أقلام ثقافية

محاضرة فكرية في الشارع الروسي

ضياء نافعحدثت هذه المحاضرة الفكرية عند كشك الجرائد صباحا، فعندما اقتربت من هذا الكشك، وجدت قبلي عدة اشخاص ينتظرون دورهم امام الكشك لشراء الصحف، فوقفت طبعا خلفهم، و في نهاية الطابور كانت امرأة (ما بعد سنّ التقاعد !) تقف عند الكشك بانتظار دورها، التفتت اليّ وسألتني – ما هي الصحيفة التي تريد ان تشتريها ؟ فوجئت أنا من طبيعة هذا السؤال غير المتوقع بتاتا (والفضولي اكثر من اللازم طبعا !)، وقلت بيني وبين نفسي رأسا، يبدو ان هذه المرأة المسنّة تحب ان تدردش هنا وهناك، وانها تحاول اختلاق الدردشة بغض النظر عن الموضوع وعن الشخص الذي تتحدّث معه، وذلك من اجل الدردشة والاختلاط مع الناس ليس الا، وهي ظاهرة شبه طبيعية للمسنّين في المجتمعات المعاصرة، ومنها المجتمع الروسي الحديث (حيث اصبح المسنّين في عزلة تامة في تلك المجتمعات) فابتسمت أنا، وأجبتها بكل هدوء – صحيفة ليتيراتورنايا غازيتا، فتعجبت هذه المرأة أشدّ العجب، بل واندهشت، وقالت لي بالروسية – مولوديتس، وهذه الكلمة بالروسية تعني الاستحسان الشديد والتعبير عن التأييد والمدح، ويترجمها مؤلف القاموس الروسي – العربي المعاصر الكبير هكذا – (جدع)، وهذه الكلمة تكاد ان تكون مثلما نقول بلهجتنا العراقية – (عفيه) . ضحكت أنا عند سماعي لهذه الكلمة، وسألتها باستغراب – لماذا تعتبريني (مولوديتسا !!!) لمجرد انني قلت لك، انني اشتري صحيفة ليتيراتورنايا غازيتا ليس الا؟ فقالت ضاحكة – قل لي ماذا تقرأ اقول لك من انت، ثم صمتت قليلا وأضافت (وبكل جديّة) – لقد قلت لك (مولوديتس) بشكل عفوي جدا، لان جوابك ذكّرني بمرحلة شبابي، اذ اني كنت في الزمن السوفيتي قارئة دائمة ومتحمّسة لهذه الصحيفة، ولكني توقفت عن متابعتها قبل خمسين سنة تقريبا، عندما هاجمت هذه الصحيفة سولجينيتسين بعد نفيه من الاتحاد السوفيتي في السبعينيات، وذلك لاننا كنّا (انا والكثير من زملائي واصدقائي آنذاك) نتعاطف مع سولجينيتسين وموقفه الشجاع من السلطة السوفيتية في ذلك الوقت، وقلنا، ان صحيفة ليتيراتورنايا غازيتا يجب الا تهاجمه بهذا الشكل السياسي المباشر كما فعلت، مثل بقية الصحف السوفيتية عندئذ، وانها (اي ليتيراتورنايا غازيتا) يجب ان تكتب حول هذا الموضوع وتتناوله بشكل أرقى وبنظرة علمية أعمق مما تكتب بقية وسائل الاعلام السوفيتية الاخرى، ولكنني الان نادمة جدا على موقفي من تلك الصحيفة ذاك حينئذ، ولست انا النادمة فقط، بل كل من تبقى على قيد الحياة لحد هذا الوقت من اصدقائي وزملائي القدامى . ادهشتني طبيعة اجابتها وتوضيحاتها، وفهمت رأسا، ان (بعض الظن اثم)، اذ اني ظننت، ان هذه المرأة تريد ان تدردش (او بتعبير أدق) تثرثر ليس الا، واذا بها تتحدث عن خيبة أمل جيل سوفيتي كامل من موقف فكري كبير في تاريخ الاتحاد السوفيتي . حفزني جوابها على ان استمر بالحديث معها، فسألتها – وهل انت الان ضد سولجينيتسين؟ فقالت، ان سولجينيتسين ظاهرة فكرية كبيرة في تاريخنا، وان لست ضده كأديب أغنى الادب الروسي بنتاجات فنيّة بارزة، لكنني الان ضد موقفه السياسي البحت آنذاك تجاه النظام السوفيتي، اذ ان هذا الموقف السياسي لم يكن حينئذ واضحا لنا بما فيه الكفاية من حيث تبعاته المستقبلية على مصير بناء الدولة السوفيتية، ولا يمكن القول طبعا، ان انهيار الاتحاد السوفيتي قد حدث نتيجة موقفه، ولكن هذا الموقف (وكذلك موقف زملائه) كان عاملا مساعدا بلا شك في مصير الاتحاد السوفيتي بشكل عام، ونحن الان نقول، وبحسرة، لو ان الظواهر السلبية الرهيبة، التي كانت موجودة فعلا في الاتحاد السوفيتي، قد تم الاعتراف والاقرار بها، وتحديدها، ومعالجتها بشكل موضوعي علمي دقيق، وبعيدا عن الشعارات العتيقة الطنانة، لكان ذلك افضل كثيرا لنا جميعا، ولو تم الحفاظ على دولة الاتحاد السوفيتي لما حدثت الحرب الروسية الاوكرانية هذه، والتي لازالت مستمرة طوال نصف سنة باكملها.

كلانا صمتنا، وبعد دقيقة من الصمت تقريبا، جاء دورها، فدخلت الى الكشك واشترت صحيفتها، ثم خرجت، ودخلت انا بعدها واشتريت صحيفة ليتيراتورنايا غازيتا وخرجت من الكشك، فرأيتها غير بعيدة عني، فاقتربت منها وسألتها ضاحكا – مع ذلك، لم افهم لماذا قلت لي، اني مولوديتس ؟ فاجابت ضاحكة ايضا، لاني رأيت - ولاول مرة – رجلا من القوقاز يريد ان يشتري صحيفة ليتيراتورنايا غازيتا في هذه الايام، وهكذا (انطلقت !) كلمة مولوديتس بشكل عفوي من لساني، فضحكت انا، وقلت لها، ولكني لست من القوقاز، فسألتني باستغراب شديد جدا جدا، من اين اذن، فانت لست روسيّا كما هو واضح على ملامحك ؟ فقلت لها – انا عراقي من بغداد، فاندهشت اشد الاندهاش عندما سمعت جوابي، ثم قالت – اذن انت مولوديتس فعلا ....

***

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم