أقلام ثقافية

الطريق نحو بوشكين

(الطريق نحو بوشكين) – عنوان مقالة  تشغل نصف صفحة تقريبا، رأيتها بجريدة (ليتيراتورنايا غازيتا) الاسبوعية في عددها الصادر بتاريخ 7 – 13 ايلول / سبتمبر 2022، وقد أثارهذا العنوان عن بوشكين اهتمامي رأسا، اذ اني ظننت، ان هذه المقالة تتناول بالتحليل تلك الاسماء الادبية اللامعة في تاريخ الادب الروسي، التي سبقت ظهور بوشكين في مسيرة الشعر الروسي، وبالذات في  القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، مثل لامانوسوف وديرجافين وجوكوفسكي وغيرهم، وكيف ان بوشكين قرأ واستوعب – وهو في مرحلة الصبا – كل نتاجاتهم الابداعية في مجال الشعر، واستطاع – بعبقريته ومهارته الذاتية - بعدئذ ان يبلّور لغته الشعرية الرائدة الخاصة به، وان يؤدّي هذا الدور الكبير في وضع اسس اللغة الروسية المعاصرة ويصبح مصدرا لها في مسيرة لغة امته ولحد الان لدرجة، ان روسيا الاتحادية وحّدت يوم ميلاد بوشكين مع اليوم العالمي للغة الروسية لأنهما عنصران لا ينفصمان عن بعضهما عضويا، وهو موضوع كبير ومهّم جدا في تاريخ الادب الروسي لم يتناوله الباحثون العرب كما يجب بشكل عام، وبالتالي، فانه لا يزال شبه مجهول للقارئ العربي، ولكني عندما بدأت بقراءة المقالة المذكورة، فوجئت جدا بمسألة اخرى تختلف عن ذلك جذريا (حتى من السطر الاول لتلك المقالة !!!)، اذ اني اكتشفت شيئا آخر نهائيا، شيئا لم يخطرعلى البال للوهلة الاولى، واود في هذه السطور ان اتحدث عن هذا (الشئ !) الغريب وغير المتوقع، الذي وجدته في تلك المقالة، لأني اعتقد جازما، ان هذا الشئ  (الذي يرتبط طبعا ببوشكين وموقعه ومكانته في قلوب الروس كافة وفي الوعي الاجتماعي الروسي بشكل عام) يستحق فعلا ان نتحدث عنه للقارئ العربي بتفصيل، وان نشيد به ايضا، اذ انه يرسم لوحة جميلة وجديدة ومبتكرة تماما عن موقف الشعب الروسي من بوشكين .

تبتدأ السطور الاولى من المقالة المذكورة باعلان عن افتتاح معرض شخصي في موسكو بتاريخ 7 ايلول / سبتمبر بقاعة (ارتيفاكت) وتحت هذه التسمية (اي الطريق الى بوشكين) لفنان تشكيلي اسمه بوريس ديودوروف، ويعرّفه كاتب المقالة، بانه يحمل تسمية (فنان الشعب)، وهي تسمية متميّزة يتم منحها – وبشكل رسمي من قبل الدولة - للفنانين البارزين  في روسيا تقييما ودعما لدورهم المتميّز في مسيرة الفنون الروسية، ويشير كاتب المقالة الى ان هذا الفنان التشكيلي حاصل ايضا على جائزة رئيس دولة روسيا الاتحادية . لم افهم للوهلة الاولى ما هو المقصود من هذا الاعلان، وما هي العلاقة بين هذا المعرض الفني و(الطريق نحو بوشكين)، وحتى ظننت للوهلة الاولى، ان هناك خطأ مطبعي في هذه المقالة ليس الا، وتعجبت من حدوث هذا الخطأ المطبعي في عصرنا وبصحيفة بمستوى ليتيراتونايا غازيتا، حيث التقنية الحديثة الالكترونية تتفادى وتعالج رأسا مثل هذه المظاهر (العتيقة)، التي كانت غالبا ما تحدث (أيام زمان !)، خصوصا عندنا وفي صحافتنا ومطبوعاتنا، الا ان الاستمرار بقراءة المقالة قد اوضح لي، بعدم وجود اي خطأ مطبعي، كما ظننت اول الامر، اذ تبين، ان هذا الفنان التشكيلي الروسي قد كرّس نفسه طوال حياته لرسم لوحات خاصة لكتب بوشكين، لوحات تجسّد تلك المواضيع التي يتناولها بوشكين في نتاجاته المختلفة المتنوعة، وتنشر دور النشر تلك اللوحات على صفحات كتب بوشكين، وقد بلغت اعداد هذه اللوحات رقما مذهلا، وهو (3000) لوحة فنية، وقد قرر هذا الفنان التشكيلي ان يعرض هذه اللوحات في متحف خاص أقامه في مدينته الروسية الصغيرة، (وأخذ هذا الفنان على عاتقه تكاليف تنظيم هذا المتحف)، وأيّدت الفكرة وتنفيذها بهذا الشكل مجموعة من مثقفي تلك المدينة، وتم تشكيل لجنة تضم العشرات من هؤلاء المثقفين المتطوعيين للاشراف على هذا المتحف المتميّز فعلا، والذي أطلقوا عليه تسمية – (الطريق نحو بوشكين)، لأن تلك اللوحات تجذب المشاهد نحو نتاجات بوشكين، وتجعله يعود لقراءة تلك النتاجات مرة اخرى واخرى كي يفهم عمق تلك اللوحات المرتبطة بابداع بوشكين، اي ان تلك اللوحات تشكّل فعلا (الطريق نحو بوشكين)، فما أجمل هذه الفكرة وما أجمل هذا المتحف الفريد من نوعه في روسيا . وحفاظا وتطويرا لهذه الفكرة، والتي تم تنفيذها فعلا في تلك المدينة الصغيرة، توجهت اللجنة المشرفة بنداء الى الدولة الروسية لتبني هذا المتحف، وجعله تحت اشراف الدولة، الا انهم لم يستلموا جوابا ايجابيا من الجهات الرسمية، التي فاتحوها، ولهذا قرروا الكتابة في وسائل الاعلام الروسية عن متحفهم هذا،واضافوا، انهم مستعدون ان يستمروا بعملهم، حتى اذا لم تستجب الدولة لهم، وانهم مستعدون ان يقوموا بحملة تبرعات من كل الذين يؤيدون هذه الفكرة، كي يستطيعوا الاستمرار بتمويلها .

بعد ان انتهيت من قراءة تلك المقالة، قررت رأسا الكتابة للقارئ العربي عن هذه الفكرة الرائدة والمدهشة، وذلك تأييدا لهذه المبادرات الابداعية الشخصية، وتمنيّت لو يبرز شخص بيننا، ليعمل الشئ نفسه للفنان التشكيلي العظيم يحيى الواسطي ولوحاته لمقامات الحريري، كي يكون عندنا متحف (الطريق نحو لوحات الواسطي ومقامات الحريري)، لكني اعرف، ليس بالتمنيات وحدها يحيا الانسان... 

***

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم