أقلام ثقافية

البحتري وقصر الجعفري!!

صادق السامرائييبدو من قراءة التأريخ ومتابعة ما دوّنه الشعراء عن الحياة في سامراء، عندما كانت عاصمة للخلافة العباسية، تظهر أن السلوك المتكرر يتلخص في أن الخليفة ما أن يموت أو يُقتل حتى تدمر الشواهد التي كانت تشير إليه، وخصوصا القصر الذي كان يحكم منه.

وتواصل مع القادة الأتراك وذوي الإمرة والشأن، فما أن ينزل العقاب بهم حتى تنهب قصورهم وتحال خرابا.

وهذه الآفة المغفولة من أهم أسباب خراب سامراء، وتداعي قصورها المنيفة وتحولها إلى "ساء مَن رأى"، خصوصا في زمن الفوضى، التي إنطلقت فيها بعد مقتل المتوكل وحتى إنتقال العاصمة إلى بغداد.

فسامراء كانت "سر من رأى" للفترة (222 -247) هجرية، و"ساء من رأى" بعد ذلك (248 - 279)هجرية!!

وعاش فيها البحتري (204 - 284) هجرية،  منذ تأسيسها حتى إنتقال العاصمة إلى بغداد، وهذا بعض من وصفه لقصر "الجعفري" في حياة المتوكل:

"قد تم حسن الجعفري ولم يكن

ليتم إلا بالخليفة "جعفر"

ملك تبوّأ خير دار إقامةٍ

في خير مبدى للأنام ومحضر

في رأس مشرفةٍ حصاها لؤلؤ

وترابها مسك يشاب بعنبر

*

فرفعت بنيانا كأن زهاؤه

أعلام "رضوى" أو سواهق "صنبر"

أزرى على همم الملوك وغض من

بنيان "كسرى" في الزمان و"قيصر"

*

ملأتْ جوانبه الفضاء وعانقت

شرفاته قطع السحاب الممطر

وتسير دجلة تحته ففِناؤه

من لجةٍ غمرٍ وروضٍ أخضرِ

شجر تلاعبه الرياح فتنثني

أعطافه في سائح متفجر

**

واستأنف العمر الجديد ببهجة القصر الجديد وحسنه المتخيَّر"

......

وهذه قصيدة للبحتري في رثاء المتوكل تصف حال القصر (الجعفري) الذي كان فيه بعد مقتله، ربما ببضعة أيام أو أسابيع، وجاء وصفه له كالتالي:

"محل على القاطول أخلق دائره

وعادت صروف الدهر جيشا تعاوره

*

تغير حسن الجعفري وأنسه

وقوّض بادي الجعفري وحاضره

تحمّل عنه ساكنوه فجاءَةً

فعادت سواءً دوره ومقابره

إذا نحن زرناه أجدَّ لنا الأسى

وقد كان قبل اليوم يبهج زائره

ولن أنس وحش القصر إذ ريع سربه

وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره

*

ووحشته حتى كأن لم يقم به

أنيسٌ، ولم تحسن لعين مناظره

كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة

بشاشتها، والملك يشرق زاهره

ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها

وبهجتها والعيش غض مكاسره"

**

هاتان القصيدتان تقدمان دليلا قاطعا على أن خراب سامراء إنطلق بعد مقتل المتوكل، وعندما غادروها تحولت إلى أطلال، وأصبح العيش فيها صعبا كعاصمة إدارية لدولة شاسعة الأطراف.

فمَن خرّب سامراء؟

والجواب الذين كانوا فيها حتى نهاية دورها كعاصمة، وخصوصا القادة الأتراك وجنودهم، الذين صاروا يفترسون بعضهم البعض، ويتناهبون قصورهم، وأصبحت الوشاية والعدوانية متفاقمة في المدينة، حتى تآكلت بنيانها، وما فعلته بها الفوضى التي إستمرت لأكثر من عشرة سنوات، فتحولت إلى فيل بلا عظام كما وصفها (إبن المعتز) المولود فيها.

***

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم