أقلام ثقافية

لا تخَف من خوفك!

ها أنا ذا مرةً أخرى، أقف متجمِّدةً على باب فرصةٍ جديدة. كان الباب كالعادة مفتوحًا على مصراعيه، والعتبةُ تنتظرُ خطواتي، وأفقُ ذلك المستقبل يرمقُني بنظرةٍ ملؤها التحدّي. اعتلجَ في أعماقي شيءٌ من الشماتة بنفسي، هناك شيءٌ كالعادةِ يمنعني من التقدم صوب ذلك الباب، يقدُّ ياقَتي كقاطع طريقٍ تملَّكه الطمع. إنه الخوف مرّةً أخرى، القاتل المُتسلسلُ لمُحاولاتي، ذلك الاستدراكُ الدخيلُ على كل العباراتِ التي كنت أحدُّثُ بها نفسي، بل هو ملكُ الأحاديث الداخلية. يدقُّ جرسُ إنذار الحريق كلما اندلعَت نيرانُ الرغبة الجامحة في دهاليزي، كلما هممت بفعل شيءٍ مختلفٍ أو الإقدام على مشروعٍ جديدٍ يحضرُ ذلك الخوف ليسبق الأمور ويطلعَني على النتائجِ والنهايات، كأنه يحملُ بين يديه كرة التنبؤات العجيبة، ينقضُّ عليَّ ليقتل فكرةً ما تزال قيد الإنشاء. كم هو سفّاحٌ ذلك الخوف، يقتلُ الجنائنَ قبل أن تولد وترى نور الواقع، يحبُّ إجراء عمليات الإجهاض حتى لو لم ترِد عقولُنا ذلك.

لماذا نخافُ من الخوف؟ وما سرُّ اتِّباعنا لتلك الأوامر التي يُمليها علينا قبل كل محاولة؟ في إحدى الليالي وبينما كنت أرسم خطَّ محاولةٍ جديدٍ لإحدى المشاريع الدراسية داهمَني ذلك الضيف الثقيلُ للمرّة الألف، لم يُلقِ التحيةَ كسائر الضيوفِ وإنما بدأ فورًا باسطوانته المعهودة ووساوسه التي حفظتُها عن ظهر قلب، في تلك المرّةِ قرَّرتُ استخدام أسلوبٍ مغايرٍ وخطّةٍ جديدةٍ للتعامل مع ذلك الصديق العدو. ألقيتُ نظرةً في داخلي وتأمَّلت تلك الطفلة الخائفة، بل إنها كانت ترتجف خوفًا. كانت تريد أن تهرب من أي نافذة، أن تعود لمنطقة الراحة بأي ثمن، كانت سفينةً تبحرُ في محيطٍ من التيه، غارقةً في زبد المخاوف والاحتمالات، باحثةً عن منارةٍ أو بوصَلةً تضيءُ لها الطريق. ابتسمتُ لها وأنا آخذُ سلسلةً من الأنفاس العميقة، تناهت إلي صورتي وأنا أمسكُ بيدها الصغيرة وأربِّتُ على كتفها بحنان. لقد كنا لأول مرّةٍ بعيدتينِ عن ذلك العالم الخارجي، مُختبئَتين في فقّاعةٍ موصَدةٍ ليس فيها سوى ذرّات السلام والأنفاس الداخلة والخارجة. أدركتُ في تلك الليلة النورانية أن خوفي كان طبيعيًا، وعرفت أن الخوف ليس سوى إحساسٍ غريزي لا يحضرُ إلا ليخبرَنا أننا مقبلون على أمرٍ كبير.

"لا تخَف." نصيحةٌ مغلَّفةٌ بقالبٍ جاهزٍ لطالما سمعناها من أفواه المحبّين، إنها عِبارةٌ تقفُ على طارفِ ألسنةِ الناصحين، تُقالُ دائمًا بدافع الحُبِّ والتشجيع إلا أنها قد لا تكون النصيحة الأمثل. إذ أن المرءَ يجب ألا يقمع خوفه ويدحضَ وجَفَه تحت طبقات القوة المزيفة، ذلك أن الخوف ليس سوى دلالةٍ على أننا على وشك الخروج من دائرة الراحة. على العكسِ تمامًا يا عزيزي القارئ، يجدرُ بالإنسانِ مواجهةُ ذلك الخوفِ ثم تقَبُّلهُ ومُصافحته، فهو مؤشِّرُ خير. قرأتُ في كتاب (أفكارٍ صغيرةٍ لحياةٍ كبيرة) للكاتب كريم الشاذلي أن علماءَ النفس ينصحونَ الخائفين بمصارحةِ أنفسهم ومواجهةِ بواعثِ الخوف لديهم، وذلك من خلالِ وضعِ أيديهم على مكامنِ الداءِ والبدئِ بمواجهةِ غول مخاوفهم ورهباتهم. إن الإنسان الذي لا يخافُ لا يسمحُ للتجربةِ بصَقله، ومن يحرمُ نفسه لذّةَ التجربةِ لا ينال شرف الحياة. فالحياةُ في نظَري ليست سوى معمَلٍ كبيرٍ للأبحاث والتجارب.

صدِّقوني إن قلت لكم أن حياتي قد تغيرَت منذ اللحظةِ التي قرَّرتُ فيها أن أجعلَ الخوف صديقًا لي، أصبحتُ أعتبرهُ دليلًا على أنني أقفُ على عتبةِ محاولةٍ جديدة. يخبرُنا التاريخ أن الخوفَ كالموت، إنه حقٌّ على الجميع. فقد كان هتلر يهابُ طبيب الأسنان ويخافُ الأماكن المرتفعة، وكانَ كلٌّ من نابليون بونابارت وموسوليني يخاف القطط، تلك المخلوقات الظريفةِ من وجهة نظري. وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدلُّ على أن الخوف عاملٌ مشتركٌ بين بني البشر.عندما نزيحُ العدسة المكبرة عن الخوف سنستطيعُ رؤيتهُ بحجمه الحقيقي، وعندما نقفُ وجهًا لوجهٍ أمامهُ سنستطيعُ إسكات صوتهِ الصادحَ في رؤوسنا. أستطيعُ القول أنني أصبحت أحولُ خوفي إلى حذر، أقفز إلى التجربةِ وأرسمُ الخططَ حتى أحضى بأقلِّ عددٍ من المجهولاتِ في حياتي. أدركتُ أن الخوفَ الزائدَ بلا فائدةٍ وأن الخوف لا يصبحُ عنصرًا فعّالًا في المعادلة إلا عندما يمتزج بالإصرار والحماس ويتحوَّل إلى تركيزٍ وحذر، تلك هي معادلةُ النجاح بكل بساطة. لم أعد أبتلعُ خوفي أو أهرب منه، بل أصبحتُ أصحبهُ معي إلى كل تجربةٍ جديدةٍ أخوضُها حتى أجعل منه شاهدًا على معاركي. لا أنسى ما كتبتهُ الأمريكية إليزابيث غيلبرت في كتابها الشهير (السحر الكبير): في كل تجربةٍ جديدة، لا تنسى أن تضعَ الخوف في المقعدِ الخلفي. ما تقصدهُ من تلك العبارةِ هو أن الخوف سيظلُّ موجودًا عندما نقود سيارةَ المحاولةِ إلى وجهةٍ جديدةٍ أو تجربةٍ ما، لكنك أنت من سيجلسُ في مقعد السائقِ ممسكًا بزمام الأمور، أي أنك أنت المتحكِّمُ بخوفكَ وليس العكس، بينما سيجلسُ خوفكَ في الخلف، يراقبُ فقط. عند الوقوفِ على حافّةِ كل تجربةٍ جديدةٍ أتذكّرُ أن أطيرَ وأنا أحملُ خوفي على جَناحي، فوزنُ الخوفِ يعادلُ وزن ريشةٍ ليس أكثر. أتمنى من صميم قلبي أن يكون هذا المقال البسيط شرارةَ التغيير، يمكنكَ اعتبارهُ نظّارةً جديدةً ترى من خلالها خوفك. تذكَّر يا صديقي أن تُصاحب ذلك الخوف دون أن تطعمه، لا تتركهُ ليقتاتَ من روحك ويتغذّى على أفكارك، صاحبهُ وتصدّى له بسلاح التقبُّلِ والمواجهة، عندها سيتلاشى من تلقاءِ نفسه. أودُّ أن أختمَ هذا المقالَ بمقولةٍ للكبير مارك توين: "افعل أكثر شيءٍ تخشاه وتخافه، وسيموت الخوف داخلك."

***

بقلم: مينا راضي

 

 

في المثقف اليوم