أقلام ثقافية

مظفر النوّاب حين ترجَّل

حاتم جعفرعشية رحيله قرأ النوّاب المشهد العراقي على النحو التالي:

انها أيام مباركة، أيام سعد والقادمات منها ستكون أبهى، فأجواء بغداد تؤشر الى بدأ الزحف من جديد. أمّا التغيير وقلب الموازين وتحقيق اﻷمل المرتجى، فهو أت، لا  شك في ذلك ولا ريب. وفي الحديث عن الخطوة القادمة، التي ينتظرها أبناء الشعب كل الشعب، فستتمثل بشد اﻷحزمة والتهيئة من أجل إعلان النفير العام، دون عودة أو تراجع أو تردد حتى الإطاحة بسلطة الطغاة ومن تَجَبَّرْ. لذا كونو أهلاً لها، فالموجة الثانية من الإنتفاضة التي كانت شرارتها قد إندلعت في تشرين عام 2019 بانت نذرها، وبإستعدادات وعلى ما أرى ستكون أكثر تنظيما، وستُصحب بمنسوب عالً من البسالة والتحدي. وقبل هذا وذاك، ستصطفي لها قيادة، تجيد الشدو وتُحسنُ الطرب إذا غنَّت، والسهر كذلك حتى الفجر على أنين منْ ضربه اﻷنين وصولا الى إستعادة ما فاتها من كرامة ومن أيام صعبة.

فما يحدث في هذه اﻵونة، والكلام لا زال للنواب، يشكل إمتدادا وتواصلا مع شهر الخير، ﻷكتوبر المجد، حيث شهدت حينذاك أكثر مدن العراق وأكبرها وأهمها، إندلاع ثورة عارمة، أبطالها غرٌ ميامين، أجسادهم لم تََلِنْ ولم تساوم، جُبِلَتْ من نور ومحبة ومن وطنية لا يدانيها أو ينازعها عليها أحد. ورغم كل ما حيك لها من دسائس ونذالات، فلم تفت من عزيمتها وإرادتها تلك الشلل السافلة التي خشيت من إماطة لثامها، وباتت الجحور مأواها وإليها تعود، إنهم لا يختلفون عن أولاد القـــ ... اﻵخرون إن لم يفقونهم خسة ودناءة.

ثم يستمر النواب بقراءة المشهد: وها هي جحافل الرجال قد بدأت تلتحق حيث التجمع الأكبر، متجهة بأنظارهاصوب منصةصُنعت من أيادٍ نقية طاهرة على عجل، ومن نبات البردي بأعوادٍه السامقات، المنتشر بكثافة رغم عيون حاسديه ومَنْ تربَّصَ به شرّا من خلف الحدود، فهور العمارة لا زال سخيا، معطاءاً وصلباً كأهله. أرى من بعيد وعلى جانبيها (المنصة) بضعة صبية وشباب، يقومون بنصب جدران شاهقة، ثابتة بوجه الريح ومَنْ أراد لها شرّا. أعمدتها جذوع نخيل، مشذبة معطرة بِطَلعِها، لها نكهة أسواق البصرة العتيقة وأصالة أهلها. ستزدان بصور كوكبة مقدامة من الشهداء، لا زال عودها ودمها غضان، تَشمٌ منهما رائحة الياسمين والشجاعة النادرة. سيتقدم صفوف الحاضرين صفوة من رعيل قديم، كانت فيما مضى قد تشرَّفت وتحملَّت وزر التصدي والوقوف بوجه أعتى ديكتاتورية عرفها العالم، ها وهي رهن الإشارة، لتخوض من جديد غمار مواجهة ستنطلق من هنا وحسب ما تراه من توقيت، ولا أظنه سيكون بعيداً.

ــ 2 ــ

أن تكون شاعرا كما النوّاب بقامته وتموت غريبا، لم يَعُد ونقولها بأسف وألم شديدين باﻷمر المفاجئ والنادر، بل بات حدثا يدخل في باب البداهة، أرغمنا على تجرّعه وتقبّله، وما عادت الشكوى مخرجا نلوذ به ليُنجينا من عاقبته ومن أوجاعه، فثمة آخرين كانوا قد سبقوه في ذلك، فها هو بدر السياب وها هو الجواهري وهاهو صاحب اﻷخضر بن يوسف، وأسماء أخرى كثيرة وكبيرة، يصعب علينا اﻵن إستحضارها وشفاعتي العذر لها. حيث غادرت دنيانا وهي بعيدة عن وطنها وﻷسباب لم تَعُد سرا.

وعن رحيل المثقف أيضا في مغتربه، لا يقتصر وقوعه على فئة مثقفة دون غيرها، بل سينسحب ليمتد ويشمل كل الفئات الأخرى التي تدخل في هذا الحقل. ولم يأتِ مثالنا الاّ إستشهادا ودليلا، يُثبت مدى نكوص وتقصير السلطات الحاكمة المعنية وعجزها المتعمد ربما عن أداء دورها إتجاه هذه الفئة وأخواتها، أو لفرط جهلهم بكيفية إدارة أمرٍ كهذا وما ينبغي عليهم فعله. والحال ينطبق كذلك على كل أبناء الشعب التي قد يطالها الموت وهي بعيدة عن أوطانها.

وسلطة كالتي تتحكم بمصائر الناس في بلادنا وعلى النحو الذي ذكرناه، لا تختلف كثيرا عن سابقاتها في شكل التعامل والتعاطي مع المثقفين، فهي بيئة طاردة بإمتياز ولا عجب في ذلك، فمن يتحكم بزمام اﻷمر ليسوا الاّ شلة من جُهّال القوم، ساوا بين الضلالة والهدى، ومن أول فرصة أتيحت لهم. لذا وفي ظل أجواء كالتي أتينا على ذكرها، سيرفض الشاعر ويأبى أن يكون تحت رحمة وسطوة زمرة كهؤلاء.

وعود على بدأ، فأن يوارى الثرى جثمان الشاعر ويستقر في مأواه اﻷخير، لم يكن ليشكل مانعا من حضور روحه السامية لتشهد مقدمات الإنتفاضة المرتقبة، والتي ستعم بلاده بعد حين ومن أقصاه الى أقصاه. فمن هذه اﻷرض التي حباها خالقها بأبهى وأغنى آياته ونعمه، وفي هذه اللحظات التي سيخلدها التأريخ ويكتبها بحروف من ذهب ومجد، سيلقى بيان الثورة اﻷول وبحضور القطب اﻷعظم، مظفر بن عبد المجيد النواب، المولود في كاظمية بغداد حيث وُلِد صنوه ورفيق سلاحه، أمين الخيون.

وبناءاً على ما فات ونزولا عند رغبة الحاضرين وإلحاحهم وبعيدا عن البرنامج المعد سلفا لهذا الحفل أو المهرجان، فقد إعتلت المنصة روحه النبيلة، ولتتصاعد معها الهتافات ترحيبا. وعن هذه اللحظات فقد خالَ البعضُ بأن النوّاب سيفتتح مهرجانه هذا بإلقاء قصيدة البنفسج أو أي من شقيقاتها العذبات، تطييبا للنفوس وتهدئة، الاّ انه باغتهم بواحدة من تلك الفعاليات التي تفرد بها عن سواه وما لم تخطر على بال أحد.

فصانع القوافي وسيدها ومبدعها لم يُلقِ أي من قصائده التي كانت قد صاغتها أنامله وعلى طيلة فترة حياته، والتي قضى أكثر من نصفها بين المنافي، بل أحضر معه بعض شخصياتها التي رافقت رحلته الشعرية، داعيا صويحب بمنجله الذي لا زال محافظا على بريقه ولمعانه رغم مرور السنين، ليلتحق به. ثم أشَّر بعيدا على حَمَد ليترك الريل قليلا، طالبا منه صعود المنصة هو اﻵخر. سيصطحب حمد معه دِلال قهوته برائحتها ونكهتها، فبدا كما الذي كان على موعد ومعرفة مسبقة برغبات سيد الحاضرين. وما كاد الحفل أن يبتدأ حتى تذكر النوّاب حجّام البريس وراح مناديا عليه، بعد أن تمكن من تمييزه من بين مئات الحاضرين، بمهابة عقاله وطوله الفارع، معيدا عليه وهو في طريقه الى صعود المنصة قراءة تلك القصيدة التي عادت بهما الى عشرات السنين:

منهو الجاي .. ويه الماي.. ويه الشرجي.. يا حجّام؟

يمكن عدو يا حجّام...

يمكن شرطه وتلعب النفس..

والشرطه لا هي جلاب ..

ولا هي زلام ..

هنا بدأ المتجمهرون والتي أخذت أعدادهم بالتزايد، بشكل فاق كل التوقعات بالتلفّت، فبالقرب من مكان تجمعهم، راح يجوب رتل عسكري، مصحوبا بسيارات مدنية، تؤشر الى مدى هيبتها دون هيبة راكبيها. فمن خلال النوافذ، جرى تمييز وجوه البعض منهم، فهذا رئيس ما يسمى..... وذاك وزير .... وسيارة ثالثة حملت إحدى السيدات وقد غطَّت كل جسدها، إبتداءا من رأسها حتى آخر ما ظهر منها وما بان. تمثلُ مَن هذه السيدة؟ تسائل البعض في سرِّه ولم ينتظر رداً من أحد. لحقت بها سيارة رابعة كادت أن ترتطم بسابقتها، ربما لإضطراب حال سائقها، تقل أحد كبار ضباط مرحلة الإنحطاط التي جاءت مع الإحتلالات المتعددة الولاءات، مسترخ في جلسته حتى تعذَّر رؤية رقبته. إعتلت كتفيه نماذج مصغرة من نجوم وسيوف متقاطعة، أراد من خلالها إبراز رتبته العسكرية المفترضة، ناسيا انَّ صدر بزته قد أظهر صنوفا متعددة ومتضاربة من التقسيمات والإختصاصات، إذ إختلط صنف المشاة مع صنف الجو والمغاوير مع قوات حرس الحدود.

النوّاب مظفر أو لنقل روحه وطيفه الذي لا زال سابحا ومحلقاً فوق سماء المحتشدين، لم تعر إهتماما لمرور رَكبْ (كبار مسؤولي الدولة) حيث واصل قراءة قصيدته حجام البريس. وما أن وصل الى المقطع الذي يقول فيه:

أفه يا گاعنه، الوكحه!!..

حلاة الليل، وأهل الليل...

والنار...

بمرابعها...

أفه يا گاعنه...

السحگته...

وإنسحگت عليها...

جيوش يابو جيوش...

وما بدلت طبايعها ...

حتى بدأ المتجمهرون برمي ذلك الرتل الذي بات قريبا جدا منهم، بما توفر لديهم من حجر ومن أحذية، رفضا لحضوره ورفضا كذلك لمحاولة إستعراض ما يسمى بقوته، والتي أراد من خلالها إثبات وجوده وفرض سيطرته. وبعد أن تلقى (الرتل) من الضربات والهتافات والإهانات ما لم تبق لهم من وجاهة، ولَّوا وجوههم من حيث أتوا.

خلاصة القول ورغم حجم الإستفزازات التي تعرَّضَ لها الجمهور، ورغم محاولة البعض من المندسين إفساد ما يمكن إفساده، فقد إستمر المهرجان وتواصل حتى ساعة متأخرة من الليل، محافظا على جذوته، حاملا على كتفيه تلك الأهداف النبيلة التي ما إنفك يدعو الى تحقيقها، مختتما حضوره بالإستماع الى البيان الختامي للمهرجان، والذي ألقته روح النَّواب، مشفوعا بأغانٍ تنسجم وطبيعة الظرف والمناسبة التي تمر بها البلاد.

أمّا سماء بغداد فقد بدت بهية، مزدانة بقصائد الشاعر الكبير، محلقة بعيدا وبألوانها الزاهيات، مشكلة لوحة فنية رائعة الجمال، سيخلدها تأريخ العراق، وستقرأ عنها اﻷجيال القادمة بفخر وإعتزاز. وسيكتب عن ذلك اليوم: بأن النوّاب مظفر كان هنا رغم رحيله الجسدي. ومثلما كان داعيا الى الثورة ضد كل أنظمة الحكم الفاسدة أثناء حياته، فها هو مرة أخرى وفي يوم رحيله، يحمل راية التصدي عالياً ضد الطغاة.

***

حاتم جعفر

السويد ــ مالمو

في المثقف اليوم