أقلام ثقافية

أسطورة الأخ الأكبر (1)

عمار عبدالكريم البغداديشهرزاد: يحزنني القول إن عنوان (الأخ الأكبر)  قد يكون سببا لضياع كل محبة بين الإخوة والأخوات، كيف لنا أن نفسر  ذلك؟.

شهريار: نعم، في كثير من الأحيان يكون الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى عنوانا للتسلط والنظرة الفوقية لمن سواهما، وأرى السر في ذلك مفهوم (الوريث الشرعي) للأب أو الأم على حد سواء، وكلنا يسمع ويردد: أخوك الأكبر.. أختك الكبرى ، وهذا المصطلح الذي يفرض علينا مزيدا من الإحترام والتوقير من باب أولى أن يفرض على الطرف الآخر أحساس محبة وتقدير مضاعف، وإنني أتساءل هنا: ماالذي يجعله أو يجعلها أكبر منّا إن لم يكونا أكثر عطاءً وعطفا ومحبة؟ !، وماالذي يجعله أكثر حكمة ووقارا إن لم يغلب عليه سلوك القيادة ورحابة الصدر وروح المسامحة والتواضع؟!.

أنْ مثل الإنسان المتقدم على غيره في السن بدون دراية وحكمة ومحبة كشجرة كبيرة تحيط بها شجيرات مثمرات من كل جانب لكنها تعلو على الجميع بأغصان فارعة وتتساقط أزهارها في كل موسم ربيع وهي تقاوم بتكبّر نسائم التغيير .

إن مفهوم (الوريث الشرعي) لايعني في حقيقته وراثة التسلط والطاعة المفروضة على الآخرين، وكما أسلفنا، فان الوالدين الصالحين يؤديان رسالة حياة خالدة هدفها الوحيد أن: يصلا بأولادهما الى بر أمان ونجاح وتفوق، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال التواضع والمحبة غير المشروطة، والقيم العليا، والتقمص الشخصي، وخلع قبعة الخبير والأقنعة الزائفة التي قد يواجهان بها الناس، وتقدير مواهب أولادهما وإبداعاتهم وحسن أختياراتهم، وتجنب إسقاط تجاربهما القديمة على طريق نجاح الجيل الجديد.

فإن كانت هذه صفات الوالدين الصالحين، فمن أين أتى الأخ الأكبر او الأخت الكبرى بأحقية الأوامر النافذة والتسلط على بقية أفراد الأسرة؟!.  

وللأجابة على هذا السؤال يمكننا القول: إن الوالدين الصالحين المتشبثين بمفاهيم التربية الصالحة قد يقعان بأخطاء الحتمية الوراثية،أو المحبة المفرطة لأول مخلوق أدخلهما سجل الوالدين، وأغدق عليهما بالإحساس الأول لصفة  (الأب والأم)، وهما في كل مرة يرددان: أخوك الأكبر.. أختك الكبرى بنبرة سعادة تعيد إليهما ذلك الإحساس الذي لا يتكرر مرتين وإنْ أنجبا 10 أولاد من بعده.

وقد يكون تشبث البعض حتى يومنا هذا بما يعرف بالنظام البطريركي (العشائري)  الذي يعود الى العهد الروماني القديم سببا بالفهم الخاطئ لمعنى الوريث الشرعي.

ذلك النظام العشائري الروماني كان سائدا بمفهومه العام لدى العرب قبل الإسلام أيضا، ويعني أن يَملُك الأب الأسرة ويتحكم فيها كما يشاء، ومن متطلباته ما يعرف بـ"محبة الأب المبدئية" التي يصفها (ماكس فيبر) بالقول: (إذْ يحب الوالد أبنه غالبا لأنه يماثل توقعاته ومتطلباته، هذا الولد يكون غالبا مهيأً لأن يكون الخليفة والوريث له، في النظام البطريركي يكون المسعى أن يربي الأب الولد المحظوظ، وعادة ما يكون الأول، الأكبر سناً) .

بهذا المفهوم الخاطئ قد يتسلط الولد الأكبر على أشقائه وشقيقاته،لكن طابع العصيان الذي صار سمة سائدة منذ القرن العشرين - كما يقول الفيلسوف الألماني أيريش فروم  - جعل رغبة التمّلك والتسلّط للأب والولد الأكبر من ورائه غاية شبه محالة، إلا في بعض المجتمعات الريفية التي مازالت تهيمن عليها نبرة العشائرية المفرطة.  

والمفارقة المضحكة المبكية أن لا يكون الوالدان متسلطان ويتخذان من أولادهما أصدقاءً بمحبة غير مشروطة، ومع ذلك يبرز (الأخ الأكبر المتسلط) متأثرا بالحتمية البيئية.

وربما تكون المفارقة الكبرى أن جميع الأديان السماوية والسواد الأعظم من القوانين الوضعية تخالف هذا المبدأ المتسلط، وتجعل التميز في العمل والإيثار، ولنا في القرآن الكريم مثلا عظيم في قوله تعالى: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، اي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في أمور دينكم ودنياكم، كما يقول أهل التفسير. 

شهرزاد: أسبابك مقنعة وأرجو أن تكون الحلول مقنعة أيضا، فهي ظاهرة عامة  قد تلاقي منها الأسر الويلات.

شهريار: محبة الأشقاء والشقيقات قيم عليا نزرعها في قلوب أولادنا، فكما يردد الوالدين دائما (أخوك الأكبر.. أختُك الكبرى)، فإن عليهما أن يكرران على مسامع الكبار (أخاك الأصغر.. أختَك الصغرى).

شهرزاد: مهلا بالله عليك..  أراك قد نصبت الأخَ والأختَ هنا، بخلاف الجملة الأولى فهل لحنت باللغة يارجل؟!.

شهريار: لا أيتها الخبيرة النحوية لم ألحِنْ، لكن الوالدين حينما يرددان على مسامع الصغار: (أخوك الأكبر.. أختُك الكبرى)، واللفظان مرفوعان،  فإنهما يقصدان عبارة غير قابلة للنقاش، كأنهما يقولان: إنه أخوك الأكبر.. إنها اختُك الكبرى وهي حتمية طاعة لاجدل فيها، كما إنهما يقصدان تذكير نفسيهما بالإحساس الأول للأبوة والأمومة - كما أسلفنا- وأنه لإحساس يجلب سعادة لحظية لكنه قد يعود على الأسرة  بتعاسة  أبدية..وللحديث بقية.

***

بقلم : عمار عبد الكريم البغدادي

......................

* من وحي شهريار وشهرزاد (67)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

في المثقف اليوم