أقلام ثقافية

الحنين إلى الطفولة !!

hamid taoulostالحنو إلى الماضي أمر فطري، وزمن الطفولة من أجمل ذكريات ذلك الماضي، وخاصة المبكرة منه، التي استقرت في الذاكرة وبقيت راسخة في الذهن، صامدة واقفة منتصبة، أبية يصعب على أيا كان ومهما كان أن يمحوها، وربما حتى الموت سيقف هو الآخر عاجزا أمام صمودها لا يقوى على إتلافها..

ومن دوافع الحنين إلى الطفولة - التي تسمى في علم النفس بـ "استدعاء الطفولة" - هو حب الإنسان للحياة وخوفه من الموت، حيث أنه كلما تقدم الإنسان في العمر، إلا وكثرت هواجسه، وتفاقم قلقه، وازداد بالتالي حنينه إلى زمن الطفولة وأحلامها، حتى وهو يعلم أن " استدعاء الطفولة " لا يحمي من الموت، لكنه يبقى استجمام روحاني ممتع، وتعويض وهمي مشروع عن خسارات الأزمنة والأمكنة الجديدة، يشعر المرء بلذة وهمية تبعده قليلا عن التفكر في الموت، ويجعله يتيه في روائح الأمكنة الطفولية وملاعبها ومشاعرها المتغلغلة في وجدانه المشبع بأحلام الطفولة غير القابلة للنسيان -حتى لو حملت ذكريات سيئة - والتي تشكل المرآة الباقية لزمن الهرم، الذي يكون جزء من مكانة النفس في نفسها،

الزمن الطفولي ومرابعه الطفولية جدلية واحدة، والحنين لأحدهما جزء من الحنين إلى عالم الطفولة بأكمله، وهو قلق نفسي يسميه علماء النفس بـ:" nostalgie" ويمكن أن يغشى الإنسان حتى في العشرينيات، لأن جمالياته لا تتكرر وتبقى حلماً قابلاً للاستعادة -ولو بالوهم- تلك الاستعادة التي يتساوى في مشاعرها بين المرأة والرجل، مع فارق بسيط في توقيت حدوث ذلك الإحساس الإنساني ودوافعه، وارتباط مصدره بالنفس أو الغير، فنجد أن حنين الرجل إلى طفولته مرتبط بشخصه وذاته، وقلما رتبك عند الأغلبية بالغير، وحيث أنه يبدأ عنده في الغالب الأعم بعد الستين، وتزداد حدته مع استشعار ضعف الجسد، وانحسار الشجاعة، وتعظم الحكمة، وانهيار أبراج الأحلام التي سبق أن رسمها ؛ في حين أنه عند المرأة يبدأ عادة بعد الخمسين، ومصدره عندها هو "الغير" وليس النفس، ويمكن أن يتأجج حتى قبل الخمسين، وتشتد حدته في أي وقت نظرت فيه المرأة إلى المرآة، واكتشفت تناقص حسنها، وشحوب لونها، وتساقط شعرها، وتجعد بشرتها، وخشيت أن يلحظ الآخرون ذلك التغير في شكلها والتبدل في مظهرها، اللذان أصبحا في حاجة إلى ترميم وتجميل، ساعتها يكبر فيها الحنين إلى نضارة الطفولة التي انطبعت في أعماقها مند سنوات طفولتها المبكرة، لأنها مهما تقدمت في السن ومهما كبر جسدها، فإنها تبقى طفلة تشعر دائما بالحنين إلى جمالية زمن الطفولة وروعته، كما قالت اجاتا كريستي: "الكثير من الناس يعيشون حياتهم، وهم رهائن لأفكار انطبعت في أعماقهم مند سنوات طفولتهم المبكرة " .

 

حميد طولست

في المثقف اليوم