أقلام ثقافية

أسطورة الأخ الأكبر (2)

عمار عبدالكريم البغداديشهريار: وصلنا في المرة السابقة الى القول: إن الوالدين حينما يرددان على مسامع الصغار: (أخوك الأكبر.. أختُك الكبرى)، واللفظان مرفوعان،  فإنهما يقصدان عبارة غير قابلة للنقاش، كأنهما يقولان: إنه أخوك الأكبر.. إنها اختُك الكبرى وهي حتمية طاعة لاجدل فيها، كما إنهما يقصدان تذكير نفسيهما بالإحساس الأول للأبوة والأمومة وأنه لإحساس يجلب سعادة لحظية لكنه قد يعود على الأسرة  بتعاسة  أبدية.

وأمّا قولهما: أخاك الأصغر، أختَك الكبرى (نصبا) فهي وصية غالية تطرق مسامع الكبار في العقدين الأولَين من أعمارهم،  وكأن الوالدين يقولان: أنصرْ أخاك  الأصغر، راعِ أختَك الصغرى، أحبهما، كنْ خيمة حانية عليهما في حياتنا ومن بعدنا.

أنه تكليف ألهي وليس تشريفا أن يكون أحدنا أخاً أكبر او أختاً كبرى،فمن فاتته وصيّة غالية من والديه، وجعلت منه أخا متسلطا في صباه ويرعان شبابه  فإن عليه أن يدرك أن السماء لا تخطئ، وأنه قادر على أن يكون الخيمة الحانية والقلب الكبير، والصدر الرحب الذي يستوعب كل مشاكل شقيقاته وأشقائه، بل إنه الحكم العدل الذي يلجأ إليه الجميع حينما تنساب أنوار محبته أبتسامة دائمة، وإهتماما، وتشجيعا، وتقديرا.

هي رسالة أبوية بأرق معاني الأخوة، وهنيئا لأخ أكبر و أخت كبرى أدّيا رسالتين في حياتهما ، الأولى ان يكون الأخ: الأب الصديق الأصغر ، وان تكون الاخت: الأم الصديقة الصغرى، قبل ان يكونا رباً و ربةً لأسرة المستقبل، ويسجلا بحروف من ذهب رسالتهما  الخالدة الثانية.

وطالما انتشعت قلوبنا ونحن نستمع الى شقيق،في عقده الرابع، ينادي على شقيقته الكبرى في العقد الخامس: أمي..،  وإنها لنعم الأم التي أدت الرسالتين.

هكذا بكل بساطة توصية من الوالدين، أو تغيير جذري  لتصور ذهني خاطئ عند  بلوغ سن الرشد كفيلان بأن يكون الأخ الأكبر والأخت الكبرى في غاية الروعة والحنان والمحبة.

ونذكّر دائما بأن تغيير المفاهيم الخاطئة، والتصورات الذهنية الملوثة بحقائق مزيفة بحاجة الى إدراك وتوعية وثقافة، وكلما كان الإنسان أكثر وعيا للقيم الأخلاقية وجَعَلها مركزا لحياته، كلما كان قادرا على المحبة والعطاء أكثر، وبخلافه فـ(الانا المتعالية) كفيلة بإبقاء الأمر على ماهو عليه، وكلما علا شأن الأشقاء والشقيقات  ووافق ذلك تراجع في إدراكات القيم الأخلاقية عند الأخ الأكبر،  كلما دنا من ظلامية الأنا،واحتمى بسلطته الزائفة التي لا يقرها عقل ولا دين،وهو يوهم نفسه بأنه الرجل الأعظم في العالم، فتضيع المحبة بينه وبين أشقائه وشقيقاته الى الأبد.

شهرزاد:لكن ألا تتفق معي على أن عطاء الأخ الأكبر والأخت الكبرى قد يكون سببا بضياع مستقبلهما الخاص، وأراه سببا مقنعا للأنا المتعالية ؟ .

شهريار: قلنا إن السماء لا تخطئ أبدا.. حسنا سأكف عن مجادلتك، وأقص عليك حكاية (فردوس) وإنها لإسم على مسمى، وهي قريبة لزوجتي من أهالي مدينة كركوك.. حدث ذلك في العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين، فقد أبلغتني  شريكة الحياة (أطال الله بقاءها)، بأن والدة فردوس توفيت وتركت خلفها 4 أبناء وبنتا صغيرة واحدة، اضافة الى تلك الجنة الأرضية، وقد أعيى موتها الأب، وألحق به أمراضا مزمنة جعلت منه شبه مقعد،فكانت فردوس الأم الصديقة الصغيرة وليست الأخت الكبرى، وسخرت شبابها لخدمة والدها والسهر على راحة أشقائها وشقيقتها، مر عقدان من الزمن وهي على هذا الحال، وقد أكمل جميع أخوتها الخمسة دراستهم الجامعية،وتزوجوا في بيوت أخرى، كان للأسرة مورد مالي سخي فهم من أصحاب العقارات، ولم يشكل المال يوما عبئا على أحد من أفرادها، بين ليلة وضحاها تلفتت فردوس من حولها وهي في العقد الرابع فلم تجد أحدا يعينها على رعاية والدها الذي أصبح كهلا، وقد أجمع الأقارب على ضرورة أن تتزوج فردوس فلم يبقَ لها في العمر الكثير،وكان جوابها دائما: (لن أترك أبي).

بتكليف سماوي قضت فردوس 10 سنوات أخرى في رعاية والدها،، كل الأقارب كانوا يتناقلون عن تضحياها حكايات لا مثيل لها، بطاقة محبة عجيبة تحمل أباها من غرفته الى الحمام، وتحرص على أستحمامه الكامل بيديها، وتعيده الى غرفته بثياب نظيفة معطرة، وهي على هذا الحال تكافح كل قوانين الحياة من غير أن تلتفت الى سنوات عمرها (الضائعة)، لم تكن تراها ضائعة، هي على قناعة كاملة بأنها تؤدي أعظم رسالة خالدة، وهي أم لوالدها المقعد كما كانت أمّاً معطاء لاشقائها وشقيقتها الراحلين الى عالمهم الخاص من غير رسالة شكر وعرفان.

بلغت الخمسين حينما توفي والدها، ولأن السماء لا تخطئ والقيم العليا سعادة في الدارين، فقد آن الأوان لتبدأ مشوارها الخاص للمرة الأولى منذ 5 عقود.

رأها قريب للعائلة كان في آواخر الخمسينيات من عمره، وقد توفيت زوجته وتزوج أولاده وهو يبحث عن شريكة تؤنس وحدته فيما تبقى من سنوات عمره.

لم تتردد فردوس للحظة ورضيت بالزواج من ذلك الرجل الوقور، والجميع يتساءل عن مغزى  ذلك الزواج المتأخر جدا للمرأة المعطاء؟.

ماحصل بعد ذلك يراه الجميع معجزة ولا أراه كذلك، لقد أنجبت فردوس ولدا جميلا ومتفوقا في دراسته، وقبل عام واحد فقط، من الآن، تخرج مصطفى من كلية الهندسة لتزدان تلك الجنة الأرضية بمزيد من النور والرضا بعد أن فاضت عطاءً وحنانا وتضحية لأكثر من 50 عاما،وهي تؤدي رسالتين خالدتين وثّقت السماء سطورها بحروف من نور.

إنه تكليف رباني ياشهرزاد يختار بعناية فائقة أصحاب النفوس الكبيرة  لينالوا شرف كتابة التاريخ، ولكل أخ أكبر وأخت كبرى نقول: أدوا أمانة التكليف لتنالوا الرفعة والتشريف.

***

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

....................

* من وحي شهريار وشهرزاد (68)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

في المثقف اليوم