أقلام ثقافية

شئ عن احدى حكايات تولستوي

ضياء نافععنوان هذه الحكاية الشعبية هو - الاسد والكلب الصغير، وهي حكاية صغيرة جدا تشغل اكثر او أقل من صفحة واحدة فقط لا غير في مؤلفات تولستوي العديدة المطبوعة باللغة الروسية (سواء الكاملة او المختارة)، صفحة في حدود العشرين سطرا او اكثر قليلا ليس الا . تولستوي نفسه أسماها (قصة حقيقية) وليس حكاية شعبية، ولكنها – واقعيا - تندرج دائما ضمن حكاياته الشعبية الشهيرة، ومن المؤكد ان تولستوي ليس عبثا قد أسماها قصة حقيقية، رغم ان اطارها العام يمتلك سمات وخصائص فولكلورية طبعا، اذ انها تتحدث عن أسد وكلب صغير كما يشير عنوانها، الا انها (قصة حقيقية فعلا!) لأنها خالية تماما من ألاجواء الخيالية وتفصيلاتها المتشعّبة من حوار بين الاسد والكلب الصغير مثلا وغير ذلك من الاحداث المرتبطة بمسيرة علاقاتهما معا ...الخ، والتي غالبا ما تكون قائمة في الحكايات الاسطورية عن الحيوانات (وهي حكايات معروفة من قبل القراء)، لدرجة، ان احدى الامهات الروسيات كتبت تعليقا حول حكاية تولستوي الشعبية هذه، وقالت في تعليقها، انها تنصح زميلاتها الامهات الروسيات (بعدم قراءة هذه الحكاية!) لاطفالهّن قبل النوم (كما يحدث عادة في البيوت الروسيّة)، اذ انها (جرّبت ذلك مرّة، فاجهشت – بعد الانتهاء من القراءة - هي وابنتها بالبكاء، لدرجة ان صغيرتها نامت وهي في اشد حالات الحزن!!!)، وقد أثارني جدا تعليق الام الروسية هذه حول حكاية تولستوي (الاسد والكلب الصغير)، وذكّرني هذا التعليق طبعا - مرة اخرى واخرى - بعظمة الفنون الجميلة (باشكالها وانواعها المختلفة كافة) وسلطتها وجبروتها وقوّتها المعنوية وتأثيرها العميق على الاحاسيس الانسانية وعلى مسيرة حياة الناس بشكل عام، وهذا التعليق الحزين للامّ الروسيّة هو الذي دفعني ايضا ان اكتب هذه السطور حول حكاية تولستوي – الاسد والكلب الصغير، اذ ان الحكاية الشعبية عادة لا تثير مثل هذه الاحزان والدموع، بل انها أقرب الى المرح والابتسامة من أجل الوصول الى الحكمة العميقة الهادفة التي تسعى اليها الحكايات بشكل عام، وان القارئ على الاغلب يقرأ الحكاية الشعبية كي (يتوّنس ويفرفش!) كما نقول بلهجاتنا العربية المتنوعة، وليس كي يبكي ويذرف الدموع ويتأّلم، ولهذا، فاني قلت بيني وبين نفسي (بعد هذا التعليق الحزين للسيّدة الروسية) انه من الضروري أن أتأمّل بهدوء اجواء حكاية تولستوي هذه وأتعمّق في مضمونها قدر استطاعتي، اذ لعلني أقدر في هذا التأمّل العميق ان أحدد السبب الذي جعل هذه الام الروسية تبكي مع طفلتها عند قراءة تلك الحكاية، التي تبدو بسيطة جدا للوهلة الاولى .

مضمون الحكاية – بايجاز شديد - حزين فعلا، فهو يتحدث عن أسد يعرضوه للمشاهدين في قفص، ويجب على المشاهدين طبعا ان يدفعوا ثمنا لمشاهدة العرض او ان يجلبوا معهم طعاما للاسد من لحوم او فريسة له من كلاب او قطط، وقد جلب احد هؤلاء المشاهدين كلبا صغيرا كفريسة له، ورموا هذا الكلب الى الاسد، لكن الاسد امتنع عن افتراسه، بل واصبح هذا الكلب الصغير بالتدريج (صديقا!) للاسد، وهكذا عاش لمدة سنة بأكملها معه في القفص، ولكن هذا الكلب الصغير تمرّض، ثم مات، ولم يسمح الاسد لاحد ان يحمل الكلب الميّت من القفص، وقد حاولوا رميّ كلبا آخر له كبديل، الا ان الاسد مزّقه رأسا، وعندما تأكّد الاسد من موت صديقه الكلب الصغير، رقد جنبه وامتنع عن الاكل والشرب، وبعد خمسة ايام مات الاسد نفسه.

لم يتوسّع تولستوي بكتابة تفاصيل هذه (العلاقة الروحيّة!) بين الاسد والكلب الصغير، بل اكتفى بايماءآت رمزية صغيرة جدا جدا هنا وهناك، فالاسد (شمّ!) الكلب ليس الا، الذي (رقد على ظهره وهو يهز ذيله!)، ثم (وقف على رجليه الخلفيتين أمامه!)، ثم (نام متوسدا مخالب الاسد!)، وهكذا بدأ الاسد باطعام الكلب الصغير من طعامه، وبدأت هذه الصداقة الغريبة والعجيبة بينهما .

موت الكلب الصغير بعد مرضه كان أمرا طبيعيا ومتوقعا، الا ان موت الاسد – وبهذه الطريقة التراجيدية - هو الذي يثير القارئ، اذ ان الاسد واقعيا قد (انتحر!) حزنا على موت صديقه (الكلب الصغير)، فالاسد (ملك الحيوانات!) يعيش في قفص، ولكن كيف يمكن (للملك!) ان يعيش في قفص ؟ وكيف يمكن للملك الاسير ان يتصرّف وقد مات صديقه الوحيد، الذي كان يعيش معه في القفص؟ وهكذا قرر الاسد ان ينتحر (احتجاجا على هذا الوضع الرهيب والحزين) بالوسيلة الوحيدة المتوفرة لديه في القفص، وهي الامتناع عن الاكل والشرب، وهو موقف بطولي جدا ونبيل جدا من (ملك الحيوانات)، وموت الاسد بهذه الطريقة المأساوية هي التي جعلت تلك الام الروسية وطفلتها تذرفان الدموع، وذلك تعبيرا عن تعاطفهما مع موقف الاسد وحزنا على موته، وهو يرقد جنب صديقه الوحيد ...

حكاية تولستوي (الاسد والكلب الصغير) تثير الحزن فعلا لدى الصغار عندما يموت الكلب الصغير والاسد الكبير، وتثير الحزن لدى الكبار، لان الموت يجعلهم يتأمّلون بعمق معناه ورمزيته. حكاية تولستوي مدهشة، لانها تصلح للصغار وللكبار، وهذه هي عظمة الفن، الذي يجد فيه القراء كافة (صغارا وكبارا) ما يبحثون عنه من احاسيس وافكار ... 

***

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم