أقلام ثقافية

طائفة العشّاق المتألمين (مقامة)

امين صباح كبةرجوت وصلًا لا هجر يشعثه، وقبولًا لا ردّ يريبه، ورَوحًا لا كرب بعده، وصفوًا لا همّ معه.وقد أبلتني جِدّتي، وأكلّتني حِدّتي، وأضعفتني شدّتي، فلم يبق منّي سوى ذماء ينبض في حشاشة مضمحلّة. لا يطرقها طارقٌ إلا بحدثانٍ غريب، ولا يزورها زائرٌ إلّا بأمرٍ عجيب. فشكواي معادة، وكُربي معتادة، وأحوالي مرادة، وأوقاتي مبادة. فلا حسيس أتعلّل به، ولا أنيس أستريح له. وكلّ ما في نفسي رنينٌ وأنين، وزفرات وحنين .قد صرفت زماني في فلي الأثناء، واستنباط الأنباء.حتّى خرجت بعد إلحاح أصحابي إلى أرض الله الواسعة متفاديًا فتنها، معتزلًا أهلها، مشغوفًا بأضرحة أولايائها. فأحلّني يومًا قومٌ ينوحون ويبكون، ومن ألمهم يصرخون، وكانت قلوبهم طافحة بسوء الظنون، وكان حديثهم ذو شجون، وكانوا يتحاورون بما لعلّه يكون أو لا يكون.وقد طاحت بهم الطوائح، وناحت على ما يتحدّثون النوائح، مطرت سماء المحبة فلم يبتلّوا بقطرتها، وهبّت ريح الوصل ولم يعبقوا بنسيم من نسائمها.

فلمّا اقتربت منهم قال أكبرهم: يا صاحب المقامات. إذا كنت ثاكلًا فنحِّ عليّ ما أُصبت به، وإن كنت مكروبًا بالسر فبح لعلّك تشفي غليلك فيه. وإن كنت عاشقًا فلا تتعدّ نية همّتك إلى غير معشوقك، فقربك منه أن تكون مشاهدًا لقربه، وإلّا فأين أنت ووجود قربه؟! وأنت من الأكوان ما لم تشهد المكوّن، فإذا شهدته كانت الأكوان معك.يا صاحب المقامات إنّك إن عرفت اللغة واستخرجت حالك من هذه المقامة وحصلت مالك وعليك، أوشكت أن تكون من المجذوبين إلى حظوظهم، والخالدين في نعمهم، وإن كنت عن هذه الكنايات عميّا، وعن الإشارات مهملًا وأعجميًا.

وقال الثاني: يا صاحب المقامات ائتزر أحاطك الله بالانكماش، وارتد بالجهد، واكتحل بالسهر. وإذا حلمت في منامك بمرادك، فتعلّل به باليقظة، وزن واتزن، وتمهّل واستمكن، واخضع واستكن، وقرّر واطمأن، وأرجع في كل حادث فادح، وفي كل مغلق وفاتح إلى ربك، وكن معه وعنده حتى لا تحتاج إلى الرجوع إليه، فإنّه أكرم فيك جميل ستره، فاحمد من سترك.فما صحبك إلا من هو بعيبك عليم، وليس ذلك إلّا مولاك الكريم خير من تصحب لا لشيء يعود منك إليه، فما حجبك عنه وجود موجود معه، ولكنّ حجبك عنه توهّم موجود معه، (فسبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم من أراد أن يوصله إليه) وسبحان من وارى منافع ما جهل من سرّه في عرض ما عرف من علانيته، وسبحان من لو شاء أرانا غير ما أرانا، وآتانا من لدنه سوى ما آتانا.

وقال الثالث: يا صاحب المقامات أخرج من دوائر أوهامك، ومن أضغاث أحلامك، فقد دارت اللغات على مراكز المعاني بمفوت المدرك، وإدراك الفائت، بلا رسم معهود، ولا أثر مشهود ولا دليل قاطع.

فلما طعن قلبي ما قالوه، وهزّ كياني ما حدّثوه، انتظمت في دائرة سلكهم، وأجريت أدور معهم حول نفسي وأنا أبكي وأقول:

اللهم إنّا في سكرة وارداتك، وفي حيرة من مجاري أقدارك؛ وليتك إذ لم تخصّنا بانكشاف العين، لم تشعرنا التمني لما لم تجرِ به مشيئتك، ولم يسبق به معلومك، اللهم امح اسمائنا من ديوان غيرك، واجعلنا من المنيبين إليك، عد علينا بصفحتك عن زلّاتننا، وانعشنا عند تتابع صراعاتنا، وحط رحالنا معك في اختلاف سكراتنا وصحواتنا. وكن لنا، وإن لم نكن لأنفسنا، يا معروفًا بفطن القلوب، ويا موجودًا في مسرّات سريرات الغيوب. نجّنا من سخطك، وبّرد قلوبنا بنعيم رحمتك، فلا صغيرة إذا قابلت عدلك، ولا كبيرة إذا واجهت فضلك، فما من نفس نبديه، إلا ولك قدرٌ فيه تمضيه، وأبعد عنّا وقوع الأكدار، في هذه الدار، فإنّها ما أبرزت إلّا ما هو مستحق وصفها، وواجب نعتها، ونقّ يا ربّ سرائرنا فما استودع في غيب السرائر، ظهر في شهادة الظواهر، ارجعنا إليك في بداياتنا، فإنّها تشرق برحمتك، ومن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، وافتح اللهم لنا باب الأنس بك، واجعلنا لا نلجأ لغيرك، واطلق ألسنتنا بالطلب، وفرّج عن صدورنا الكُرب، وجفّف ألم البلاء عنّا، يا من أظهر كلّ شيء وطوى وجود كلّ شيء.برّد قلوبنا بالوصال، وحقّق لنا ما نرجوه من آمال، إنّك سميع الدعاء لطيفٌ بمن تشاء.

٢

أخوض في أنهار من أوهام.وأكتب هذه المقامة تاركًا هؤلاء يبكون على مصائرٍ شبيهة بمصيري. أنا أكتب وهم يدورون حول أنفسهم، كلماتي مخلوقات مهدّدة بالبرود، لولا حرارتها لما كنت أحيا، بعد أن يذهب آخر عاشق متألم منهم سأستعيدها، بكلّ بهائها. أسهر على حروفي حتّى الفجر.أستذكر قول أحدهم لي عمّا يشعل حروف هذه المقامة ويجعلها تتوهّج. وقتها لم أجبه لأنه كان يعرف الإجابة بالفعل.

كلماتي مليئة بالنذائر، والنُذر، ومفاجئات أيّامي.

وإحباطاتي وآلامي وقصص حبّي الفاشلة. لست الطريح الذي تتخيّلون. النور يلمس وجهي والرؤية تحيل السماء إلى مسرح تشتعل فيه النيران، وتتحرّك فيه العرائس.أنا الزاحف من يوم إلى آخر نحو بؤرة الطوفان نحو الوكر الذي يختبأ فيه صائغ الصيغة، سيّد اللعبة، وشيخ الطائفة. أنا الماضي حسب ما يقول الشيخ من الوهم إلى الحقيقة. وأيّ إلهام يمكن له اليوم أن يأتيني محسوبًا لا بالكلمات، محسوبًا بنبضة على وصل المحبوب، أو جرح منه.

٣

يقيّض للسكينة أن تفرش خيمتها عل أجسادنا كأنها بستان. تبطئ السماء حركتها، وتلمع بضع نجمات ساحرة.الظلام شيخٌ أقتم، طائفته ترتدي السواد مع لمعة من خيط ذهب أو فضّة، يأتي فيجعلنا ندور ونبكي، يبسط كفيه ويمسح على رؤوسنا كما تمسح يد المعشوقة تجاعيد وجهٍ قطّبته الأحزان.يقلب صفحة أخرى من هذه المقامة كأنه هو القارئ ويسأل عن الصفحة التي تليها.

٤

يستغرق شيخ الطائفة في سرد حكايته، ولا يحسُّ بالنار وهي تلسع أصابعه. مستغرقًا في دهشة أن أكون معهم بعد كلّ هذه الخيبات والمحطات والمرافئ.مصيره محبوك كاللِّيف في حلقاتها الضيّقة، ضيقه وألمه كدّس على صدره الكوابيس. يقضي حياته بانتظار أبدي لحبيبة لا ترقّ له. يحدّق بوجوه لا تظهر عليها الابتسامة مهما ابتسمت. يحكي ويحكي ويعظ، يبكي ويتألم ويدور، لأنه وصل ولم يذق طعم الوصول، ولم تدهشه مباهجه، فنصبّره نحن بحكاياتنا، ولا نحسُّ بالنار وهي تلسع أصابعنا.

٥

توسّل ودعاء، ألمٌ وبكاء. نرد الحتف المصيّر يسقط على مخمل الحاضر؛ بوصلة بشرية هي الشيخ.

