أقلام ثقافية

هكذا هو وعد الإنسان "الأب" الحقيقي

في أواخر سنة / 1988؛ بُعيد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية يوم كنا نرقص فرحا بانتهاء الحرب التي أكلت الأخضر واليابس واليانع بين البلدين الجارين .. حدث حادث مفجع ومدمّر لكنه لم يلفت الأنظار عندنا كثيرا بسبب انشغالنا بالبهجة الغامرة ونحن نضع أوزار تلك الحرب؛ كنت ألازم المذياع وأراقب شاشة التلفزيون متتبعا أخبار بلادي بسعادة فائقة يوم وضعت الحرب أوزارها، لكن خبرا كان طارئا أشغلني وردَ في الأخبار أثّر فيّ وأغرقني في فجيعة مؤلمة رغم كلّ بشائر الفرح والسعادة الظاهرة في بلادي وأهلها وكاد ان يبخّـر فرحي بغمضة عين؛ وهو حدوث تدمير هائل مدمّر وقتذاك اذ حصل زلزال عنيف وكارثي بقوة تسع درجات على مقياس ريختر في دولة أرمينيا أسموه "زلزال سبيتاك" دمّر البلاد والعباد والمنشآت التحتية ومعظم عمران الدولة حيث توفي بسببه أكثر من ثلاثين ألف نسمة ومائة وثلاثين ألف معوّق ومصاب .

في خضم غضب الطبيعة والأرض التي لم تحتمل سكّانها؛ هناك قصة مؤثرة حصلت لأبٍ معنّى فقد ابنه المسمّى (آرماند) حينما سارع الى مدرسته التي يدرس فيها لغرض الاطمئنان عليه ولم يرَه بين الناجين فأصابه الهلع الشديد وركض نحو أكوام الأنقاض وبدأ يزيحها طوال أكثر من ثمان وثلاثين ساعة متواصلة بلا كللٍ او مللٍ دون ان يعبأ بتوسلات مواطنيه بالكفّ عن جهده المضني بسبب حالة اليأس من الحياة لمن هم تحت الأنقاض؛ وظل يجهد بعمله بما يمتلك من أدوات متاحة له من معول ومجرفة يدوية بجهود عضلية وبلا آليات ولا أدوات مكْننة يستعين بها وبدأ يحفر ويزيل ما استطاع من الأنقاض والركام الهائل وحده متذكرا الوعد الذي كان يحزّ في ضميره وعنقه؛ وعدٌ بينه وبين ابنه:

"مهما كان الأمر سأكون الى جانبك ومنقذك يا ولدي"

بعد جهودٍ مضنية رأى أكثر من عشرين حجرا ضخما مُعيقا وقام بإزاحتها بعد جهد جهيد فانكشف أمامه تجويف في الأرض فبدأ يصيح من فتحة التجويف بعلوّ صوته وهو بغاية الهلع:

- آرماند آرماند، هل تسمعني

أتاه صوت ابنه من أسفل عاليا:

- أنا هنا يا بابا، لقد أخبرتُ زملائي ووعدتهم بأنك ستأتي حتما مهما كان الأمر، اعرف يقينا انك ستكون بجانبي في أقصى وأحلك الظروف .

ناداه الأب صارخا:

هيا اخرج عاجلا، كن حريصا نابهاً حينما تتسلق .

ردّ الابن:

لا يا أبي فليخرج زملائي وأصدقائي أولا، أنا واثق انك ستخرجني مهما كانت الكارثة ولا أنسى ما حييت وعدك لي بأنك ستقف الى جانبي وتُعينني في أحلك الأوقات .

رضخ الأب لطلب ابنه وسارع بقية زملاء آرماند للتسلق الى الأعلى وتم إنقاذ ستة وعشرين طالبا ربما حسبهم أهلوهم أنهم قد صاروا في عداد الأموات .

خرج آرماند بعد خروج زملائه متربا غائم الوجه لكن سعادته غمرت كل قلبه وعقله رغم كل وعث التراب والخدوش البسيطة التي احتوته ونالت من جلدهِ .

أيّ إيثار يفوق النبل درجاتٍ ويعلو حتى على القيم الراقية حين يتفانى الأب وينقذ زملاء ابنه من موت محتم قبل إنقاذ وليده .

تذكرني هذه القصة الحقيقية بما قاله قبلا الروائي الانكليزي تشارلز ديكنز بان الوعد لا يصدر صوتا حينما ينكسر لكن كم يتبعه من الآلام والمآسي والانكسارات العاطفية والمشاعر الإنسانية إذا أُخلفَ .

تلك هي بطولة الآباء وتفانيهم لو يعلم البنون والخلَف .

***

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم