تقراء ولا تكتب. ثانيا ان الاطفال تنظر اكثر مما تقراء وهو ما يؤثر عليهم. لانهم في عالم شعور بالحس المادي اكثر من التفكير والاستيعاب. وبالتالي فان الرواية المصورة لاقت في ذلك الوقت نجاحا كبيرا لانها مختصرة ولانها تحمل الوضوح والحس المادي الملموس.

وكان توبفير يؤكد على الاهتمام برسم ملامح التعبيرات.. فيقول ان رسم وجه مبالغ فيه او مشوه نسبيا كان تكون العين قريبة من الانف قادرة على تحريك مشاعر المشاهد وايصال الحكاية اليه.. كما يذكر توبفير بانه من الممكن خلق اسلوب تصوير دون ان يكون الشخص قد درس الطبيعة مسبقا او تعلم الرسم في الاكاديمية. ان رسم الخط كما يقول هو شئ رمزي اصطلاحي لذلك من السهل فهمه من قبل الطفل. بالمقابل يصعب عليهم حل رموز اللوحات الفنية الواقعية او الحديثة. ولهذا فان الفنان الذي يستخدم تلك اللغة المختصرة من السهل ان يحكي رواية ويهز المشاهد والقارئ دون ان يشعره بنقص في العمل التصويري.. ويؤكد توبفير بان رسوم شخوصه قد ولدت من خلال لعب فرشاته بالخطوط والاشكال ليس الا.. وان كل ما يحتاجه الرسام هو مواد رسم ومثابرة على الرسم ثم القدرة على رسم ملامح الاشخاص. وهكذا فان لغة توبفير وتلاميذه يمكن بسهولة فهمها الى جانب الرواية المكتوبة.2146 صورة متحركو

لماذا كان وجه الانسان ضحية للمبالغة والتشويه؟

ان كلمة كاريكاتير لم تظهر في اوربا الا في القرن السادس عشر وكان الاخوان البولونيين كاراكثي carracci هما اول من بدا في رسم الكاريكاتير وكان لديهم تخوف من رسم الاشحاص وتشويهها لذلك كانا يعملا تجارب على رسم وجوه الحيوانات ويبالغون ويشوهون. وقد عثر على اقدم رسوم لهما عام 1600 م. وبالتالي كانت هناك مشكلة من الاقتراب من الانسان لان المجتمع يومذاك تتحكم فيه الجدية والاخلاق والتقاليد والدين وليس من الممكن الاستهزاء والضحك على الاخرين بتشويه اشكالهم. لان ذلك يولد كراهية ومشاكل. خاصة ان هناك كان قانون الانتقام بالمبارزة سائدا في ذلك المجتمع. كما ان الطبقة الاستقراطية ورجال الدين يسيطرون على المجتمع بقوة.

و يعتبر الرسم الكاريكاتيري الذي رسمه الفتان الفرنسي دومير Daumir والذي يمثل الملك لويس فيليب نوع من التحدي. حيث رسمه على شكل فاكهة الكمثري وقد رسمه بطريقة فنية تدريجية من الواقعية الى شكل الكمثري تحت عنوان – الرجل النهم – وقد نشر الرسم فيلبون صاحب جريدة جاريباري. وكانت النتيجة ان غرم صاحب الجريدة وسجن الرسام دومير.2147 صورة متحركو

وهذا يعطينا السر في قدرة الكاريكاتير على مسخ الشئ الاصلي بالتدريج الى شئ اخر.و كأن ذلك عملية سحرية. وكان كل اكتشافات الفنانين في ذلك الوقت لم تكن للشبه وانما للمعادلة يعني ذلك من ناحية نقدية مثلا ان هذا الشكل يعادل القرد يعني سلوكه او شكله هو قرد. وكذلك عندما نرى الكمثري تشبه الملك لويس. وهكذا يكون هناك رد فعل لكل شئ غريب خارج عن التقاليد ولازال بعض الاشخاص لحد اليوم يعتبر رسم كاريكاتير البوتريت اهانة وسخرية.

ويعتبر الفنان الفلسطيني ناجي العلي اعظم فنان كاريكتيري عربي. ولد في قرية الشجرة في فلسطين عام 1938 واعمل في عدة صحف عربية ونشر حوالي 40 الف رسم كاريكاتيري وعدة مجاميع كاريكاتيرية. وفي اخر حياته كان يرسم في جريدة القبس الكويتية ثم نقلوه الى لندن للعمل هناك بنفس الصحيفة ثم اغتالوه عام1987 في لندن. وقال عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش ان ناجي العلي هو القضية الفلسطينية.

*** 

د. كاظم شمهود

الملك الأكدي الجزيري هو حفيد مؤسس المملكة الأكدية سرجون الأكدي وقد قضى فترة حكمه مشتبكا في حروب ضارية ففي الجنوب قضى على غزوات العيلاميين وغاراتهم على جنوب بلاد الرافدين، وشمالا اجتاح مملكة مدينة ماري في سوريا المعاصرة ودمرها، وهاجم مملكة مدينة ماجان في سلطنة عمان اليوم، وهاجم قبائل الـ «لولوبي» بزعامة ملكهم «انوبانيني» وهم قبائل رحل انطلقوا من إيران ما قبل الآرية أي في الأف الثالث ق.م، وفي الشمال تقدم حتى أوركيش ومحيطها التي استولى عليها الحوريون في تركيا المعاصرة. وقد بنى نارام سين قصراً محصناً له في تل براك عند نهر الخابور في سوريا المعاصرة. وترك أنصابا وتماثيل له في العديد من هذه البلدان.

أولاد نرام سين وبناته:

1-الأمير شار- كالي- شارّيو الذي أصبح خليفته وملك أكد من بعده.

2- الأمير ليبيتيلي والي على ولاية "ماراد". وتسمى حاليا بتل وناط السدوم، وتقع على الجانب الغربي لنهر الفرات غرب مدينة نيبور "نُفَّر" وتبعد عن كيش 50 كلم جنوبا. كانت هذه المدينة تحتوي على زقورة أي-اغي-كالاما لعبادة الالهة نينورتا الهة الأرض، وكانت تابعة لحكم الأكديين.

3-الأميرة تارأم أكاده حاكمة ولاية أوركيش تعرف اليوم بتل موزان في حوض الخابور الأعلى على الضفة اليمنى لنهر الخابور، على بعد ما يقارب 7كم إلى الشرق من ناحية عامودا وهو بذلك لا يقع على مسافة بعيدة عن الحدود السورية- التركية. ويقول بعض الباحثين ان نرام سين زوج ابتنه هذه لحاكم أوركيش ثم أصبحت هي حاكمة الولاية أو الإمارة التابعة للدولة الأكدية.

4- الأميرة إن- مِن- انا، الكاهنة العليا لمعبد سين في أور.

5- الأميرة توتا- نابشوم، كاهنة في نيبور.

6- الأميرة سومشاني الكاهنة العليا بمعبد شمش في سيبار.

* إن حكم الملك الرافداني نرام سين يعطينا مثالا على صعوبة تجربة توحيد بلاد وادي الرافدين أو "أرض المابين - مات بريتم"، نظرا للواقع الجيوسياسي والسكاني والطوبوغرافي المحيط بالوادي حيث تعيش في الجبال شماله وشرقه شعوب بدائية جبلية عنيفة كانت تهبط من جبالها لتخرب ما بناه وعمره أبناء السهول والوادي، ولكن وحدة هذا الواحدة تكرست في عدة عهود ومنها عهد نرام سين وآخرين غيره، وتحولت الى إمبراطورية بلغت ضفاف النيل غربا وسلسلة جبال زاغاروس شرقا والأناصول شمالا وعمان جنوبا وكل هذا يبقى ملكا لسجلات التاريخ والجغرافيا السياسية للعهود القديمة، فكيف يعقل والحالة هذه أن يجعل بعض المعاصرين في زماننا وادي الرافدين أو حتى الجزء العراقي المعاصر منه جزءا من إقليم يحمل اسما مستوحىً من إحدى الدول التي قامت في هذا الوادي هو "أسوريا/ سوريا"؟

* معلومة مفيدة: يخلط بعض الأصدقاء بين ثلاثة ملوك يحملون اسم سرجون وبعضهم يعتبر سرجو الأكدي وهو الأقدم يعتبره سرجون الول وهذا غير دقيق؛ في حضارة بلاد الرافدين ثمة ثلاثة ملوك قدماء يحملون اسم سرجون هم على التوالي التأريخي:

* سرجون الأكدي (شارو كينو) (الملك الأسد) مؤسس الإمبراطورية الأكدية وأول أباطرتها. حكم منذ عام 2334 حتى 2284 ق.م. من عاصمته الجديدة أكد، التي تقع في الضفة اليسرى لنهر الفرات بالقرب من كيش. وحفيده نرام سين "حبيب إله القمر" لا يقل عنه شهرة.

* سرجون الأول هو ملك آشور من سنة 1920 حتى سنة 1881 ق م.

* سرجون الثاني ملك آشور من 722 - 705 ق.م. وهو ابن تغلث فلاسر (تجلات بلاصر) الثالث وخليفة أخيه شلمنصر الخامس.

-علما أن الآشوريين والأكديين أبناء عمومة من الناحية السلالية فاللغة الأكدية ذات لهجتين جنوبية هي اللهجة الأكدية البابلية وشمالية هي الآشورية.

* الصورة مسلة انتصار نارام سين باللون الوردي: وهي عمل نحتي نافر بارتفاع مترين موجودة في متحف اللوفر بباريس، تصور نارم سين برداء قصير وصدر عاري، معتمراً بتاج الألوهة ذو القرون، يهاجم مجموعات من شعب «لولوبي» من شعوب جبال زاغاروس، وهو يحمل قوساً وعصا، ويحمل بيمينه سهم. لقد كانت هذه المسلة منصوبة أساساً في سيبار كما يبين النص عليها، إلا أنها كشفت في إحدى حملات التنقيب عام 1889 م في "سوسة" في إقليم عيلام جنوب إيران، ويرد في النص المعزو للملك العيلامي «شوتروك- ناهونته» الثاني (1185- 1155 ق.م) حملته على بابل (1158 ق.م) ويصف تدميره لمدينة سيبار ونقله مسلة نارم سين ليقدمها للإله «ينشوشيناك» كما أن النص الأصلي الأكدي مشوه ومتضرر، أغلب الظن من قبل العيلاميين..

بناء على الصور المنشورة في الموسوعة الحرة ويكيبيديا، يبدو أن هناك نسخة أخرى من هذه المسلة وليست مسلة أخرى كما يبدو لأنها بذات التفاصيل الدقيقة مع اختلاف لون الحجر وقالت الموسوعة إن هذه المسلة وجدت في «بير حسيني» بالقرب من ديار بكر في تركيا المعاصرة. وهناك مسلة أخرى ومختلفة في التفاصيل لنرام سين من النحت النافر الموجود على صخرة في دربندي كاور في محافظة السليمانية شمال شرق العراق.

أي أن هناك مسلة بنسختين؛ الأولى وجدت في سوسة في إيران نقلت إليها من سيبار في العراق وهي المعروضة الآن في متحف اللوفر بباريس، والثانية في تركيا هي نسخة "بير حسيني" ولم أجد عنها معلومات إضافية وثالثة في السليمانية وهي مختلفة التفاصيل ويظهر فيها نرام سين بعمامة لا بقرنين إلهيين.

***

علاء اللامي

 

كان الرحالة الهروي السائح اول المنقبين والمستكشفين للاثار في البلاد العربية في عام 1173 ولد في الموصل واسمه علي بن ابي بكر (وقيل بن ابي طالب) ذكره الدكتور زكي محمد حسن في كتابه – الرحالة في العصور الوسطى – وقد دون الهروي معلوماته واستكشافته في كتابه – العجائب والاثار والاصنام والطلسمات – ولكن هذا الكتاب لم يصل الينا حيث ذكر انه كان في احد رحلاته نهب الصليبيون كتبه عام 1193 ربما في طريق الشام.2082 الرحالة المسلمون في العصور الوسطى

وقد طاف هذا الرحالة البلاد الاسلامية ودون كل ما شاهده من أثار وتقاليد وعادات وثقافات الشعوب الاسلامية. ومما كتبه الهروي (الاهرامات من عجائب الدنيا وليس على وجه الارض شرقيها وغربيها عمارة اعجب منها ولا اعظم ولا ارفع.. ورأيت في مصر اهرامات كثيرة منها خمسة كبار والباقي صغار.. وقيل ان المأمون (الخليفة العباسي – 786-833) فتح هرما وهو احد الهرمين في الجزيرة فوجدوا في داخله بئرا مربعا في تربيعها ابواب يفضي كل باب منها الى بيت فيه موتى باكفانهم.. وقيل انهم وجدوا في رأس هذا الهرم بيتا فيه حوض من الصخر على مثال القبر. فيه صنما كالادمي الرهنج ؟، وفي وسطه انسان عليه درع من الذهب مرصع بالجوهر، وعلى صدره سيف لا قيمة له، وعند رأسه حجر ياقوت كالبيضة ضوءه كالنار....) واضاف الهروي انه دخل هذا الهرم ورأى الحوض واضحا وكتب انه سيكتب ذلك في كتابه – العجائب والاثار والاصنام والطلسمات – الذي ذكرناه سابقا.. وقد كتب الهروي عن الاثار والمقابر في صعيد مصر وعن الجثث المدفونة فيها وعن اكفانها المحفوظة على حالها الاولى.2084 الرحالة والاثار

وبالتالي نفهم من ذلك ان بداية التنقيبات او الاستكشافات حدثت في زمن الخليفة المامون اي قبل الرحالة الهروي بحوالي اربعة قرون بمعنى في القرون الوسطى التي كانت فيها اوربا غاطسة في الوحل والعصور المظلمة.. اذن فلا بد من انه قد تطور التنقيب خلال هذه القرون الماضية على يد الرحالة العرب والمسلمين وانهم قد بحثوا ونقبوا في المدن الاشورية والسومرية حيث لازالت الصروح الاثرية قائمة وشامخة في ذلك الوقت كالزقورات والقصور الاشورية.. وخاصة ان الهروي من اهل الموصل وهو اعرف بها من غيره، وقيل (اهل مكة ادرى بشعابها). ولكن فقدان المدونات او سرقتها او حرقها كانت من الاسباب الرئيسية التي جعلتنا نجهل تلك المستكشفات والحفريات. وقد ذهبت مخطوطات الهروي الى يد الاجانب وعبرت الى اوربا. ومن المؤكد انهم قد استفادوا منها سواء في علم الاثار او الجغرافية. وعندما غزى نابليون مصر عام 1798 م جلب معه 500 عالم متخصصين في شتى صنوف العلوم والمعارف والفنون وانهم لديم معلومات كافية مسبقة عن الاهرامات . فذهبوا اليها و نهبوها وحملوا كنوز مصر واثارها العظيمة الى باريس.2085 زقورة بابل

وعندما بدأت التنقيبات المنظمة في العراق عام 1945 جائت بعثات التنقيبات من كل حدب وصوب من بريطانيا وفرنسا والمانيا وامريكا وكانت لديهم خرائط ومعلومات مسبقة عن طريق كتب الرحالة وكذلك كتب المؤرخين الاغريق والكتاب المقدس (التوراة والتلمود) . فتوزعوا على جميع جغرافية العراق ودفعوا اموال طائلة للعثمانيين في سبيل التنقيب واخذ كل ما يعثروا عليه.. ؟؟ وكان العثمانيون غير مهتمين بالاثار وقيمتها التاريخية بل انهم يتمنون خراب العراق وتدميره.. وكان علماء الاثار الاجانب يعملون بكل جدية ودقة عالية في دراسة واستخراج الاثار حتى ان بعضهم كان يمكث في مكان واحد خمسة سنوات او اكثر.. كما يلاجظ ان هذه البعثات تتبادل الادوار في التنقيب فيما بينها مثلا، التي كانت تنقب في المدن الاشورية تنتقل بعد فترة الى اور او تنتقل الى جرمو قرب السليمانية او مكان اخر، وهكذا وكأنهم مبعوثين من مصدر واجد ؟.. وكانت بعض البعثات تعيد بناء المعابد المهدمة طابوقة طابوقة او اصلاح التماثيل واللوحات الجدارية. وكان اكثر البعثات دقة واعتناء الالمان الذين فككوا باب عشتار قطعة قطعة ونقلوه في صناديق ثم بنوه مرة ثانية في برلين..

و يذكر ان القنصل الفرنسي بول اميل بوتا الذي كان يعمل في الموصل والعالم الانكليزي هنري وستن لارياد هما اللذان مهدا الطريق لقدوم البعثات الاجنبية للتنقيب في العراق حيث نقبا في مدن اشور عام 1840 ومن هناك شحنوا الاثار العراقية الضخمة الى العواصم الاوربية والى متاحفها حيث احدثوا صدمة وابهار في الاوربيين الذين اندفعوا بقوة في ارسال البعثات للتنقيب والحصول على شئ من حضارة وثقافة الشرق.

و في عام 1921 وبداية النظام الملكي تاسست مديرية للاثار لتنظيم رخص البعثات وادارة عملها في التنقيب وكانت تشرف عليها المستشارة للملك فيصل الاول وعالمة الاثار الانكليزية مسس بيل. ثم جاء بعد ذلك العالم الاثري سيتن لويد وفؤاد سفر وطه باقر وغيرهم. وبذلك تنظممت وتطورت مديرية الاثار العراقية. ويذكر انه في عام 1933 حددت مهام البعثات ومنع المنقبون من اي حصة من اللقي السهلة الحمل وبعثها للخارج.

***

د. كاظم شمهود

ان حصر مصطلح السامية في اليهود هو خطأ تاريخي وديني اخذ حيزا من الجدل واثارة العواطف مع اليهود وهو اكذوبة عملت عليها ماكنة الاعلام اليهودية ونشرتها في اوربا. ولم يرد في علم الاثار نصوص قديمة تشير لكلمة السامية وما خلفه الاقدمون فلم يكن لها سندا علميا ابدا. واليوم تتصاعد الاصوات بالعداء للسامية في اوربا التي تجهل تاريخ بلاد الرافدين ونشوء الاقوام الاولى التي ظهرت فيها مثل السومرين والبابلين والاكدين والاشورين وغيرهم..

اولا، يعتبر الباحث والمستشرق الالماني شلوتزر اول باحث اوجد مصطلح سامي وساميون في عام 1781 م حيث اطلق على المتكلمين باحدى لغات العائلة السامية كالعربية والعبرية والاكدية (البابلية والآشورية) والآرامية والكنعانية بناءا على تشابه هذه اللغات وضنا منه (ضنا) ان المتكلمين بها منحدرون من نسل سام بن نوح.ع - حسب ما جاء في جدول الانساب في التوراة. وقد اطلق المؤرخون على الاقوام التي هاجرت (من مهدها) في الجزيرة العربية اسم الاقوام السامية. (ضنا منهم) واتجهت الى بلاد الهلال الخصيب..؟2024 سفينة نوح

الدكتور طه باقر يعترض على هذه التسمية اي الساميون واللغات السامية وانها غير موفقه. فيقول من الافضل تسميتها لغات الجزيرة او اللغات العربية والاقوام السامية بالاقوام العربية او اقوام الجزيرة وكان ذلك اقرب الى الصواب.

ثانيا، اذا كان نوح واولاده و اولاد سام نشأوا وترعرعوا في بلاد الرافدين جنبا الى جنب مع السومريين وغيرهم، وانشأوا المدن والحضارة، في ارض زراعية تغمرها المياه من نهري دجلة والفرات، اذا كان هذا هو اصلهم فكيف بهم ان يهاجروا من الجزيرة الى بلاد الرافدين؟ (امر لا يعقل) وهذا ما وقع فيه المؤرخون الاجانب والعرب من خطأ جسيم حيث اعتمدوا على معلومات الاسفار التوراتية فقط والتي كشفت تناقضاتها مع الآثار والنصوص السومرية والبابلية العلمية المكتشفة حاليا في ارض الرافدين .

ان الاقوام السومرية والسامية هي من منشأ واحد ومن اصل واحد وارض جغرافية واحدة وقد انحدروا من الجماعات المحلية المستوطنة في ارض بلاد الرافدين، كما يذكر بعض المؤرخين ان الاقوام التي سبقت السومريين يطلق عليهم اسم الفراتيون والعبيديون وقد كانوا مجتمعات زراعية متحضرة ومستقرة، وقد انشأوا المعابد والمدن و اخترعوا الاختام المنبسطة ومن اشهر مدنهم اريدو. كما ذكر ذلك طه باقر.2025 اور نمو

ويذكر الدكتور خزعل الماجدي في كتابه – الميثولوجيا السومرية -(لم تكن هناك شعوب سامية مهاجرة من مكان آخر لان هذه الارض (اي ارض الرافدين) هي ارضها التي نشأت فيها وترعرعت) . وبالتالي فانه من المنطق ان تحدث الهجرة من بلاد الرافدين الى مناطق الجزيرة العربية وغيرها... الا اذا قلنا ان هذه الاقوام المهاجرة من بلاد الرافدين الى الجزيرة حدث لها بعد عدة قرون هجرات معاكسة نتيجة للجفاف والقحط.

و في كتاب –جلجامش – للمؤرخ فراس السواح يقول ان النظرية التي تقول ان الاكديين هم شعب سامي قدم من المناطق الصحراوية هي نظرية فرضية (اي ضنية) غير مدعومة باي وثيقة كتابية او اركيولوجية وهي تقوم على نظرية تاريخية قديمة غدت اليوم بالية هي نظرية الهجرات السامية من الجزيرة العربية نحو الهلال الخصيب. (اي نظريات غير صحيحة)

من هم السومريون؟

يقول الاستاذ طه باقر من ان السومريين احدى الجماعات المنحدرة من بعض الاقوام المحلية من وادي الرافدين وانهم اخذوا اسمهم من المكان الذي استوطنوه في السهل الجنوبي (سومر) مثل الاكدين من اكد والآشورين من آشور.

ومن جانب اخر يؤكد بعض علماء الآثار ان الطوفان حدث بعد دور السلالات السومرية الاولى حسب التصوص السومرية المكتشفة وانه حدث في مدينة شروباك التي تقع جنوب شرق الديوانية بحوالي 64 كم الى جانب مدن سومرية قديمة اخرى مثل اريدو والوركاء ولجش وكيش. بعض العلماء يضع تاريخين مختلفين لحادث الطوفان الاول في الف الرابع قبل الميلاد والثاني في الالف الثالث قبل الميلاد.

ونفهم من ذلك ان بطل الطوفان  النبي نوح –ع- واولاده سام وحام ويافث هم من اصل سومري او عبيدي. وبعد الطوفان انتشرت ذرية اولاد نوح في كل مكان من بلاد الرافدين والجزيرية العربية وسمي بعضهم بالساميين. ولكن اطلاق ساميون على كل شعوب الجزيرة العربية وعلى الاكديين والبابليين والاشوريين وغيرهم ، لم تؤكده وثائق مكتوبة ولا اركيولوجية وانما فقط ورد في كتاب التوراة والذي اكثر ما ورد فيه غير موثوق وفيه كثير من الاساطير.

وتذكر الكتب التاريخية والدينية المعتبرة ان النبي ادريس ظهر في العراق في بابل وانه سبق ظهور النبي نوح –ع- وهو اول من خط بالقلم وكتب الصحف وسمي بادريس لكثرة دراسته.. وبالتالي يمكن ان يكون ظهور الكتابة والتدوين في ارض الرافدين قد ظهر منذ زمن بعيد سبق السومريين بعدة قرون حسب ما ورد في المصادر الدينية المتواترة...2026 الملك السومري جودي

من المشاكل التي يعاني منها علماء الآثار اليوم هو وقوعهم في تناقضات المعلومات التاريخية ويعود ذلك الى تطور التنقيبات والحفريات والاستكشافات والعثور على نصوص طينية تحمل معلومات جديدة  تناقض ما فهمه او ترجمه علماء الآثار من نصوص قديمة في السنوات السابقة، علما ان ترجماتهم الاولى للخط المسماري كانت مضمونية وليس حرفية. وقد اعترف هؤلاء من ان معلوماتهم تتوقف على ما عندهم حاليا من آثار مادية اما ما تخفيه الارض من آثار اخرى فربما ستغير في المستقبل كل ما عندهم من اخبار ونظريات. وقد اعترف بذلك عالم الآثار صوموئيل كريمر.

ولكن ربما التنقيبات الاثرية العلمية الحديثة ستكشف لنا في المستقبل حقيقة الامور وازالة الشكوك - وكفى الله المؤمنين شر القتال.

***

د. كاظم شمهود

هناك ظاهرة للفن الحديث او المعاصر هي تنوعاته وتعقيداته التي جاءت من الحرية المطلقة في وسائل التعبير والتي افرزتها في نفس الوقت النظم الديمقراطية التي اعطت مساحة واسعة للناس في تجاوز الحدود القديمة مما ايقض في النفوس نفحات التوجة نحو التجديد.3987 كوكان 3

بول كوكان -1848-1903- احد رواد الفن الحديث وقد ولد في فرنسا من اب فرنسي صحفي وام من اصل بيرو – امريكا الجنوبية – وعاش فترة طفولته هناك ثم عاد الى فرنسا مع عائلته سنة 1856 واشتغل في السمسرة وكان يمارس الرسم في اوقات فراغه. والتقى ببيسارو وتأثر به وكان بيسارو من زعماء الانطباعية. وقد تأثر بالفن الشرقي خاصة السجاد الفارسي والزخارف الاسلامية، وكان ينصح اصدقائه بذلك لما لها من اهمية في الاتجاه نحو الكلي بدلا من البحث في التفاصيل.3988 الانبياء

في سنة 1888 التقى غوغان بصديقه- بول سيروسيه – وكان الاخير اديبا ومفكرا ورساما، وكان هذا الرجل ذو عقل وتفكير كبيرين. فعكف على دراسة اعمال غوغان وشرحها بتأمل بعد ذلك اطلق عليها اسم - الرمزية – وبهذا فقد كسر الجمود المهيمن عل التقاليد الفنية منذ خمسة قرون، وكان المحرك الاول هو الفن الشرقي الذي اخذ يتدفق على اوربا من خلال التحفيات  والمنسوجات والصور المطبوعة برقة واناقة وبالتالي اصبح الفنان الاوربي ينشد شيئا آخر هو ماتحت المضاهر،و ينشد بعض الرمز التشكيلية والتي تتضمن مغزى الواقعية بشكل يفوق ما يتضمنه اي نسخ مضبوط. وهو ماسلكه الفن الشرقي.3989 الفن الشرقي

وفتحت هذه النظرية الباب لكل الفن الحديث والذي ادخلنا في ثورة عارمة اجتاحت كل التراث القديم طوال خمسة قرون متعاقبة والتي وصفها البعض بالمرحلة - الوصفية – حيث حلت محلها مرحلة اخرى متطورة اطلق عليها الكاتب والفنان سيروسية - بالرمزية – وقد ساق لنا كوكان رأيا ثاقبا وجريئا لهذه المرحلة حيث قال: (في الرسم يجب عالى المرء ان يطلب الايحاء اكثر من الوصف كما في الموسيقى).

ولنقف قليلا على حياة هذا الكاتب سيروسيه الذ ي كان لغزا محيرا لدى اهل الفن. هو شاب مغامر طليق ولد في باريس سنة 1863 من عائلة برجوازية. وكان مثقفا وكاتبا ورساما اهتم بالفلسفة واللغات الشرقية واتقن- اللغة العربية - ثم دخل احد الاديرة لدراسة الدين، وكان محل اهتمام من اصدقائه وكان يحاضر وينظر وينقد الاتجاهات الفنية وكان غزير العلم...

ويعد سيروسيه من مؤسسي جماعة – الانبياء – وهي جماعة من المؤمنين الفنانين الذين جسدوا مفاهيم الثقافة الشرقية في اعمالهم وسلوكهم حيث طغى عليها طابع الطلاسم والالفاض الغريبة والملابس الشرقية. كما استعانوا بالرقش العربي والسجاد والخطوط العربية وظهرت واضحة في اعمالهم التي امتازت بالبساطة والابتعاد عن التقليد للواقع. وكانت تأثيرات غوغان واضحة عليهم من ناحية الطابع الرمزي، وهو المحرك الاول لمغامراتهم وانسلاخهم عن الاساليب الغربية والاتجاه الى الروح الشرقية. وكلمة انبياء اطلقها سيروسيه على جماعته سنة 1888 بلفظها ومضمونها العربي - Nabi – نبي-

كان كوكان في بداية رحلته مع الفن قد تأثر بالانطباعيين  خاصة بيسارو وعرض معهم سنة 1886، ثم اخذ يتحرر منهم تدريجيا الى ان انفصل عنهم كليا سنة 1888 – وبرز في اسلوب مميز جرئ كان محط انظار العالم، فقد استخدم التصميم الزخرفي والمساحت المسطحة والالوان غير الممزوجة. كان يكره الحضارة والمدينة ويحب الريف والطبيعة والبساطة فذهب الى مقاطعة بريتاني غرب فرنسا حيث الحياة الريفية والصفاء والفطرة التي تتحكم بحياة الناس. ورسم عدد كبيرا من اللوحات امتازت بمرحلة متقدمة من النضج والتطور الفني. ثم قرر الهجرة3990 الفن الشرقي

الى تاهيتي عام 1891 بعيدا عن اسرته وعن اوربا وحضارتها المادية. رحل الى الريف والحياة البسيطة حيث الفنون البدائية المرتبطة بالمعتقدات الدينية التي شاهدها وعاشها في الجزيرة. وكانت اعماله التي رسمها هنا تمتاز باشكال مسطحة بعيدة عن التجسيم وملونة بالوان زاهية وقوية. وبذلك شكل كوكان مدرسة مميزة هي المدرسة- الرمزية - جائت كرد فعل للمدرسة الانطباعية. كما مهدت الطريق الى ظهور المدرسة الوحشية التي تزعمها بعد ذلك ماتيس.

كان كوكان ينصح زملاءه من الفنانين بترك الحضارة الاغريقية والتوجه الى الحضارة الفارسية والمصرية والشرق الاقصى حيث هي منبع اصول الفنون والعلوم والثقافات وهي الام للحضارات التي جاءت بعدها كالاغريقية والرومانية وغيرها.

وقد اثر كوكان على الاجيال التي جاءت من بعده من الفنانين كجماعة الانبياء والوحشية والتعبيرية والتجريدية وغيرها. وقد حدث حوار جميل بين كوكان وبول سيروسيه صاحب جماعة الانبياء وكان سيروسيه يتعلم من كوكان. وفي يوم من الايام طلب كوكان من سيروسيه الخروج الى الطبيعة والرسم فتهيأ لذلك. ونقل لنا المؤرخون هذا الحوار:

كوكان – باي لون ترى هذه الشجرة؟

سيروسيه – بالاصفر.

- حسنا ضع ابهى اصفر لديك

-  كيف ترى الارض؟

-  حمراء.

- اذن ضع اجمل احمر لديك.

وهكذا انهى سيروسيه لوحته بارشاد وتوجيه استاذه. ثم قدم سيروسيه لوحته هذه الى اصدقائه الذين اعتبروها تمثل نقلة نوعية في الفن الاوربي نحو الخروج من الاطر القديمة. واصبح التوجه نحو التبسيط والتسطيح في الاشكال والالوان والابتعاد عن الوصفية والبحث عن الماهيات والجواهر هي السمات العامة التي اتجهت اليها الحركات الفنية الحديثة.

***

د. كاظم شمهود

 

الفن فكرة الشغف والحلم حيث يمضي الكائن الى ذاته بحثا عن الآخر الكامن فيه وفق تقصد للجمال والجوهر والمهم بكثير من رغبات الدواخل وما به تسعد الكينونة وهي ترى في العناصر والأشياء والوجوه حالات شتى يجمع بينها هذا النشيد...نشيد الفن والألوان مثل أطفال بذاكرة ملونة..

هي فنانة تبحث عن ذاتها في كثير من القول بالنظر والبحث والقلق الذي يفضي الى بعض ما بها من حلم هو صديق منذ طفولتها حيث ترى العالم محتاج الى علبة تلوين لذلك هي تسعى في حبها للفن ودروبه الى تحويل الكائنات والأمكنة الى علبة تلوين يلهو بها الانسان بعيدا عن خراب الأحوال وهول الحروب حيث السلام والفرح والأمل وهي رسالة الفن من أزمنة الانسان القديمة.

لبنى الحمروني فنانة تشبعت منذ صغرها بحب شديد للرسم والتلوين وكان لها أن مضت في هذا المجال لا تلوي على غير القول برسم ما تتخيره من مشاهد ووجوه ومواضيع متعددة حيث الأنثى في تجليات لونية على القماشة وفي لوحات أخرى تبرز في تماهيها مع الخط العربي وحروفه الساحرة وكأن اللوحة مجال رقص وحوار ملون محفوف بالخطوط والكلمات..تنوعت أنشطتها ومشاركاتها المتعددة في تونس وخارجها وكان أن ميزت بحضورها مؤخرا اللقاء الثقافي والفني بفضاء " الرواق " بسوسة الجوهرة حيث كانت مشاركتها الفنية التشكيلية ببعض اللوحات ضمن حضور واسع لعدد من الفنانين والفنانات في معرض متنوع بعنوان " قلق " حيث كانت لوحاتها معبرة عن نهجها الجمالي الذي أرادته لبنى الحمروني من سنوات ومضت وفقه لا تلوي على غير القول بالفن والرسم والتلوين مجالات فرح وحب ولقاء وابداع...3953 لبنى

انطلقت تجرة الفنانة التشكيلية لبنى الحمروني مع الفن التشكيلي باحساس وشعور داخلي هو عشق الفن فكانت البداية نتاج الموهبة الفطرية التي تراكمت بتلقي ابجديات الفن من اساتذة اكاديميين والمشاركة في ورشات تدريبية على الرسم والخط العربي والاحتكاك بفنانين والمشاركة في الملتقيات والعارض الفنية حيث ترى أن " الفنان يجب عليه صقل موهبته ليكون مبدعا ويصنع نفسه بنفسه وهكذا دخلت عالم الاحتراف ليصبح الفن عندها الجزء المهم في حياتها فهي لا تميل الى موضوع معين او اسلوب واحد ففي كل مرة تجرب نمطا جديدا وقد استلهمت اعمالها من الملامح البشرية خاصة المرأة والطبيعة وفي بعض الاحيان تحملها ابعادا ثقافية عربية من خلال الخط العربي واعتمدت على الملمس والشكل واللون حتى تستطيع التعبير عن مشاعرها تجاه كل ما تعيشه من احداث في حياتها... وعن توظيفها للخط العربي فهي تعتبره مصدر الهام واشارة للاصالة والاعتزاز بالتراث والهوية العربية كما ان مرونة الخط العربي تضفي احساسا بصريا ونفسيا رائقا وعميقا وايقاعا جميلا وهي تقول " ..في اللوحة حلمي بان ارفع شعار البهجة والحب والجمال والسلام لاني ارى ان الناس تحتاج الى ذلك طوال الوقت.. أنا أعد لمعرضي الشخصي برواق بالعاصمة قريبا لي حلم ببعث ورشة فنية للابتكار والابداع...".

هكذا هي لعبة الفن الجميلة التي غامرت ضمنها وفيها وبها الفنانة لبنى حيث التلوين والاحالة على ما في دواخلها من أحاسيس وأحلام وفق تنوع أعمالها الفنية وثيماتها لتبرز كما ترى ذات الفنانة في مختلف المشاركات ضمن المعارض الفنية والتظاهرات الثقافية التشكيلية في تونس وخارجها.

و عن هذه التجربة التي تخوضها فنا وابداعا تقول الفنانة التشكيلية لبنى الحمروني "...أنا اصيلة مدينة صفاقس ومقيمة بسوسة مستوى التعليمي السابعة اداب ومتحصلة على تكوين في الاعلامية والتصرف متحصلة على بطاقة حرفية للرسم والتزويق على جميع المحامل من الديوان الوطني للصناعات التقليدية بسوسة لدي بطاقة عضوية في اتحاد الفنانين التشكيلين بتونس فنانة عصامية موهوبة بخبرة تتجاوز عشر سنوات اتقن مختلف انواع الرسم مختصة في الرسم بالالوان المائية والزيتية قمت بصقل موهبتي عبر المشاركة في العديد من الورشات والمعارض متحصلة على العديد من الجوائز والتكريمات اهمها مشاركة في دار الابرا المصرية لملتقى المبدعين الدولي التاسع عشر 2018 متحصلة فيها جائزة احسن خمسة فنانين متميزين ومشاركة في ملتقى بصمات الفنانين التشكلين العرب 16 بقاعة الاهرام مع وحيد البلقاسمي رحمه الله ومشاركات عديدة بمتاحف وطنية وبفضاءات بالمهدية وسوسة وتونس والمنستير مع العصاميات ضمن ملتقاهن وبدأ ولع الرسم معي منذ الطفولة فهو بالنسبة لي مهم جدا في حياتي ورسالة هادفة وهو المتنفس الوحيد الذي استطيع من خلاله ان اعبر عن كل ما يخالجني من مشاعر واحاسيس وافكار لتصل للمتلقي بطريقة ورؤية فنية جميلة ..."

تجربة وفسحة مع الفن التشكيلي في تنوع من التعاطي معه حلما وانجازا وتشوفا نحو الأفضل حيث الفن بأسواره العالية والابداع بشديد الدأب والعزم والرغبات تجاهه ولا يملك عندا الكائن الشغوف بالفن الا أن يمضي في المغامرة بكثير من النظر والبحث و...الأمل.

***

شمس الدين العوني

موضوع للمناقشة

أي الروايتين يمكن أن نصدّق؟ الأولى التي يذكرها الفنان خالد الرحال عن إختيار نموذجه كنصب للجندي المجهول، الذي تم افتتاحه عام1983، أم الأخرى التي يرويها رفعت الجادرجي، نقلتها زوجته بلقيس شرارة؟ يقول الرحال:

3934 الرحالكنت جالساً في أحد أماكن الاسترخاء في إحدى الدول خارج العراق، وعلمت ان هناك مسابقة لإقامة نصب للجندي المجهول، حينها تحفزت بانفعال وحماس ورغبة قوية، أدى الى سقوط الصحن من يدي على الطاولة التي أمامي، حينها كان سقوط الصحن على الطاولة بشكل مائل، وقتذاك تركزت في ذهني فكرة أساسيات العمل المقترح، وبعدها تم إضافة الافكار للأجزاء الأخرى التي نفّذها فريق من المصممين والمهندسين المعماريين، كل حسب إختصاصه .

أما الثانية فتنقلها بلقيس شرارة زوجة المعماري رفعة الچادرچي في كتابها (هكذا مرّت الأعوام):

كانت خيبة رفعة كبيرة ومؤلمة عندما أمر رأس النظام بهدم نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس، الذي أنجزه عام 1959 بتكليف من عبد الكريم قاسم، إذ أطفئت الشمعة التي كانت تنير النصب، وربما رُفع رفات الجندي المجهول من تحته، كان وداعاً مؤلماً لرفعة، أخذ كاميرته، وذهب الى الموقع، وصوّر حطامه، بعد ان نهش البلدوزر النصب بضرباته وأحاله الى ركام.

تقول شرارة: كانت العقلية المهيمنة على السلطة أنذاك، هي إزاحة كل ما له علاقة بالزعيم عبد الكريم قاسم، ومحو اسمه، لذلك كُلف الفنان خالد الرحال في تصميم نصب جديد للجندي المجهول، أوحى هو بفكرته لرأس النظام، وتقبلها لانها تنسجم مع نمط تفكيره، وعقليته البدوية، وتتناغم مع توجهاته السياسية، ولا سيما والبلد يخوض حرباً ضارية مع الجارة ايران، " سبق للرحال محاولته اقناع الزعيم قاسم في وضع صورته ضمن نصب الحرية، ورفض جواد سليم المقترح، مثلما رفضها الزعيم" كان حلماً بالنسبة للرحال ان ينفذ مشروعه ويدفن جثمانه في موقع النصب .

تقتضي الإجابة على السؤال الأول، مناقشة العملين فنياً وجمالياً، بغض النظر عن الأسباب والدوافع السياسية منها أو الشخصية التي آلت الى هذه النتائج، والمناقشة لا تقتصر على رأي الفنانين، والمعماريين فحسب، انما تعني على وجه التحديد ذائقة المتلقي (المشاهد)، فهي معيار مهم في قبول هذا العمل، أوعدم قبوله، فالنصب الشاخص اليوم في إحدى ساحات بغداد، يمثل معلماً فنياً مهماً بالرغم من اختلاف وجهات النظر فيه، اذ يعدّه البعض رمزاً للقوة، وهو عبارة عن صحن طائر مفتوح يرمز لدرع محارب، الى جانبه سارية للعلم العراقي مفتوحة الى السماء للتعبير عن حالة التسامي، تبدو صورة النصب من السماء كهضبة فوق متحف. يضم مئات الرموز التي تذكّر العراقيين بالحرب.

3935 الجادرجيوعن نصب ساحة الفردوس يقول رفعة: استعملت التحدب الذي يساعد في خداع النظر، وهي أساليب سومرية هذّبها وطورها الأغريق، وكان هدفي من هذا، إظهار النصب للعين أكبر حجماً وأعلى ارتفاعاً من حقيقته، ونفى رفعة ما تناقلته وسائط التواصل من حركات لأم تنحني على ابنها القتيل، نسبت له على ان فكرة النصب بدأت منها.

أياً من العملين إذاً اعتمد الرؤى الجمالية، واحترم التقاليد الفنية، وحسم الموقف لصالح الوظيفة الرمزية للنصب، وتأكيد هويتها الوطنية؟

بتقديري تبدو المقارنة في غاية التعقيد بين عملين احدهما لفنان ونحات انهمك منذ سن مبكر بانشغالاته، أول نقوشه كانت على طابوق البيت (فكّر أهله أنه يخرّب بيتهم!) اصطفى لنفسه الخطوة الأولى على طريق الرغبة... انه اختار النحت حياة... كان شديد الحيوية في تجربته النحتية، يصنع من أية كتلة يلتقيها تمثالاً، منح نفسه للحجر والطين فاستجاب له، وكان في ذلك فرحه الطفولي وعبثه وحياته، كما يقول هو عن نفسه.

في الطرف الآخر كان رفعة الجادرجي المهندس، الانيق، المترف، نجل السياسي الصارم كامل الجادرجي، الذي أكمل دراسته في اوربا، وأقام في لندن، عاش حياة منظمة حافلة بالمتعة والإنتاج، كانت له علاقات واسعة بالفنانين والمعماريين، والادباء، لم يغادر أجواء العوائل الارستقراطية، إذ عاش في كنفها، متأثراً بتقاليدها المدنية، رغم انه كان متأثراً بالفكر اليساري، معارضاً لنهج أبيه الفكري والسياسي، بسبب ذلك تعرض للاعتقال اكثر من مرة.

كان عمل الجادرجي بتقديري يمتلك عناصر البساطة والجمال، أودع رفعت فيه أفكاره ورؤاه، اذ شهدت فترة انشائه التحولات الأهم في ميادين الابداع العراقي، حيث كانت الاعمال الفنية تمثل خبرة جيل من الفنانين، الملمّة بموجبات المعاصرة، وبوعي انساني، وبصياغات غير معقدة في الصورة والرمز والاستعارة.

تلك الفترة شهدت الخطوات الأولى للعمل المشترك في نصب الحرية، بين جواد سليم ورفعة، ورسم المسارات العذبة التي تأتينا مع الصمت والترقب، وانهمار التداعيات، وحدهُ القلب هو الذي يرى تلك الومضات التي تنبعث من الرخام الفضي اللون Carrara منتشراً في كل صوب، من خلال ذلك القوس والانحناءة والخشوع، تلك الومضات تلحّ علينا ان نعيد الى الذاكرة ما أصبح في طيات النسيان، العالم هنا أسفل القوس ينبثق من النار المشتعلة، لتظل انظارنا معلقة، وانفاسنا مبهورة الى موسيقى كونية، وأصوات لونية تفتحه انتباهة الروح على ما يمكن نواله، تقودنا في رحلة الإعلاء الى مرتبة الانتشاء الروحي .3932 الجندي المجهول

إستحضار روح الشهيد المجهول (غنوصية) من طراز آخر، هي حالة ارتعاش بألوان من نثار النجوم، والرذاذ اللوني الناعم، هي في جوهرها تدفق لا نهائي للوجود.

في العمل البديل لخالد الرحال، ابتعدت الوظيفة، والرمزية في التعبير بلغة صادقة عن الشهادة، ومن غير المرجح تصديق روايته عن الصحن، اذا علمنا انه تأثر باسلوب فنان ايطالي معروف هو (مارشيلو دي أوليفو) كان قد صمم (اسكيتشات) لعمل مماثل، وتمكن الرحال من تحقيق الغرض في تجسيد فكرة الحرب، وتمجيد سلطتها، بينما غابت روح الجندي المجهول، وسط سعي الرحال لإدامة ماكنة الحرب، ونيل رضا سيده الحاكم المستبد، ليطمئن جنونه وهوسه بالحروب، والغزو، في لحظة افتعال للنصر ووهم هزيمة الأعداء.

لقد استجاب الرحال (لمهمات المرحلة) التعبوية والتحريض المتصاعد، فأفقد عمله محتواه الانساني وخاصيته الجمالية والفنية، وحين تتقدم المنافع الشخصية الضيقة على حساب الصدق الإبداعي، تكون النتائج في غاية البؤس، مثل قصيدة لشاعر كبير، عن حرب لا معنى لها، فكان نصب الجندي المجهول مثالا للفراغ الروحي، والإنساني، شغله الرحال بكتلة هائلة من الحديد والحجر، مفروشة على مساحة واسعة لا تمنح المتأمل لحظة الصفاء الذهني، بل تذهب به الى صليل السيوف، وجعجة الرماح والتروس. وتحول البلاد الى ثكنة عسكرية، فتحت الباب الى الخراب الأعم

ان المتابع لمسيرة خالد الرحال الفنية، يستطيع التوقف عند محطات في غاية الجمال والعذوبة، كما هو عمله الرشيق ( تمثال الأم) في حديقة الامة، ومنذ البدايات صاغ رؤاه من عضلات الاكديين والسومريين، كانت المرأة تشكل الحياة في أغلب أعماله، فهي الخصب والانوثة، الا ان الرحال راح بعيداً في اعماله التي نفذها بعد انقلاب 68، موظفاً طاقاته الفنية لأغراض سياسية دعائية، تفتقد الى الاصالة والصدق الفني، كما في عملي (المسيرة وقوس النصر)، الذي اكمله محمد غني حكمت، بعد وفاته في 1987. وماتزال قوات (العهد الجديد) تستعرض تحت سيوفه في المناسبات التي تشاء.

لاشك ان يد الخراب لم تتوقف، وشهد زمن ما بعد الاحتلال (اجتثاث) نصب وتماثيل جميلة من ساحات بغداد، والأسوء فيما حصل إقامة تماثيل ونصب مشوهة لا تنتمي لأبسط معايير الذوق والجمال، والنماذج هذه تمثل حالة من البؤس والانحطاط، وتحدياً لذائقة الجمهور، واستهانة بتراث العراق الحضاري والثقافي، والتجارب الرائدة لفنانيه ونحاتيه، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بالإجراءات الجائرة التي استباحت الجمال في المدينة، ومنها نصب الجندي المجهول تصميم الجادرجي، كمحاولة لاحترام الجهد الفكري والمعماري للفنان.

***

د. جمال العتّابي

 

في خضم كل احتراق ورماد تولد فكرة قد تحيي خلايانا المحبطة ويدب الأمل في عروقنا التي تكاد قد جفت.

في لحظة تاريخية مصيرية وجودية أما أن نكون او لا نكون كمجتمع أو شعوب يجمعها الإرث والفكرة والدم والنسب والمكان ويزلزل كل وجودها وتاريخها من عدو طامع همجي لا يكترث للتاريخ والإنسان محاولا اجتثاثك واجتثاث الأصول والسلالة في لحظة ضعف وتفوق لهذا العدو ' فيتوهم أن من السهل تزوير التاريخ والحقائق والظواهر لصالحه ويسوق فكرته بما يمتلكه من ماكنات اعلام ومال ومقدرات وليظهر للعالم بأنه ثمة ضحية وجودية محاولا بالترهيب أو الترغيب أن يجمع العالم من حوله. ربما قد ينجح هنا وهناك لكن التاريخ هو التاريخ ففلسطين هي موطن العرب منذ عصر الخليقة ومازال ولايمكن لأية قوة على الأرض أن تزور هذه الحقيقة.3894 محمود شبر

في ظل الأحداث المتسارعة ووفق صخب الرفض والاحتجاج العالمي والعربي والإسلامي يطل علينا الفنان التشكيلي د . محمود شبر في عمله " القدس الأثر والمصير" ليعبر من خلال فرشاته المبللة بدموع الأسى وحرقة القلب لما يحدث الآن في غزة والضفة الغربية في فلسطين من أعتى هجمة بربرية على مقدسات العرب والمسلمين من خلال القتل والتهجير وحرق الأرض ومن عليها وهدم كل بناها. فهذه اللوحة بتدرجاتها اللونية ونسقها وهرمونيتها شكلت لحنا حزينا وموجعا وفي نفس الوقت بصيص أمل من خلال التضاد بين العتمة والرماية والألوان الخافتة كأنها سيناريو حرب وساحة حرب رغم نصاعة وبريق اللون الذهبي لقبة الجامع المقدسي الذي نراه توسط النص البصري مضيئا بفعل الوان الفرح والنشرات الضوئية المبتهجة وكأنه يقول إن عجلة التدمير لن تستطيع أن تخفت من بريق القبة والمكان والروح في ضمير كل انسان يدرك قيمة المكان الروحية والفكرية.

انها لوحة تحد واستعادة ذاكرة بل هي ذاكرة حية لن تغيب ولن تموت طالما هي أصبحت عقيدة حب قبل أن تكون ثيمة دينية عاشت في الذاكرة الجمعية.

ان اللوحة تم بنائها بشكل هرمي عمودي كتوينات وتدرجت الوانها من اللون الرمادي الموشح باللون الابيض والذي يشكل أسوار القدس اي القبة ورصف الحجر وكأنه اسوار مانعة تحيط المكان ليتحول الحجر إلى قلوب تسور المكان وتراص وإرادة جمعية أعلنت بكل ما تملك من قوة أن تدافع عن هذا المكان المقدس وبكل تحد .

لقد تقصد محمود شبر أن تكون القبة المقدسية بؤرة الحدث لهذا جاء تشكيلها في مركز اللوحة ولتسطع عليها الالوان المذهبة ذات البريق الذي يترك شغفا وحبا على نفسية المتلقي وبقصدية الفنان أراد أن يلفت المشاهد للخطر المحدق الذي يهدد المكان من خلال الظلمة والعامة آلتي ألمت وأحاطت به وهو اشعار تنبية ودق جرس انذار.

في أعلى فضاء هرمية اللوحة والشكل جسد شبر جموع هاتفة مهلهلة وعفيرة هبت بغضب لتحمي المكان وسيما ترك محمود شبر في أعلى المكان شعل ولعب ساقطة من علو وهي إشارة مهمة وعلامة سيميائية جسدت هناك مخاطر تهدد المكان ووجوده وتحاول إزاحة كل ماهو مضيء وقبس لتحيله الى عتمة وظلام.

تشي دلالة التكوينات والإشارات الرمزية للشكل واللون والدلالة الفوتغرافية الآخرى المتسقة في ذات المبنى النصي شكلا معنا واحدا وفق الفكرة المطروحة التي شكل النص البصري لتوحي وتشكل خطابا جماليا وروحيا ثقافيا غير منفصلا وقد يتحد الشكل والمضمون وينصهران في بودقة الابداع وسحره وننسى مناسبة النص ووقته وظروفه ونشاهده بشغف كعمل فني جمالي وايقونة فنية وأغنية شجية فتتغلغل في النفس والوجدان الى أوسع مدياتها.

***

كتب رياض ابراهيم الدليمي

الفنان الفطري، هل له موقف ما من العالم ؟

هل يملك صوته الخاص أو لغته التعبيرية، وهل حاول من خلالهما تحديد موقفه أو موقعه من هذا الوجود؟

هذا الفنان البسيط المغمور، يرى العالم من خلال منظوره الخاص، وقد تلتبس عليه الرؤية إذا ما وجد أن وسائله التعبيرية لا تمنحه قدرة الوصول الى المقاييس الجمالية التقليدية المعروفة، فهل يحزن لهذه النتيجة أم أنه، داخلياً لا يريد أن يكون أسيراً لها؟.. أم أن اللعبة لا يعرفها أصلاً، وهو بالنتيجة لا يعرف أصولها.

الفطرية مفهوم قائم بذاته، متأثر بالرغبة في خلق شعور بالجمال البدائي، والتعبير التلقائي الخالي من أي تعقيد أو غموض، أو رقابة فنية أو فكرية، وهذا ما تجسد في فخاريات العراق القديم التي صنعها انسان تلك العصور.

ويشار الى الفن الفطري أحياناً باسم الفن البدائي، كما يتداخل مع ما يسمى بالفن الخارجي، أو مع الفن الفرنسي المتوحش، وهذا يشمل ما يرسمه الأطفال، أو ذوي الحاجات الخاصة، مثل، السجناء والمعاقين، والمصابين بامراض عقلية، على خلاف الفن الفولكلوري أو الشعبي، الذي يتبنى نهجاً تبسيطياً مشابهاً، وبالضرورة لايستند الفن الفطري  الى سياق ثقافي أو تقليد متميز، انما امتاز ببساطة التنفيذ، وميل نحو الألوان المشبعة اللامعة، مع غياب المنظور في أغلب الأعمال.3880 الفن الفطري

في العراق تبدو تجربة الفنان الفطري منعم فرات مثالاً للمعادلة الصعبة في العطاء باعتباره وجوداً استثنائياً، اذ دخل حيز الاسطورة ومجالها الواسع والحيوي من مكونه البيئي وتلنفسي، فهو خضع للمخزون المعرفي الشعبي، أي ان الرؤى المتحكمة في وعيه هي الحقيقة الشعبية التي انتجت مقاربات اسطورية تعيش في عالم لم نصل بعد اليه، على حد وصف النحات محمد غني حكمت، ومضى أحد المستشرقين الايطاليين أبعد من ذلك، في القول أنه يفضله على بيكاسو لانه شيئ نادر.

وهكذا يلتقي مع كل الفنون العفوية التي يبدعها الانسان، اعتباراً من فنون البدائيين حتى عفويات الفن الطفولي، ولكننا باستخدام الخيال، نستطيع أن نكون في ألفة عاطفية مع الأعمال التي ينجزها الفطريون، فالامتثال الهادىء لمخلوقاتهم الطيبة المستكينة، ستقودنا الى ينابيع أحلامهم، فأنت المتلقي، أنظر فقط، وكي لا تبدد ذلك السحر الذي ينتشر كالفرح حول هذه العذرية، اكتف بالتأمل في هذا الشيء المختل النسب، الصغير الكبير، الخارج على المقاييس الجمالية، البعيد والمباشر معاً، ثم انتقل معه الى عالم آخر هو غير عالم الجماليين، انك بذلك فقط، سترى كيف تكون الأيدي هي اللغة الكاملة بكل أصواتها، وان العيون تضيء بنور داخلي، والشفاه تخاطب على البعد أناساً غير منظورين، وان الابحار عبر هذه المخلوقات غير مأمون لمن يركب مركب الناقدين، ولهذا يغدو استذكار هذه العذريات أمراً في غاية الصعوبة، لأنها سرعان ما تغادر شبكية العين وتختفي في الداخل.

ثمة خيط سري غير منظور يوصل مابين الاعمال الفطرية، وبين ابطفولة التي ودعها كل متا وهاجر الى مرافئ لا سبيل للرجوع منها الى نقطة المبتدئ، إلا برؤية هذا الضرب من الفن، انه لون من ألوان التعزية لمن يعاودهم الحنين الى تلك المرافئ الجميلة إبحاراً بعين الخيال المظلمة.

في بحر الوجود تلتقي كل الأشرعة، غير أن من يزعم بأنه قادر على فهم هذا الفن بالتعريفات كمن يجازف بأن يجعل من النجمة حليةً لزوجته !

الجوهري المهم، ان في هذا الفن تكمن الأجوبة الصامتة لأسئلة محيرة كانت قد أفلتت من النفس بفعل الحيرة أمام روعة الوجود ذاته، وسيان أن تكون هذه الأجوبة في منطقة الضوء من أبصارنا، أم في منطقة الظل من بصائرنا، فهي على كل حال، كالأثمار المضيئة في أشجار غابية وهبتها الأرض دفق حليبها المغني، لتهب الوجود ثماراً دانية من دون إمنان.

ثمة من يفسر هذا الاثمار العفوي كشرعة من شرع الطبيعة، أوغلت في الوجود الانساني حتى كهوف "التاميرا"، وان يقظات زمنية ما، تلازم تاريخ الانسان تحدث فيه مثل هذا الانفعال، ليتبعه من بعد، التعبير عن الرؤية وما يوازيها من تأليف تشكيلي يوحي بالجانب الوجودي ذاته، وهنا تكمن قوة الفن الفطري، المبرأ من عقدة العلم، لانه أشبه ما يكون باشجار "سيزان" التي يصعب على المرء تسلقها، أو أن يأكل فاكهتها.

هؤلاء الفنانون يريدون التحدث بلغتهم الخاصة، وحين كان عليهم أن لا يلثغوا باصواتهم ومخارجها الصعبة أحياناً، والسهلة أحياناً أخرى، أخضعوها لقوانين نطق أشبه ما تكون بقوانين الطبيعة ذاتها، فولدت عفوية كأحجار الجبال التي تجرفها السيول الى أعماق الوديان، ما تستطيع أن تشفّ عنه دمية مرمرية من معان ٍ، هو تاريخ النفس التي تفجرت ينابيع، وهو السيرة الذاتية لفنان أراد أن يصبح حراً وعارياً كمولود جديد.

***

جمال العتّابي

ظهرت خلال تاريخ الفن شخصيات كبيرة وعظيمة اغنت واثرت على الحركة الفنية العالمية المعاصرة من امثال الفنان الاسباني الكبير خواكين سورويا - Joaquín Sorolla - وهو ما تتوجه اليه عادة انظار الفنانين الحديثين حيث تتفاعل خبراتها مع الماضي لتكون مصدرا راقيا للعطاء والابداع..

خواكين سورويا من مدينة بلنسية الاندلسية Valencia – ولد عام 1862 وتوفى عام 1923 في مدريد ونال شهرة عالمية وعرضت اعماله في المتاحف والكالريات والمؤسسات الثقافية في مختلف البلدان الاوربية وامريكا الشمالية والجنوبية.. بعض النقاد اعتبروا اعماله ضمن المدرسة الانطباعية ولكن البعض الآخر يرون انه قد انفرد باسلوب خاص وخلق مدرسة اطلق عليها النقاد اسم – الاعمال المضيئة – iluminada - حيث تميزت اعماله بالالوان الساطعة المضيئة وفرشة طلقة حرة سريعة الحركة حتى تبدو احيانا بعض الاعمال وكانها غير مكتملة..3854 سورويا

كما اخذ سورويا بانتاج الاعمال الكبيرة ذات المواضيع الاسطورية والتاريخية والاجتماعية وعرضها في الخارج مثل باريس وروما وبرلين وغيرها. كما كان يرسم في الهواء الطلق بفرشة طلقة تدل على تمكنه وقدرته الابداعية والسيطرة على التقنية وكانت اغلب اعماله تمثل مناظر للصيادين وشواطئ البحر في بلنسية.. كما تخصص برسم البورتريت وابدع فيه حيث رسم كثير من الشخصيات السياسية والملوك منهم الملك الاسباني الفنسو الثالث عشر ورئيس الولايات المتحدة وليم هوارد تافت وغيرهم..3855 سورويا

بلنسية –Valencia

تقع مدينة بلنسية التي انجبت الفنان سورويا شرق مدريد على شاطئ البحر المتوسط. وكانت من اعظم القواعد الاندلسية ايام المسلمين وتعتبر ثالث المدن الاندلسية من حيث عدد سكانها الذي بلغ ربع مليون نسمة يومذاك... كانت اراضيها زراعية فسيحة تخترقها عدة انهار منها نهر توريا Turia.. واشتهرت بلنسية بصناعة الفخار كالاواني الخزفية والبلاطات -الكاشاني - ولازالت لحد هذا اليوم..

وقد ذكرها الحميري في كتابه: الروض المعطار (هي مدينة سهلية وقاعدة من قواعد الاندلس عامرة القطر كثيرة التجارة , وبها اسواق وحط وقلاع وبينها وبين البحر ثلاثة اميال , وهي على نهر جار ينتفع به ويسقي المزارع ولها علية بساتين وجنات وعمارات متصلة والسفن تدخل نهرها وسورها مبني بالحجر والطوابي , ولها اربعة ابواب.....)3856 سورويا

السيرة الذاتية:

ولد سورويا عام 1862 في مدينة بلنسية وتوفى والديه وكان عمره حوالي سنتين فتكفلت برعايته وتربيته اخته اوخينيا Eugenia. وقد اشتغل الطفل في بداية حياته مع زوج عمته والذي كان يعمل حدادا وصانعا للاقفال وكانت النية ان يتعلم الحرفة... ولكن الطفل غادرها رافضا تلك المهنة فتوجه الى مدرسة للهوات وتعليم الرسم. وعندما بلغ 15 سنة من العمر سجل في مدرسة – سان كارلوس للفنون – واشترك في المعارض التي تقام في المدينة.... وفي سنة 1879 سافر الى مدريد وكان عمره 18 سنة. وهناك اشترك في المعرض الوطني للفنون بثلاثة لوحات تمثل مناظر من البحر.. وقد استغل وجوده في مدريد فذهب الى متحف البرادو El Prado واخذ يدرس ويستنسخ اعمال الفنان الاشبيلي - فيلاسكس – 1599-1660 -... ويبدو ان الفنان فيلاسكس كان نقطة انطلاق وتعلم لكل الفنانين الكبار.. فعندما حط غويا 1748 -1826 في مدريد كان قد توجه الى دراسة اعمال فيلاسكس.. وعندما ظهر بيكاسو قام برسم واستنساخ الكثير من اعمال فيلاسكس منها لوحة – الاميرات – Las Mininas وقد رسمها بيكاسو اكثر من 50 مرة باسلوب تكعيبي حديث وبالوان متنوعة وكان قد اثبت فيها مهارته العالية وعبقريته الفذه.. وهي الآن معروضة في متحف بيكاسو في برشلونة..3857 سورويا

حصل على منحة دراسية الى روما عام 1884 لدراسة الرسم لمدة اربع سنوات. ثم سافر الى باريس عام 1885 واطلع على الحركة الفنية الحديثة.. عاد الى بلنسية وتزوج من كلوتيلد غارثيا عام 1888 وانجب منها ثلاثة اطفال.. ثم استقر في مدريد عاصمة الثقافة والفن وكانت له علاقات فنية واسعة مع عدد من الاساتذة في مدريد منهم البروفسور خوسيه خمينث اراندا حيث استطاع من خلالهم رفع مستواه ووعية الفني , متطرقا الى رسم المواضيع الاجتماعية...

في عام 1900 استطاع سورويا ان يحصل على مركزا عالميا في المعرض العالمي الذي اقيم في باريس من خلال لوحاته الانطباعية التي تمثل مواضيع البحر والشواطئ والصيادين... وفي عام 1906 اقام سورويا اول معرض له في باريس في كاليري Georges petit. ثم عرض في مدن اوربية اخرى.. وفي سنة 1911 كلف سورويا برسم 14 جدارية للمعهد الاجتماعي الاسباني الامريكي وبدأ بالعمل سنة 1913 وانتهى منه سنة 1919 وكانت تمثل مشاهد من العادات والتقاليد الاجتماعية الاسبانية... ومن اشهر اعماله – حزن الوراثة – التي رسمها سنة 1899 وتمثل اطفال معاقين قرب البحر. وقد عرضت اللوحة في المعرض العالمي في باريس عام 1900 ونال الجائزة الاولى. وفي سنة 1981 اقتنيت اللوحة من قبل كنيسة في نيويورك...

