أقلام ثقافية

محمد المحسن: الكتابة.. نوع من الرحيق الروحي

محمد المحسنوعصارة شاملة للذات الكاتبة فكرا ووجدانا وتكوينا ومزاجا

تصدير: من أهم أسس الكتابة ذلك الإحساس بأن الكتابة ليس ممارسة استرخائية، أو سهلة المنال، أو النظر لها على أنها ذات طابع تطهيري فحسب، على الرغم من عدم إنكار دورها تبعاً لآراء أرسطو.

الكتابة تُعطيك فرصةً لاكتشاف نفسك حتّى وأنتَ في قمّة ألمك، تُساعدك على تفسير الأمور والحياة، بطريقة لم تكن لتدركها لولا أنّك خطَطْتَ أحاسيسك على الورق، ليست وصفة علاجيّة بالتأكيد، ولا يُمكن لها أنْ تمسح آلامك أو تنهيَها، ولكنّها تجعل لألمك معنًى وتضعه في مكانه الصحيح كامتحان قاسٍ من امتحانات الحياة الذي قد لا تخرج منه على قيد الحياة لكن تبقى على قيد ذاكرتها.

معظم الكتّاب نجَحُوا في استخلاص مادّة جيّدة للكتابة مِن حياتهم البائسة، كنوع مِن التصالح بين الكاتب والحياة، على شكل نصوص خالدة تحفظ اسم كاتبها للأبد، لم يكُن الألم وحده مَن صنَعَها لكنّه مَن صقل الموهبة وكمّلها. فأفضل الأعمال العالميّة كتبَها مُتألِّمون كفعل مقاومة، وأحيانًا كفعل ثورة.وأحيانا أخرى..كفعل تمرّد..

ولكن..

يحيّرُني أحيانًا ما يقوله البعض عن كون الكُتّاب يعانون، أو أنَّ مجموعةً منهم مِن ثقل العبءِ عليهم، وصلوا مرحلة الانتحار! لكنّها معاناةٌ مستساغة. الأمر عجيب، حتّى لا يُمكن تشبيهُه. قد يكون مثلًا كخوضِ مغامرة، تسلّق جبلٍ بلا حبل، غوصٌ بين سمكات قرش، دخولُ غابة، شيءٌ من هذا القبيل لكنّه ممتعٌ ما يزال. كما يقول حمّور زيادة: “الكتابة هي أجمل ما يتمنّاه الإنسان لنفسه، وهي أسوء ما يعاني منه الإنسان”.

الكتابة لا تقتصرُ على محدوديّات، نضعُها في إطار فوائد، أو نقاطٍ في كتابٍ مدرسيّ. (الكتابةُ الإنسان. الكتابةُ التاريخ. الكتابةُ الحياة)، أو كما يقول هرمان هيسه: “دون كلماتٍ أو كتابةٍ أو كتب لم يكن ليوجد شيءٌ اسمه تاريخ، ولم يكن ليوجد مبدأ الإنسانيّة”.

ما بين تجاذب الأكاديمي والإبداعي قد تتموقع الذات الكاتبة حسب المقاوم وشروطه.ذلك أنّ الكتابة الأكاديمية تحيل على صرامة شروطها ومحدداتها، فالسسيولوجيا علم له ضوابطه الصارمة التي قد تقدّم نصا أكثر ميلا للموضوعية، لكن النص الإبداعي هو تعبير عن الإنفلات من برودة”العلمي” نحو دفء الأدب وانزياحاته الفنية الرائعة.هو محاولة للتحليق في سماوات الرموز بكل حرية وتمرد أحيانا.ومما لا شك فيه أن التلاقح يحضر بهذه الدرجة أو تلك علما أن الكتابة هي نوع من الرحيق الروحي الذي هو بمثابة عصارة شاملة للذات الكاتبة فكرا ووجدانا وتكوينا ومزاجا حتى.. الكتابة بمعنى آخر.. بلسم للرّوح حين تتشظى..

