أقلام ثقافية

عقدة (مازلتَ صغيرا)

عمار عبدالكريم البغداديشهرزاد: ألا ترى أن تفهم رغبات الأطفال وتطلعاتهم أشد صعوبة من تقمصنا لشخصيات البالغين أو المراهقين ؟

شهريار: تلك معاناة مشتركة مابين طبيب الأبدان، وأطباء النفوس، والوالدين في آن الواحد، ومعروف أن طبيب الأطفال قد يعاني حتى يشخص مكامن الألم، وكلما كان الطفل أصغر زادت الصعوبة، وكذك الحال عند الإختصاصي النفسي حينما يعاني الطفل من مشاكل ظاهرة على تصرفاته كالإنعزال أو الحزن الدائم،والطبيبان يعتمدان حالات ثابتة ومعروفة في تشخيص عام للمرض، والحال أهون لدى طبيب الأطفال مع تطور علوم الطب، فهو يعتمد على التحاليل و(السونار) وغيرها لتشخيص المرض بشكل أقرب الى الدقة، ولو أننا اتبعنا مبدأ التشخيص العام بتعاملنا مع أطفالنا في السنوات الأولى من أعمارهم لوصلنا الى حلول مُرضية، فرغبة أحدهم بالإنعزال دليل على الإحساس بالوحدة والحاجة الى مزيد من الرعاية والإهتمام، والحزن الدائم دلالة على افتقاد شخص، أو لعبة،أو حيوان عزيز عليه، والخجل والخوف دلالة على قلة الثقة بالنفس، وهكذا نستطيع الإقتراب أكثر من فهم احتياجاتهم وتطلعاتهم وإنْ كانت صغيرة وبسيطة، لكنها تترك أثرا عميقا في نفوسهم، ولعل عين الرقيب الرحيمة أعظم أنواع الإهتمام بالأطفال والكشف عن مكنوناتهم، فإن لامسنا برقة (الوتر الحساس) تلاشت كل مشاكلهم، وأوصلنا أول رسائل المحبة والثقة الى نفوسهم الرقيقة.

وعادة ما يضع الوالدان حلولا ترقيعية لمشاكل أطفالهم، فهم يستصعبون تفحص الحالة وإدراك جوهر المشكلة، فيعتمدون الحلول السطحية (مهارات التعامل) للتخلص من النتائج السلبية، ولا يفكرون بوضع حل جذري بالإعتماد على السمات الأخلاقية، وهكذا تتفاقم المشكلة لدى الأطفال حتى تُصبح سلوكا ملازما لهم.

ولقد أدركتُ هذا المعنى في السنوات الأولى من عمر ولَدَيّ (زيد ومحمد)،وكنت حريصا على عين الرقيب الرحيمة برغم آثار الحامض النووي لجدي رحمه الله، فبرغم الإنسجام الكبير بينهما بحكم تقارب سِنهما (4 و 5 سنوات)، إلا أن حب النفس كاد يطغي على المحبة بينهما، وبعد عدة مشاهدات للتنافس غير المحمود، وفي لحظة تدافع وصراخ، قررت أن أضع حلا جذريا للمشكلة، فأمرتهما بصوت حاد بالخروج من البيت، وأنْ لا يعودا إلا بعد أن يتصالحا.

كانت ليلة شاتية.. أخذتْ زوجتي بيدي وهمست في أذني: بالله عليك ماذا تفعل.. الجو بارد في الحديقة!.

شددت على يدها أنْ إصبري، وكررت أوامري وقلت:تعاهدا حينما تتصالحان على أن لا يخاصم أحدكما الآخر أبدا، وتذكرا إنكما أخَوَان وحيدان.

كان الموقف مرعبا بالنسبة لهما وحتى لي ولزوجتي، خرجا وأنا أراقبهما من بعيد عبر زجاج النافذة المطلة على حديقة المنزل، كانت دموعي تسابق دموعهما لكنني صبرت.. بعد دقائق معدودة تعانقا، وطال عناقهما، كأن كل واحد منهما يلتمس الدفئ في جسد أخيه، كان مشهدا عظيما إرتعش منه بدني وقلبي، لكنهما لم يعودا الى البيت.. وماهي إلا دقائق أخرى حتى سمعتُ صوت أمي من بيتها المجاور: لقد تصالحا وتعاهدا على المحبة.. هل يعودان الآن ؟.. قلت بصوت ملؤه الفرح: نعم يا أمي.. نعم.

تلك الدقائق قارسة البرودة كانت مليئة بالمشاعر الدافئة، وكفيلة بمواجهة المشكلة لقد أقتنعا بأن محبتهما قوة وأمان لهما، وأن التنافس غير المبرر وحب النفس الأعمى ضعف وانكسار، وكم وددت ياشهرزاد أن أسمع ذلك الحوار البريء الذي دار بينهما في تلك الدقائق الحالمات، حين أعطى كل واحد منها ظهره للآخر قبل ان يلتفتا لبعضهما ويتهامسان، وربما كانت دموعهما خير دليل على الحديث الرقيق وروح التسامح التي هيمنت على الأجواء، وما زالت سائدة حتى يومنا هذا، هاهما شابان قويان وبرغم الإختلافات في طباعهما العامة التي تتسبب بجدل يكون حادا في بعض الأحيان، لكنهما حتى يومنا هذا لم يبيتا ليلة واحدة وهما متخاصمان.

شهرزاد:رباه !.. حقا إنه موقف عميق أصاب جذور المشكلة،كأنك تدفعنا الى القول: إجعلوا أطفالكم يخوضون تجاربهم تحت عين الرقيب.

شهريار: نسيتِ ياشهرزاد أن تُضيفي وصف (الرحيمة)، فعين الرقيب لوحدها غير كافية للتعامل مع تجارب أطفالنا، هم في بداية الطريق لم يعرفوا بعد قواعد التعامل العامة، أو مكامن الخطر، ومعاني الخير والشر،والقيمة العليا،ولا أختلف معك على أن دعائمهم في هذه المرحلة (المحبة الفطرية) لكل الناس، لكنهم بحاجة الى عين رقيب رحيمة تزيد من ثقتهم بأنفسهم، وتمنع الخطر المباغت، لتكون تجارب عظيمة،وأسسا متينة للمحبة والخير والثقة بالنفس والآخرين.

إن خوفنا،المبالغ فيه، على أطفالنا يحرمهم من حق خوض تجاربهم الأولى، وقد يصل الأمر الى منعهم من التعامل مع الأطفال الآخرين بحجة إنهم مازالوا صغارا ولا يدركون معانيَّ أفعالهم وتصرفاتهم وهذا يعرضهم للخطر المتبادل، لكننا بالنتيجة نحرمهم من حقهم الطبيعي بالتعرف على الأشياء والأشخاص من حولهم، وقد يكون ذلك من باب دفع الحرج عن أنفسنا إبتداءً، فيكون مدعاة الى شخصية مترددة خجولة لم تأخذ حقها الطبيعي بالتطور والنمو.

حينما نترك أطفالنا يخوضون تجارب الإحتكاك مع كل ما حولهم من بشر وشجر وحجر فإننا نمنحهم مفاتيح الثقة الأولى، وبدونها لايمكنهم خوض التجارب الفعلية في معترك الحياة.

إن عبارة (مازال صغيرا) ترن في آذان الآباء والأمهات وكأنها متلازمة مع صورة الطفل الذي لا يكبر في عيونهم أبدا، وعلى هذه الأساس يكون أطفالنا أكثر الناس تحمّلا لقبعة الخبير التي لا نكاد نخلعها إلا بعد أن يبلغوا سن المراهقة وربما بعدها، وحينها ستكون النتائج مخيبة للآمال.