يداه محمّلتان لخواتم من العقيق والدر، ظهره متقوّس، يحدّق في عينيّ ويقرأ فيهما حكايتي الطويلة وما جرى في أيّامي الفائتة، ويرى سهم مستقبلي الزائغ عن الهدف، خلفه أتباعه يتضرّعون بعليٍ مظهر العجائب، يدورون، فترتسم على السماء صورة قبّته المذهّبة، وشبّاكه الملفوف بخرق المتوسّلين وطلّاب البركة.حبّات الكهرمان في سبّحة الشيخ عُقدٌ مدماة لكلّ قلب يخفق لطائفته من العشّاق المتألمين، يطرد سرًا غير مرغوب رفرف من عينيّ الحائرتين، هاربًا مثل حمامة إلى البعيد، تهتزّ الأشجار حولنا وتلتمع شجرة حفر الزمن على جذعها اسمي، لا أعرف إن كانت أخبرته عمّا إذا كانت تعرف كلّ هذا أم لا، فنحن لا نتكلّم، لا نقول شيئًا، أو نفصح عمّا لا يقال في حضرته.

٦

طائفة من العشّاق المتألمين نحن. ندور ونبكي ونبتهل، حولنا أطياف عشّاق، محظيات، موتى، نتلكّأ مع شيخنا بانتظار شبح حبيب سرعان ما يختفي.نعزف على قيثارة بلا أوتار، وجع الأيام كلّ ما تبقّى لنا من علائم الطريق، نهمل الأخبار، وقمامة الأحداث، ونستمع للريح وهي تبثّ شكواها، وتعزف مراثيها الموّاءة على أوراق أغصان الأشجار. سمائنا محشوّة بالرماد.نحاول أن نكتب أنفسنا بلغة نحيا عبرها، تبقى منقوشة في جدران الذاكرة، في عالم الضجيج والهمجية والموت نحيا، نبتهل كما يريد لنا شيخنا، وإذا ما صرخنا وأفصحنا عن أصواتنا الأخرى فستختفي الشياطين لئلا تسمع الصرخة.هذا ما قاله لنا شيخنا المترع بمصل العُزلة والغياب.لكي ننسى الظلام الراقد في صدورنا.

طائفة من العشّاق المتألمين نحن. تضاف إلى الزمان حبةَ رمل، نسطّر ما يمكننا أن نسطره في هذه المقامة، متأملين أنّ ثمّة كلمة تعزّينا بأصدائها في خلفيّة الذكرى، وما من كلمة في النهاية تعرف كيف يكون العزاء.ومع ذلك فقد هبطت إلينا كلماتها من سماء الخالق الرحيم بالخليقة، رغم أنّ العذّال أخبرونا بأن التواصل مستحيل، مع أن ليلتنا هذه جاهزة لاستقبال معجزة في أيّة لحظة، فدعائنا وترتيلنا قد غطّى وجه الأرض.

٧

اسمع يا قارئي، حتى أصف لك تصاريف حالي ومتقلّب أمري، وجميع ما بدا على ألمي وشكواي، وراحتي وبلواي، واعلم أني انتهيت إلى حال لم أشهد فيها إلّا النعمة،  رغم أنّ غليلي متقدٌ بالحنين والصباية، وروحي هائمة جوّابة، ترجو نورًا مستودعًا في القلوب، مدده النور الوارد في خزائن الغيوب. وأنّي لا أخاف أن تلتبس عليّ الطرقات، وإنّما أخاف من غلبة الهوى. وكنت لقصر نظري، أظن انفكاك لطف الله عن قدري.

٨

أرمي بذور الحب في أرض بور، وأدري أنّ الغمام لا يسقي تفّاح الحالم. وقد كان لي أشباحٌ يقصّرون الليل بالغناء، ويطردون البرد بالدوران. منحوا الطبيعة أسرارًا جديدة، وأذابوا من الحديد قدر اختفائهم. وقد صرت بعد أن اكتشفتهم صلبًا شفيفًا، أحمل من الحواس عدد أسئلتي، وأعرف الفجر وكلماته، فأدركت لمستك الخفية في أماكن لستِ فيها.وعرفت أنّك تنبلجين من الصبر، فصرتُ آيته.ومن نبوغ تواريك تتركين آثارًا مضيئة لتتبّعها الفراشات، فيصير كلّ ما مررت عليه حدائقًا. هذا سر النور في كلماتي رغم ألمي، فعيناي عن بصيرة حيّة تنغلقان. وفمي بلبلٌ نافق وتاريخ غناء. وأنا صرت من حزن هجرك طائفة من العشّاق المتألمين تدور حول نفسها وتتغنّى باسمكِ.

***

أمين صباح كُبّة

 

في المثقف اليوم