أقلام ثقافية

السَعادةَ لا تأتي إلا بالرِضا

مينا راضيمُحاضرةٌ ثَمينةٌ في مَقهى الجامِعة

يَومٌ جَديدٌ بينَ أسوارِ جامِعَتي الكنَدية.

يُخَيِّمُ الفُتورُ الصَباحيُّ على المَكان مع نَكهةٍ منَ التَوَتُّر، لقد دنَت الامتِحانات وكلٌّ منا كان يَسعى لاكتِنازِ كلِّ ذَرّةِ تَركيزٍ في ذِهنه، ورائِحةُ القَهوةِ النَفّاثةِ تَغزو المَكانَ وتَختَرِقُ الخَياشيم. كنتُ أنا كَعادَتي جالِسةً على طاوِلةٍ من طاوِلاتِ مَقهى الجامِعة، لم أكُن أدرُس، بل كنتُ أحاوِلُ جاهِدةً تَرتيبَ الفَوضى بداخِلي، كنتُ أحاوِلُ تَرتيبَ أدراجِ الذاكِرةِ علَّني أجِدُ بين دَهاليزي بعضَ السَلامِ الداخِلي. كنتُ أحاوِلُ إسكاتَ الأسئِلةِ العَقيمةِ التي تَطِنُّ في عَقلي. 

و بينما كنتُ أتَخَبَّطُ كسَفينةٍ تائِهةٍ بينَ ضِفافِ رأسي إذ بعامِلةِ نَظافةٍ تَرمقُني بنَظرةٍ رَقيقةٍ وتَبتَسِمُ في وَجهي، كانَت تُنَظِّفُ طاوِلَتي بكلِّ تَفانٍ وتُغَنّي بصَوتٍ جَميل. أخّذتُ أتأمَّلُها لوَهلة، كانَت السَعادةُ باديةً مُتَجَلّيةً على مُحَياها. لقد كانَت تلك العامِلةُ تَعرِفُ كل طالِباتِ قِسمي بأسمائِهِن لذلكَ لم أستَغرِب مُطلَقًا عندَما حَيَّتني ونادَتني باسمي. كانَت بمَثابةِ جُرعةٍ منَ المَسَرّةِ التي تَتَخَلَّلُ يَوميَ المُزدَحِم، أو قارِبِ نَجدةٍ يَنتَشِلُني من لُجِّ الهَواجسِ والمَخاوفِ ولو لدَقائِقَ مَعدودة. عندَما وقفَت بجانِبي سألتُها بعَفَويةٍ مُطلَقةٍ ودونَ تَفكير: " كيفَ تُحافِظينَ على ابتِسامَتكِ دائِمًا؟ كيفَ لهذهِ الابتِسامةِ أن تَستَقِرَّ على وَجهكِ وألا تتَزَحزَحَ مُفسِحةً المَجالَ لتَقطيبةٍ أو عُبوس؟ " صمَتَت لبُرهةٍ ثم أجابَت: " إنَّني سَعيدةٌ مُعظَمَ الوَقت. أقولُ هذا لأنني أعلَمُ أن السَعادةَ الدائِمةَ المُطلِقةَ ليسَ لها وجودٌ في هذه الدُنيا، فلابُدَّ من الكَدَرِ والحُزن، لابُدَّ منَ المَطَرِ والعَواصِفِ حتى تُشرِقَ الشَمس. "

كانَت تلك العامِلةُ دائِمًا ما تَسحَرُني بحِكمَتِهان عندَما أراها كنتُ أوقِنُ أنَّ اللهَ يجعَلُ سِرّهُ في أضعَفِ خَلقِه. رغمَ بَساطَتِها وبساطةِ مِهنَتِها إلا أنها قد فَهِمَت تلك المُعادَلةَ العَصيةَ التي تُسَمّى الحياة. ابتَسَمتُ في وَجهِها وقبلَ أن أسألَها عن سَببِ سَعادَتِها قالَت: " أنا سَعيدةٌ لأنني لا أقارِنُ نَفسي بأحَد، ولم يَسبِق لي أن نَظَرتُ إلى ما في أيدي الآخَرين. " لقد كان ذلكَ الجَوابَ الشافي الذي لَطالَما بَحَثتُ عنه. في سَطرٍ واحدٍ اختصَرَت تلك المرأةُ البَسيطةُ مَعنى الرِضى، أو بالأحرى المَعنى الخَفي للسَعادة. في ذلك اليَومِ أخبرَتني أنَّ مُقارَنةَ أنفُسِنا بالآخَرين هو نمَطٌ من أنماطِ جَلدِ الذاتِ وتَدميرِها، والذي يُسَمّى في عِلمِ النَفس بالتَدميرِ الذاتي، بل هو مَرَضٌ مُميتٌ يؤَدّي إلى وَفاةِ الشَغَف.

