أقلام ثقافية

لستَ وحدك

عمار عبدالكريم البغداديشهرزاد: تحدثنا بالمرة السابقة عن إفشاء سر المراهقين لوالدين والثقة المتبادلة بينهما هل تعتقد ان ذلك كفيل بإنهاء تلك المشكلة؟ لا تنسى إننا نتحدث عن إنسان مراهق قراراته إنفعالية،ويجد صعوبة في الإلتزام بتعهداته !.

شهريار: هو قادر على ذلك إن تجسدت أمامه صورة التكاتف والمحبة المتبادلة، والتكاتف أعلى مرتبة من التعاون،فان كان التعاون جمع الإجزاء لمواجهة التحدي فان التكاتف يعني أن (الكل أعظم من مجموع الأجزاء)، وحينما تتكاتف العائلة وتصبح صفا متلاحما، وكأنها أرواح متعانقة في جسد واحد يقف في مواجهة المخاطر، تبلغ الغاية وتجبر الجناح المكسور، لتحلق عاليا من جديد.

وتصوري يا شهرزاد، أن 5 جنود في أرض معركة طاحنة تتساقط فيها النبال كالمطر، وتتقاطر الدماء من السيوف كسيل جارف، وتتعالى الصيحات والآهات بلا توقف، وفي لحظة غفلة أصاب سهم مارق أحد الفرسان الخمسة، لكنه كابر على جرحه،وواصل القتال من غير أن يلتفت إليه أحد، وسرعان ما دب الوهن في بدنه، وتعاظمت أوجاعه، فهمس في أذن القائد: (لم أعد قادرا على القتال).

في تلك اللحظات الحاسمة صدرت الأوامر الى المجموعة المثقلة بهموم المعركة للتحليق حول الفارس المصاب،وصارت الدروع سقفا منيعا لصد اية هجمة أخرى، وانسحبت المجموعة الى الخطوط الخلفية لإنقاذ الفارس الجريح، وحينما أحسوا بالأمن الداخلي بدأوا بمعاينة الجرح، ثم استأصلوا السهم، وبدأوا مراحل العلاج، ولأنهم يعرفون معنى (الكل أعظم من جمع الأجزاء) فقد تقاسموا الأدوار على أحسن ما يكون، وفارسنا المصاب كان يشعر بالسعادة برغم أوجاعه،وهو يسمع - مع كل حركة تدور من حوله، وكل ضماد ينساب على جرحه، وابتسامة أمل تكحل عينيه – هاتفا يلامس روحه وقلبه: (لست وحدك).

ذلك الهاتف كان البلسم الذي شفى الجرح، وأعاد العزيمة والقوة للفارس المتألم، وسرعان ما ارتدى الجميع بزة الحرب من جديد، وعادوا الى أرض المعركة وهم أكثر حماسا وشجاعة وتكاتفا حتى تحقيق النصر.

ذلك هو واقع الحال ياشهرزاد: إن العائلة قد تخوض معترك الحياة جنبا الى جنب، وكل فرد منها يقاتل باتجاه مختلف، إن كانت المحبة المتبادلة والتكاتف ديدنها، فسقوط أحد أفرادها - المراهق، او المراهقة - في فخ الأخطاء الموجعة لن يطول، فهناك آذان صاغية، ومحبة غير مشروطة،وسرعان ما يلتفت القائد (الأب، أو الأم) لنداء الإستغاثة، وتتجلى أبهى معالم التكاتف بتوجيه من متلقي النداء، ويسارع الجميع للقيام بدوره، وفي ذلك المشهد العظيم، لن يكون المراهق في خط المواجهة وحيدا، وسيشعر بالأمن الداخلي الذي طالما إفتقد اليه حينما أرتكب الخطا، إنه اليوم يشعر بالقوة والقدرة على تصحيح مساره، والإنطلاق من جديد،هو يواجه الخطر للمرة الأولى محصنا، ولن يكون من الصعب عليه الإلتزام بالتعهد الذي قطعه للتخلص من الآفة،أنه يردد مع نفسه: (لستُ وحيدا).

ودعيني أقول هنا: إنما ينكسر الغصن الهش حينما يمتد بعيدا عن الشجرة، لكنه يَكبر وينمو بأمان كلما كان قريبا من جذعها المتين.

شهرزاد: وهل يقف التكاتف عند آفة تصيب المراهقين في العائلة ؟، أجد المعنى اعظم من ذلك، هيا ياشهريار إسعفني بقصة تجسد ذلك التكاتف بأحلى صورة.

شهريار: حسنا.. سأقص عليك من الأنباء ماهو أمّرها في فمي، وأعظمها ألما في قلبي، وأكثرها وقعا في نفسي، لكنه أعظمها أثرا على التكاتف بين أفراد أسرتي.

قبل أن يبلغ سن الرشد أصيب إبني البكر (زيد) بمرض السرطان، وصدمت العائلة أيما صدمة، وتداعت له القلوب.. قررنا أنا وزوجتي أن لا نخبر حتى أقرب المقربين، وكنّا حريصَين على حصر السر الخطير بأفراد أسرتنا (الستة)، وبدأنا رحلة علاج طويلة ونحن متكاتفون.. أبني محمد كان لا يفارقه حينما أجرى عمليته الأولى الضرورية للتأكد من نوع المرض،وزرع جزء مصاب،وتحديد نوعية العلاج، أبنتي الكبرى(أمنية) مازالت في المرحلة المتوسطة، لكنها كانت في غاية الذكاء وهي تشجعه، وتبعث الأمل في قلبه، حتى إبنتي الصغيرة جمانة، كانت تداعبه كلّما عاد من جلسة العلاج الكيميائي، ويا لها من جلسات أعيت قلوبنا وكاد تُخرِج السرَ الإلهي.

ما وجدتُ زوجتي أقوى وأصلب موقفا من ذلك المشهد الأليم، لقد أظهرتْ طاقةً عجيبة وعزيمةً لا تلين، وعليّ أن أعترف هنا بأنني كنت قاسيا معه في السنتين الأخيرتين قبل أن يصاب بمرضه، وكانت علاقتنا دون المستوى المطلوب، قبعة الخبير كانت تحرمه من الإحساس بالإستقلال وزيادة الثقة بنفسه حينما أعاد الدراسة في الصف السادس العلمي علّه يأتي بمعدل جيد، وقد أظلم نفسي إن قلت إنني لم أكن أشجعه وأبعث الأمل فيه،وأؤكد ثقتي بقدراته، لكن متراكمات السنين حالت دون تحقيق الهدف، وما أن نجح بمعدل متوسط ودخل كلية خاصة حتى جاءه المرض من حيث لا نحتسب.

كانت ليالٍ حالكات، الدموع فيها تسابق الدعوات لرب السماء ان ينجيَّ إبننا البكر، وقبل كل جلسة كنّا نعقد اجتماعا عائليا سريعا لتدبر الأحوال والإستعداد ليوم طويل.

 وياله من إبن بار.. كان يرفض أن أحضر جلسة (الكيميائي) ويكتفي بأمه التي أغدقت بحنانها وعطائها الدائم حتى كأنها نسر عظيم يحلق في السماء ليظلل الأسرة في أيام مهلكات.

كان يقول لأمه: لا تجعلي والدي يحضر الجلسة يكفيه هم مرض السكر، لا تثقلي عليه.

وفي صباح كل موعد جديد كنت أوصلهما الى مركز العلاج،وأجلس في السيارة أرقب خروجهما،وأطلب رحمة ربي، وكنت حريصا في كل مرة أن أخبره بأنني أحبه وسأنتظره هنا حتى يخرج،وقلبي معه يدعو له.

علّمتنا تلك الظروف أن نكون أكثر محبة للناس،ونحن نرى الشباب والشابات في عمر الزهور وهم يقصدون مركز أمراض الدم ليتجرعوا بمرارة جلسة علاج أخرى وأخرى، كنّا نشتري علاجا مضاعفا، ونودع في خزين المركز نصفه علّه يساعد في علاج أحد المرضى، نشعر بأن الرعاية الإلهية تحيط بنا من كل جانب، ونحن نرى الإبتسامة ترتسم على وجه فقير حصل على العلاج بمساعدتنا، وأمه تدعو لجميع المرضى بالشفاء.

حينما نعود الى المنزل بعد كل جلسة كان يرتمي كالجثة الهامدة، ولم يكن يشعر بالأمان إلا في غرفتنا وعلى سريرنا، كأنه طفل صغير يتوق لحنان والديه.

ماوجدت الأسرة متكاتفة كما رأيتها في ذلك العام، الجميع في حركة دؤوب، المناقشات لا تنتهي، والمقترحات لا تتوقف،وكلها من أجل زيد، من أجل أن نرسم الإبتسامة على محياه، ونعيد الأمل لقلبه، حتى صوت التلفاز اذا كان عاليا سارعت ابنتي الصغيرة للقيام بالواجب قبل ان نطلب منها ذلك.

إتسعت دائرة التكاتف سريعا، لم يعد الأمر سرا بعد جلستين، تسابق أخي وأخواتي لمدّنا بقوة إضافية، ودعوات أمي ودموعها المختلطة بابتسامة الأمل بالله كانت حاضرة دون إنقطاع، كنّا حقا كالبنيان المرصوص، وأرواح متكاتفة في جسد واحد (اشتكى منه عضو فتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، هاتف عظيم كان يطرق مسامع زيد باستمرار ليزيد من عزيمته، ويصلّبَ إرادته، ويعينه على قهر المرض: (لستَ وحدك).

مر عام ونحن على هذه الحال،وقد استبشرنا خيرا كثيرا بشفائه بعد أن أنهى العلاج الكيميائي وإنتقل الى العلاج الذري كمرحلة أخيرة.

لقد نزلت رحمات السماء ياشهرزاد لتبارك ذلك التكاتف العظيم والمحبة الصادقة،وليعلن الطبيب شفاء أبني، لكنه كان درسا عظيما تعلمتُ منه: أن التكاتف الذي أنجى زيد من مرض قاتل،برحمة من رب السماء، كفيل بمعالجة جميع العلل التي تصيب نفوسنا وتشعرنا بالإحباط أو الضياع أو الوحدة.

هاهو زيد خريج كلية الاعلام يبحث عن فرص عمل تتناسب مع قدراته وطموحاته وهو مقبل على الحياة بقوة برغم آثار نفسية للعلاجات الكيمائية والذرية، اليوم صار شابا قويا طموحا وهو حريص على تمارينه الرياضة،ويبدو كبطل رياضي بعضلاته المفتولة، والأهم من كل هذا إنه أصبح أكثر قربا من العائلة، وربما أنا اليوم صديقه المفضل.

***

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

* من وحي شهريار وشهرزاد (48)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

في المثقف اليوم