أقلام ثقافية

توفيق حنون كما رأيته

تعرفت إلى الأديب توفيق حنون في خريف سنة 1970م حين كنت في الصف الخامس الأدبي في ثانوية المسيَّب للبنين، عندما دخلها ليكون مدرسنا في مادة اللغة العربية، وقبل ذلك لم تكن لي أي صلة أو معرفة به ربما بسبب فارق السن بيننا، واختلاف محل السكن في المدينة إذ سكنت أسرته محلة النزيزة (أم الصخول)، بينما كانت أسرتي تسكن في محلة الدهدوانة..

كان يومها شاباً في مقتبل العمر، لطيفاً في سلوكه، وودوداً في أسلوبه، فنال محبة الجميع، وسرعان ما بدأت بيننا صداقة ثقافية، ونمت مودة لأني كنت من الطلبة البارزين في درس اللغة العربية في الثانوية وخاصة في قواعدها، كما كنت محباً للأدب عامة، ومتذوقاً للشعر على وجه خاص، وكنت المؤسس والمشرف على أغلب النشرات الجدارية في المدرسة التي صدرت حينذاك، إذ استهوتني فقمت بتحريرها، وتنظيمها وتلوينها، وكتابة موادها باعتناء شديد وبخط جميل، وإخراجها بأفضل وأزهى صورة.

كان الأديب توفيق حنون من أفضل مدرسي اللغة العربية في ثانوية المسيَّب للسنتين اللتين قضيتهما تلميذاً عنده في الصفين الخامس والسادس الأدبي، وكنت أتوجه له بالسؤال فيما يصعب أو يلتبس عليّ، فأجد قبولاً وترحيباً وتوضيحاً، وكنت أثق تمام الثقة بإجاباته عنها، لمعرفتي الأكيدة بمقدرته، أما قراءاته الشعرية فلا أحلى منها، وقيل إن أستاذته في جامعة بغداد الدكتورة عاتكة الخزرجي كانت من المعجبين بإلقائه أيضاً، ولن يغيب عن بالي متعتي وبقية طلاب الصف بعذوبة قراءته لقصيدة عمر بن أبي ربيعة في أحد الدروس:

أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبكِرُ

غَداةَ غَدٍ أَم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ

وكان يشرح معانيها لنزداد تذوقاً لها، وكم هزنا الشعر والشرح في:

وَبِتُّ أُناجي النَفسَ أَينَ خِباؤُها

وَكَيفَ لِما آتي مِنَ الأَمرِ مَصدَرُ

*

فَدَلَّ عَلَيها القَلبُ رَيّا عَرَفتُها

لَها وَهَوى النَفسِ الَّذي كادَ يَظهَرُ

*

فَلَمّا فَقَدتُ الصَوتَ مِنهُم وَأُطفِئَت

مَصابيحُ شُبَّت في العِشاءِ وَأَنوُرُ

*

وَغابَ قُمَيرٌ كُنتُ أَرجو غُيوبَه

*

وَرَوَّحَ رُعيانُ وَنَوَّمَ سُمَّرُ

**

ومن ذكرياته في تلك المرحلة استماعي لقصيدة من شعره ألقاها في قاعة الثانوية في إحدى المناسبات الثقافية، ولشدة إعجابي بها، طلبت نسخة منها، فزودني بها مطبوعة على الآلة الكاتبة، وما زلت احتفظ بها تذكاراً جميلاً من أستاذ عزيز، وقد أخبرته باحتفاظي بها قبل سنوات ففرح بذلك، وقال إنها فقدت منه.

بعد سقوط النظام الصدامي البائد تصدى الأستاذ توفيق حنون لتأسيس منتدى أدباء المسيَّب سنة 2003م، ونال ثقة زملائه ليكون أول رئيس له، بل وليستمر رئيساً حتى وفاته أي لما يقرب من عقدين، وكان بحق هو الأديب الأبرز مقدرة وإبداعاً في المدينة، كما كان له دور كبير في التنسيق بين هذا المنتدى والمقر العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الذي بمساعيه  تم قبول عدد غير قليل من أدباء المسيَّب فيه، وقد صحبته في أول زيارة لي لمقر الاتحاد بعد قبولي فيه، والتقينا الراحل الفريد سمعان الذي رحب بنا كثيراً، وكانت لنا صورة تذكارية معه، كما صحبته مرات عديدة برفقة مجموعة من أدباء المسيَّب والإسكندرية إلى فتدق فلسطين مريديان لحضور انتخابات اتحاد الأدباء، فكانت صحبة ماتعة بأحاديثه الجميلة وتعليقاته الطريفة.

أهديته في سنة 2012م مجموعة من مؤلفاتي المتنوعة المتواضعة ففرح بها جداً، وكان قد أهداني مجموعة من مؤلفاته القيمة أيضاً، وفاجأني في اليوم التالي بما نشر على صفحته في الفيسبوك، إذ كتب: (كل الإعجاب والتقدير والاحترام للصديق الودود الأخ جواد عبد الكاظم الذي لم يألُ جهداً في إثراء الساحة الأدبية والبحث التراثي والفولكلوري خصوصاً بكلّ ما هو جديد، إنه باحث من طراز خاص أعطى لمدينته المسيَّب كلّ ما تستحقه من جهد في متابعة كلّ ما نشر وينشر عنها، فمثل هذا الرجل يستحق كلّ الثناء والتقدير لأنه الابن البار لهذه المدينة التي ملأت الساحة الأدبية بالعديد من الأدباء والكتاب والباحثين . أما معجمه العتيد (الأديبات والكواتب العراقيات) فهو بلا شك ينمُّ عن جهد جهيد لرجل عنيد يتحدى كلّ الصعاب من أجل أن يصل إلى أية مفردة يمكن أن تثري موضوعاً يضيفه إلى إحدى كواتبه وأديباته، كثر الله من أمثاله وبارك في جهده).

في الأشهر القليلة التي سبقت وفاته رحمه الله اتصلت به هاتفياً  أكثر من مرة، وفي إحداها أخبرني أنه في عيادة طبيب الأسنان وقد حان دوره للدخول فودعته، والتقيته أيضاً مصادفة قرب بائع شاي كان يقف عنده مع أحد الأدباء، ودعاني لمشاركتهما في شرب قدح من الشاي، فاعتذرت لمشاغل كنت أنوي اللحاق لقضائها، وكان هذا هو آخر لقاءاتي به، إذ صدمني بعد مدة قليلة خبر وفاته منشوراً يوم الثلاثاء 5 تموز 2022م في أحد مشافي أربيل، فكان رحيله خسارة كبيرة للأدب والثقافة، ولكل محبيه وعارفي فضله، ولمدينته التي ولد ونشأ وعاش فيها، وذكرها في الكثير من كتاباته.

***

جواد عبد الكاظم محسن

في المثقف اليوم