عَلِمتُ بعد ذلك الحَديثِ الذي دارَ بيني وبينَها أن الشَغَفَ كبَصمةِ اليَد، وأنني إن أرَدتُ أن أنعَمَ بتلكَ السَعادةِ النِصف سَرمَدية فإنَّ عَليَّ أن أكتَشِفَ شَغَفي الحَقيقيَّ وأطارِدَه بدلَ سَرِقةِ أجزاءٍ مُتَناثِرةٍ مُقَلدةٍ من تَوَجُّهاتِ الآخَرين. في خِضَمِّ الانفِتاحِ الذي يَغزو هذا العالَمَ من كلِّ صَوبٍ أصبحَ منَ الصَعبِ علينا أن نَنغَلِقَ على ذَواتِنا وأحلامِنا، أصبحَ منَ الصَعبِ على الإنسانِ أن يَنعَمَ ببعضِ الهُدوءِ وأن يَختَلي ببَناتِ أفكاره دونَ استِهلاكِ أفكارِ غيره. وسطَ الشَوارِعِ المُكتَظّةِ بالآخَرين باتَ منَ الصَعبِ علينا أن نَجِدَ ذاتَنا الحَقيقية، بل إن مُعظَمَنا قد أضاعَ شَخصيَّتهُ وحَقيقَتهُ بينَ الحُشود، وذلك في رأيي هو المُسَبِّبُ الرَئيسيُ لأمراضِنا وعُقَدِنا النَفسية. إننا اليَومَ شَديدوا الانفِتاح، أعيُنُنا مَفتوحةٌ جدًّا على العالَمِ الخارِجي بينَما نَنسى التَعَمُّقَ في ذلك العالَمِ الأكبَرِ المُسَمّى بالذات، نَنسى أن نَستَخرِجَ الكُنوزَ الثَمينةَ القابِعةَ في ثَنايانا. عندَما كَبِرتُ فَهِمتُ أخيرًا مَعنى الحَديثِ الشَريفِ الذي يَقولُ فيهِ نَبيُّنا الكَريمُ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم: " رَحِمَ اللهُ امرئًا عَرِفَ قَدرَ نَفسِه. " فالمَقصودُ هنا إدراكُ الأنسانِ بأنهُ كائِنٌ عَظيمُ الشأنِ ومُقَدَّر، ومُقارَنةُ النَفسِ بالآخرين هو تَقليلٌ من شأنِ الذات وسَلبُها حقَّها في التَمَيُّزِ والاختِلاف، فلا يَجوزُ لنا أن نَقيسَ أنفُسَنا وقُدُراتِنا بمَقاييسِ الآخَرين، لا يَجوزُ أن نُؤَطِّرَ تلكَ الذاتَ الفَريدة، فإنَّ تأطيرَ الذاتِ وتَحديدَها بصورةٍ نمَطيةٍ مُعيَّنةٍ يَعني الحُكمَ عليها الإعدامِ البَطيء.

في خِتامِ هذا المَقال، أقولُ أنَّ السَعادةَ لا تأتي إلا بالرِضا، وأن بِذرةَ الرِضا لا يُمكِنُ أن تُسقى بالمُقارَنات. لقد قرأتُ قبلَ أيامٍ مَقولةً رائِعةً للكاتبِ الفلسطيني أدهم شرقاوي، يَقولُ فيها: " المَسكونُ بالمُقارَنةٍ مَحرومٌ من الطُمَأنينة. "  تلكَ عِبارةٌ يَجِبُ تَعليقُها داخِلَ رؤوسِنا.

***

بقلَم الكاتبة مينا راضي

في المثقف اليوم