أقلام ثقافية

لا شيء يحدث مصادفة

درصاف بندحرالإنسان مهما بدا واضحا، هو كائن غير شفاف..غير خال من غياهب سحيقة الأغوار، تتراوح حقيقته المنُفلتة بين المفضوح والمستور.

في معرض الحديث عن السلوك الإنساني والحياة النفسية، يؤكد "سيغموند فرويد" أنه ما من شيء يحدث مصادفة.

في العام 1901، أصدر كتابه Psychologie de la vie quotidienne: (سايكولوجية الحياة اليومية). تحدث فيه عن زلات اللسان التي عرفت في وقت لاحق باِسم" الانزلاق الفرويدي" Freudian slip.

يؤكد "فرويد" من خلال نظريته أن الهفوات الكلامية ليست "بريئة"، ولا تحدث بشكل عرضي كما يعتقد البعض، بل هي تعكس رغبات حقيقية وأمنيات مدفونة في العقل الباطني، مشبها زلة اللسان بمرآة النفس التي تعكس الأفكار والدوافع الموجودة في اللاوعي. كذلك تحدث في كتابه عن النكتة. قام بفكّ شفرة عديد النكات، وغيرها من زلات اللسان، تحت اسم «سيكولوجية الهفوات»، قائلًا: "هذه النزعة إلى التحوير، أو بالأصح المسخ والتحريف نلحظها عند من يقلبون الكلام البريء إلى كلامٍ بذيء، عن قصد، طلبًا للدعابة والتندر ويرسلونه على سبيل النكتة. والواقع أننا حين نسمع أمثال هذه النكات، لا ندري أيقصد بها الدعابة، أم أنها قيلت عن غير قصد، فلتة من فلتات اللسان»،

 إلا أنه يفسرها بعد ذلك قائلًا: " إن الهفوات ليست وليدة المصادفة، بل أفعال جدية نفسية لها مغزاها، وتنجم عن وجود قصدين مختلفين.."

كثيرة هي زلات اللسان التي يرتكبها من نتواصل معهم وعديدة هي النكات التي تقال لنا في قالب فذلكة تبدو في مظهرها مضحكة إلّا أنها في الأصل تحمل لنا رسالة مهينة.

قد يصدر هذا من أشخاص خلناهم قريبين..محبين ..قدمنا لهم كل الود ..ولكن في المقابل تزل ألسنتهم فنسمع منهم ما نكره. قد تكون زلة اللسان هذه في رد منهم لم ننتظر قط أن يصدر عنهم ..هم العارفون بنا..بما نحب ونكره.. بما يسعدنا وما يؤلمنا..

قد يحصل لك ذلك لمرة واحدة..تغفرها ولا تضعها في الحسبان ..ولكن يحدث أن يتكرر ذلك كثيرا ومن الشخص نفسه ..

هذا التواتر يجعلك تسأل نفسك عن تفسير هذا التهجم..هذا التقزيم لشخصك.. هذا الإيذاء المجاني..

هل يعقل أن تقدم كل المودة لشخص فيبادلك بالسوء؟ ألم يكن جديرا به أن يواجهك بما يقلقه بسببك عوض استعمال هذه الأساليب غير المباشرة؟

ربما يكون لاوعي الشخص هو من يحركه..ربما هي عقد أو مشاعر هو نفسه لا يفهمها..لا شك أنه من الضروري بالنسبة إليه أن يتحدث مع نفسه..أن يواجهها، ليتمكن فيما بعد من التعبير عنها، أمامك..

بالنتيجة يوجد دائما رغبة خبيئة، تأتي لتضاف في شكل غير واع، إلى الأسباب المعترف بها لكل التصرفات المعلنة.

عند الاستمرار في العلاقات التي يتعرض فيها الواحد منا إلى الإيذاء المجاني، تنشأ رابطة مخصوصة أطلق عليها أستاذ علم النفس "روبرت فايرستون" اسم  “الرابطة الخيالية” لوصف وهم التواصل بين شخصين، علاقتهم ليست على ما يرام..

هذا الوهم يساعد على التخفيف من المخاوف المرتبطة بفقدان شخص عزيز وذلك عن طريق تشكيل إحساس" زائف" بالارتباط.

هذا النوع من الارتباط الواهي هو حالة مسممة، يستبدل فيها الشعور بالحب والدعم بمشاعر أخرى كالرغبة في دمج الهويات وصهرها. يكون فقدان الشعور بالاستقلال السمة المميزة لهكذا علاقة.. علاقة يتهجم فيها شخص بصورة غير مباشرة على شخص ثاني. هذا الأخير يتمكن من فك شيفرة زلات اللسان..يقلق ولا يرد الفعل، يصمت كمن أصيب في مقتل.

 في مثل هذا النوع من العلاقات يخدع الأفراد ذواتهم مما يجعلهم يتوهمون القرب والحميمية، في حين أن الحقيقة تتمثل في أن العلاقة تفتقد للالتزام العاطفي الحقيقي والرفقة الشفافة.

كل نوع من العلاقات الإنسانية التي يجد فيها المرء نفسه في وضعية لا يرضاها لنفسه هي علاقة تستدعي الرحيل.

 رحيل هادئ راق لا يحمل معه لا حقدا ولا ضغينة.

رحيل قد يحفظ معه ذكرى جميلة لبعض ما كان..

ومثلما قال نزار قباني:

لنفترق أحبابا..

فالطير كل موسمٍ..

 تفارق الهضابا..

والشمس يا حبيبي..

تكون أحلى عندما تحاول الغيابا..

إن ما يسميه الناس الصدفة هو في أحيان كثيرة ما يفتح العين على حقيقة قد لا نستمرئها ولكنها موجودة بكامل ثقلها وأذيتها.

***

درصاف بندحر - تونس

في المثقف اليوم