وهنا أقول:

إن من أهم أسس الكتابة ذلك الإحساس بأن الكتابة ليس ممارسة استرخائية، أو سهلة المنال، أو النظر لها على أنها ذات طابع تطهيري فحسب، على الرغم من عدم إنكار دورها تبعاً لآراء أرسطو، غير أنها تنطوي على قدر كبير من التنظيم، فثمة حاجة لاستنهاض الفكر والشعور، والثقافة والتجربة، كما ثمة التحام حقيقي بالفعل، وكما يقول هنري ميلر، فإن الكتابة يجب أن تتم وفقا لبرنامج منضبط، وليس تبعاً للمزاج، وعليه فثمة وقت ما أو محدد للانتهاء، أو الانفصال عن العمل، وهنا نرى وعياً عميقاً بالفعل الواعي للكتابة بوصفها استنهاضاً عقليا وشعوريا، وليست فقط ضربا من الممارسة الساذجة، ولكن الأهم من ذلك أن تحرص في الكتابة على الضوابط، وأهمها توفير اللغة الأدبية بوصفها انزياحا، غير أن ثمة ملاحظة ينبغي أن نتوقف عندها ملياً، فبعض الكتاب يعتقدون أن الكتابة الأدبية هي حشد من الصور والتشبيهات ومتتاليات من اللغة الشعرية، من منطلق أنها تجسيد للغة الأدبية، أو النظر لها بوصفها تعريفاً للأدب، غير أن هذه اللغة المتراكمة فوق بعضها بعضا، ولاسيما من الصور، ربما تجلب الوبال على النص، والفعل الإبداعي برمته، وذلك لأنها تبدو قائمة في غير سياقها، كما أنها ربما تضفي على النص سماجة لا محتملة، أو سذاجة ولا يمكن لأي قارئ أن يحتملها، وهنا نقصد القارئ الذي امتلك القدرة على تدبر النصوص والتمييز ما بينها، خاصة تلك التي لا يحتوي على أي زوائد.

إن هذا الضّرب من الكتابة بات شائعا في الكتابة العربية، بحيث أن مناهج التعليم كرست هذا المفهوم الساذج لمفهوم الأدب، بحيث حصرت الفعل الإبداعي في لغة تحتفي بالصور والتهويمات البلاغية، عبر محاولة خلق صور حمقاء، أو عبثيّة لا تؤدي إلى منتج دلالي أو حقيقي، ولا تأتي إلا بوصفها ثرثرة وحشواً من منطلق بناء قيم جمالية في النص المطلوب إنتاجه، أو بما عرف بالانحراف أو الانزياح الذي أسيء فهمه.

ختاما أقول:

إن اللغة الجيدة من الأدوات الأساسية للكِتاب الجيد، وإتقانُ اللغة من اشتراطات التأليف، وضعفُها أو عدم اتقانها يحول دون تمكّن الكاتب من التعبير عن أفكاره. وللأسف، يوجد مِن الكُتّاب مَن لا يؤمن بهذا الحتمية، بل يُعوّل على المُصَحِح اللغوي، بينما هو يكتب بلهجة عامية أو عربية مُكسّرة.ومثل هؤلاء لن يكونوا في صفِّ الكُتّاب الجيدين مهما أعانتهُ وسائلُ التواصل أو وسائلُ الإعلام.

عدم الإلمام بتصنيف مادةِ الكِتاب، نظرًا للتهافت على الشُهرة التي تُضاف إلى الوجود الاجتماعي أو المالي! ولقد شهِدنا إصداراتٍ يصعبُ تصنيفُها! فبعض الكُتّاب لا يدرك ما يطبعه، هل هو قصة، أم رواية، أم خواطر، أم مقالات سبق نشرُها، أو سيرة ذاتية للترويج عن الذات، أم وثائق رسمية كان قريباً منها.

الكتابة الإبداعية أولا..وأخيرا..مسؤولية ضميرية..أو لا تكون..

 

محمد المحسن - كاتب صخفي وناقد تونسي

 

في المثقف اليوم