أقلام ثقافية

حين نفقد شخصا نحبه

درصاف بندحريقول الشاعر اللبناني وديع سعادة:

"لا أعرف كيف لا تتوقف أرجلنا عن المشي

 حين نفقد شخصًا نحبُّه.

 ألم نكن نمشي لا على قدمينا بل على قدميه؟ "

قد نفقد شخصا لأننا لم  نحافظ عليه أو ربما نفقده لأننا حاولنا الحفاظ عليه أكثر من اللازم. هذا فيما يتعلق بفقدان شخص نحبه وهو على قيد الحياة. لكن  يظل الموت أقسى أنواع الفقد إيلاما وأشدها عذابا وذلك لفقداننا الأمل بمعاودة لقاء من فقدنا.

يعد تقبّل أحاسيسنا أوّل خطوات التعافي والشفاء من الألم. أن تتقبل مصابك هو أن تسعى إلى فهم الواقع، فهم السلوك السوي الذي يتحتم عليك أن تنتهجه في تعاطيك مع الوجود من حولك.

يقول الفيلسوف الألماني "أرثور شوبنهاور" (1788م1860م): "كلما انحدرت مرتبة الإنسان من حيث العقل، كلما قلت غرابة الوجود بالنسبة إليه.. معرفة الأمور المتعلقة بالموت، والتفكير في الألم وفي بؤس الحياة، هو دون شك، الدافع الأقوى للتفكير الفلسفي والتفسير الميتافيزيقي للعالم. فلو كانت حياتنا أبدية وخالية من الألم، فلن يتسنى لأحد أن يتساءل عن سبب وجود العالم وعن سبب حمله لهذه الطبيعة الخاصة، بل ستكون كل الأشياء مفهومة من تلقاء نفسها."

من المتفق عليه أن الفلسفة هي السعي إلى المعرفة، لذلك لا يكتفي الإنسان بملاحظة الوقائع وبما يدور حوله فقط، بل غالباً ما يثير الكثير من التساؤلات والجدل لكي يحصل على إجابة واضحة ومنطقية والوصول الى حقائق موضوعية.

يرى شبنهاور أن الطريق إلى المعرفة غير متاح إلا لذوي العقول التي اختبرت الألم فدفعهم ألمهم إلى الدهشة و التساؤل.

 نتبن من خلال هذا أن  فاقد الدهشة كائن ميت وأن العادة تقضي على  الرغبة في المعرفة. وحدها الدهشة تنزع عن الأشياء أُلفتها وبساطتها لتضعنا أمام حيرة السؤال.

مفردة فلسفة مصدرها الإغريقية وتعني ’’حب الحكمة‘‘. هي واحدة من أهم مجالات الفكر الإنساني في تطلعه للوصول إلى معنى الحياة.

في سعينا إلى معرفة الحكمة من وجود الحياة..من الموت ..نحن نقوم بفعل فلسفي.

من المفيد في هذا السياق الإطلاع على الفلسفة الرواقية.

ظهرت الرواقية لأول مرة حوالي 300 سنة  قبل الميلاد في اليونان، عندما فَقَدَ تاجرٌ يدعى "زينو"جميع ممتلكاته في سفينة غرقتْ. لمواجهة هذه الكارثة التي حلت به بدأ في ممارسة الفلسفة في "ستوا بويكيل"، أحد أروقة "أغورا "الأثينية، الذي تستمدّ منه الرواقية اسمها.

اهتم الرواقيون كثيرًا بالتمييز بين ما نستطيع وما لا نستطيع السيطرة عليه، بأنه لا مفر من تنسيق أفكارنا وسلوكياتنا مع مسار الطبيعة الحتمي. كان الرواقيون يصنفون من ينجح في القيام بهذا الفعل  بأنه إنسان فاضل. وبهذا الشكل، كانوا يصنفون الحزن على موتٍ الأحبة بأنه خطأ جسيم.

ربما يعد هذا القول للوهلة الأولى مبالغا فيه بل وشديد القسوة لأنه ليس هناك من شخص طبيعي لا يحزن على فقدان أحبته.

بالتمعن في الفلسفة الرواقية نتبين أن مشاعر الرواقيين تجاه من يحبونهم أكثر ثراءً من مشاعرنا نحن غير الرواقيين، لأنهم يُذكِّرون أنفسهم في كل لحظة بمدى قيمة اللحظة التي تجمعهم بمن يحبون. عندما يختبرون موت شخص عزيز، يشعرون ببداية حزنٍ، لكنهم يسيطرون على حزنهم ويحولونه نحو كل ذكرى طيبة كانت قد جمعتهم بمن فارقهم وهو ما يمكنهم من تخطي الألم جراء خطب لا يملكون شيئا حياله.

إن العمل على تطوير قدرتنا على التكيف مع آثار الفقد على نفسيتنا يمكننا من أن  نحب إنسانًا ما، بكل صدق، وهو لا يزال على قيد الحياة، لكن موته لا يمنعنا عن الحياة.

 ما يساعدنا على ألا نغرق في الحزن على من فقدنا هو المهارة في الانتقال من حالة الشجن إلى حالة الرضا والقبول.

في رسالة  العلامة العربي المسلم يعقوب ابن إسحاق الكندي*

"في دفع الأحزان" يُعرِّف الحزن بأنه" ألم نفساني، ناتج عن فقد أشياء محبوبة، أو عن عدم تحقق رغبات مقصودة، وعلى هذا، فإن سبب الحزن هو إما فقد محبوب، أو عدم تحقق مطلوب." 

ويضيف الكندي أنه علينا ألا نملك شيئاً حتى لا نفقده، فيكون فقدانه سبباً للحزن، ولأن الحرص لا تدوم معه ملكية، فيجب علينا أن لا نملك شيئاً.

ما يصفه الكندي هو حالة من الحرية تحلق فيها النفس عاليا دون قيود لتبلغ مرتبة السمو عن عالم المحسوسات إلى عالم  أرفع، هو عالم الروحانيات.

نخلص من خلال هذا أن الحياة فرصة تجمعنا بمن نحب وجب علينا أن نستغلها في عيش لحظات السعادة معهم، في تقاسم مشاعر الود والرحمة والإيثار.

إن  الفقد حتمي وهو خارج عن سيطرتنا.  الفقد و من بعده الشعور بالحزن على شخص راحل قد يحمل في طياته وجود ذكرى عذبة ذات قيمة. قد يكون الاحتفاء بالذكرى المبهجة هو العزاء.

ما يجعل لكل شخص، لكل ذكرى قيمة حقيقية، هو ادراكنا لعدم خلودها، لفنائها. حين ندرك هذه الحقيقة تصبح للمشاعر قيمة أرفع. هكذا يصبح الحزن متأصلا في الحب بسبب إداركنا العميق انه سيزول يوما.

***

درصاف بندحر – تونس

.......................

المراجع:

1- كتاب رسائل  الكندي الفلسفية/ ابو ريدة، محمد عبد الهادي

2- كتاب الفلسفة الرواقية /عثمان أمين.

3- كتاب فن العيش الحكيم/ آرثور شوبنهاور

الهوامش:

* أبو يوسُف يَعْقُوب بن إِسْحَاق الْكِنِدي (185 هـ/805 - 256 هـ/873) علّامة عربي مسلم برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام. يعرف عند الغرب باسم (باللاتينية: Alkindus)، ويعد الكندي أول الفلاسفة المَشّائِين المسلمين، كما اشتهر بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية.

في المثقف اليوم