أقلام ثقافية

الأرض والسلاح والانسان.. ثلاثية المجد

حين تنتهي من قراءة كتاب (الأرض والسلاح والإنسان) - أحدث اصدارات الكاتب والقاضي "زهير كاظم عبود" - تدرك تماما كم ان حياة هذا الرجل ــ المؤلف ــ مختلفة في نشأتها ومحطاتها وقاسية في ظروفها ومتنوعة في عطائها وبالتالي داعية للتأمل والاستفادة من دروسها لما كانت عليه من قوة الصبر وشجاعة المواجهة وسعة الأفق، فقد نشأ طفلا فقيرا لكنه تميز بإرادة قوية لم تنكسر او تنهزم امام عاتيات الزمن حيث تسلح بالأمل وظل يتنقل بين أعمال كثيرة وفي النهاية ساقه الفقر الى التطوع في صفوف الجيش، وبسبب انتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي فقد فسخ عقده وتم حبسه في نهاية العام 1967 وبعد انتهاء مدة محكوميته عاد الى ساحة العمل الحر ومن ثم الانخراط في العمل الفدائي ضمن صفوف الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة ــ وانتهت تجربة كفاحه المسلح بالتفرغ لدراسة القانون في الجامعة المستنصرية ــ الفرع المسائي ــ وبعد تخرجه عمل في المحاماة وعاد الى الدراسة في معهد القضاء العالي ليتخرج قاضيا وتدرج في سلك القضاء ووصل فيه الى مواقع متقدمة، وقد رافق هذا النشاط الانساني السهر على تثقيف نفسه بالقراءة وانضاج ملكة الكتابة لدية واستثمارها في كتابة المقالات الأدبية والقانونية التي ظهرت مبكرا منشورة في الصحف وتكللت بإصداره عدد من الكتب بلغت الثلاثين كتابا .

وعلى غير المنهجية وطبيعة الكتابة التي عرفناها في كتب المؤلف " زهير كاظم عبود " التي اختصت جلها بالقانون وشؤون الاقليات ونصرتها لقضيتهم العادلة ينحو في كتابه (الأرض والسلاح والانسان) صوب أدب المذكرات ليزيح الستارعن تجربة انسانية شخصية ظلت أكثر من نصف قرن طي الكتمان ــ زمن كتابتها يعود للعام 1976 ــ تلك هي انخراطه بالعمل الفدائي ضمن صفوف الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة الذي لجأ اليه تخلصا من ملاحقات رجال الأمن الذين أخذوا يضيقون الخناق عليه بسبب انتمائه اليساري وهو باختياره هذا يؤكد انحيازه الصادق الى المظلومين والمضطهدين والمسلوبة حقوقهم والتي أكمل مسيرته بهذا الاتجاه في سلسلة اصدارات عن معاناة الأقليات (الشبك ــ الآيزيديين ــ الفيليين وغيرهم) في ظل الحكومات المتعاقبة على ادارة الحكم في العراق .

يستهل المؤلف كتابه بمدخل قصير يتناول فيه ظروف نشأة المنظمات الفدائية التي يصفها بقوله (كان ظهور الكفاح المسلح يشكل رد فعل ثوري ينهض بالشعب العربي لإيقاظ حالة الوعي، اذ كان الوعي غافيا بعد حرب 1948 ص 14) كما يكشف عن الصراعات والانشقاقات التي مرت بها هذه المنظمات  وأبرز شخصياتها الفاعلة ويؤكد ان الدافع من استحضار الماضي وتسجيل ما شهده في تجربته من أحداث هو عرض وجهة نظره وتقييم ما قدمته تلك المنظمات من تضحيات عاشها بنفسه وشهد عن كثب ارهاصاتها وذلك انصافا للدماء التي سالت على أرض المعارك الشريفة .                  .

يبدأ المؤلف رحلة كفاحه الأولى التي كانت مدتها تسعة أشهر ــ ابتدأت بتاريخ 1/2/1969 وانتهت بتاريخ 9/11)1969 ــ  باللجوء الى مكتب الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة ــ في بغداد وتسفيره الى الأردن باسم مستعار هو (نزار خالد الصفدي) ليشترك هناك في دورات متعددة لأعداده مقاتلا فدائيا ويستثمر وجوده بين صفوف المتطوعين الفدائيين ليسجل خلالها نشاطاته اليومية والشخصيات التي شاركته تلك الأيام المفعمة بالحيوية والأمل والتي أجهزت عليها بيروقراطية قادة المقاومة وسوء تصرفها والتي واجهها بشجاعة ادت في النهاية الى وضع حد لهذه التجربة والانسحاب منها والعودة الى العراق ليعود بعد سنة الى رحلة كفاح ثانية مع العمل الفدائي تبدأ في 15/2/1971 وتنتهي بتاريخ 1/12/1973 يصبح فيها مقاتلا وقائدا لعدد من القواطع والمجموعات القتالية ويشترك في دوريات رصد واستطلاع على الحدود مع اسرائيل وكذلك مواجهات ومعارك مع القوات الاسرائيلية يتكبد فيها الطرفين جرحى وقتلى مما يؤكد ان تجربته لم تكن مجرد نزهة او انفعالات شاب مندفع يطلب الشهرة انما هو ايمان حقيقي بعدالة القضية الفلسطينية وضرورة نصرتها والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، لقد اكتسب خلال تواجده في قواطع القتال والمواجهة مع العدو الاسرائيلي ثقة رفاقه والقادة بشجاعته وصدقه وامانته وكذلك بثقافته وحكمته فكان وهو في ذلك الحال يكتب المقالات وينشرها في الصحف اللبنانية والسورية .

وفي نهاية هذه التجربة الشجاعة التي يصفها (تجربة مفيدة وعميقة لها أثر كبير في تشكيل قناعاتي ورؤيتي لواقع المقاومة الفلسطينية، مع دخول خط السلطات والحكام العرب التي دعمت الفصائل الموالية لسياستها والتي تمكنت ان تميل قيادات تلك المنظمات اليها ص 121) وعوامل اخرى تتجلى في نمو الاحقاد والعداوات بين (مقاتلين توحدهم قضية وتجمعهم خيمة وخنادق وطعام ومهمات مشتركة ويتعرضون للموت سوية ص 123) وصراع قيادات الفصائل على المراكز الاولى للقيادة وصل حد الاقتتال بينها كلها أدت الى فك ارتباطه بالعمل الفدائي والعودة الى العراق لدراسة القانون وخوض تجربة العمل القضائي .

يستنتج المؤلف في ثنايا كتابه حقيقة يعيشها واقعنا العراقي هي ان تعدد الفصائل المسلحة التي تتواجد على ارض واحدة لا بد ان يفضي الى تصادم بينها (ما لم تكن تلك الفصائل خاضعة الى سلطة الدولة وهو ما وقع في الاردن حيث اعتبرت الفصائل المسلحة نفسها بديلا قويا عن الدولة واستهانت بقوتها العسكرية والأمنية والداخلية ص45) ويسلط الضوء على المتغيرات وما انتهى اليه الحال بالكفاح المسلح بعد ان اصبحت الدول تهرول للتطبيع مع اسرائيل التي كانت تصفها امس بالدولة اللقيطة .

كتاب (الأرض والسلاح والانسان) يشكل وثيقة صادقة عن طبيعة العمل الفدائي وواقع حال منظماته المتعددة كما يمثل اضافة طيبة للمكتبة العربية ولسفر مؤلفه الكاتب الاستاذ القاضي" زهير كاظم عبود " .

***

ثامر الحاج امين 

في المثقف اليوم