وهذه أخطاء شائعة يقع فيها حتى ذوو التخصص، فهاهو الكبير ستيفن آر كوفي يخبرنا عن تجرية قاسية له مع ابنته الصغيرة، يقول ستيفن: (عدت في أحد الأيام الى المنزل حيث كنّا نحتفل بعيد مولد طفلتي الثالثة، وعندما دلفتُ الى المنزل وجدتُ إبنتي تجلس منزوية في أحد أركان الحجرة الأمامية متشبثة بكل الهدايا التي قدمت لها، ولا تسمح لأي من الأطفال بمشاركتها اللعب بتلك الألعاب، وأول شيء لاحظته هو أن العديد من الآباء الموجودين بالحجرة لاحظوا هذا السلوك الأناني، وقد شعرت بحرج كبير وتضاعف شعوري بالحرج لأنني كنت في الوقت ذاته أعلَّم طلابي في الجامعة فن العلاقات الإنسانية، أو على الأقل أشعر بما يتوقعه مني الآباء الآخرون، كان جو الغرفة مشحونا والأطفال متجمهرين حول طفلتي،وأيديهم ممدودة وهم يطلبون اللعب بالهدايا التي قدموها لها، وابنتي ترفض بإصرار.

قلت لنفسي " لابد أن أعلم أبنتي مبدأ المشاركة لأن قيمة المشاركة من أهم الأشياء التي نؤمن بها "، لذا حاولت في البداية أن أطلب منها ببساطة: حبيبتي من فضلك هلا سمحتِ لأصدقائك بمشاركتك اللعب بالألعاب التي قدموها لك؟

فجابت بعناد: لا

وحاولت بالطريقة الثانية إستخدام القليل من المنطق: حبيبتي أذا تعلمتِ مشاركة لعبك مع الآخرين،سيسمحون لك بمشاركة لعبهم عندما تذهبين الى منازلهم.

ومرة أخرى كان ردها الفوري: كلا.

وإزداد الوضع حرجا لأنه بات من الواضح إن إسلوبي غير مؤثر، وكانت طريقتي الثالثة إستخدام الرشوة فقلت لها بهدوء: حبيبتي إذا شاركتهم اللعب سأقدم لك مفاجاة جميلة، سأمنحك قطعة من العلك.

فإنفجرت قائلة: لا أريد علكا.

والأن بدأت أشعر بالضيق وحنق شديد، وفي محاولتي الرابعة لجأت الى التخويف والتهديد: إذا لم تشاركيهم اللعب ستقعي في متاعب جمة.

اجابت باكية: لا يهمني..إنها أغراضي وليس عليَّ مشاركتها مع أحد.

وأخيراً لجأت الى القوة وانتزعت منها بعض اللعب وأعطيتها للاطفال الآخرين قائلا: حسنا أيها الأطفال إلعبوا بهذه اللعب).

يقول ستيفن: (ربما كانت إبنتي في حاجة الى تجربة الإمتلاك قبل أن تسمح بمشاركة أغراضها (فإذا لم أتمكن من إمتلاك الأشياء فهل يمكنني منحها؟)، لقد كانت إبنتي تحتاج مني ـ بإعتباري والدها – أن أتمتع بقدر عالٍ من النضج العاطفي كي أتركها تمر بهذه التجربة).

لقد أعترف ستيفن ياشهرزاد بأنه لم يقدّر النمو والتطور الطبيعي لإبنته ولم يمنحها حق خوض التجربة، وقدم على ذلك نظرة الآباء الموجودين على علاقته معها وتقديره لذاتها، وعلى أساس مبدأ (مازال صغيرا) فقد فضل استخدام القوة والسلطة لتعويض الضعف الذي كان يشعر به لأنه لم يصبر عليها، أو يحاول فهمها، كما عبر عن ذلك بنفسه.

مرة أخرى نقول: إنها المحبة الصادقة تجعلنا مدركين لذوات أطفالنا الرقيقة، وتمكننا من تجاوز أعمارهم الصغيرة الى حقوقهم الكبيرة بخوض التجارب والتطور الطبيعي والنمو الصحيح الذي يبني نفوسا قوية قادرة على مواجهات التحديات في المراحل المقبلة من حياتهم.

***

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

.................

* من وحي شهريار وشهرزاد (50)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

في المثقف اليوم