أقلام ثقافية

أغلق عين الحب وافتح عين الواقع

يقول محمود درويش "أحيانًا يستيقظ الليل بداخلي، وليس بإمكاني عمل شيء سوى أن أكون قمرًا..."

ونحن نقرأ لدرويش نتذكر تلك المرات التي غرقنا فيها في سواد لا نهاية له. نحزن فلا يصبح للعالم من حولنا أي قيمة. ينهار كل جميل في داخلنا تاركا المكان للأسى يجتاح كل ذرة في كياننا.

قد يكون الحزن نتيجة أمور لم نخترها كالفراق أو موت الأحبة. أحيانا يكون السبب في حزننا هو أسلوبنا في التعامل مع الوجود من حولنا. يحدث أن نتوسم الخير في غير أصحابه أو نتوقع أن الناس من حولنا محبون.. ودودون.. أوفياء.. أنقياء.

نتوقع أنه لا يمكن أن يصدر عنهم ما يؤذينا. لكننا نتأذى بفعلهم وقد نطعن في الظهر من قبل من لم ننتظر منهم الأذية.

إن الطيبة المبالغ فيها وحسن الظن المُبالغ به بالآخرين دون النظر إلى حقيقتهم.. دون التعمق في ما يضمرونه.. دون اختبار شخصياتهم بشكلٍ صحيح، لا ينتهي بصاحبه إلا إلى الخذلان. الخذلان من أصعب المواقف التي يمكن أن نعيشها وأكثرها إيلاما. قد تسبب لنا هذه المواقف المحبطة الكثير من الآثار السلبيّة على نفسيتنا وصحتنا وتوازننا.

يمكن أن تخذل بفعل أشخاص لم تكن تتوقع منهم الكثير من الخير فتتضايق.. إلا أنه يمكن أن تتجاوز ذلك بيسر، لكن ليس غريباً أن تخذل ممن كنت تخاله قريبا، أو ممن كنت تظنه أقرب الناس إليك. حين تشعر بالخذلان جراء كلام أو تصرفات القريبين فالتعب النفسي يكون أكثر وقعاً عليك وأشد إيلاما..

قد تخذل وانت في أمس الحاجة إلى من يشحذ همتك. الحاجة ليست بالضرورة مادية ولكن أكبر احتياج هو ذاك المعنوي.. هو الافتقار إلى يد تربت على كتفك تستنهضك لتواصل الطريق دون أن تستسلم للخيبات والعثرات.

لا شك أنك عندما تخذل تشعر بالكثير من الشجى واليأس.

لكن وأنت تعيش آثار هذا الخذلان عليك أن تذكر دائما أن هناك الكثيرين ممن ترتبط حياتهم بحياتك مثل عائلتك، أبنائك، أحبابك وأصحابك... من أجل كل هؤلاء عليك أن لا تسمح للألم الذي تشعر به، وأنت في قمة الإحباط، أن يلقي بك في غياهب التلاشي.

إن انطفاءك يعني أن ينطفئ كل هؤلاء الذين يستمدون منك القوة للمضي قدما.. من يحتاجون دعمك، من لا يستغنون عن ابتسامك في وجه القبح والقبيحين، من يحفزهم تحديك للصعاب ومقارعتها، من يفرحون لفرحك ويسعدون بسعادتك.

كذلك تذكر أن هناك من النفوس المريضة التي تنتظر سقوطك.. نفوس سيئة تنتشي بإيذاء غيرها لأنه ليس هناك من شفاء لذواتها المعطوبة إلا التشفي.. نفوس لا تجد دواء لها إلا في زوال النعمة على الغير.. نفوس لا تشعر بقيمتها إلا إذا رأت نفسها متفوقة بدون سعي ولا استحقاق.. نفوس طافحة بالحسد والحقد.

وأنت تتذكر هؤلاء تذكر أيضا أن الخذلان وحده هو ما يفتح عينك على الحقيقة.. هو وحده ما يدعوك إلى إعادة النظر في الواقع والحياة وطبيعة علاقاتك مع الآخرين.

عندما تتبصر بالأمور سيعم نفسك الرضا. سترضى بفكرة أن الخير لا يأتي ممن لا خير فيه. وعوض أن تتألم وتغرق في الحزن لأنك كنت محبا للناس والخير وانتظرت أن تعامل بالمثل لكن خاب ظنك، عوض ذلك أنت ستفتح عينيك على الواقع وتستمرئه.. ستستسيغه لأن سقوط الأقنعة يعني رؤية الحقيقة.

عندما ترى الوجوه على حقيقتها لن تخطىء التقدير، بل حينها فقط ستتعامل مع هذه الوجوه بما يناسبها ويناسبك، وستمضي قدما.

وأنت تفتح عينيك على الواقع تذكر قول درويش في أنه "لا أحد يتغير فجأة ولا أحد ينام ويستيقظ متحولا من النقيض للنقيض.. كل ما في الأمر.. أننا في لحظة ما.. نغلق عين الحب ونفتح عين الواقع.. فنرى بعين الواقع من حقائقهم ما لم نكن نراه بعين الحب.. "

لحظة التوقف عند هذه الحقيقة لا تنس أن لنفسك عليك حقا.. حق نفسك عليك هو أن تحيطها بالداعمين لك وأن تبتعد عن الذين يعملون على إيذائك دون أن تؤذيهم ولو مرة.

عندما تواجه أذية السيئين لا يجب أن تسمح للأحزان بالتأثير فيك.. لا تنطفئ! كن قمرا وسط الظلام.. أنر ذاتك وذويك بشعاع النور والمحبة وفوت على من في قلوبهم مرض فرصة الانتشاء بذبولك.

قد يوجعك الخذلان وجعا كبيرا لكن ربما هو "وجع من نوع صحي، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل.. وعاطفيون!” على حد تعبير محمود درويش.

أن نمرض بالأمل هو ألا يصيبنا الحزن في مقتل. هو أن تتفتح الزهور بداخلنا مهما كان حجم الوجع. هو أن ألا نقطع الرجاء في ملاقاة الخيرين، المحبين، الصادقين، وهم موجودون..

أنت لن تنسى الذين خاب فيهم الرجاء، لكن، وأنت تتذكر هؤلاء العابرين، ابتسم واستحضر مقولة أن "القوة الحقيقية هي أن تكون في قمة صمودك عندما يعتقد الكثير أنك سقطت ".

***

درصاف بندحر

تونس

 

 

في المثقف اليوم