أقلام ثقافية

غريب على الخليج رائعة السياب في الغربة

الشمس أجملُ في بلادي من سواها

والظلام

- حتى الظلام- هناك أجمل

فهو يحتضن العراق

لم تكن قصيدة بدر شاكر السياب "غريب على الخليج" سوى قراءة لذات الشاعر في منفاه حتى وفاته، فكتب السياب هذه القصيدة وهو لا يبعد عن وطنه سوى بضع كيلو مترات، وفي المساء يرى مصابيح وإنارة مشاعل آبار النفط في العراق ، إلا أنه يحس أنه غريب في هذا البلد العربي، كان يسمع العراق ويراه عبر أثير الإذاعة العراقية، حين يصرح المذيع"هنا بغداد":

بالأمس حين مررت بالمقه ىسمعتك يا عراق

وكنت دورة اسطوانة

هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه

لقد صور السياب ريف جيكور وجماليته، وكيف يتحول في المساء إلى ظلام دامس، وتتحول بساتين النخيل إلى أشياء موحشة، وكأنه يعود طفلا يستمع إلى أقاصيص وحكايات الجدات عن الملوك والسلاطين، فأبدع السياب في هذا النص:

في لحظتين من الزمانوإن تكن فقدت مكانه

هي وجه أمي في الظلام

وصوتها يتزلقان مع الرؤى حتى أنام؛

وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب

فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب

من الدروب

ثمة حس طفولي يقف وراء هذا النص، ثمة بكائية وأحزان وراء هذه الكلمات، فأبدع بدر شاكر السياب في تناول الواقع المعاش لجيكور تلك القرية البصرية التي جعل منها رمزا لشعره، فأصبحت هذه القريةُ مكانَ جدلٍ لدى نقاد وقراء شعر السياب:

زهراء أنت ..أتذكرين ؟

تنورنا الوهاج تزحمه أكف المصطلين

وحديث عمتيَ الخفيض عن الملوك الغابرين؟

لقد كتب السياب هذه القصيدة، وهو في لحظة من انفعالات نفسية وإحساس بالغربة القاتلة والوحدانية، فكأن اللحظة الشعرية المناسبة إليه لحظة موت وانهيار أما شبح المنفى القاتل فكان يراوده أينما يحل:

الشمس أجمل في بلادي من سواهاوالظلام

- حتى الظلام- هناك أجملفهو يحتضن العراق

واحسرتاهمتى أنام

فأحس أن على الوسادة

من ليلك الصيفيِّطَلاًّ فيه عطرك يا عراق؟

  إن هذا المقطع الشعري المكتوب أسفل تمثال السياب، يذكرنا بأن هذا الشاعر كبقية شعراء الاغتراب لهم علاقة وطيدة مع الوطن، ومهما ابتعدوا أو تغربوا فبوصلة العراق أمامهم، والشاعر هنا يصور الظلام بأنه جميل في بلاده عند أفياء جيكور وحلاوة عطرها:

مازلت أضرب مترب القدمين أشعثفيالدروب

تحت الشموس الأجنبية

متخافت الأطمار أبسط بالسؤال يدا ندية

صفراء من ذل وحمى ، ذل شحاذ غريب

بين العيون الأجنبية

لم تكن هذه القصيدة سوى بكائية الاغتراب العراقي المليء بالحنين والغربة، ونستطيع أن نصف هذه القصيدة ضمن معلقات الشعر العراقي في الغربة:

متى أعود؟ متى أعود ؟

أتراه يأزف، قبل موتي، ذلك اليوم السعيد؟

سأفيق في ذلك الصباحو في السماء من السحاب

  نستطيع أن نقرأ السياب من عدة جوانب، فهو شاعر يمتلك ناصية اللغة، ويختار مفرداته بأسلوب متفرد، ينتقل في القصيدة عبر الغور في تفاصيل الحياة اليومية، وأحيانا يستعمل البساطة في التعبير كهذا المقطع "وهيالمفلية العجوز" وهي صورة شعرية في غاية الإبداع:

وهي المفلّية العجوز وما توشوش عن "حزام"

وكيف شُقّ القبرُ عنه أمام "عفراء" الجميلة

فاحاتزها.. إلا جديلة

  يتحسر السياب وهو في الغربة على وطنه الذي ابتعد عنه مجبراً، وغادره صفر الكفّين، معوزاً لا يملك شيئاً من سوى حبّه له:

واحسرتاه...فلن أعود إلى العراق!

وهل يعودُ

من كان تُعوزُهُ النقودُ؟ وكيف تدّخر النقودُ؟

نهران سماويان، وبلد يطفو فوق بحيرة من النفط، ويقال عنه أرض السواد لما فيه من غابات للنخيل، وهكذا يعاني شعراؤه وأدباؤهبين المنفى والغربة، آه، آه من هذا البكاء الشعري الذي قتل السياب في غربته:

وأنت تأكل إذ تجوع، وأنت تنفق ما يجود

به الكرامعلى الطعام؟

لتبكينّ على العراقِ

فما لديك سوى الدموع

وسوى انتظارك، دون جدوى للرياح وللقلوع!

إن النتاج الشعري للشاعر بدر شاكر السياب كتب بعضه في الغربة، وكانت غربة السياب عامين فقط حتى وفاته، وإن قصيدة "غريب على الخليج" هي أنشودة الاغتراب العراقي، وقدذاعت شهرة هذه القصيدة، وحفظهاأغلب الشعراء والفنانين، حتى ذهب بعض المطربين إلى تلحينها وجعلها أغنية ترددهاالشفاه العراقية داخل الوطن وخارجه.

***

صلاح جبار ابوسهَير

في المثقف اليوم