توفى سورويا عام 1923 في مدريد بعد مرض عضال..3858 سورويا

متحف سورويا:

انشأ المتحف في مدريد رغبة من زوجة الرسام سورويا - كولتيلد غارثيا - حيث اعلنت بشكل رسمي ترك الورثة الفنية الى الدولة الاسبانية عام 1925 على ان ينشأ لها متحفا خاصا بها.. ثم تقرر ان يكون المتحف هو نفس منزل وورشة الفنان سورويا.. وفعلا تم ذلك وكان اول من شغل مديرا للمتحف ابن الرسام خواكين سورويا حتى وفاته سنة 1948... لقد زرت المتحف اكثر من مرة وهو غاية في الجمال والسحر..

***

د. كاظم شمهود

لم يستمع الزوج (اللورد ليوفريك) حاكم ولاية كوفنتري الإنكليزية إلى نداءات زوجته (الليدي غوديفا)، بعد أن اشتكت إليه مراراً، وتوسلت إليه أن يخفف ضرائبه التي فرضها على الناس الفقراء، إلى أن جاء اليوم الذي وجد نفسه في تحدٍ وقح لمطالبها، فعرض عليها موافقته في الاستجابة لها، بشرط أن تمتطي جوادها عارية، وتجوب شوارع المدينة، معتقداً أنها سترفض عرضه الرخيص، وسيكون قد تخلص من مضايقاتها بالشكوى الدائمة، لكنه تجمّد في مكانه حين وافقت الزوجة على شرطه وتنفيذه في الحال، لم يكن يتوقع من زوجته المتواضعة الخجولة إقدامها على هذا القرار، ولا الناس كانوا سيصدقون ما تفعله الزوجة من أجلهم، فجهّزت جوادها وامتطته عارية، على هيئة الفارس الرجل، لا يغطي عفافها إلّا شعرها المسترسل الطويل.3798 alhakika

كأغلب القصص المثيرة في التاريخ، استهوت هذه الحكاية العديد من الرسامين والنحاتين لما تتضمنه من معانٍ إنسانية نبيلة، فقدم الفنان "جون كوليير*" واحدة من أشهر أعماله الفنية "امرأة عارية على ظهر حصان" التي نفذها عام 1897، وهي محفوظة الآن في متحف هربرت للفنون في مدينة كوفنتري البريطانية.

السيدة غوديفا ليست مجرد قصة تاريخية أسطورية، المرأة العارية، الشابّة النحيلة على ظهر جواد، هي محور أفكار ما قبل الروفائيلية؛ إنه السعي وراء الجمال وضبط النفس والقرب من الطبيعة، التواضع والجمال والتحدي هنا هي الفكرة الأساسية للعمل.

ما كان صادماً أكثر للأمير ليس جرأة زوجته وحسب؛ إنما صدمته الأكبر كانت من أهالي كوفنتري الذين امتنعوا من النزول إلى الشارع، والتزموا بيوتهم تضامناً مع غوديفا، أسدلوا ستائر نوافذ منازلهم ليتجنبوا النظر إليها، وإحراجها تقديراً منهم لتضحيتها وتفانيها من أجلهم، مما أجبر ليوفريك إلى الرضوخ لتنفيذ مطالبها ورفع الحيف عن أبناء المدينة، وإلغاء الضرائب المجحفة.

ووفقاً للأسطورة التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر، أن شخصاً واحداً فقط هو الخياط (توم)، لم يستطع مقاومة فضوله في اختلاس النظر إليها، ففتح نافذته قليلاً، أغواه تهوره ورغباته المكبوتة إلى عدم الاستجابة لمناشدات أبناء مدينته في ملازمة المنازل، لُقّب لاحقاً بـ(توم مختلس النظر)، تقول الأسطورة إنه أُصيب بالعمى كعقاب من السماء لفعلته الدنيئة، ومن هذه الحكاية اشتهر المثل الإنكليزي " peeping tom" أو توم المتلصص. في علم النفس يعرّف التلصص، بأنه سلوك قهري مرضي يرافقه اضطراب نفسي، يصيب أولئك الذين يعانون من انحراف جنسي، يجد صاحبه نفسه مضطراً ومدفوعاً إليه لا شعورياً لإشباع حاجته النفسية.

منذ ذلك التاريخ أصبح هذا الحدث تقليداً ثابتاً تحتفي به كوفنتري سنوياً في شهر حزيران؛ إذ تجوب (غوديفا الرمز) الشوارع على حصان أبيض يرافقها رجل يوحي أنه "توم مختلس النظر"، وفي حينها تم نحت تمثال خشبي للخياط توم، ونصبه في الشارع المؤدي إلى سوق كوفنتري ليصبح أيقونة للسلوك المنحرف، وتوجد نسخة طبق الأصل عن التمثال أمام كاتدرائية كوفنتري.3799 alhakika

تستمد اللوحة قوتها من المشاعر الإنسانية، والتخيل الفردي للأحداث، الفنان أراد هنا أن تلامس تجربته حدود الكشف عن طاقاته للتعبير عن روح الخجل التي تختفي في الأعماق، هناك حوار متعارض بين رأس الجواد المرفوع إلى الأعلى بتحدٍ، ورأس غوديفا المنحني إلى الأسفل، وهي تستعين بيدها اليمنى لتغطية صدرها بشعرها الطويل، المشهد يوحي بالعفّة والحياء، شوارع المدينة خالية، صامتة، خافتة، توقظ في نفس المتلقي مشاعر أنيسة حانية، مثل هذه المجاورة تبعث فينا إحساساً بعدم إغفال إغراءات اللون في الطبيعة، حتى الألوان الخافتة بدت مشعّة، متوهجة، تتدفق من أعماق الظلال الشفافة في توافقات نغمية نابعة من التقاطعات الحادة التي تفصل بين النور والعتمة، في الجدران والأقواس والأعمدة، بين الفضاء والداخل، في اللون وإبداعه تتحدد فلسفة الفنان، بل إن اللوحة ترتكز على توافق الألوان وانسجامها، كوليير أتقن توزيع الكتل والحركة، ومنحها امتداداً وعمقاً من خلال حركة الجواد، المفردة التشكيلية القابلة للتجريب والتعبير عن الرؤى والأفكار المتعددة، الجواد بإزاره الجميل المرصّع بالذهب يرمز إلى القوة والجمال والحب والبطولة.

الرسام كان مغرماً بالحصان، كمن يستنطقه أو يحاوره حواراً خفياً، بلا ادّعاء بمهارة الفنان في قوة الإبلاغ، عبر حركة الحصان وتوثبه، أو في إشراك المشاهد بشعور تأنيب الضمير، فإذا كان هذا المنجز قائماً على تضاد لوني الجسد والإزار؛ فإنهما اجتمعا في نقطة واحدة ما كعائلة لونية منسجمة، وبذلك نجح كوليير في توصيل المشاعر الإنسانية للمتلقي بكل ما تمتلك نفسه من وهج حدسي، فالقوة التي يمتلكها هنا قابلة على ترصين التعبير، بفعالية وجمالية سامية، كما قدم الرسام درساً أخلاقياً تقاسمه أبناء المدينة مع السيدة غوديفا، الأخلاق التي لا يجافيها الذوق والوجدان، والوعي بحقيقة (العري).

وضِمن هذا النسق تأثر فنانو القرن التاسع عشر وما تلاه في أحداث القصة الأكثر جاذبية لهم في الموضوع، تناقلوها، وحاولوا تمثلها كل حسب رؤاه الفنية وأسلوبه، ومن بين أهم النصب النحتية التي نفّذت وفق هذا السياق، تمثال السير وليام ريد ديك الذي أنجزه لصالح بلدية كوفنتري عام 1949، بطريقة مختلفة تماماً عن عمل كوليير، ووفق وضعية ركوب الخيول من قبل السيدات آنذاك، السيقان تتدلى على جانب واحد، على خلاف وضعية الامتطاء الرجولي للحصان من قبل غوديفا.

حصان وليام ريد أكثر قوة في التقاطيع والحركة، يبدو متوثباً جامحاً، لعلّ التوثب من أجل اجتياز العقبة، واحدة من علامات القوة في بلاغة التعبير، مع إضمار الدعوة في الرفض وعدم الخضوع للضعف أمام معوقات الوجود، كما يتكامل جمالياً مع الجسد العاري المنساب بهدوء واطمئنان من على ظهر الحصان.

خلاصة القول؛ إن الموقف الأخلاقي يجد تبريره المطلق في إحياء هذا الحادث الفريد في التاريخ، وتسليط الضوء على كثافة العمل الدرامية، بما يحمله من صدق ووضوح، فالبرغم من أن العري كان محوراً أساسياً للفن الأوربي؛ فإن كوليير لم يفتعل الحدث، ولم يذهب للجسد العاري كوسيلة مقنعة للتعبير الإبداعي، إنما اكتسب جسد الأنثى العارية معنى جديداً ومختلفاً، فكانت اللوحة مقيدّة بالحياء والوقار وجاذبية الجمال.

***

د. جمال العتّابي

........................

*  جون كوليير John Collier (1850- 1934)، فنان تشكيلي ومؤلف إنكليزي، تأثر بأسلوب ما قبل الروفائيلية، وهي رابطة لمجموعة من الفنانين يركزون على استخدام الضوء والألوان الزاهية في الطبيعة، انضم للرابطة التي تشكلت عام 1848 احتجاجاً على المستوى المتدني للفن الإنكليزي آنذاك.. وكان أحد أبرز رسامي البورتريه من جيله، ينتمي لعائلة موهوبة، يحتفظ المتحف الوطني البريطاني والمتاحف الأخرى بعدد من أعماله الفنية. مُرسل من بريد Yahoo لجهاز iPhone

بعد خمسة 45 عاما في الرسم والحفر والطباعة بكافة تقنياتها الفنانة نعمت الناصر في معرض اسعادي بابل

لم تنل الفنانة نعمت الناصر نصيبها من النقد الفني والنقل الاعلامي، مع انها كانت ولما تزل من بين افضل الفنانين في اقليم الشام ( سوريا، الاردن، فلسطين، لبنان ) ربما لأنها لم تتنازل عن ثوابتها المهنية والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية، لصالح التيارات الثقافية والاعلامية التي غطست في مستنقع التضليل الثقافي والاعلامي الغربي، الذي يروج لمشاريع تسعى الى تدمير البنية الانسانية السوية وفطرتها. لصالح خرافات عقائدية، كالبقرة الصفراء واخواتها .

ويبدو ان الفنانة نعمت الناصر تظلّ تحمل تاريخها الفني او عينات منه وتعرضه في هذا المكان او ذاك مستهدفة نشر الثقافة البصرية على مستويات عديدة اهمها الارتقاء بالذائقة الفنية والحس الانسانيين، ليس في حدود الفن وحسب بل في مفهوم العدالة والنبل ومقاومة الظلم ونبذ الكراهية لكل ما يخرج عن سوية الانسان وفطرته، نجد هذا التنوع الكبير متجسدا بالمواضيع والتقنيات والاساليب والرؤى، والذي قد يحيله البعض إلى مراحل نمو وعي وثقافة وابداع الفنانة، ولكنها ليست الحقيقة كاملة، فالفنانة مجبولة على السعي المستمر نحو التغيير مع متزن ثقافي دقيق، أذ هي في قرارة نفسها تبحث عن شيء ما . شيءٌ يقلقها ويشكل لها همّآ وهاجسا انسانيا وفنيا تحاول استظهاره او المرور عليه او حتى تحقيقه، بعضه تحقق والبعض برسم التحقيق وبعصه صعب جدا تحقيقه وبعضه يتعدى عمرها الزمنى وبعضه ابدا لن يتحقق، فغاية ما يبحث عنه المبدع الحقيقي لم تحققه بعد الانسانية بتوالي وتكامل اجيالها،، ربما اخره الخلود !!.

الناصر منشغلة كثيرا بالإنسان وانفعالاته وحركاته وحضوره وغيابه أكدت هذه الحقيقة عناوين اللوحات، باعتبارها مفاتيح الاعمال الفنية اذ نلاحظ عناوين مثل (انتظار ولقاء ورقص وحوار وفرحة ولا للحرب ولا معقول وتحرر... تلصص والمصلوب و امرأة وام وامومة وعدد آخر من عناوي اللوحات وكلها تتناول الإنسان حتى تلك الأعمال البعيدة عن الانسان، حاولت الفنانة وبجدية عالية أنسنتها .3792 nimat

يلاحظ جليا في بعض اللوحات انفعالات الانسان وحسب الحالة التي هو فيها او يمر بها ولكن الغالب والطاغي هو الحزن الذي يغلف الخط ويفرش نفسه ممتدا علي مساحات اللون بينما الاسود والابيض في لوحات الكوليغراف يظل الخط هو الاداة والطريق الذي يمر منه حزن الفنانة ليستريح في الظل اللون الرمادي،

احيانا يرتفع الحزن ليصل درجة الغضب، عندها تظهر الشدة مجسدة في الحركات العصابية التي تدعمها الخطوط القوية الحادة والمستقيمة وعملية الحفر التي تضيف لها الثبات والعمق ... مع هذا كله يظل المهيمن على اعمال الفنانة والغالب هو الحزن الهادئ والتأمل. ومحاولات الالتآم والتعشيق مدفوعة بالانتماء المتبادل لعنصرين من عناصر الوجود وهما الإنسان الرجل والمرأة . يغلب على الخطوط الانحناء فهي خطوط منحنية بشكل رقيق وحنو مفعم بالعاطفة والود ولكن لم يغادره الحزن . كما تنوعت المواضيع عند الناصر فان تعدد التقنيات والاساليب والادوات كان كبيرا ومتنوعا.. وكما بقي الإنسان سيد مواضيعها، فان الحفر بقي سيد اساليبها والفاعل الأكثر حضورا وتأثيرا في أعمالها، ذلك لانها على علاقة طويلة وقوية مع هذا الفن الذي جعل من اناملها اشبه ما تكون باسنان سنجاب فنان ليس على الخشب فقط بل على صفائح المعادن ايضا فقد تعاملت بالحفر علي الزنك واللينوليوم والمونوبرنت ولكنها لم تتوقف عند هذه التقنية والادوات وقد نفذت بعض اللوحات التي تخوض قلق الانسان بالكوليغراف او قلم الرصاص كما في لوحة - أم - ويتضح من خلال التمعن في اعمالها ان الفنانة تختار التقنية او الأداة التي تناسب الموضوع بعينه لكي تضيف عليه الأدوات والتقنيات، ما لديها من قوة تعبيرية . وهذا الاسلوب الفني الذي ظل يتنقل في اعمالها من الواقعية حتى التجريد.، ولكن الهيمنة كانت وظلت للتعبيرية بحكم الموضوع واسلوب العمل التقني والملاحظ أيضا ان جميع اعمالها من الحجم الصغير والمتوسط وكأنها تقدم عينات وخلاصات فنية مكثفة، وبهذه الاعمال المتنوعة موضوعات وتقنيات واساليب ورؤى فنية وفي عملها هذا تخط نعمت الناصر خطا فنياً منفردا وخاصا بها قد يكون التنوع أهم وأبرز ملامحه ولكنه يختزن الكثير من الإبداع الذي يحتاج الى منقب يعلمه ويعرف قيمته ويستظهره.

***

محيي المسعودي

في كتابه التأسيسي الأهم "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة" يلاحظ مؤسس الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا العراقية الحديثة الراحل طه باقر أن آراء الباحثين اختلفت في أصل اسم العراق القديم ومعناه. وتتوزع الآراء على ثلاثة احتمالات؛ الأول هو الأصل العربي لكلمة عراق؛ والتي تعني شاطئ البحر أو الشاطئ مطلقاً، والاحتمال الثاني الفارسي من كلمة (إيراه) أي الساحل بالفارسية، وعربها العرب إلى عراق، أو من الفارسية "إيراك" كما يرى الباحث هرتسفلد والتي تعني البلاد السفلى والاحتمال أو التفسير الثالث الذي يعيد الاسم إلى التراث اللغوي العراقي القديم "الرافداني" والأكدي تحديدا.

أعتقد شخصياً أن التفسير الفارسي هو أضعف التفاسير والاحتمالات المعروضة هنا، لأن الفرس شعب حديث النشأة والظهور على المشهد التأريخي في المشرق، فلم يكن له ذكر قبل أن يُسْقِط الدولة البابلية الحديثة "الكلدانية" في القرن السادس ق.م، ويدمرها بحرب غادرة بعد أن كانت حليفته ضد الدولة الآشورية، ولكنه غدر بها وأسقطها سنة 539 ق.م، بل أن دولة عيلام في جنوب غربي إيران الحالية وذات اللغة التي لا علاقة لها باللغة الفارسية أقدم من الدولة الفارسية الأخمينية بكثير، في حين أن دول حضارة وادي الرافدين تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل ظهور الفرس الأخمينيين. وطَوال قرون السيطرة الفارسية على العراق القديم لم نجد أثرا لهذا الاسم سواء بلفظ "إيراه" أو "إيراك" بالمعنيين المذكورين. والراحل طه باقر نفسه يذكر في موضع آخر من كتابه أن اسم العراق لم ينتشر بهذا اللفظ إلا في أواخر العهد الفارسي الساساني أي في عصر ما قبل الإسلام "العصر الجاهلي". وعلى هذا، يمكن الاستنتاج أن تكون كلمتا إيراه وإيراك الفارسيتان ذاتيْ أصل رافداني كما سنوضح بعد قليل مع اسم "إيرقا" الذي ظهر في القرن الثاني عشر ق.م. ويبقى الاحتمال الثالث والأخير وهو الأصل الرافداني القديم لاسم العراق وهو شديد الصلة والارتباط باسمين رافدانيين قديمين، وفيه يفصل باقر فيقول:

يعتبر طه باقر هذا الرأي القائل بالأصل الرافداني "رأيا جديراً بالاعتبار رغم عدم إمكانية الجزم به تماما" كسائر المواضيع والاسماء التأريخية التي لا تتوفر نصوص كافية ودامغة تؤكدها. وخلاصة الرأي الأخير هي أن اسم العراق يرجع إلى تراث لغوي قديم سومري أو لقوم قبل السومريين (صدر كتاب باقر سنة 1951 ولم يكن أحد يشكك آنذاك بوجود السومريين كشعب، كما هي الحال الآن. رغم أنه أبدى بعض الملاحظات التي يفهم منها أنه لا يتفق مع بعض كريمر الذي رسخ وجود السومريين كشعب وحاول أن يجعلهم أسلافا للعبريين كما يقول تلميذه الباحث نائل حنون).

ووفقا لهذا الرأي لباقر فإنَّ اسم العراق مشتق من كلمة مستوطن، وتلفظ (أوروك / أونوك). وأصبحت هذه الكلمة اسما لمدينة أوروك (عُربت إلى الوركاء). ونقطة ضعف هذا الافتراض أن هذا الاسم "أوروك" لم يتم تعميمه بهذا اللفظ ليطلق على البلاد كلها. ويبدو أن الراحل طه باقر أغفل هنا قرب هذا اللفظ من اللفظ العربي بعد تحولاته التي يوجبها المذاق اللغوي العربي والظرف التاريخي المتغير من أوروك إلى عوروق إلى عُراق وأخيرا عِراق. ثم يتوقف باقر عند رأي الباحث الأميركي إلبرت أولمستيد مؤلف كتاب (HISTORY OF ASSYRIA)، غير المترجم إلى العربية، وفيه يذكر على ص 60، أن أول استعمال لكلمة عراق جاء في وثيقة تأريخية ترقى في تأريخها إلى العهد الكيشي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وجاء فيها اسم إقليم على هيئة "أريقا" الذي صار هو الأصل العربي لبلاد بابل. وأعتقد أن هذا الرأي هو الأقوى والأرجح بين الآراء المطروحة هنا. ويستعرض باقر ولادة وتحولات اسم الإقليم عبر التأريخ كالآتي:

* كان حكام دويلات المدن في العراق القديم، في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، يلقبون أنفسهم باسم (المدينة / الدولة) التي يحكمونها فيقال "حاكم لجش = آنسي لجش" أو "حاكم أور = آنسي أور". وفي حدود أواخر ذلك العهد الذي يسمى عصر فجر السلالات (2800 – 2400 ق.م) ابتدع الحاكم لوكال زاكيزي اسما ملكيا لنفسه هو (ملك الأقاليم، تكتب بالعلامات السومرية = لوكال – كلام – ما). وكلمة أو علامة (كلام) تضاهي إقليم العربية لفظا ومعنىً. وتعني تحديدا وطن الشخص. أما كلمة (كور) فتعني بلاد أجنبية.

* في حدود ذلك الزمن أو بعده بقليل ظهر اصطلاحان جغرافيان مهمان الأول هو (بلاد سومر وبالعلامات السومرية = كي – إن – جي) للقسم الجنوبي من السهل الرسوبي العراقي القديم والثاني هو (بلاد أكد وبالعلامات السومرية= كي – أوري) للقسم الأوسط من ذلك السهل.

*في الكتابات الأكدية السامية تكتب بلاد سومر (مات شومريم) ولا تعني هذه العبارة أية إحالات قومية إلى شعب أو عِرق محدد بل تعني حرفيا "أرض سيد القصب" أي أنها وصف للبيئة التي عاش فيها الناس في جنوب العراق المكتظ بالقصب والبردي والمستنقعات. أما العبارة التي ترجمها كريمر إلى السومريين أو الشعب السومري فهي " ساد دك" أي سود الرؤوس وهي تضاهي العبارة العربية "سواد الناس" أي عامة الناس وتلفظ باللغة الأكدية "صالمات قاقدم". وربما كانت هذه العبارة تضاهي من حيث المعنى عبارة في لهجات المغرب العربي هي "كُحل الروس/ أو الراس الكحلا" كما سمعتها في الجزائر الوسطى في ثمانينات القرن الماضي كصفة وتشير العبارة إلى الناس ذوي الأصل العربي أو إلى عامة الناس في مقابل المستعمرين الفرنسيين البيض السابقين. أما بلاد أكد فكانت في اللغة الأكدية تلفظ (مات آكاديم) أي بلاد الأكاديين بمعنى الناس الناطقين باللغة الأكدية.

* استعمل الملك سرجون الأكدي مؤسس السلالة الأكدية (2371 – 2316 ق. م) أو حفيده نرام سين (2291- 2255 ق.م) لقبا سياسيا جديدا هو ملك الجهات الأربع (بالعلامات السومرية = لوكال – أن – اوب – دال – ليمو –با) وفي الأكدية (شار – كبرات – أربايم) لاحظ كلمة (أربايم) التي تضاهي لفظا ومعنى كلمة (أربعة) العربية.

* وفي أوائل عصر سلالة أور الثالثة (2112 -2004 ق.م) وفي عهد الملك أوتو حيكال الذي حرر الإقليم من الاحتلال الكوتي ظهر اسم ملك بلاد سومر وأكد واستمر خلفاؤه في استعمال هذا اللقب إلى جانب لقب (ملك مدينة أور). وظل هذا اللقب مستعملا حتى عصور متأخرة.

* استُحْدِثَت أسماء أخرى في عصور لاحقة منها بلاد بابل (بابيلونيا) وبلاد آشور (أسيريا) ومن هذا الأخير سيشتق الغزاة السلوقيون اسم ولاية "سوريا" في القرن الرابع ق.م، ويطلقونه على أجزاء متجاورة شرق وغرب نهر الفرات. وابتكر الكيشيون الذين استولوا على الإقليم بعد سلالة بابل الأولى في منتصف القرن الثاني عشر ق.م، اسم (كار دونياش) أي " بلاد دونياش". ودونياش هو أحد الآلهة الكيشية.

* الكيشيون شعب جبلي لا علاقة له بالفرس ولا بالإغريق لغةً وأرومةً وثقافةً، وقد اجتاح بلاد الرافدين منطلقا من موطنه في جبال زاغاروس واستولى على بابل سنة 1551ق. م وأقام سلالة حكم اندمجت بالحضارة الرافدانية واتخذت لغتها وأديانها ثم هزمها العيلاميون فزالت من الوجود سنة 1155 ق.م في عهد ملكها الكيشي البابلي إنليل نادين أخي.

* وقد استعمل بعض المؤرخين والجغرافيين الإغريق والرومان وأولهم هيرودوتس اسم بابيلونيا واسم آسيريا أي بلاد آشور على الإقليم كله او على الجزء الأوسط والجنوبي منه. ونذكِّر بأن اسم (أسيريا) تحول في القرون اللاحقة وبالضبط في عهد الاحتلال الإغريقي السلوقي (307 ق.م) إلى اسم مقاطعة سوريا المحتلة كما أسلفنا والتي تقع في سوريا العربية الحالية والجزء الغربي من بلاد آشور (مات آشور) القديمة في العراق الحالي. كما استعملوا اسم بلاد كالدية أو كلدية نسبة إلى الكلدان الآراميين الذين حكموا بلاد الرافدين قبل انتهاء عصر الحضارات الرافدانية القديمة.

* بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد ظهر كتابات اليونانيين والرومان المصطلح الجغرافي المعروف بلاد ما بين النهرين بالتسمية الإغريقية (ميزوبوتامية) وشاع استعماله عند الكتاب الأوروبيين لإطلاقه على هذه البلاد كلها أو بعضها. وأوضح استعمال لهذا المصطلح ورد في كتاب المؤرخ الروماني بوليبيوس (202 -120 ق.م) وبعده استعمله سترابون وأطلق الاسم على الجزء المحصور بين دجلة والفرات حتى حدود بغداد المعاصرة.

إن انتشار هذا المصطلح يعود إلى الترجمة السبعينية لتوراة إلى اللغة اليونانية في عهد البطالمة في القرن الثالث ق.م.

* لكن الإقليم الذي ورد ذكره في التوراة باسم "آرام نهاريم - سفر التكوين: 10-24" وتعني "بلاد ما بين النهرين" يرجح أن المقصود به تلك الأرض الوقعة بين نهر الفرات ورافده الخابور أو رافده البليخ أو كلا هاذين النهرين مع الفرات وليس البلاد كلها. ولكن، وبعد أن تم ترجمة هذا الاصطلاح الى اليونانية من التوراة السبعينية، شاع في اللغات الأوربية وصار يعني بلاد العراق القديم كلها.

* وقد وردت تسمية بابلية قريبة من التسمية التوراتية وأقدم منها بأكثر من الأف عام وهي (مات بريتم) أي "أرض المابين". كما ورد اسم "بريت نارام = بلاد مابين النهرين" واسم " نهارينا " الذي أطلق على المملكة الميتانية شمال بلاد الرافدين في تركيا المعاصرة في وثائق تل العمارنة بمصر والمكتوبة باللغة الأكدية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

* وفي أواخر عهد الاحتلال الفارسي الساساني للعراق ساد اسم العراق عند العرب في العصر الجاهلي، وتكرس في أشعارهم. واقترن اسم العراق عندهم بالرخاء ووفرة الخيرات، إلى جانب أسماء من قبيل أرض السواد لخضرته ووفرة المزروعات وغابات النخيل فيه، واسم (عراق العرب) تمييزا له عن (عراق العجم) الذي يشمل / إقليم عيلام في جنوب إيران.

* صورة غلاف الطبعة الثانية من الكتاب وهناك طبعات مقرصنة منه طبعت بعد احتلال العراق من قبل دور نشر لم تحصل - كما قيل - على أي إذن من ورثة العلامة الراحل أو تمنحهم حقوقهم من عائدات الكتب! ولكن الطبعات اللاحقة التي صدرت في حياة العلامة باقر كانت أكثر تدقيقا ومزيدة كما قال هو نفسه في مقدمته لآخر طبعة من الكتاب وهي التي اعتمدتها كمرجع في كتابة هذه المقالة والمقالات الشبيه بها.

***

علاء اللامي

 

ولد خالد في بغداد عام 1926و يعتبر من ابرز النحاتين العراقيين الذين لازالت اعمالهم شاخصة في كثير ميادين بغداد وروما.

نشأ خالد في بيئة عائلة فقيرة وترعرع وتربى في ازقة بغداد القديمة، ومع شبابها الطليق المتمرد، وتذكر زوجته المغربية مليكة بان والديه كانا يتعاملان معه بقسوة وشدة حد الضرب، ولهذا كان يلتجأ الى الشارع لحماية نفسه ويعيش اشبه شئ بالمشرد. هذه البيئة الفقيرة والقاسية تركت بصماتها على نفسية خالد وسلوكه طيلة حياته. وتذكر مليكة انه كان حاد المزاج وعصبي جدا، فاذا ثار يحطم ويكسر كل شئ امامه، وكأن قساوة والديه وسوء تعاملهم معه، تظهر عليه بين الحين والاخر، ثم يهدئ ويعود الى وعيه ورشده الطبيعي.3706 خالد الرحال

في احد الايام زار الناقد والكاتب الالمعي جبرا ابراهيم جبرا ورشة خالد وكانت تقع في الحي التجاري في بغداد وكان يصنع فيها تماثيل يكلف بها من جهات رسمية وغير رسمية. فقال جبرا " (لن انسى ابدا كيف في احدى الامسيات في عام 1948، كان يبلغ من العمر 22 سنة وغير معروف اخذني الى غرفة صغيرة رثة في منزل صغير رث في احدى اقدم احياء بغداد، حيث جلسنا على عجل من امرنا على حصيرة، ثم اخرج مثل الساحر كومة من اجمل الرسومات، وكثير منها كانت دراسات نحتية. كانت في الغالب رسومات لنساء في الحمامات او الرقص الشرقي او ممارسة الحب (... ) كلها سمينة مليئة الجسد تهتز بقوة الحياة).

كان خالد قد درس في معهد الفنون الجميلة على يد جواد سليم وكان من احب التلاميذ اليه. وتخرج منه عام 1947. وكان قد عمل في المتحف العراقي لاستنساخ القطع الاثرية القديمة كغيره من الفنانين الرواد الذين اشتغلوا تحت اشراف مدير الاثار العامة ساطع الحصري في بداية النظام الملكي، وكان صاطع مؤسس الفكر القومي في العراق. ثم تغير وجاء من بعده مديرا للاثار ناجي الاصيل وكان خالد يعمل تحت اشرافه.. بعد ذلك حصل خالد على منحة دراسية في مطلع الستينات لدراسة النحت في اكاديمية روما، وحصل من هناك على الماجستير في النحت عام 1964.3707 خالد الرحال

حكى لي صديق (فنان سوري اسمه ممدوح قشلان ـ 1929 دمشق) قصة طريفة عن خالد، وكان قد درس الفن مع خالد وفي نفس الصف. فذكر لي انه في يوم من الايام كان عندهم درس نحت لموديل عاري وكانت المرأة تقف امام الطلبة عارية ويشكل الطلبه حولها نصف دائرة ويبدؤن بتجسيدها على مادة الطين او غيرها. وذكر انه في اثناء الدرس كان خالد بين فترة واخرى يذهب الى الموديل ويلمس صدرها ونهديها ليتحسس الحجم والطراوة.. فكان ذلك يثير الضحك واستغراب الجميع..حتى قال له الاستاذ، هذا العمل غير جائز تمسك صدرها ومؤخرتها. فنهاه وامتنع.

كان خالد رجل عملي (شعبي..) وكان كل شئ يقع في يده من مادة خام يطوعها وينحتها، وقد كلف بتنفيذ كثير من الاعمال النحتية في روما. ولكنه لم يتقن اللغة الايطالية كما ينبغي.. ويذكر انه في يوم من الايام كان مسافرا في قطار وكانت الى جانبه امرأة عجوز، فعندما وصلوا الى احد المحطات سألته المرأة العجوز، في اي محطة الان هم ؟ فاخرج خالد رأسه من النافذة ورأى قطعة مكتوب عليها عبارة، فقراها الى السيدة. فتعجبت ونظرت اليه باستنكار ثم اخذت حقيبتها وانتقلت الى مكان اخر؟ فادرك خالد ان هناك شئ غريب حدث؟، فالتفت الى احد الركاب وطلب منه قراءة الكتاب التي في تلك القطعة فقال له مكتوب عليها (ممنوع التدخين). فضحك خالد وعرف السبب من هروب السيدة الى مكان اخر..

وتذكر المصادر التاريخية بانه اثناء الحرب العالمية الثانية كان قد تواجد في بغداد ثلاثة من الفنانين البولونيين وكان لهم الاثر الكبير على الفن والفنانين العراقيين حيث غيروا دفت مسيرة الفن العراقي نحو المدارس الاوربية. وكان خالد واحد من الذين استقبلوا هؤلاء الفنانين وتأثر بهم.3708 خالد الرحال

اعمال خالد

عندما كان خالد يعمل في مديرية الاثار كان قد استنسخ رأس الملكة السومرية شبعاد وزينها بجواهر حلي الملكة التي عثر عليها في مقبرة اور. مما اتاح له هذا العمل دراسة الوجوه السومرية ومقارنتها بوجوه نساء الجنوب. فيقول خالد : ان بائعات اللبن هن استمرار لحياة الشعب السومري خاصة الحواجب الملتقية والعيون المفتوحة الحادة البصر. وكانت اغلب اعمال خالد مستوحات من تماثيل بابل واشور وكذلك الفن الاسلامي.

و بعد عودته من روما كان في زمن سقوط الملكية وقيام الجمهورية 1958 حيث قام بعمل تمثال الامومة في زمن عبد الكريم قاسم عام 1961. وفي زمن صدام كلف بعدد من الاعمال العملاقة ضمن الخطة التي وضعتها الحكومة لتزيين العاصمة بغداد والتي تتماشى مع الفكر القومي. ففي عام 1973 قام بعمل نصب المسيرة وتمثال المنصور عام 1976 وقوس النصر عام 1986 ونصب الجند المجهول عام 1979. وتقول مليكة زوجة خالد ان اكثر الاعمال التي اخذت منه وقتا طويلا هو الجندي المجهول حيث استعان بمعماريين ومصممين بعضهم اجانب. والنصب يمثل درع محارب ساقط. وترك خالد وصية ان يدفن قرب نصب الجندي المجهول، وفعلا نفذت الوصية ولازال القبر في ارض خضراء بسيطة محاط بسياج ارتفاعه 15 سم وهو مهمل..3709 خالد الرحال

وكان لخالد ولدا اسمه محمد وكان نحاتا ورساما، وحسب قول مليكة انه متقد الذكاء والمهارة اكثر من ابوه؟. ولكنه لم يعش طويلا فمات بعد ذلك..و انظم خالد الى جماعة بغداد عام 1953 وكان احد ابرز افرادها وصديقا حميما لجواد. وعندما سمع بموت استاذه وصديقه جواد حضر الجنازة قبل تشييعها واجهش بالبكاء، ثم اخرج مادة (خاصة جلبها من روما وقيل جبس) وغطى بها وجه جواد بهدوء واعتناء واخرج قالبا اصليا لشكل وجه جواد، اصبح اليوم مرجعا لجميع الفنانين والباحثين.

***

د. كاظم شمهود

موجة ضياء خافت تغمر المكان (المنزل) الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر، تعيدك إلى عالم بلزاك الروائي الفرنسي توفي في آب/أغسطس 1850، الذي يضج بالنداء، بيت يجنبنا همّ الكلمات، ينسيك ثقل السنوات الصدئة، خصلات من الأشجار تظلل البيت المتواضع الذي يتصدى للنسمات المقبلة من (السين) أشهر أنهار العالم.

عناصر أليفة تتجاور فيه، تستمر في الحوار، نصغي‏ إليها بكل جوارحنا، إنصات هادئ حميم، سيجعلنا أقدر على فهم هذا التراث الذي يرتقي فيه الحب والاعتزاز بمنجز الخالدين، حد التنغيم اللوني في التشكيل، قطعة فنية مبسطة تحمل المتلقي نفسه على مشاهدة حرارة الحياة التي عاشها الكاتب، إنه ما يزال يطعم أزهاره المحيطة به بحنان، أليس هو القائل: إذا كان الجمال هو الذي يثير الحب، فالحنان هو الذي يصونه. كل الأشياء تصبح شواهد قوة، هذا وفاء للراحلين ما بعده وفاء.3677 بلزاك

غرف بتضادٍ لوني حاد، تماثيل نحتها فنانون كبار، كتب الروائي ومقتنياته، هدايا وأوراق وصولجان، مكتب من طاولة خشبية وكرسي تهفو النفوس الآن، إلى أن تجلس عليه لدقيقة واحدة، صندوق يمنحك بهجة جذلة، مكتبة صغيرة تشعرك بنكهة الكتابة، عطور تنثال من خفايا الماضي، وجه بلزاك الممتلئ الصارم، وشعره الكثيف المرسل بتفنن، يحدق فيك بعينين تلتمعان بزرقة شفافة، تحييها بسمة مكبوتة، كل الأشياء تصبح شواهد قوة، تغرينا بالتأمل في محاولات بلزاك السحرية لاقتناص أسرار العالم.

تندس حزيناً بين الزائرين، تفضحك أنفاسك التعبة فتتوارى في هذا الصمت، تعود لنبع الحنين، يا لقلبي! كل الدروب هنا لا تموت، إنها بلا نهايات، أعرني أيها الساكن هنا قلمك وأوراقك لأتوسدها، وحبرك لأشمّه، هاتني صولجانك لأطلّ به من نافذتك على تلك السحابات البيض الموشاة بأضواء الصباح، على متنها أروح إلى أودية الأحلام والسحر. أعرني أيها الطير جناحيك لأرفرف على ضفاف النهرين، إذ لا شيء سوى الأنقاض والوحشة.3678 بلزاك

منذ الخطوة الأولى على عتبة المنزل كان الرثاء الأول لمبدعينا في العراق، جميعهم من دون استثناء، أولئك الذين يجاوروننا بالحب والمعايشة الصافية، لِمَ نجافي هذا الجار ولا نصافيه؟ نختصم معه على الرأي الآخر، نقتسم معهم خبز المحبة سنين طويلة، فهم مشاريع كبيرة للحب والأمل والعطاء، تباريح فكرية وثقافية، كتابة وخلقا ونبلاً، ومواقف إنسانية، لا نحتفي بها إلا بالموت اللئيم، لنبدأ رحلة الإطراء بعد الرحيل.

صار على الأحياء أن يموتوا حتى يصبحوا أفذاذاً، وأن يمعنوا في الغياب حتى يتحولوا إلى عباقرة تجتمع في دفاتر أيامهم كل مآثر الرجال العظام.

هي أمنية أن نرى بيوتهم متاحف نعاودها بزهرة حب أو تحية وداد، أن نناديها من وراء أسوار حديقة. أفلا يحق لنا أن نشيّد رمزاً للمباهج العراقية الإبداعية العميقة؟ ونوفر الأسباب التي ترعى الحقوق، وتكفل الحد المناسب لحياة كريمة تحرر المبدع من الأسر الرسمي، بعيدا عن مزاجيات من ما زالوا يعيشون تحت خيام القبائل والطوائف.3679 بلزاك

العشرات، بل المئات من بيوت المبدعين اندرست، وتحولت إلى ركام ـ لا ضرورة لذكر الأسماء التي نعرفها جميعا، ترى من رأى منكم بويب، أو زار جيكور؟ من تجول في بصرياثا؟ يقيناً، القلة من يتذكر مقهى البرازيلية، ومقهى البلدية في بغداد– يا للحسرة أن تضيع الهيبة التي تمنح البلدان والشعوب مقامها على قدر احترامها لرموزها، ونسجت من ماضيها وحاضرها فضاءً لهواء التحضر والتقدم، وألفت ما بين فصوله، هل في إمكان الزمن أن يكون قادرا على إيقاف مواقف التأسيسات المكررة؟ لينقل المبدع إلى وجود الحياة في ولادة جديدة لا ينالها الزمن بنسيان، فشاهد المرمر البارد لا يعود برجع مؤثر، ولا يتحول إلى مزار مقروء بالمعاودة الحية.

***

د. جمال العتّابي

لقد شاع اعتقاد في القرن السادس عشر لدي النقاد وجمهور المثقفين بان النحت يتقدم على التصوير بثمانية درجات من ناحية الاداء الجمالي والجودة وضربوا مثلا، كالشجرة او الجسم معكوس ضله على صفحة الماء، فالجسم هو النحت والضل هو التصوير، ويعنون بالتصوير كونه ضلا لانه في الواقع مسطح له بعدين وان النحت  مجسم له ثلاثة ابعاد. غير انه هناك اراء مختلفة في الافضلية.. فدافنشي يعتقد ان التصوير اسمى من النحت لانه اكثر ذهنية وانه يفتح افاق واسعة امام الابتكار والخيال. اما مايكل انجلو فقال ان الاشياء ذات النهايات المتشابهة تتشابه هي نفسها وانه لا يمكن ان يكون هناك فرق بين النحت والتصوير فيما عدا تلك الفروق في العمل الاكثر صدقا واكثر اجتهادا.

نداء كاظم سار في اسلوبه على التقليد الواقعي التمثيلي. والمعروف ان الواقعية في الفن تنقسم الى قسمين الاولى الواقعية الحرفية والثانية الواقعية التمثيلية. وكل ما رأيناه في النحت والتصوير في العصور السابقة هو في حقيقته نموذج للاسلوبين الواقعي الحرفي  والواقعي  التمثيلي.. وعند التفحص والتأمل لاعمال نداء نجد ان هناك وعيا كاملا لمعرفة شخوصه التي نحتها من ناحية صفاتها الخارجية والنفسية الداخلية. وقد ساق كل اعماله الواقعية مساق التعبير عن واقعها النفسي والعاطفي. مثلا عندما نحت تمثال السياب في السبعينات اظهره بشخصية مهزوزة ومريضة جسمانيا.. ويذكر نداء انه كان تلميذا للسياب في مدرسة المعقل في البصرة ووصفه با نه كان يسير مرتعشا نتيجة لضعف بنيته الجسمية وانه عصبي المزاج، وكان يتكأ على عكازة اثناء المشي. وانه استوعب هذه الصفات وجسدها في تمثاله. من ناحية اخرى يذكر ندا انه كان احد تلاميذ جواد سليم قبل رحيله الى فلورنسا لعمل نصب الحرية، وانه يرى ان مواصفات تنفيذ النصب غير دقيقة مما احزن جواد. كما ان الجمهور لم يفهم في بداية الامر هذا النصب. ووصفه احدهم بالضفادع المعلقة على الجدار. هذه الامور وغيرها كانت من الاسباب التي احزنت جواد وعجلت في رحيله عام 1961.3664 نداء كاظم

الاسلوب والتقنية

كان نداء يخشى ان تسرق افكاره واعماله ولهذا كان حريصا ان لا يطلع عليها احد اثناء العمل. ولكن المتابع اليوم الى حركة الفن الحديث والعولمة ووسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك جعل من الصعب على اي فنان او مفكر او اديب ان يحبس افكاره داخل ورشته او نفسه، فكل شئ اليوم مخترق (ولو كنتم في بروج مشيدة فانكم مدركون).. هذا من ناحية. اما الاسلوب  الواقعي التمثيلي فهو اسلوب كان شائعا منذ العصور القديمة وظهر بارزا في زمن الثورة الروسية الاشتراكية عام 1917 وتأسيس المدرسة الاشتراكية في الفن.

نداء كاظم يعتبره البعض اخر المبدعين في فن النحت العراقي بعد جواد سليم وخالد الرحال ومحمد غني حكمت، حيث انجز اعمالا خالدة لشخصيات تاريخية ومعاصرة وهي الان تحتل كثير من ساحات المدن العراقية. ويقول نداء ان انجازاته النحتية هي عبارة عن تجارب تتابعية (مازال التجريب يستهويني ومازلت انجز كل اعمالي بنفسي) بمعنى ليس هناك من يساعده في تنفيذ اعماله كما يفعل بعض كبار الفنانين. وقد رأينا ان بعض النحاتين العالميين يقوم بعمل نحتي صغير (ماكيت) ثم يحيله الى ايدي اخرى تعمل على تكبيره كما هو عند الفنان الاسباني ادوارد جييدا.

يمتاز عمل نداء كاظم بالدقة والتأني والصبر الطويل في اداء تنفيذ اعماله ويمكن للشخصية  التي  تجلس امامه (الموديل) ان يتكرر جلوسها عدة مرات ولفترات طويله. وقد جلس امامه عدد من الشخصيات المعروفة مثل الشاعر الجواهري ومظفر النواب.3665 نداء كاظم

اعمال نداء

نداء انجز اعمالا كثيرة لشخصيات تاريخية ووطنية معروفة مثل تمثال الفراهيدي والسياب في البصرة وابو تمام في الموصل والمرأة العراقية في بغداد، وتمثال ابو جعفر المنصور في بغداد وتماثيل نصفية لشخصيات معروفة مثل الجواهري ومظفر النواب وعبد الملك نوري وغيرهم.. كما لديه مشاريع اخرى قيد التنفيذ مثل سلسلة التماثيل لعبد الكريم قاسم والجواهري وملحمة كلكامش وربطها مع نصب الحرية لجواد. وساهم نداء في تأسيس اول معمل لصهر وصب التماثيل بالبرونز عام 1970 وكان قبل هذا التاريخ  ينجز صب التماثيل خارج العراق. واشتغل نداء بخامات اخرى مثل الخشب غير انه كان حذرا منها لان الخطا فيها يكلفه الاعادة او تغيير ملامح التمثال ولهذا يرى ان لكل مادة خصائصها ويجب التعامل معها على هذا الاساس..

اما فكرة القوالب فقد ظهرت على يد النحات الفرنسي رودان وهو اول من استخدم القوالب في استنساخ النحت او تكراره. مما يجعل البعض يعيب فكرة القوالب حيث يعاد التمثال من قبل ايدي اخرى غير يدي الفنان.3666 نداء كاظم

السيرة الذاتية

ولد ندا في البصرة عام 1949 وتخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1965 ثم سافر الى روما  لدراسة النحت. كان احد جماعة المجددين التي ظهرت عام 1965 وكان اول معرض لها عام 1965 في قاعة المتحف الوطني كولبنكيان في بغداد. واتخذت هذه الجماعة طابع التحدي واستعمال جميع الخامات المتاحة في تنفيذ اعمالهم الفنية سواء من ناحية التصوير او النحت.. ويذكر نداء ان ورشته مملوءة بالتماثيل الطينية لشخصيات معروفة ولا يجد  احد يساعده في تنفيذها بمادة البرونز حيث ان ذلك يحتاج الى مبالغ مادية كبيرة، كما يذكر انه يحلم بانشاء متحف يضم جميع اعماله، ولو ان ذلك بعيد المنال.

***

د. كاظم شمهود

كتبت هذه المقالة في حوار شخصي مع الفنانة عشتار جميل حمودي في خريف العام 2002 في بيته بالعاصمة بغداد وهي جزء من كتاب عن تطور الفنون التشكيلية في العراق في القرن العشرين باللغة النرويجية قمت بتأليفه مع زوجتي آلا بوغدانوفا (ماجستير في تاريخ الفنون التشكيلية، أكاديمية الفنون الجميلة، سانت بطرسبورغ، روسيا 1983) .

Irakisk kunst – dannelsen av egne visjoner.

Kunstutviklingen i Irak i 20 århundre

Sanaa Mustafa & Alla Bogdanova

الفنانة الشهيرة عشتار جميل حمودي هي ابنة جميل حمودي الشهير. والدها هو أحد الفنانين الذين وقفوا إلى جانب تأسيس الأتجاهات الوطنية في الفن التشكيلي العراقي، والدتها فرنسية.

ولدت عشتار جميل حمودي في فرنسا سنة 1952 ودرست هناك. وكان من الطبيعي أن تتأثر بالانطباعيين وما بعد الانطباعيين. حللت نفسها: "يمكن العثور على الروح الأوروبية في أعمالي، ويقول الكثيرون إنه لا يزال من الممكن اكتشاف آثار ماتيس، ولكن مع الرموز الوطنية التي أدخلها، أبدو كفنانة عراقية حقيقية".179 عشتار حمودي

في تكوينها كفنانة، كانت النقطة المهمة هي أن والدها، جميل حمودي، كان معلمها الأساسي. وجه نواياها في الابتكار نحو الطابع الوطني العراقي وساعدها بنصائحه حول القيم الحقيقية في الفن. لهذا السبب بدأت بمواضيع مليئة بالحالة المزاجية العراقية

نجد الطابع الوطني العراقي يتكرر باستمرار في أعمالها. تقول عشتار: "حينما أبدأ العمل مع التشكيل، أفكر مليا في الموضوعات لفترة طويلة وأميل إلى الوقوف بلا حراك أمام قماش فارغ والاستماع إلى ذواتهم الداخلية. الصمت داخل روحي، أحب الهدوء والعزلة. عادة ما أحدق من خلال النافذة وكل الانطباعات التي أحصل عليهاعابرة مثل امرأة أو شجرة نخيل أو قط يعبر الشارع، أحتفظ بها في ذكرياتي. مع اقتراب فترة حضانة الأفكار من نهايتها، يأتي يوم أبدأ فيه الرسم والعمل دون تخطيط مصغر للوحة". غالبا ما توظف الفنانة عشتار في صورها ما هو معتاد في أي مزاج عراقي من الحزن والكآبة. موضوعها الدائم هو المرأة العراقية في المواقف المختلفة.

 ترمز لوحة رسمتها عن صورة السيدة العذراء مريم إلى معاناة وقوة المرأة العراقية. في الوقت نفسه، يرمز الشكل إلى روح الأمومة المقدسة باعتبارها واحدة من السمات المميزة للمرأة العراقية. "الموضوع الأخير الذي يهمني هو المرأة العراقية التي تكافح من أجل الخير والغبطة وسعادة الناس. ترتبط الأزهار بالشخصيات النسائية وتجد مكانا في أعمالي ". شخصياتها الانفرادية من الإناث والأطفال، مع باقات من الزهور أو الكتب، تحتل في الغالب مواقف هادئة. يبدو الأمر كما لو أن الوقت تحت فرشاتها قد توقف عن مساره، ولا وجود له وليس له قيمة. اللوحات الزيتية مثل "العراق، الترقب"، "على الشرفة" وغيرها مشبعة بمزاج، مليئة بالهدوء والانتظار. إن الشعور بحياة متناغمة، لم تمسها الحضارة، موجود في جميع إبداعاتها. يتم التأكيد على هذا المزاج من خلال حقيقة أن الأشكال الموجودة على اللوحات توضع في غرفة مضيئة من الخلف. غالبا ما يكون من السهولة في هذه الحالات ادخال المشاهدة التي يحتاج التكوين إليها.180 عشتار حمودي

 تمتلئ صورها برموز نموذجية للعراق الوطن الأم، مثل أشجار النخيل والمباني القديمة. "أشجار النخيل تمثل وطني الأم - العراق. النوافذ التي غالبا ما أضعها كأجزاء في مؤلفاتي، هي سلسلة من الشرفات العراقية التقليدية - الشناشيل.

التراث هو الاتجاه الذي أتبعه باستمرار مع هذه التفاصيل. بالإضافة إلى ذلك، تتميز أعمالي بسمة من سمات الهوية العراقية التي نسميها "الونين الداخلي" - وهي فرحة هادئة أعبر عنها باللوحة. ولكن مع وجود قوة حكيمة في لوحتي، عبرت عن المرونة والتفاؤل الموجود في الحياة على أي حال. لهذا السبب رسمت آلاف الصور للمساعدة في هذه العملية. وإظهار أنه على الرغم من الحصار المفروض على العراق، يواصل الفنانون العراقيون الإبداع".

 تتبع في فنها القيم التي أطلق عليها أسلافها، بمن فيهم والدها، اتجاه "العراقيات". "عندما أصور العراق، أصور زخارف من جميع أنحاء الوطن الأم. إنها ليست مجرد "بغداديات" التي يمكنك العثور عليها في أعمالي، فأنا آخذ الموضوع على نطاق أوسع بكثير في "اتجاه العراقيات" – تؤكدعلى ذلك الفنانة نفسها.

***

د. سناء عبد القادر مصطفى

نادى الفنان كلود مونيه لزميله بازل: حاول أن تجد لي مئة فرنك.. فأنا أكاد أتضور جوعاً. كان ذلك في خريف 1866 ومونيه، إذ ذاك في السادسة والعشرين، عندما قطع عنه والده البقال، كل معونة، كان من العسير عليه أن يجد مشترياً للوحاته، وأرهقه الدائنون بفواتيرهم، فهرب منهم إلى مرسم صديقه بازل، ومن فرط غضبه مزق معظم لوحاته حتى لا يراها تباع في المزاد، ولم يحتفظ منها بشيء سوى لوحة (شرفة سانت إدريس) نسبة إلى المنطقة التي عاش فيها في بيت خالته التي آوته في بيتها قرب مدينة (le haver) الفرنسية. بعد وفاة والدته وهو ما زال صبياً.

لوحة الشرفة عمل محكم مثير للاهتمام، خطوط عريضة حادة للأشياء، في تدرج لوني ساحر، يمثل مشهداً مطلاً على ساحل بحر، في الشرفة شقيقه، وخالته، بينما وقف خاله مع ابنته يتحادثان من بعيد، المشهد ينقل إحساساً بالهدوء وسحر الطبيعة، كما يظهر افتتان مونيه بالطبيعة والظل والضوء، وألوان القوس قزح، وكان للمياه والساحل الوعر لشمال فرنسا تأثير فني عميق عليه في سن مبكرة، وهو ملمح يكاد يطغى على معظم أعماله الفنية. إذ يعد كلود مونيه رائداً للحركة الانطباعية في أوروبا، بل إن الحركة أخذت اسمها عن لوحته الشهيرة (انطباع شروق الشمس) التي كانت تهدف لإشباع العين من الطبيعة بتسجيل الظاهر الحسي للأشياء، ليصبح بعدها من أهم فناني عصره.3612 كلود مونيه

رسم الانطباعيون الجمال الفخم، ومشاهد الحياة الرغدة للطبقة الوسطى في أوروبا، وصوروا مشاهد من حفلات الرقص، والقصور والحدائق، ومشاهد داخلية للمنازل الأنيقة، فكانت لوحاتهم فاتنة جذابة يسهل فهمها دون حاجة إلى ثقافة فنية أو ذوق خاص، كانت ببساطة مرادفة للجمال والبذخ الحسي. مضى مونيه يناشد زميله بازل: أني أبيع هذه اللوحة، أبيع كل أسرتي، اشتدت الضائقة الماليه عليه، وفجأة يدخل عليه بازل ذات يوم هاتفاً: فرجت لقد بيعت لوحتك..

– بكم؟

– 400 فرنك (نحو 14 جنيهاً استرلينياً في ذلك الوقت).

– برافو.. إنها ثروة!

هكذا خاطب مونيه صديقه، وابتسامة الفرح تعلو شفتيه.

لم تنته قصة اللوحة عند هذا الحد، إذ هي سلسلة من المفارقات التي رافقتها، منذ أن ظلت معلقة لمدة نصف قرن من الزمان، في منزل مشتريها في مدينة مونبليه الفرنسية، حتى وفاته عام 1913، فباعتها الزوجة لتاجر لوحات بمبلغ 27000 فرنك، وبدوره نقلها إلى مكتبه في نيويورك، محتفظاً بها لمدة 12 عاماً، وفي عام 1926، وهي السنة التي توفي فيها مونيه، اشتراها آخر من ولاية بنسلفانيا بمبلغ 11 ألف دولار، وظلت اللوحة مختفية في قرية لحين نقلها إلى مزاد في لندن عام 1967، فبيعت بمبلغ 700 مليون فرنك، وأصبحت بذلك تحتل المرتبة الخامسة بين اللوحات العالمية.

***

د. جمال العتابي

سأبدأ هذه المقالة الخفيفة بهذا التوضيح ذي الطابع الشخصي لعلاقته بما سوف يرد في هذا النص  وبنصوص أخرى شبيهة به نُشرت أو ستنشر مستقبلا: لا أزعم، ولم أزعم يوما في جميع كتاباتي أنني باحث أنثروبولوجي "إناسي" أو أركيولوجي "آثاري" أو متخصص في علوم الأديان واللغات والحضارات القديمة بل مجرد كاتب وإعلامي يهتم بهذه المجالات العلمية في إطار "الإعلام التخصصي" الشائع في الثقافات الأجنبية، حيث نجد العديد من الإعلاميين المتخصصين بالعلوم التخصصية التجريبية والإنسانية وبالرياضات البدنية او الذهنية من دون أن يكونوا باحثين متخصصين أو رياضيين بل هم بكل تواضع إعلاميون ومحللون يناقشون أبحاث ودراسات الباحثين. هذا النوع من الإعلام العلمي التخصصي ليس له وجود واضح في الثقافة العربية وهو ما جعل كل من هبَّ ودب وقرأ كتابا أو كتابين في التاريخ القديم يفتي ويفصل ويقرر ويؤلف الكشاكيل تلو الكشاكيل في هذه العلوم المعقدة والدقيقة!

إنني لا أنفي كوني باحثاً متخصصاً من باب التواضع الزائف أو خوفاً من نقد علمي رصين متوقع أرحب به أشد الترحيب، بل لسبب موضوعي هو أن صفة الباحث الأكاديمي المتخصص في الأنثروبولوجيا "الإناسة" أو الإركيولوجيا "علم الآثار" أو في علوم الأديان والأساطير واللغات والحضارات القديمة أو أحدها تتطلب عددا من المؤهلات من أهمها:

1- معرفة لغة أو لغتين قديمتين وخصوصاً الأكادية القديمة والسومرية على الأقل.

2- تجربة فعلية في التنقيب الآثاري الفعلي لعدة سنوات معززة بإنجازات حقلية موثقة.

3- دراسة أكاديمية تخصصية معززة بشهادة من جامعة معترف بها في الميدان المعني.

إضافة إلى شروط لازمة أخرى منها حيازة الباحث لثقافة عامة واسعة، ولغة تأليف سليمة نحوا وصرفا وأسلوبا، والأمانة والدقة في النقل والاقتباس عن الآخرين، والتواضع والصرامة في البحث والتحقيق والتحليل، الصبر والتأني والحذر البحثي والإخلاص للحقيقة وللحقيقة فقط.

ولهذا لا أريد أن أدرج نفسي أو يدرجني محب متسرع أو كارهٍ متربص في خانة الباحثين أو الأكاديميين المتخصصين إنما يشرفني أن أكون كاتباً وإعلامياً مهتماً بهذه العلوم، أعتز بمساهمتي المتواضعة - ذات المنحى التعريفي والتوضيحي التثقيفي لجيل الشباب والقراء غير المتخصصين - التي أنجزتها، متتلمذاً دائماً على تراث وإنجازات كبار المعلمين من أمثال طه باقر وفؤاد سفر وبهنام أبو الصوف وراجحة النعيمي وفاضل عبد الواحد ونائل حنون وخالد إسماعيل وغيرهم، إضافة إلى الباحثين والمستشرقين الأجانب المنصفين الموضوعيين المخلصين للعلم واشتراطاته، ويبقى الحكم على ما كتبتُ في الدراسات والكتب القليلة الصادرة للمنهج العلمي وحده وليس لأمزجة الكُتاب أيا كانوا فليرد علي من تناولت كتاباتهم بنقدي وليحاولوا تفنيد ودحض ما كتبتُ ولا يكتفون بممارسة سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال حتى لا ترى الخطر الذي يتهددها!

عوداً إلى عنوان موضوعنا فأقول؛ إن بلاد الرافدين أو بالاسم الأكدي "ما بين النهرين/ أرض الما بين – مات بريتم" أو بالاسم اليوناني الذي ظهر بعد أكثر من ألف عام (ميزوبوتاميا/ مترجمة عن التوراتية: آرام نهارايم) لا تعني العراق فقط! إنَّ العراق الحالي بحدوده السياسية الراهنة هو جزء من وداي الرافدين، وهو قلب هذا الوادي ولكنه ليس كل وادي الرافدين، ولأنه يمثل قلب الوادي فقد دأب الناس قديما وحديثا على أن يخصوا العراق باسم بلاد الرافدين المرادفة لبلاد ما بين النهرين والتي ترجمت لاحقا الى اليونانية وشاعت في الغرب بلفظ "ميزوبوتاميا".

إن هذا الوادي والإقليم الجغرافي الحضاري، يمتد كما هو معروف من منابع دجلة والفرات شمالا وحتى مصبهما عبر شط العرب في الخليج العربي جنوبا (بل ويمتد حتى سلطنة عمان كما تؤكد المكتشفات الآثارية الجديدة التي تحدث عنها الباحث العراقي نائل حنون مؤخرا). أما هل تشكل حضارة وادي الرافدين حضارة واحدة منسجمة أو عدة حضارات متداخلة، فهذا أمر آخر ينطوي على سؤال مهم ومنتج سنؤجل البحث التفصيلي فيه إلى مناسبة أخرى.

وعلى ذلك، فمواقع الحضارة الرافدانية ومدنها القديمة لا توجد في العراق الحالي فقط، بل أينما وجدت هذه المواقع والمدن والآثار والمدونات باللغات الرافدانية القديمة بالخط والعلامات المسمارية على امتداد ضفاف النهرين الكبيرين وروافدهما في هذا الوادي، أما حدود سايكس بيكو التي رسمها الغرب لدول المنطقة المعاصرة تقع أجزاء منها في وادي الرافدين ولا علاقة لهذه الحدود بعلوم الإناسة والآثار وعلوم التاريخ القديم بل هي حدود سياسية رسمية وليست حدود بين حضارات منفصلة ومستقلة. وسيكون من المضحك أن يتعارك رواد الفيسبوك - كما حدث قبل أيام على إحدى الصفحات حول تبعية مدن مثل ماري وكركميش وشُباط إنليل القديمة وهل هي سورية أم عراقية أم تركية! ومثل ذلك يقال عن الاتهامات التي وجهت الى الباحث حنون لأنه قال إن الأدلة الإركيولوجية تؤكد أن الكتابة التصويرية (السابقة للكتابة بالعلامات المسمارية) ولدت في منطقة الجرف الأحمر على نهر الفرات ضمن حدود الدولة السورية المعاصرة فسارع بعض الجهلة بديالكتيك العلاقات بين الكيانات الجغرافية والأخرى الحضارية إلى اتهام الرجل بأنه "قومجي" يريد التضحية بعراقية ابتكار الكتابة لمصلحة دولة عربية هي سوريا التي يقع فيها موقع الجرف الأحمر الأثري! والحقيقة هي أن الجرف الأحمر ومدينة ماري الأثرية صعودا حتى آثار مدينتي كركميش وكورح التي عثر فيها على مسلة المسلك الآشوري شلمانصر الثالث ونزولا حتى أور ولجش جنوبا تقع كلها في وادي الرافدين، ولكن في أكثر من دولة حديثة، وإن عمرَ هذه المواقع سابق لأسماء وكيانات وحدود تركيا وسوريا والعراق بآلاف السنوات!

أعتقد أن الدقيق علمياً هو القول إنها مدن رافدانية تقع في هذه الدول المعاصرة رغم أن العراق يمثل قلب هذا الوادي، فنقول مثلا (كركميش وكورح مدينتان رافدانيتان تقعان في تركيا الحالية، وماري وشُباط إنليل مدينتان رافدانيتان تقعان في سوريا الحالية وبابل وأور مدينتان رافدانيتان تقعان في العراق الحالي). بلاد الرافدين تستمد اسمها من الواقع الجغرافي "الكيانية الجغرافية"، التي صارت لاحقا كيانية حضارية اسمها حضارة بلاد الرافدين، وهي حضارة منقرضة وموضوع للدراسات والبحوث العلمية، ولكنها لم تكن قط كيانية قومية لغوية ثابتة وصافية. ثم إنها بدأت كيانية جغرافية صغيرة وتعني الأرض الواقعة بين نهري البليخ والفرات أو الخابور والفرات أو بين الفرات وهذين الرافدين الصّابين فيه.

 هذه هي نواة مشروع كتابي القادم والذي سأحاول فيه تفكيك هذه النزعات والعصبويات القطرية الفارغة والمتشنجة والناتجة عن الأوهام التي زرعها وغذّاها المستشرقون الغربيون وتلامذتهم الببغاوات العرب!

***

علاء اللامي

الصفحة 1 من 4

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم